اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/05/18 رحلتي إليّ -4- نحو التسميم الأول
كانت توجد في غرفة والدي خزانة من الطراز الفرنسي العتيق، المتفرّع عن طراز لويس الرابع عشر؛ لها ثلاثة أدراج كبيرة، ذات مقابض معدنية. فكنت أتفقدها كلّ يوم، لقلة الأثاث، وكأنها يمكن أن تكون في كل يوم مختلفة عن حالها بالأمس. كنت عندما أفتح الدرج العلوي، أجده مليئا بأوراق وملفات، لم أكن أظفر منها بشيء؛ ولكنّني، ومع كثرة الترداد، صرت أعرف الأوراق والملفات من حجمها ولونها، وأعرف ترتيبها؛ وهو ما كان يجعلني أعيدها إلى مكانها، بعد تفحصها، إن ظهر لي ذلك... ولعل الدرج الأوسط، كان أقل إثارة لفضولي، لكونه كان يحوي علبا لأدوية طالت إقامتها به، مع أشياء أخرى تكاد تكون معتادة. أما الدرج السفلي، فكان به ناي كبير (قصبة خماسية)، كان والدي يعزف عليها في بعض الليالي، من دون أن يرفع صوت العزف؛ وكأنه كان يتدرب لئلا ينسى، ولا يقصد أن يُسمع أحدا من أهل البيت بله غيرهم من الجيران... وكان إلى جانب الناي الكبير، ناي أصغر من الصنف الذي يُسمّيه الفرنسيّون نايا بمنقار (flûte à bec)، ومزمار (غيطة)؛ وبينما كان الناي الكبير، لا تتمكن من التِقامه شفتاي الصغيرتان، ولم أكن عند النفخ فيه أصل إلى استصدار صوت منه؛ وكان المزمار يتطلب قوة نفخ، لم أكن أبلغها؛ فإني كنت أقتصر على الناي الصغير، الذي كان يستجيب بسرعة لنفخي. فكنت أضع أصابعي على ثقوبه، كما يتّفق لي، فكنت أسمع لذلك أصواتا مختلفة في الحدة والغِلَظ؛ ولكنني لم أكن أتمكن من عزف شيء تستسيغه أذني الصغيرة، ويكون موافقا لما اعتادته من سماعها المحدود. فكنت دائما ما أصاب بغبن كبير، لعجزي عن عزف الألحان!... ولم تكن والدتي لتُسعفني وهي تراقبني من بعيد، بل تزيد من إحباطي عندما أسمع نهيها لي عن تناول النايات؛ وكأنها تُعلن لي أني لست من أهلها الذين يستنطقونها، فكنت أرى ذلك نقصا خلقيا لديّ، كما يُمكن أن يشعر أخرس -مثلا- عند عجزه عن الكلام. لم تكن أمي تعلم مدى ما كان يعتصرني من ألم داخلي، بسبب عجزي عن العزف؛ وكنت في كل مرة، وبعد كل محاولة جديدة، أنصرف عن الدرج العجيب، إلى غيره مما كان يخفف من ألمي، أو يُنسينيه وقتيّا... *** في هذه الفترة من الزمان، وعندما كنت لم أعتد الخروج للجلوس على عتبة الباب بعد، كنت أفتح الباب وأجلس على دكّة، كانت طرفا لعتبتيْن صغيرتيْن تفصلان الحوش، عن الباب الخارجي؛ وكانت المساحة التي تفضي إليها العتبتان، لا تتسع لأزيد من الباب الخشبي الضخم، إن هو فُتِح. كنت أتخذ الدّكّة على جانب العتبتيْن كرسيا أجلس عليه، لأنني كنت حينها أستطيع أن أفتح الباب قليلا، وأنظر من الفتحة إلى الخارج. وأظن أن هذا الوضع، كان مقبولا لجدّتي ووالدتي، ما دام أقل خطرا