انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني Translated
Sheikh's Books |
2023/12/12
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (11)
الفصل العاشر: العالم بعد تأسيس إسرائيل
تأسست إسرائيل في 14 مايو 1948م، وكان الاتحاد السوفياتي أول دولة تعترف بها ضمن الدول المنضوية تحت هيئة الأمم المتحدة، التي قامت نتيجة للحرب العالمية الثانية في 1945م، خلفا لعُصبة الأمم التي تأسست عقِب الحرب العالمية الأولى فيما قبل. وكلامنا عن هيئة الأمم المتحدة، يجعلنا نشير مباشرة إلى ما سُمّي بعد عقود بـ "النظام العالمي"، الذي أُريد له أن يحكم الأرض جمعاء، بحكومة موحّدة تتطور عن هيئة الأمم. وربما سنعود إلى هذا الربط في فصل آخر، حيث نكون قد فرغنا من سرد الوقائع التاريخية الضرورية... وكما كان مؤتمر باريس للسلام في عام 1919م، هو المؤسِّس لعصبة الأمم، فكذلك جاء مؤتمر سان فرانسيسكو الذي شاركت فيه خمسون دولة ليؤسّس هيئة الأمم المتحدة بدعوى المحافظة على السِّلم، وبميثاق اعتُمد في 26 يونيو 1945م. وسنتحفّظ هنا على كلمة "سلم"، لأننا نرى أن الناطقين بها ربما لا يُدركون صحيح معناها، بحسب ما نشأ من نزاعات في العالم بعد إنشاء الهيئة الأممية، مع عجزها عن معالجتها في أغلب الأحيان. وربما يكون السلم المعني منوطا بالدول المهيمنة على هيئة الأمم وحدها، من دون الدول الأعضاء، التي لا تكاد تفقه في شؤون السياسة العالمية شيئا. ولقد سارعت الولايات المتحدة الأمريكية للاعتراف بالحكومة الإسرائيلية المؤقتة، في عام 1948م نفسه، وتبعتها مملكة إيران التي كانت قد صوّتت ضد "خطة التقسيم" التي أوصت بشطر من فلسطين التاريخية لإسرائيل، وبالشطر الآخر للفلسطينيّين. ثم توالى اعتراف كل من: غواتيمالا، وآيسلندا، ونيكاراغوا، ورومانيا، والأوروغواي؛ ثم تشيكوسلوفاكيا، وصربيا، وجمهورية بولندا الشعبية. وقد غيرت الولايات المتحدة حالة اعترافها القانوني بإسرائيل، ليصبح اعترافاً قطعيا بعد عقد الانتخابات الإسرائيلية الأولى، بتاريخ 31 يناير عام 1949م. تقدمت إسرائيل بطلب الحصول على العضوية في الأمم المتحدة بتاريخ 15 مايو 1948م، أي بعد يوم واحد من وثيقة إعلان قيامها؛ ولكن مجلس الأمن رفض طلبها الأول وطلبها الثاني في: 17 ديسمبر 1948م؛ وقد كان التصويت بخمسة أصوات لصالح إسرائيل، لكل من: الولايات المتحدة، والأرجنتين، وكولومبيا، والاتحاد السوفياتي، وأوكرانيا؛ في مقابل تصويتٍ سلبي واحد، كان لسوريا؛ مع امتناعٍ عن التصويت لخمسة أصوات هي لكل من: بلجيكا، وبريطانيا، وكندا، والصين، وفرنسا. وبعد إخفاق إسرائيل في طلبها الانضمام إلى الأمم المتحدة في خريف 1948م، عادت وقدمت طلبا آخر في ربيع 1949م؛ وبعد التصويت (37: مع، 12: ضد، و9: ممتنعون)، أصدرت الجمعية العمومية قرارها رقم 273، بتاريخ 11 مايو 1949م بقبول عضوية إسرائيل بناء على إعلان إسرائيل بأنها "تقبل بدون تحفظ الالتزامات الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، وتتعهد بتطبيقها من اليوم الذي تصبح فيه عضوا ضمنها"؛ وبأنها تتعهد بتطبيق قرارَيْ الجمعية الصادريْن على التوالي، في: 29 نوفمبر 1947م (قرار تقسيم فلسطين)، و11 ديسمبر 1948م (قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين)، وهو ما لم يحدُث منذئذ وإلى الآن. وكأن الأمر من إسرائيل منذ البداية مع هيئة الأمم المتحدة، هو استعداد لمناورات ومراوغات ستطول وتطول. ولنحتفظ بأسئلة نوردها هنا، على أن نعود إليها لاحقا بإذن الله؛ وهي: ما مدى علم الدول الكبرى المهيمنة على مجلس الأمن، بخطط إسرائيل المستقبلية؟... وهل كانت تلك الدول على علم بالتوجه الإسرائيلي منذئذ؟... وإن كان الأمر كذلك، فما نصيب كل دولة من هذا التوافق العام؟... وأيها كانت القاطرة في هذا المشروع المؤسَّس على الغش والخديعة؟... ورغم أن هيئة الأمم المتحدة قد أُسِّست بزعم الحفاظ على السلم في العالم، كما سبقت الإشارة، فإننا نلاحظ عليها ما يلي: 1. عدم تساوي الدول الأعضاء، في مجلس الأمن الذي تهيمن عليه الدول دائمة العضوية، والتي هي: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والصين، وفرنسا، وروسيا. وهذه