انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
«السابق التالي»
2022/11/13
إلى من يشك في الله...
نسمع من كثيرين إعلانهم للشك في الله، وهم يظنون أن لهم من المكانة العقلية ما يخولهم الخوض في مثل هذه المسائل. واللوم في هذا الخلط، لا يقع عليهم وحدهم، وهم من وقعوا تحت كيد الكائدين، الذين جعلوا العامة من الناس يتوهمون الأهلية في أنفسهم للنظر. ومن نظر، ولم يخض في مسألة الوجود وتشعيباتها، فما نظر!... ألم يجعل "الناظرون" الشك مذهبا معتبرا، له رواد بالحق وبالباطل!... فهذا الإمام الغزالي رضي الله عنه، ينسبونه بهتانا إلى الشك؛ فهم يقولون: إنه بدأ من الشك ليصل إلى اليقين، من دون أن يعلموا معنى لا للشك ولا لليقين. وهذا ديكارت يجعلونه أيضا من الشاكين، والكوجيتو صار يُتلى وكأنه وحي من عند الله لا يقبل النسخ... كل هذا، والمسألة لم تُحرَّر كما ينبغي؛ لهذا نجد نفسنا أمام مهمة البدء من البداية، للانطلاق شيئا فشيئا نحو الغاية: 1. تعريف الوجود: قبل أن نخطو خطوة واحدة في هذا الطريق، لا بد من ضبط معنى الوجود في الأذهان. وعلى هذا فلنقل: إن الوجود هو ما ثبت بنفسه لنفسه، من غير توهم لعدم قبله أو بعده أو معه. وهذه الصفة لا تكون بهذا المعنى إلا لله (الذات). ولكن مصطلح الوجود مصطلح فلسفي، تسرب إلى علم الكلام الإسلامي. ولو أن علماء الكلام كانوا على علم بمعنى الوجود، لعرفوا أنه هو الوارد في الوحي الإلهي بلفظ "الحق". فكان ينبغي أن يشير المتكلمون إلى الحق، حتى يستغنوا عن المقولات الفلسفية في الوجود، والتي لم تزدهم من المعنى إلا بعدا. وهذا، لأن "الحق" يدل على معنى الوجود الذي ذكرناه آنفا دلالة تامة من دون حاجة إلى تفسير أو شرح؛ ليكون الحق هو ما ثبت لنفسه بنفسه ثبوتا ذاتيا. وأما المعنى الثاني للحق، والذي لا يكاد الناس يعرفون غيره، فهو الحق في الأقوال، والذي يُقابله الباطل فيها. وهذه المقابلة من هذه المرتبة، قد أوهمت من لا علم له، بأن الحق حيث كان، فله مقابل هو الباطل؛ بينما الحق في مرتبة الذات، لا مقابل له كما سنرى. 2. تعريف العدم: والعدم يؤخذ بمعنييْن: المعنى الذاتي وهو المحال؛ وهذا على التقابل التام مع الحق؛ أي لا ثبوت له بنفسه ولا لنفسه. والمعنى الثاني: وهو الباطل في الأقوال، وهو من مرتبة الأفعال؛ وهذا لا شأن لنا به الآن. غير أن الله شاء أن يتجلى لنفسه، فقسم العدم إلى قسميْن: قسم بقي على أصله، وهو المحال كما ذكرنا. وهذا لا يقبل أن يكون عنه شيء لعدميته؛ لأن العدم لا ثبوت له، وما لا ثبوت له فلا ثبوت به. وأما القسم الثاني، فهو ما يقبل الظهور بالوجود؛ لأن الظهور من شؤون الوجود، بما أن العدم لا ظهور له بنفسه. وهذا القسم الثاني من العدم، هو ما يُسميه العلماء الإمكان؛ ليكون مرتبة عقلية برزخية، بين الوجود والعدم. 