من خروجي الذي كانتا تتوجّسان منه... كانت هوايتي في هذا الوقت، مراقبة المتسوّلين الذين كانوا يتناوبون على القدوم إلينا، واحدا بعد واحد. لم أكن أعلم حقيقتهم، ولا سبب مجيئهم؛ ولكنه قد أصبح لي ما أهتم به خارج البيت، ويُخفّف عنّي الضجر اليومي الذي كنت أعاني منه. كنت أحب المتسوّلين كثيرا، وأرى أنهم صنف آخر من الناس، من دون أن أتصوّر معنى مشتركا للناس بعد؛ وهذا لأنني كنت أعرف الأشخاص بأعيانهم، ولا أتصوّر ما يُمكن أن يكون مشتركا فيما بينهم. لم أكن أرى اتساخ ملابس المتسوّلين نقصا بهم، بل كنت أراه اختلافا عن غيرهم فحسب؛ ورغم أنني كنت حديث عهد بمعرفتهم، إلا أنني صرت في كل مرة أكثر إلفا بهم. وكنت في هذه المرحلة من عمري، لا أفرق بين أهل بيتي وسواهم من الناس، إلا بما أجده من وجداني من أحكام الفطرة. وهذا كان يجعلني أيضا، قابلا للتعرف إلى الناس من خارج البيت، من دون كبير تمييز بين الأقارب والأباعد. ولقد كان من بين هؤلاء المتسولين، المترددين على بيتنا، شاب طويل القامة؛ على الأقل في نظري حينئذ، رغم أنني لم أكن أميّز الشاب من الكهل في ذلك الوقت. كان يرتدي معطفا أصفر قد تغيّر لونه قليلا، بفعل الوسخ الذي علاه مع المدّة؛ فأنا لم أر هذا الشخص يغير من ثيابه، رغم اختلاف الفصول. وكان الشاب يضع على رأسه قلنسوة، لم أكن أعرف من لونها إلا أنها بين الأصفر والرمادي أو البنيّ الخفيف. كنّا نحن الأطفال، بحسب ما علمت فيما بعد، نعرف هذا الشخص من منطوقه ونسمّيه به؛ لأننا كنّا نسمعه وهو ما يزال عند البيوت المجاورة، بعيدا عن أنظارنا، يردّد كلمته التي لا ينطق غيرها: "طاح، طاح". لقد علمت فيما بعد، أن هذا الشخص كان أخرس؛ رغم أنني لم أكن أُدرك حقيقة الخرس بعد. لكن، هي كلمات، كنت أتشبث بها من أجل تمييز الناس والأشياء، وأصنفها في ذهني الصغير بحسب ما كان متاحا لي. كان الأطفال يرافقون هذا المتسوّل أحيانا، وهو يتنقّل بين البيوت، كما يُرافقون غيره من الطوّافين عليها. ولكنه كان يُسارع إلى طردهم بعيدا عنه، كلما سمعهم يُنادونه: "طاح طاح"؛ ولم أكن أنا أعلم من ذلك كله، إلا أن الاسم -إن صحّ أن يكون اسما- كان ذا مدلول قدحي، وفي الحقيقة لم يعْدُ الأمر أن يكون من "الصوتيّات" فحسب. صرت أنتظر هذا المتسوّل، وكأن قدومه أصبح موعدا لدي مع هؤلاء الغرباء، الذين صرت أكتشفهم شيئا فشيئا. وبلغ بي الأمر أنني كنت أنظر إلى "طاح طاح"، كما يُنظر إلى شخص ذي مكانة عند الله؛ من دون أن أميّز هذا المعنى. وهذا، ببساطة، لأنني لم أكن أعرف غير الله في هذا الوقت. كل هذا، كنت أجده، من دون أن أميّز التفاصيل؛ فأنا لم أكن أميّز مرتبة الألوهة، ولا مرتبة الولاية، وإنما كنت أجد ذلك وألمس تلك القداسة بباطني. فكان ذلك يزيد من اهتمامي بالمتسوّلين