التركيبة لأعضاء مجلس الأمن الدائمين، والذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية منتصرين، مع تملّكهم لحق النقض (الفيتو)؛ لا يمكن إلا أن تكون ترسيخا لنتيجة الحرب العالمية الثانية، بتقوية المنتصر وبإضعاف المنهزم. وهذا الوضع لا يمكن بحال من الأحوال، أن يكون لا سعيا إلى السلام ولا تثبيتا له لو فرضنا وجوده في وقت من الأوقات. وإن استمرار مجلس الأمن، ضمن الأجهزة الستة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، كان ينبغي اعتبار نتائجه الضارة ببعض الدول إن لم نقل بجلّها؛ وكان ينبغي النظر في إعداد البديل العادل له منذ ظهور الخلل، لو حسُنت النيات. لكنّنا قد سمعنا منذ مدة، من خبراء السياسة الدولية، أن هذه الأخيرة تنبني على المصالح المتبادلة للدول، لا على الأخلاق. وسؤالنا هنا هو: كم تمثل مصالح البلدان الضعيفة، في مقابل مصالح الدول القوية؟... وهل توجد فرصة للحفاظ على مصلحة دولة ضعيفة ما؟... أم إنها ستُباع في السوق العالمية بأبخس الأثمان؟... ولكننا نحن، ورغم مناقشة الأصول النظرية لعمل الأمم المتحدة، نعلم أنها لا تقوم على مبدأ العدل والمساواة بين الدول؛ ونلوم في المقابل، الدول المتضررة التي لم تتمكن إلى الآن من توحيد صفوفها، بغرض إيجاد نوع من التوازن داخل هذه الهيئة العالمية. ومذهبنا في هذا هو: تحميل التبعات للضعفاء في ضعفهم، لا للقوي المستثمر لذلك الضعف. وهذا، لأن القوي إن لم يكن عاملا لله، فإنه سيعمل من أجل الزيادة في قوته. وهذا المنطق مـُتَفهَّم، وإن لم يكن مقبولا من الجميع. أما الضعيف فإنه متضرر، وكان ينبغي عليه أن يسعى إلى تحسين حاله؛ إما بمفرده، وإما بالتحالف مع ضعفاء مثله... وباختصار فنحن نعني أن الضعيف هو صاحب المصلحة الأكثر إلحاحا... 2. عدم عودة مسألة السلم والحرب (كشأن سواها من المسائل)، إلى إرادة الدول بالتساوي، قوية كانت أم ضعيفة؛ وهذا لأن الأمور التي تجري في العالم من كبيرها إلى صغيرها، كان ينبغي النظر فيها انطلاقا من مبدأ النفع العام. وهذا كله، من باب التحليل النظري، لا من باب الواقع؛ لأن الواقع، وإن بدا أن بعض الدول هي الدافعة نحوه، لا يكون إلا عن إرادة الله رب العالمين. وهذا الذي نقرّره، نعلم أن الكافرين حتى من الكتابيّين، لا يُدركونه؛ ولكننا نؤكّد عليه، لعلمنا أنه الحق الذي لا مرية فيه، ولننظر إليه بعين الاعتبار عند إرادتنا لفهم السياسة الدولية على وجهها. وما ينشأ عن إرادة الدول، هو في الحكم كالأمور الناشئة عن إرادة الأفراد، عائد إلى إرادة الله وحده. يقول الله تعالى: {وَمَا تَشَاۤءُونَ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ} [التكوير: 29]. والمشيئة هي أصل الإرادة، فلا ينبغي أن يلتبس أمرها على القارئ. وقد فصّلنا القول في الفرق بين المشيئة والإرادة في كتبنا الأخرى، فليتتبعه المرء في مظانّه. ولنُعرّج هنا على مسألة استشكلها اللاهوتيون والمتكلمون على مر الزمان، وهي تابعة لمسألة الشر التي مررنا بها في فصل سابق، والتي ليست إلا إرادة الله لما هو شرّ؛ كما نفعل دائما عند علمنا بالتساؤلات التي قد تعرض للقرّاء، والتي نردّ عليها في أوانها وفي محلّها؛ لأننا لسنا جبناء بحمد الله بإزائها، كما لسنا على أيديولوجيا نخاف أن تصيبها الأسئلة الحارقة بالانهيار؛ بل إننا في مرحلة سلوكنا، كنّا نعرّض نفسنا لما يهدم ما كنّا عليه من عقائد تفصيلية عمدا، بحثا عن الإطلاق العلمي الذي صرنا نشير إليه المرة بعد الأخرى، من أجل دلالة الناس عليه. ولنعد إلى ما كنّا بصدده، لنقول: ا. إن الشر نسبيّ كما أثبتنا في فصل سابق، وهذا يعني أن الشر باعتبار المنظور الخاص لدولة ما، أو لشخص ما، هو خير باعتبار مخالفه، أو بالاعتبار العام الكلّيّ([1]). وهذا يعني -مثلا- أن ما يصيب إسرائيل من شر، هو خير في نفسه؛ وأن ما يُصيب الفلسطينيين من شر أيضا، هو خير؛ إما في حال كونه على التقابل الأوّلي، وإما عند كونه شرا نسبيا في حقّ الطرفيْن، مع بقائه خيرا في نفسه... ب. إن كل اعتبار للشر والخير بالمعنى الجزئي، لا يكون مـُعربا عن فعل الله في مستواه الأعلى؛ ولكن يكون دخولا في خطة المصالح الضيقة لدولة