3. تعريف مرتبة العالم (الكون): العالم بالاصطلاح العرفاني هو كل ما سوى الله، ومن ضمنه مسمى العالم عند الناس. والإشكال منذ القدم، هو في معرفة مرتبة العالم لا غير. فمن أثبت من النّظّار، فقد أثبت العالم؛ ومن نفى فقد نفى العالم. والنفي والإثبات معا صحيحان، لكن لا بالاعتبار نفسه. وقد سبق أن ذكرنا في الفقرة قبل هذه، أن الله أراد أن يظهر، فشاء أن يكون ظهوره في الصور العدمية القابلة للظهور، والتي ليست إلا صور الممكنات. وإن علمنا أن الممكنات معدومة، فإننا سنعلم أن كل ظهورها من جهة غيبها ومن جهة شهادتها، هو لله لا لها. فالظاهر هو الله، وهي عند الظهور تُعقل في عدمها. وهذا مما يعسر على جلّ العقول تبيّنه!... إذ كيف تُعقل المعدومات وهي في عدمها؟!... ونحن هنا سنضرب مثلا نقرب به المعنى لمن كان مؤهلا: افرض وجود لوح (سبورة) أسود نمثل به للعدم المطلق الذي هو المحال؛ وهذا اللوح عديم اللوحية، وعديم اللونية، وعديم الشكلية (وإلا دخل علينا التناقض في أقوالنا). والآن نفرض أن رساما أراد أن يرسم على ذلك اللوح خيالا لإنسان (ظل)، بقلم مخصوص، به يظهر شكله على اللوح. فإن افترضنا أن القلم سيكون عدميا أسود اللون، فإننا سنتصور شخصا أسود اللون لا تمييز لتفصيل من تفاصيله، لكنه مع ذلك مرسوم على اللوح ومعقول. فهذه الصورة، هي صور المعدومات في العلم الإلهي؛ والله وحده من له القدرة على رؤيتها في هذه الحال. وأما العباد، فلا مدخل لهم في هذه الحضرة البتة!... ولنعد إلى الشخص (الخيال) المعدوم، وإلى كيفية ظهوره الآن، ولنقرّر أن ذلك لا يكون إلا بالقلم الإلهي النوري. ولنفترض أن الرسام قد جاء بطبشور أبيض، وأعاد رسم الخيال السابق على اللوح، مع التفريق بين مطلق اللوح الذي هو المحال، ومحل ظهور الخيال، والذي هو الممكن حقيقة. والسؤال الآن: بمَ ظهر الخيال الأسود على اللوح الأسود؟... والجواب هو: بالنور الإلهي (الطبشور الأبيض في المثل). والسؤال الآخر: فما الظاهر حقيقة عند ظهور الخيال: صورة الخيال، أم نور الله؟... لا شك هو نور الله!... فلمَ كنا نسمي الأشياء الظاهرة بأسمائها، من سماء وأرض وبحر وشجر...، ولم نكن نسميها الله؟!... والجواب هو: لأن الصور متعددة، والله لا يتعدد من حيث هو الحق (الوجود). وقبل أن نمضي في الكلام، لا بد أن نذكر هنا ضلال القائلين بوحدة الوجود، عند عجزهم عن متابعة ما شرعنا في ذكره آنفا بالنور. ونعني أن الظلمة قد دخلت عليهم من عقولهم، ولم يتفطنوا إلى أنهم قد خرجوا عن الصراط. والذي وقع لهم، بعد أن سلموا بعدمية الممكنات، وبعد أن علموا أن ظهورها يعود إلى الحق (الوجود) الذي ظهرت به؛ وبعد أن علموا أن الحق لا يتعدد كما تتعدد الصور، هو أنهم توهموا وجودا مخصوصا لكل صورة إمكانية، ولم يجدوا بدا من إرجاع تلك الوجودات الجزئية، إلى الوجود الحق الأول. وهكذا نشأ القول بوحدة الوجود، وهو باطل. والضلال دخل على الناظر هنا، عند تصوره وجودا مخصوصا بكل صورة إمكانية؛ وهو ما لم يقم عليه دليل بالعقل. وما اختلقه العقل لنفسه من تصور، لا يُعد دليلا بأي حال، عند من له الكمال العقلي. ثم لا يفوتنا هنا أن نميز في الظهورات، بين