وأشباه المتسوّلين من مدّاحين وملاعبي القردة والثعابين أيضا... تنبهت يوما إلى رقعة على معطف "طاح طاح"، وأنا أتفحّصه كعادتي، فبدت لي وكأنها وسام علّقه الشاب على معطفه، ليدلّ على سموّ مرتبته. فما كان منّي إلا أن عدت إلى والدتي بعد انصرافه، وإغلاقي باب البيت إعلانا عن انتهاء حصة الفرجة من ذلك اليوم، وأنا أصر بلغتي الخاصة على أمر بذهني، وأشير بأصبعي الصغير إلى ثيابي. كنت أقول: "مّا، يِّي سابَلَّعْ!"... ففهمت والدتي قصدي، لأن كلمة "يِّي" كانت تعني عندي الفعل بجميع معانيه؛ لكن والدتي، كانت تعلم بحدسها الفعل المقصود من سياق الجملة ومن سياق الحدث المعيش. ولم تكن كلمة: "سابلَّع"، غير تحريف منّي لعبارة "في سبيل الله" التي كان يتلفّظ بها المتسوّلون؛ فلم أكن أميّز الحروف الملفوظة، لعدم إلفي لنطق الناس بعد، ولسرعة نطقهم من ناحية أخرى. وهذه السرعة، صفة تميّز العامية المغربية، صرنا بعد أن كبرنا نعرف ذلك من المشارقة الذين كان يعسر عليهم فهم ما نقول. فلما عَرفَتْ منّي أمي ما كنت أطلب منها، نهرتني قائلة: اذهب عنّي، فأنا لن أضع رقعة على ثياب جديدة. ذلك لأن ثيابي كانت في طفولتي الأولى، جيّدة وجديدة دائما؛ وكانت تشبه ثياب "الروامَى" الذين سأتعرف عليهم فيما بعد من صور الكتب المدرسية على الخصوص... ربما كان والدي ما يزال يعتني بي، لأن إخوتي الذين ولدوا بعدي، لم تكن قد جاءت منهم إلا أختي (خ)؛ أو لأنه لم يكن قد ملّ منظرنا بعد، أو لسبب كان عقلي الصغير لا يعيه على حقيقته آنذاك. كل ما أذكره، هو أننا صرنا نفتقر في كل مرة بأكثر مما كنّا عليه؛ إلى الحد الذي صرت معه أنا ومجموع إخوتي الذين التحقوا بعالمنا فيما بعد من حيث لا أدري، نُشبه اللاجئين في مخيّمات المهجّرين... *** عندما رفضت والدتي إتحافي برقعة على ملابسي، كرهت منذئذ الثياب الجديدة، وصرت على مرّ السنين، وإلى الآن، لا أقبل لبس الثياب الجديدة، حتى تُغسل وتذهب عنها الجِدّة. وكانت والدتي وجدّتي تعجبان من تصرفي ذلك، ولكنهما كانتا تستجيبان له، ما دام لم يكن يكلفهما شيئا، سوى قليل من الجهد في الغسل... لا أشكّ الآن، وبعد ذوقي لمراحل الطريق إلى الله، أنّي قد وُلدت من بطن أمّي عارفا بالله، المعرفة الفطرية؛ وهو ما سيجعلني على جذب باطنيّ دائم. لم يكن هذا الصنف من الجذب، هو ما يعرفه الناس من كلمة "جذب"، والتي لا يُسقطونها إلا على من غاب عقله إما جزئيّا وإمّا كلّيا؛ وإنما كان حالا مصاحبا، كنت به على صلة بالله، بطريقة أصلية، أعلم الآن أنه لم يكن عليها منذ الولادة إلا الأنبياء عليهم السلام، والكبار من خواص هذه الأمّة... لم تكن محبّتي للمتسوّلين الزائدة، إلا إعرابا عن العبودية الأصلية التي كنت عليها؛ ولا كان تعلّقي بالرُّقع على ثيابهم، إلا