ما، أو لشخص ما فحسب. وإن كل كلام عندئذ سيصدر عن دولة ما أو عن شخص ما، يُصنِّف فعلا ما على أنه خير أو شر، سيكون تطفلا على مجال الرأي بالمعنى الصحيح، وسيكون في الغالب ديماغوجيا يُستغفل بها ضعاف العقول من عموم الشعوب فحسب. ورأي العامة الذي تعتمده "الديمقراطية" الخادعة عند إجراء الانتخابات، ليس إلا تلاعبا بالعقول. وتدخل في ذلك كل الانتخابات والتصويتات المعتمدة في هيئة الأمم المتحدة. وهو ما يُفضي إلى كون كل القرارات الأممية، غير معتبرة عقلا، وإن قيل فيها ما قيل!... ج. إن عمل هيئة الأمم المتحدة الآن، بما يخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية أولا، ثم بما يخدم ما يُسمونه الدول الكبرى، في تخادمات ضيقة الدائرة، لا يكون أبدا خادما للإنسانية كما يزعمون. وهذا للتعارض اللازم في كثير من الأحيان، بين المصالح الضيقة والمصلحة الشاملة. وهذه المصلحة الشاملة، لا يمكن أن يعمل لها إلا الربّانيّون من المسلمين؛ وهو ما يُقصي الدول الإسلامية في عموم سياساتها، ويُقصي التنظيمات الإسلامية بمختلِف صنوفها، فضلا عن إقصاء الدول الكافرة. وهذا الحكم، ضروري الاعتبار، لمن كان دارسا أكاديميا جادّا، وليس منوطا بالمتديّنين وحدهم، كما قد يُفهم. وهذا، لأن الدين الحق، يُمدّ العقل البشري بالنور، الذي هو للبصيرة (عين القلب)، كالنور الضروري للبصر. ولنعرّج قليلا هنا على التلبيسات التي يقوم بها إبليس لخداع الجاهلين، عندما يدلّهم على عين ثالثة. ولنفرق بين الحق الذي يُدلي به والباطل الذي يبنيه عليه، لنقول: إن العين الثالثة حق، وهي عين القلب، التي تكون عمياء إن كان العبد على كفر؛ فإذا هو آمن، دخل عليه بصيص من نور، ينبغي عليه العمل على تقويته، إن كان يُريد أن يتحقّق له الإبصار القلبي حقيقة. نقول هذا، لأن كثيرا من المؤمنين (المسلمين) يبقون على حالة العشى الأولى، ويظنون (أو يوهمهم إبليس) أن ذلك هو أقصى ما يمكن الوصول إليه، وربما إن وجد منهم مقدرة على التفكر، دلّهم على نور العقل المخالف لنور الإيمان؛ ليبقوا غير مبصرين لحقائق الأمور، ويبقى الشيطان ماسكا أزمّتهم، يقودهم حيث يشاء. ومن هذا الباب تكون خدمة أهل الدين، للشياطين. ويقول الله تعالى عن نور القلب: {فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِی فِی ٱلصُّدُورِ} [الحج: 46]، وهذا يعني أن من كان على بصيرة، وكان كفيف البصر، فإن ذلك لا يُنقص من علمه بالمـُبصرات شيئا. ولقد سمعت مرة من أحد العارفين من أهل وجدة، يُدعى "سيدي قويدر"، وكان في آخر عمره كفيف البصر، وهو من تلاميذ سيدي أبي مدين، أي من أقران شيخنا حمزة أبي دشيش رضي الله عن الجميع؛ التقاه أحد معارفه القدامى، وعندما رآه على حال كف البصر، أظهر له تأسفه؛ فقال سيدي قويدر بنبرة قوية: "يا سيدي، الآن فقط، نحن نبصر!"؛ وهذا حقيقة، وليس مجازا كما قد يُفهم. ويقول الله تعالى في موضع آخر عن العمي من ذوي الأعين السليمة عضويا: {وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیرًا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٌ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡیُنٌ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٌ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ} [الأعراف: 179]. وليس العمى التام من هذا الصنف، إلا الكفر؛ لأن الكافر لا بصيص له من نور البصيرة. وهو لا يعلم من الإبصار، إلا إبصار البصر، الذي يبصر به الأشكال والألوان. وإن الصور المنبنية على إدراك الأشكال والألوان، هي مظاهر لما ينبغي أن يُعلم من خلفها، وليس إلا الأسماء الإلهية. وأما من رضي بالبصر المتعلّق بالأعين، فإنه يكون مساويا في إبصاره لإبصار الحيوانات؛ وهو إن ساواها، مع كونه مطالبا من جهة الشرع بتحقيق إبصار البصيرة، فإنه سيكون نازلا عن مرتبة الآدمية، وحتى عن مرتبة الحيوانية (الأنعام). وإن ربط العمى في الآية بالأعين، ليس هو من باب الدلالة على أن الإبصار منوط بها وحدها؛ ولكن من باب الدلالة على اتحاد نور البصيرة بالبصر في عملية إبصار شاملة. كل هذا الذي نقوله، منطلقين من القرآن الكريم فيه، يجده من حصلت له التزكية ذوقا، ويعيشه كما يعيش غيره ما يُناسب حالهم من غير أدنى تفريق. وأما الشيطان عندما يدل على العين الثالثة، فهو يريد من أتباعه اتباع سبيله، ليُمدّهم بما يُشبه النور، حتى يزعم لهم أنه النور الحق وهيهات؛ ومن هنا كان سبب تسمية أتباع الشيطان له بـ "لوسيفر" (أي حامل النور). وكل هذا الذي يقع من إضلال، هو بإذن الله، لا بإرادة من إبليس؛ لأنه لا إرادة له في مقابل إرادة الله، وهو العبد الضعيف المشارك لجميع العباد في صفة الضعف والعجز... ولنعد بعد هذا التقديم إلى حال العالم بعد نشأة هيئة الأمم المتحدة، ولْنقسم هذه المرحلة الزمانية إلى قسميْن بحسب منطق الأشياء؛ لننظر بعد ذلك، إلى وضع إسرائيل في كل قسم على حدة: 1. مرحلة الحرب الباردة: ولنُشر في البداية إلى أن ما يُسمى "الحرب الباردة"، كانت صراعا سياسيا واستخباراتيا في معظمه، أدى إلى بعض الحروب، كما سنبيّن في حينه بإذن الله. ولقد كان ذلك الصراع بين معسكريْن يصطف أحدهما في مقابلة الآخر، هما: المعسكر الشرقي، الذي كان تحت قيادة الاتحاد السوفياتي؛ والمعسكر الغربي، الذي كان تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد كان هذا الوضع يُعبَّر عنه بازدواجية القطبيّة، في مقابل وحدتها، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفكك اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية في 25 ديسمبر عام 1991م؛ وبعد أن أعلن ذلك "ميخائيل غورباتشوف"، الحاكم الثامن والأخير للاتحاد، في خطاب للشعب السوفياتي، على التلفزيون الرسمي للدولة. ونحن كان بودّنا إبداء رأينا في مسألة تعدد القطبية العالمية، من جهةٍ علمية صرف، في مقابل هذه التصنيفات الإعلامية والعلمية السياسية، التي هي غير مخولة في نظرنا بالكلام في المستوى التأصيلي. ولقد وجدنا الفرصة هنا، فلنُبيّن رأينا باقتضاب، ليستعين به ذوو التخصصات قبل غيرهم؛ ولنقل: إن القطبية في العالم من الجهة الغيبية واحدة لا تتعدد، وذلك لأن الحكم في كل ما يحدث من أحداث ووقائع، يعود إلى الله رب العالمين وحده كما أسلفنا الإشارة مرارا. وهذا قد يصعب تصوّره لغير المؤمنين، عندما ينظرون إلى تفاصيل تلك الأحداث، وإلى الجهات الصادرة عنها؛ لذلك لن ندخل في مناقشة من يأبى قبول هذا الشطر الأول من قولنا. وأما من جهة الظاهر، وهو ما يُدركه الناس بحواسّهم، وبملاحظاتهم واستنتاجاتهم الناشئة عما يُدركون من واقع العالم، فإن القطبية دائما تكون مزدوجة. والسبب هو الازدواجية التي هي عليها الأسماء الإلهية، والتي هي المتصرّفة في العالم بما يخدم مصلحة قوم وما يُضر بمصلحة آخرين. والمصلحة التي هي النفع، مع الضرر المقابل، هي زوج ضمن كل الأزواج المتجلّية في صور الخلق أجمعين. يقول الله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَیۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَیۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]؛ وهذا، حتى يمتاز الخالق الواحد عن الأشياء المخلوقة في صور الأزواج. ولسنا نعني هنا أن الأسماء الإلهية مخلوقة، بل نقصر الخلق على مظاهرها دونها. وأما التعدد في الأقطاب، والذي قد يعتبره بعض السياسيين، كما يحدث مع التجمعات الدولية مثل "البريكس" وغيرها، فلا بد أن تعود فيه إلى القطبيْن اللذيْن أثبتناهما، من غير زيادة ولا نقصان في النهاية. والأمر -كما لا يخفى- الذي يدعو الناس إلى اعتبار أقطاب متعددة، هو المجموعات الاسمية، التي تشتمل عليها المجموعتان الكبريان، وهي التي تُشبه في التجليات البشرية، ما تكون عليه الشعوب والقبائل. ونعني من هذا بعبارة أدق، أن الأسماء الإلهية، تنقسم إلى حزبيْن في المستوى الثاني الذي يأتي بعد الاسم الجامع "الله"، والذي ينفرد مستواه الخاص عما دونه. وأما بعد مستوى الحزبيْن، فإن الأسماء الإلهية تنقسم إلى مستوى الشعوب من الأسماء، ثم بعد ذلك إلى مستوى القبائل منها. ولا يبقى بعد هذه المستويات، وفي المستوى الخامس، إلا المستوى الخاص بكل اسم من الأسماء الفرعية. ومن ينظر إلى هذا الأمر، فإنه سيجده على صورة شجرة مقلوبة عند الاعتبار العلمي لصدور التجليات الإلهية. ولقد دلّ على هذا الأصل من جهة