تعلّقا بشعار الفقر الذي وافقتُ فيه حال الصوفية الأُول، من غير سابق علم. ولست أعني بالعلم هنا إلا العلم الكسبيّ، وأما العلم الوهبي، فهو ما كنت عليه منذ ولادتي بحمد الله، وإن لم أكن أعي ذلك فيما دون الأربعين من عمري، كما سيأتي... كنت في هذه المدة قد ازددت تعلّقا بالمذياع، ومما حفظته من الأغاني بسبب كثرة تكراره وقربه من الإدراك الشعبي: أغنية كانت تُعاد على مسامعنا كثيرا، وهي: "راه مراكش يا سيدي كلّو فارح ليك"، التي غناها المغني الشعبي الشهير حميد الزاهر، بمناسبة أول زيارة للحسن الثاني إلى مراكش سنة 1961م. والذي شجعني على مزيد الاهتمام بهذه الأغنية، هو والدي الذي كان يُسرّ كثيرا بتردادي لمقاطعها. لم أكن أعلم معنى "الوطنية" بعد، التي كانت خلف اهتمام والدي بالأغنية؛ ولكنّي بسبب انفعالي لما حولي، وعدم بلوغ استقلاليتي العقلية بعد، صرت أسعى إلى فعل ما يسرّ أهل بيتي، سعيا إلى الظفر بكلمة إطراء، أو بابتسامة رضى... منذئذ، وأنا أكتشف "وطنية" والدي، التي كانت على التحقيق دينا وضعيّا قائما من جانبيه: العقديّ والعملي؛ على الأقل، كان أقوى من التديّن بالإسلام الذي لم يكن والدي يعرف منه إلا الوضوء والغسل وقليلا من الصلاة، بحسب ما تعلّمه على يد أحد الفقهاء من الذين شاركوه سجن "علي مومن" بسطات، والذي كان قد قضى به سنة قبل الاستقلال، بسبب تهمته بالعمل السياسي ضدّ فرنسا، كما كان يزعم؛ وذلك لأن السلطات الفرنسية آنذاك، كانت تعتقله مرات متتالية، بسبب التسكّع وحيازة "الكيف". وهو الشيء الذي سيستغلّه بعد الاستقلال، للتمسح في "المقاومة"، خصوصا وأن جدّي إدريس كان من المقاومين الذين كانوا يؤدّون القَسَم في بيته، على مصحف ما يزال بحوزتنا إلى الآن... وبسبب شبهة السياسة هذه، التي كانت تبعد عن شخصية والدي الأصلية كثيرا، والتي كانت تقوم في الغالب على الكذب والخداع والمكر، والخسّة والنذالة أحيانا... كان والدي يبالغ في تضخيم جانبه الوطني أمامنا، بأكثر مما ينبغي، إمعانا في التغطية على سوئه؛ وعملا على إخضاعنا نحن أهل البيت (الشعب الصغير)، على غرار ما يفعل نظام الحكم (كسائر أنظمة الحكم) مع "الشعب"، كما صرت أتبيّن فيما بعد، وبعد سنين طويلة... وقبل أن أواصل السرد، لا بدّ من إجابة تساؤلات القرّاء، الذين لم يعتادوا من أحد من أهل الدين خاصة، أن يذكر عيوب والديْه: أولا: لأن مجتمعنا قد أُسّس على النفاق، لا على الصدق... ثانيا: لأن التديّن المعروف لدينا سطحي، يحرص الناس فيه على الظهور بمظهر الصالحين، وإن كانوا على النقيض من ذلك؛ تحت إشراف الفقهاء الذين صاروا على شَبَه برجال الكنيسة في زمن ما، بجارتنا أوروبا... ثالثا: لأن مدح الناس لوالدِيهم، له صلة بتزكيتهم لأنفسهم؛ وأعني أنهم يجمّلون صورهم في أعين