الباطن، قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبًا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ} [الحجرات: 13]؛ وهذا، لأن العالم ومن ضمنه الناس، مخلوقون على الصورة الإلهية، كما قرّرنا في موضع سابق من هذا الكتاب وغيره. وسواء نظرنا إلى معسكر الشرق أم إلى معسكر الغرب، فإنّا سنجدهما معا، من أنصار إسرائيل؛ وهذه مفارقة أولى لا ينبغي أن تُغفل، وكأن إسرائيل كانت مركز العالم، الذي يقع عليه الإجماع. لم يشذ عن ذلك الإجماع إلا بعض الدول التي أعلنت رفضها لقيام إسرائيل ظاهرا؛ لكن هذه الدول تبقى تابعة بوجه ما، إما للاتحاد السوفياتي سابقا([2])، أو للولايات المتحدة؛ وكأن الأمر مراوغات، لا مواقف سياسية مبدئية. ولنعد إلى ماض متوسط البعد، لنؤسّس لزماننا، إذا كنا نبغي الظفر منه بشيء؛ ولننظر أولا إلى خصوصيات الثورة الفرنسية وبعض الثورات التي تليها، من كونها كانت مفاصل غيّرت من نظر الناس إلى العالم وإلى التاريخ معا. وإن الثورات الكبرى في العالم، والتي بدأتها الثورة الفرنسية، التي بلغت مرحلتها الأخيرة عام 1799م، تدل الوثائق التاريخية، على أنها كانت من تخطيط النورانيين اليهود. ولقد قامت الثورة الفرنسية، بالقضاء على الملك وعلى الكنيسة معا، لأنها تعتبرهما حجر عثرة في طريق تحقيق الإمبراطورية العالمية. وإن الدليل على أن الثورة الفرنسية كان خلفها نخبة من اليهود، هو منحها الجنسية الفرنسية لليهود الذين كانوا مقيمين هناك، وكان الملك يرفض منحهم إياها؛ مباشرة بعد استلام الثوار للحكم. ولقد اقتصرنا على هذا الدليل هنا، لنربط سريعا ما وقع في فرنسا، بما سيقع في روسيا القيصرية. ولنعد إلى الاتحاد السوفياتي الذي وجدناه أول معترف بإسرائيل، لنتعرف مدى صلته بالصهيونية اليهودية. [[فمن الحقائق التاريخية المؤكدة، والتي عملت الحركة الصهيونية العالمية على إخفائها، أن الحركة الشيوعية الفكرية والأيديولوجية والسِّياسية، لم تكن سوى أحد فروع الصهيونية([3])، أو لنقل بتعبير أكثر دقة أحد المخرجات الفكرية التي لها البعد السياسي والاقتصادي ذاته. فالثورة البلشفية التي قادها زعماء روس كبار ملحدون، كما سوقت لنا وسائل الإعلام الغربية، ودرسونا إياها في المدارس الرسمية، وعلى رأسهم "لينين" و"ستالين" و"تروتسكي"، وغيرهم... لم يكونوا في حقيقة الأمر إلاَّ يهوداً متشبِّعين بالأفكار الصهيونية الدينية حتى النخاع، كما يذكر ذلك الكاتب الأمريكي والسيناتور السَّابق "ديفيد ديوك"، في "كتابه الصحوة"، والذي يعد من أهم المراجع الموثَّقة في هذا الموضوع. فالثورة الشيوعية البلشفية التي قامت ضدَّ حكم أسرة "رومانوف" القيصرية سنة 1917م، والتي تم تصويرها لنا بأنها ثورة عادلة، وبأنها قامت ردا على الظلم والاضطهاد الذي عاناه الشعب الروسي، في تلك الفترة القاسية من تاريخه؛ لم تكن سوى بتخطيط صهيوني يهودي، لأنه من بين حوالي اثنيْن وخمسين زعيماً قاموا بتفجيرها، لم يكن سوى ثلاثة عشر فقط منهم، من الروس؛ والبقية كلهم يهود وبدون استثناء. فعائلة القيصر الروسي، أو عائلة "رومانوف" كما تعرف في كتب التاريخ، والتي تعتبر الأسرة الثانية التي حكمت روسيا القيصرية بعد أسرة "روريك"، تمت إبادتها بالكامل على يد يهود صهاينة، كما ذكر ذلك الكاتب والصحفي الأمريكي "روبرت ويلسون"، أثناء عمله لصالح صحيفة لندن تايمز، في روسيا، وذلك لمدة سبع عشرة سنة تقريبا، عندما تحدث في كتابه عن الثورة الروسية الكبرى وسماه، "آخر أيام أسرة رومانوف"، وذكر ما يلي: [لقد تأثر سجل البلشفية بأكمله في روسيا، بطابع غزو غريب؛ فمقتل القيصر خططه عن عمد اليهودي "شيفردلوف"، ونفذه يهود ومنهم: "غولدشيكن"، و"سيرموتوف"، و"ساروفاروف"، و"فويكوف"، و"يوروفسكي". وهي فعلة لم يقرها الشعب الروسي، بل فعلة ذلك الغازي المعادي.]. فالمجازر التي تم ارتكابها في السنوات التي تلت تلك الثورة المشؤومة، ما بين سنوات 1918-1959م، كان كل قادتها يهودا صهاينة، وهم الذين كانوا مسؤولين عن فرق البوليس السِّري الروسي وقتها، والذي يعرف اختصارا بـ "شيكا". وحسب أحد علماء الإحصاء الذين استطاعوا الوصول إلى ملفات الحكومة الروسية السِّرية في ذلك الوقت، فإن عدد من تمت إبادتهم من أبناء الشعب الروسي في تلك الفترة من التاريخ، يُقدّر بحوالي ستة وستين مليون شخص؛ وهي أبشع عمليات قتل منظم حدثت طوال التاريخ البشري كله. وبالرغم من إخفاء أسمائهم الحقيقية، فإن كتب التاريخ تذكر بأن هؤلاء الستة اليهود هم على التوالي، "أرون سولتر"، و"ياكوف رابوبورت"، و"لازا لوغان"، و"ماتفي بيرمان"، و"غيتنربخ ياغودا"، و"نفتالي فرينكل"؛ وهم الذين كانوا مسؤولين عن إدارة معسكرات الاعتقال في كامل الإمبراطورية السوفياتية، وكانوا هم أيضا من أعطوا أوامر القتل الجماعي التي لم تفرق بين طفل وامرأة وشيخ. فالإرهاب الممارس من طرف هؤلاء القادة الصهاينة للثورة الروسية غير مسبوق، لدرجة أن "المجلة الجغرافية القومية"، ذكرت في أحد مقالاتها، وكان عنوانه: "الثورة في روسيا"، والذي كان يصف القيادة اليهودية للثورة الشيوعية الروسية، بالإرهاب. أما العلاقة الواضحة، والتي حاول الكثيرون طمسها، والتي تبين الارتباط الوثيق بين الصهيونية والشيوعية الاشتراكية ونظرياتها المختلفة، فقد كشفتها مقالة نشرت في مجلة "حارس شيكاغو اليهودي"، والتي كشفت فيها بأن "كارل ماكس" رائد ومؤسس المدرسة الاشتراكية الشيوعية، وصاحب كتاب "رأس المال" المعروف عالمياً، لم يكن في الأصل إلا يهوديا صهيونيا، ينحدر من أسرة معروفة بأنها تنتمي إلى علماء التلمود أبا عن جدّ. وتحدثت تلك المقالة عن عنصرية "كارل ماركس" وصديقه "إنجلز"، وكرههم الشديد للشعب والدولة الروسييْن. وبالإضافة إلى ذلك، فإن "كارل ماركس"، قد تلقى الكثير من مبادئ الاشتراكية عن معلمه الصهيوني "موسى هيس"، الذي يُجله الصهاينة كثيرا، ويعتبرونه من زعمائهم الكبار، كما جاء ذلك في "موسوعة الصهيونية في إسرائيل"، تحت مادة "موسى هيس"، [بأنه طليعة الاشتراكية الحديثة، وفيلسوف اشتراكي، ورائد الصهيونية؛ وهكذا كان "موسى هيس"، رائدا للصهيونية الثقافية والسِّياسية والصهيونية الاشتراكية بوجه خاص. ولقد انخرط بعمق في الحركة الاشتراكية الناهضة، واعترف "كارل ماركس"، و"فريدريك إنجلز"، بأنهما تلقيا الكثير منه أثناء سنوات تشكل الحركة]. ومن الأمور التي لا تذكرها لنا كتب التاريخ، أن من موَّل الثورة البلشفية في حربها الطاحنة ضدَّ النظام القيصري في روسيا، لم يكن سوى المصرفي المشهور آنذاك "يعقوب شيف"، الذي دفع ما بين 17 و24 مليون دولار، وهو رقم ضخم جدا حسب معايير تلك الفترة، لتمويل تلك الثورة المشؤومة. ودفع له الروس بعدها بسنوات، أكثر من 600 مليون روبية، وهو لم يكن سوى واجهة لآل "روتشيلد"، الذين أداروا هذه الثورة في الخفاء، وكانوا يتحكمون في قياداتها أمثال "ليون تروتسكي"، الذي لم يكن هو أيضا، إلا يهوديا صهيونيا. فلقد وُلد تحت اسم "أليف بروشتاين"، وذلك مثلما جاء في "كتاب تروتسكي واليهود"، الذي نشرته الجمعية التبشيرية اليهودية في مدينة "فلاديلفيا" الأمريكية عام 1971م، والذي هو من تأليف "جوزيف نيدقا". وكان يعتبر "تروتسكي" من المقربين للبارون "روتشيلد"، وقد اعتاد مثلما يؤكد على ذلك هذا الكتاب القيم، قبل اندلاع الثورة البلشفية، على لعب الشطرنج معه في المقهى المركزي بـ "فيينا". وحتى المصطلحات السِّياسية والعنصرية، التي تتبناها الكثير من دول الغرب لمحاسبة كل من ينتقد إسرائيل، أو يشكك في المحرقة اليهودية، كمصطلح معاداة السَّامية، أو اللاسامية، فإنها من وضع الاتحاد السوفياتي تاريخيا. وهو يُعتبر أول دولة وضعت قوانين صارمة تصل عقوبتها إلى الموت، لمعاقبة كل من ينكر المحرقة اليهودية، أو ينتقد إسرائيل، أو يحاول نقد التاريخ اليهودي. فالقوانين الروسية الصادرة ما بين سنوات 1922 و1927م، كانت صارمة جدا بهذا الخصوص. وفي مقابلة مع الزعيم البلشفي "جوزيف ستالين" سنة 1931م، من وكالة البرق اليهودية، جاء قوله فيها: "لا يمكن للشيوعيين، إلا أن يكونوا أعداء صريحين للّاسامية، وإننا نحارب اللّاساميين بأقصى ما لدينا من أساليب في الاتحاد السوفياتي، ويعاقب اللّاساميون بالموت حسب القانون.". واليهود الصهاينة حسب أقوال المؤرخ الإسرائيلي "لويس رابويورت" في كتابه المعنون باسم "حرب ستالين ضدَّ اليهود"، قد كانوا يشعرون بمسؤولياتهم اتجاه الحكومة الجديدة، حيث