الناظرين، من أجل أن يليقوا بالانتساب إليهم هم فحسب. وهذا الأمر مما يدخل ضمن علم "النفس"، الذي يقلّ أهله في أزمنة الانحطاط... رابعا: يوجد من الأسباب ما هو داخل في الأسرار، ولا أدري هل يؤذن لي في ذكره لاحقا، أم لا... وفي هذا الخضمّ، تضيع الحقائق، ويحل الزور محلها. أما أنا فإنني كما وُهبت المقدرة على معرفة الناس من بواطنهم، أُقْدِرتُ على التجرد عن أموري الشخصية، فأصفها وكأنني أصف شخصا آخر غيري... لم أكن أنا، في سني المبكّرة تلك، يهمني أن أتقصّى الأمور، بل كنت كسائر أهل البيت أنفعل لتوجيه الوالد، وأعمل على مرضاته. وقد عمل على تأكيد هذا التوجّه لديّ، ما كانت تعلّمنيه جدتي ووالدتي؛ وكأنهما كانتا تطلبان سلامتهما بما أكون عليه أنا. وقد بدأت منذ الآن أحسب حسابا للوالد، لا يتقيّد بعقلانية؛ وكأنني أعامل شخصا مجنونا لا رادع له. بل إنه هو أيضا كان يرغب في إفهامنا ذلك، حتى لا يُضطر إلى مواجهتنا في يوم من الأيّام. كانت وطنية والدي زائفة، ولكنها كانت تسود البيت وتوجّهه؛ وأما والدتي فكانت وطنيتها معتدلة وصادقة، ولم تكن من حيث هي امرأة، يؤبه لصدقها أو لكذبها، وإنما كانت منّا نحن "الشعب"، تُطالَب بالطاعة وحدها، من دون تطلُّع إلى نيل حقوق. كثيرا ما كانت، في أوقات فراغها، تردّد بعض الأناشيد الوطنية التي كان الوطنيّون يحفظونها إبّان الثورة، فكنت أنا أتنبه -وأنا ما زلت لا أعرف من العالم إلا بيتنا- إلى حسن صوتها، فكنت أستزيدها، وهي تسايرني قليلا ثم تأبى عليّ فيما بعد. كانت والدتي على خجل فطري، لا تقصد إلى إبراز شيء منها، حتى صوتها. وأما أنا، فقد عملت على حفظ الأغنية التي كانت تسرّ الوالد، إلى الحد الذي استدعاني من أجل غنائها له، عدة مرّات. قد حفظت اللحن لسهولته، وقربه من الحسّ الشعبي، من دون أن أعي معاني شعرها الذي كان على غرار أغاني "الزاهر" يقوم على اللهجة المراكشية تعبيرا ونُطقا... وبما أن الوالد كان قد لاحظ عليّ نباهتي، وسرعة تعلّمي، مع عجزه عن تعليمي ما يُمكن أن يُصنّف تعليما صحيحا ولو في مراحله الأوّليّة، فإنه قد ارتأى أن يبعث بي إلى كُتّاب الحي الذي لم يكن يبعد عن بيتنا الصغير، إلا حوالي عشرين مترا إلى جهة الشمال. أخذني والدي في أحد الأيام، إلى "الفقيه"، الذي استقبلني بشيء من التوجّس، رهبة من والدي الذي كان يُمكن أن يرفع إلى السلطات المحليّة ما يشاء عن الناس، ضمن تقاريره الشفوية، ما دام كان لا يكتب إلا الحروف. فكانت هذه ميزة لي على رفاقي الآخرين، من شعب الكتّاب الصغير، الذي كان يعيش تحت رحمة الفقيه: إن شاء عذّب، وإن شاء عفا. ولم يكن يصيبني بسبب نباهتي، إلا قليل من لسعات قضيب الصفصاف الدقيق والطويل، الذي كان ينزل على فخذي العاريتيْن، لأنني كنت في الأوقات الحارة أرتدي لباسا إفرنجيا، لا يُجاوز سروالا قصيرا، وقميصا من النيلون بكمّين قصيريْن، غير مفتوح الصدر (T-shirt). كنت ألاحظ تميّزي عن رفاقي، بصغر سني أولا، ثم بمخالفتي لألبستهم، التي كانت في الغالب تقليدية: جلبابا صوفيا أمازيغيا، لا يكاد يُرى ما تحته. ولقد كان معنا ضمن المتعلّمين، أفراد يكبروننا سنا، كنّا نراهم نحن رجالا صغارا؛ وكان هؤلاء يمتازون عنّا بحفظ القرآن كله، أو جلّه. ومن كان يحفظ كل القرآن، كان داخلا في عملية إعادة الحفظ: نزولا من طوال السور إلى قصارها، وأحيانا وبعد هذه المرحلة، كان في "السلكة" (الختمة) الثالثة التي يصعد فيها من القصار إلى الطوال مرة أخرى. وقد كنت أعجب من سرعة القراءة لدى هذا الصنف من التلاميذ، خصوصا عندما يحين أوان عرض ما حفظوا على الفقيه، واللوح يواجه نظره المتمرّس، ليتمكن من مراجعة الآيات بنظره وقتما يشاء. كنت أنا عندما أسمع تلك القراءة بتلك السرعة، يُصيبني اليأس من أن أصل يوما إلى ذلك المستوى. هذا، خصوصا، لأنني لم أكن أحفظ من الأمور إلا ما أفهم معناه، أو أُدرك على الأقل معناه الإجمالي؛ وهو ما كان بعيدا عني في تلك السنّ، ومع القرآن الذي هو أعلى النصوص المعتنَى بحفظها لدى المسلمين. وقد صارت هذه الخصيصة من اشتراط الفهم، عقبة أمامي، تجاه كل ما كان يُطلب منّي حفظه فيما بعد، من كلّ مراحلي التعليمية... وكنت عندما أرى زملائي يستظهرون ما حفظوا بسرعة فائقة، أشعر وكأنني معوق ذهنيّا... ولم يكن أحد ممن يحيطون بي من الذين يكبرونني سنّا، يُخبرني عن سبب هذه المعضلة لدي، والتي كانت تخالف نباهتي وشدة ملاحظتي. لم يكن عجزي عن الحفظ، متعلّقا بجميع النصوص المحفوظة، وإنما كان مقصورا على تلك التي لا أفهم معانيها؛ إما جزئيا وإما كلّيا. ولم يتنبه أحد من معلّمي إلى هذه الخصيصة حتى يعمل معي على تخطّيها، فبقيت على هذه الحال، على الأقل إلى أن بلغت ما كان يُسمّى في زماننا "التعليم الإعدادي"... *** كان الكتّاب، غرفة صغيرة، علمت فيما بعد أنها المسجد ذاته، الذي يصلّي فيه بعض سكّان الحي صلواتهم خلف الإمام الذي لم يكن سوى معلّمنا. وكانت هذه الغرفة لا تشتمل إلا على نافذة صغيرة واحدة، كانت مغلقة غالب الوقت. وكان مِغلاقها، بُوَيبا صغيرا صُنع بألواح مصفوفة بعضها إلى جانب بعض، وكانت بسبب كثرة غلقها، تعمل على جعل الهواء داخل الغرفة، هواء يعكس رائحة الحصير المصنوع من الحلفاء، وثاني أكسيد الكربون المنبعث عن عملية تنفّس كل ذلك المجتمع الصغير، بالإضافة إلى روائح أخرى، لم يكن الصغار يتمكنون من حبسها لصغر سنّهم... كان الفقيه يجلس في مقابلتنا، على فراش من جلود الغنم المتراكبة، يعلوها جلد ناصع البياض وطويل الصوف، كنا نغبط الجالس عليه لشدّة ليونته؛ بينما نحن كنّا نجلس على الحصير