كان كل أعضاء المكتب السِّياسي الأول الذي شكله لينين من اليهود. وهذا غيض من فيض من الدلائل والشواهد التاريخية التي تدل دلالة قطعية، لا ريب فيها على أن الشيوعية ليست إلاَّ أحد الأقنعة التي ترتديها الصهيونية العالمية، للسيطرة على الشعوب، والتي لا يزال الكثير من المفكرين والزعماء والقادة العرب وغيرهم، مخدوعين بشعاراتها البراقة. ويكفي أن نشير ختاما إلى أن الاتحاد السوفياتي قد اعترف بالكيان الصهيوني الغاصب بصفته دولة، بعد حوالي 5 دقائق من إعلان قيامها، وحتى قبل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعتبر الحليف التاريخي لإسرائيل.]][4]. ولنعد الآن إلى الحرب الباردة، وإلى أهم ما تخللها من أحداث، لنستخلص منها العبر، ونربطها بأصولها التي قد تقرر بعضها مما سبق من الكلام: في غياب حرب معلنة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، قامت القوتان (كل من ناحيتها) بعمليات بناء عسكرية، وبخوض صراعات سياسية من أجل بناء المعسكريْن. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كانا معا من ضمن الحلفاء في الحرب العالمية، ضد قوات المحور؛ فإنهما اختلفا في كيفية إدارة ما بعد الحرب وإعادة بناء العالم. ونحن وإن كنّا في الظّاهر نتفهم ادعاءات الفريقيْن، فإننا لا ننخدع بخطابهما، لعلمنا بعدم إدراكهما لحقيقة ما يخوضان فيه من الناحية السياسية الاستراتيجية. وكونهما كانا حليفيْن، وصارا فيما بعد خصميْن، لا يدل إلا على اختلافهما على التفاصيل دون الغايات الكبرى. ويؤكد ما نذهب إليه، مساندة الفريقيْن لإسرائيل، ومعاداتهما للمسلمين. وخلال السنوات التالية للحرب، انتشرت الحرب الباردة خارج أوروبا إلى كل مكان في العالم؛ وهذا مما كنا قد شبّهناه بما يصيب الجسم، فينعكس بعد ذلك على القلب، عند كلامنا في فصل سابق على قلب العالم الذي هو بيت المقدس. وقد سعت الولايات المتحدة إلى سياسات المحاصرة والاستئصال للشيوعية، وحشد الحلفاء؛ خاصة في أوروبا الغربية، والشرق الأوسط. وفي المقابل، فقد دعم الاتحاد السوفياتي الحركات الشيوعية حول العالم، خاصة في أوروبا الشرقية، وأمريكا الجنوبية، ودول جنوب شرق آسيا. صاحبت فترة الحرب الباردة، عدة أزمات دولية حادة، مثل أزمة حصار برلين (1948–1949م)، والحرب الكورية (1950–1953م)، وأزمة برلين عام 1961م، وحرب فيتنام (1956–1975م)، والغزو السوفياتي لأفغانستان. وقد كانت أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م، أخطر هذه الأزمات، حين شارف العالم على الدخول في حرب عالمية ثالثة. وآخر أزمة من هذا الصنف، حدثت خلال تدريبات قوات الناتو عام 1983م. وقد تخللت هذه الأزمات، فترات من التهدئة، عندما كانت القوتان تسعيان إلى التهدئة، وتتجنبان الوقوع في المواجهة المباشرة؛ التي كان حدوثها سيؤدى إلى دمار متيقَّن، لكلا الطرفين بسبب الأسلحة النووية. اقتربت الحرب الباردة من نهايتها أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، خصوصا بعد وصول الرئيس الأمريكي "رونالد ريغان" إلى السلطة، حيث ضاعفت الولايات المتحدة ضغوطها السياسية والعسكرية والاقتصادية على الاتحاد السوفياتي. وفي النصف الثاني من الثمانينيات، قدم القائد الجديد للاتحاد السوفياتي "ميخائيل غورباتشوف" مبادرتي بيريسترويكا (إصلاحات اقتصادية)، وغلاسنوت (مبادرة اتباع سياسات أكثر شفافية)؛ فلم يحتمل الاتحاد السوفياتي المنخور، ذلك؛ وانهار عام 1991م، تاركا الولايات المتحدة فيما يبدو لغير الخبير: القوة العظمى الوحيدة في عالم زعم أنه أحادي القطب. وقد سبق لنا الكلام عن قطبية العالم، لذلك فلن نعيده هنا... وإن أخطر ما وقع في المجال الحيوي السياسي لإسرائيل، هو انقسام الدول العربية قسميْن: قسم موال للولايات المتحدة، وهو في الغالب الذي يشمل الممالك العربية التي على رأسها المملكة السعودية والمملكة المغربية؛ وقسم اشتراكي قومي تزعمته مصر طيلة حكم جمال عبد الناصر (1952-1970م)، وشاركتها سوريا تلك الزعامة، ريثما تأتي الجمهوريات العربية من مثيلات الجزائر واليمن والعراق. ولقد كان هذا القسم الاشتراكي ميّالا إلى المعسكر الشرقي نسبيا، وعلى تفاوت. وأما الجماهيرية العربية الليبية بزعامة القذافي، فقد كانت شبه استثناء بسبب جنون العظمة الذي استحوذ على الزعيم. ومع أن الدول العربية لم تدخل في موالاة مباشرة للمعسكريْن ضمن الحرب الباردة العالمية؛ فإنه قد أصابها من ريحهما ما جعلها تدخل فيما سماه العالم السياسي الأمريكي والباحث في شؤون الشرق الأوسط "مالكولم ه. كير"، بـ "الحرب العربية الباردة"، في كتاب أصدره بالعنوان نفسه، عام 1965م. ولقد خلّف هذا الصراع العربي انقساما حادا إبّان تلك الحقبة، لم تزل بقاياه مستمرة إلى الآن. وأجلى مثال على هذا الانقسام، الصراع الذي ما يزال قائما بين الجزائر الموالية لوريثة الاتحاد السوفياتي (روسيا الاتحادية)، والمملكة المغربية، الموالية للولايات المتحدة الأمريكية. ولا شك أن دولة إسرائيل، ستستثمر هذا الانقسام العربي إلى أقصى الغايات الممكنة، من أجل تثبيت نفسها في محيط يمجّها، وشعوب حانقة تتربص بها. وسيزيد الانقسام العربي سوءا، عندما سيُصبح بفعل تجاذبات الأنظمة العربية، انقساما فلسطينيا في مواجهة إسرائيل... وإن نحن اعتبرنا حركة منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست في عام 1964م، والتي تضم حركة "فتح" التي نشأت في 1 يناير 1965م، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1968م (أي بعد عام واحد من تأسيسها) بصفتهما أكبر فصيليْن من فصائلها؛ فإننا سنجدها يسارية الميول والعمل، مع غلبة الطابع القومي العربي، بحسب ما تُعطيه البيئة المحيطة. وإن اعتبرنا بعد ذلك حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين التي تأسست عام 1981م، وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" التي تأسست متأخرة في عام 1987م، اللتيْن تعكسان التوجه الإسلامي في المنطقة، والذي يخالف التوجه اليساري جذريا؛ فإننا سنتلمّس معالم الانقسام الكبير في العمل الفلسطيني، خصوصا بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، والتي هي هيئة الحكم الذاتي، في عام 1994م؛ عقب اتفاق غزة-أريحا لحكم قطاع غزة والمناطق "ا" و "ب" في الضفة الغربية، بصفته نتيجة لاتفاق "أوسلو" لعام 1993م. وسيتسع الشرخ، بعد انتخابات عام 2006م، وما تلاها من نزاع في غزة، بين حركتي فتح وحماس، أدّى إلى سيطرة حماس على غزة، وانحصار نفوذ السلطة في المنطقتيْن المذكورتيْن من الضفة الغربية. وبعمل السلطة الفلسطينية بالتنسيق من جهة مع إسرائيل، ومن جهة مع الدول العربية من المعسكر الموالي للولايات المتحدة؛ وعمل حركتي حماس والجهاد بالتنسيق مع إيران وسوريا؛ فإن المواجهة لإسرائيل، ستنقسم بين المحوريْن: العربي والإيراني. وبما أن إيران، تتبنّى مشروعا خاصا بها تسمّيه زعما إسلاميا، مع أنه لا يعدو أن يكون مشروعا شيعيا رافضيا، يحول دون تحقيق الوحدة الإسلامية المنشودة؛ فإن إسرائيل ستتمكن من استثمار الفجوة العقدية بين الشيعة وأهل السنة، بأقصى ما تستطيع. وهو ما سيؤخر من حسم الصراع العربي الإسرائيلي، وسيبقي المواجهة بين الجانبيْن في حدودها الدنيا، رغم ما قد يبدو بعكس ذلك ظرفيا من حيث الزمان والمكان معا. هذا كله، مع تأكيدنا على أن الصفّ العربيّ ليس نقيّا في مقابلة الصف الإيراني، ولا هو منزه عن الدخول في الصفقات الضيقة مع إسرائيل والغرب من بعدها، وهو ما ينعكس بالضعف والفشل على مجاهدة([5]) إسرائيل. وإننا بإلقائنا في هذا الفصل نظرة بانورامية موجزة، على الأوضاع السياسية العالمية والأوضاع السياسية فيما يُسمّى الشرق الأوسط([6])، نريد أن نقترب بقدر الإمكان، من الصراع العربي الإسرائيلي؛ حتى نتمكن من الخوض فيه فيما بعد، على بيّنة، ومن دون مصادمة لمفردات الواقع. ولا شك أن هذا، لن يكتمل، إلا مع إطلالة داخلية، على دولة إسرائيل؛ وهو إن شاء الله موضوع الفصل الموالي... [1] . المشهد العام الذي نشير إليه، يخرج عن إدراك جل الناس، بمن فيهم أهل الاستراتيجيا أنفسهم. وإن عدم إدراك هذا المشهد، سيبقى نقصا في النظر إلى تفاصيله التي يظن أهل السياسة أنهم يتقنونها. وبهذا، سيكون الأمر -على الأقل من أحد الوجوه- سببا في الجهل بكل منظور فيه، وبالتالي سببا لاتخاذ قرارات لن تخدم الناظر نفسه، قبل غيره... |