مباشرة، فكانت تنطبع على الأجزاء الملامسة له من جلودنا، خطوط تحكي خطوط الحصير بأمانة بالغة، وكنّا نُضطر إلى التململ في كل مرة، حتى لا ينحبس الدم في أطرافنا السفلى... كان والدي، لوطنيته المزعومة، أو لأجل اختبار وطنية الفقيه بحسب "طبيعة" عمله، قد أخبر هذا الأخير بأنني أُحسن غناء أغنية الزاهر الوطنية. فكان الفقيه بين الفينة والأخرى، يستدعيني إليه في المنصة، حيث كان يوقفني إلى جنبه وقريبا جدا منه، لأنني أذكر أنني كنت أبلغ في طولي طوله في جلسته أو أكاد. لا أعلم الآن، هل الفقيه كان يطلب مني الغناء محبة منه للغناء، أم تبرئة لنفسه أمام والدي؛ خصوصا وهو ربما يعلم بأنني سأنقل كل تفاصيل ما أراه في الكتاب وأسمعه، إلى داخل بيتنا؛ لا لشيء، إلا لأنني كنت أتوهّم أن الآخرين يهتمون لكل ما أهتم له أنا. وعلى كل حال، فقد وصل إلى مسمع والدي، ما كان يحدث من غنائي أمام الفقيه، فكانت ترتسم على طرف شفتيْه ابتسامة خفيفة، لم أكن أعلم دلالتها في ذلك الوقت... وفي حوالي الخامسة من عمري، ألحقني والدي بمدرسة خاصة لأحد مشاهير حاسي بلال، والذي كان يُعرف بصفته (العـ. الأ...)؛ وذلك لأنه كان فاقدا لإحدى ساقيه، وكان يمشي مستعيضا عنها بساق خشبية، مما كان شائعا في ذلك الزمان لكل من كان في مثل حاله، فكنت أنا أرى تلك الرِّجل، وصاحبها، من الأعاجيب التي تتمنع عن تناول إدراكي. كان الرجل ما يزال شابا، قوي البنية، أسمر اللون، وكأنه حدّاد قد تغير لونه بسبب لهيب النار المقابل له. وقد جعلني الالتحاق بتلك المدرسة التي لم تكن تتجاوز حجرة واحدة، من الطراز الفرنسي، أتجاوز أنا حدود ما كنت أقف دونه سابقا، والذي لم يكن سوى "الحوانيت". كنت قد تعرّفت على الحوانيت، بسبب اضطراري لقضاء بعض الأغراض لوالدتي، من مثل إيصال العجين إلى الفرن، أو جلب بعض ما كان ضروريا من عند بقّال، كان صديقا مقربا لوالدي، وكان اسمه (الحـ. ع). كان ما آتي به من عند البقال، لا يتجاوز قارورات الحليب الزجاجيّة، التي يأتي بها شخص إسباني ضخم الجسم كثير ثآليل الرقبة، في شاحنة من نوع "ستروين" القديمة، والمعدّة لحمل البضائع؛ أو "قرونا" من الخبز الإفرنجي ذي الرائحة الزكيّة، أو غير ذلك مما كان يتطلبه عيشنا البسيط على مرّ الأيام. كان الرجل الإسباني، يُدعى في مجتمع الأطفال "هولا"؛ وكنّا نتنادى في بعض الأحيان، للذهاب من أمام بيوتنا حيث كنّا نلتقي، إلى الحوانيت، لا لشيء إلا لرؤيته، وهو يتجول بين مخبزة "قوبع"، ودكان "الحـ..." في صف الدكاكين ذي الطراز الفرنسي اللاتيني العتيق. هذا، لأن صفّ الجزّارين المـُعامد للصف الأول، وصف الخضّارين الموازي له، كانا يبدوان من طراز أكثر حداثة، وأبعد عن الطراز الفرنسي الأصيل، وأكثر دخولا في الطراز العربي المغربي. لم نكن نتصوّر، أو على الأقل أنا الذي كنت مغرقا في السذاجة، أن "هولا" من بني آدم؛ كنت أراه لضخامته، واختلاف كل شيء فيه عن الرجال من طبقة آبائنا، إما مخلوقا من عالم لا أعرفه إلى الآن، أو حيوانا عاقلا، من الحيوانات التي لم أتعرّف بعدُ عليها. وهذا، لأنه كان يُخالطني عند رؤية الرجل خوف، يجعلني أحتاط من أن يختطفني ليأكلني مثلا. لا شكّ أن كلام الصبية من حولي، الذي لا ينضبط لمنطق، كان له دخل في خوفي... *** كانت هذه الحوانيت التي هي المركز التجاري لحاسي بلال، هي نهاية العالم فيما يخصّني في ذلك العمر، إلى أن أخذني والدي إلى (العـ. الأ...) من أجل بداية دراستي شبه الرسمية. كان معلّمنا، يحرص على أن يقلّد المدرسة النظامية في طريقة تعليمه؛ وكانت الحجرة التي ندرس بها، مشابهة لحجرة أخرى تابعة للمدرسة الرسمية، غير بعيدة عن حجرتنا؛ وكأن حجرتنا، كانت تُعدّنا بهندستها، للانتقال فيما بعد إليها. على الأقل، كان هذا يدخل ضمن "منطق الأشياء" الذي كان يحكم طريقة نظري إليها. كان (العـ. الأ...) يعلّمنا مبادئ اللغتيْن العربية والفرنسية، والحساب؛ ولم يمض وقت طويل، قبل أن يلاحظ معلّمنا نباهتي وسرعة بديهتي، فكان يُعاملني معاملة خاصة، جعلتني أتشرّب منه كل ما يجود به علينا. كان معلمنا الجديد يمتاز عن فقيه الكتّاب، بطريقته العصرية في التعليم، وبحسن إلقائه الذي علّم كثيرا في وجداني، وجعلني أرتاح إليه. في هذه المدرسة الأوّلية، تعرّفت على رائحة المداد، ورائحة الطباشير، وورق الدفاتر الجديدة؛ وأمسكت بقلم الرصاص والأقلام الملونة، لمدة أطول مما كنت أفعله مع بعض أقلام والدي في البيت. كانت الروائح في نظري، لا تقل إخبارا عن الأشياء من الألوان والأشكال؛ وكنت أحيانا أغرق فيها، فتأخذني إلى عالم موازٍ؛ لا أعلم هل كان الأطفال الآخرون يُشاركونني أسراري أم لا، وذلك لأن أحدا منّا لم يكن يُخبر غيره بما يجده. ربما، لأن اللغة التعبيرية عندنا، لم تكن قد بلغت هذا الحدّ من الإعراب عن مواجيدنا... علمت من والدي، بعد انقضاء حوالي السنة مع هذا المعلّم، الذي لا أنسى فضله، ولا أتمكن من وصف امتناني له، بين كلّ من علّموني، أنه كان يشهد بأنني أستطيع مواصلة تعليمي الرسمي، بدءا من السنة الثالثة مباشرة؛ وذلك لأنني كنت إلى جانب إتقاني القراءة والكتابة باللغة العربية، قد بدأت أتقن مبادئ اللغة الفرنسية أيضا. كنت أنا أسمع إطراء المعلّم عليّ، وأُسرّ لذلك، عندما أرى علامات الفخر ترتسم على وجه والدي. لكنه لم يكن يدور بخلدي، أنني سأفقد هذا الشعور بالرضى عن قريب، وسأدخل في معاناة نفسية، لا يخبرها، إلا من كان مثلي مرهف الإحساس، لمـّاحا، وفنّانا بالفطرة، كما سيظهر عن قريب من مواهبي المتعدّدة... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.