الذات والمعاني الاسمية؛ لأن الذات لا كلام عليها، وهي غير مدركة للعقل. فيبقى أن ما يظهر في الوجود من صور الممكنات، هو معاني الأسماء الإلهية، التي كانت باطنة في الذات. والكثرة التي توهمها المشركون في الألوهية، قد جاءتهم من تعدد معاني الأسماء فحسب؛ وهذا خلط منهم بين مرتبة الذات، ومرتبة الأسماء. ولسنا هنا بمعرض التفصيل في المرتبتيْن، وإنما أردنا التنبيه حتى لا يخلط القارئ... 4. العالم بين الوجود والعدم: بما أن الإمكان هو مرتبة العالم من جهة الحقيقة، فالقول بوجوده قول باطل عقلا وشرعا؛ لكن العقول في الغالب تضعف عن إدراك ما ذكرنا، فتحكم متساهلة بوجود العالم؛ لا لشيء، إلا لأنها تشهده. والفرق بين الوجود والشهود، كالفرق بين الثبوت والشك. ومن هنا ينبغي للعقول أن تعرف بأن الشك يتعلق بالكون لا بالله. ولهذا أنكر الله بلسان رسله على عباده الشك فيه بقوله تعالى: {قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِی ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ} [إبراهيم: 10]. من هنا يبدأ جوابنا لمن يتوهم الشك في الله، لنقول له: شكك كان ينبغي أن يتوجه إلى العالم، الذي أنت جزء منه، وبالتالي كان ينبغي أن تشك بوجود نفسك، لا بوجود الله. وشكك في وجود الله، إنما هو بسبب قصور عقلك، ودخولك فيما لا مدخل لك فيه فحسب!... فإن قال قائل: نحن لا نشك في وجود العالم، لأننا نراه بأعيننا ونحسه بحواسنا!... فهل نكذب حواسنا؟... وإن كذبنا حواسنا، وهي أصل علومنا العقلية، فماذا يبقى لنا أو لك من مستمسك في هذه المهامِه؟... قلنا: أنت في منامك ترى عدة رؤى، ولا تشك حين رؤيتك لرؤاك أنك تحس بحواسك وتعقل بعقلك؛ فهل تُقر على نفسك بأنك في إدراكك لواقعك لا تختلف عنك في إدراكك لرؤياك في منامك؟... فإن أقررت، فإنك تعود إلى الشك في نفسك، من كونك صورة ممكنة، لا تختلف عن غيرها من صور الممكنات؛ وإن أنكرت، انهدّ عليك كل بنائك العقلي، بسبب وحدة الإدراك لديك في اليقظة وفي المنام؛ وبالتالي، لا يبعد أن تكون في واقعك الذي تراه أنت صلبا، كحالك في رؤيا منامية لك. ولا نعلم هل لك من هذا النوم إفاقة ترجوها، أم لا؟... وفي الحاليْن، فما عاد شكك إلا عليك، وبقي الله منزها عن قولك وظنك. يقول الله تعالى في أمثالك: {وَذَ ٰلِكُمۡ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِی ظَنَنتُم بِرَبِّكُمۡ أَرۡدَىٰكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم مِّنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ} [فصلت: 23]. أرداكم: أي أهلككم. والهلاك يكون معرفيا قبل أي اعتبار آخر... ولا بأس هنا أيضا من التنبيه إلى أن السؤال عن الله بـ: هل الله موجود؟ لا يصح. وهذا لأن صيغة موجود هي "مفعول"، وهي لا تتعلق إلا بالخلق لا بالحق. ونعني من هذا أن السؤال السابق يكون معناه على التحقيق: هل الله مخلوق؟... وهذا كما قلنا لا يصح. وهنا قد يتساءل أحدهم: فكيف نسأل عن الله؟ فنقول: إن الحق فوق تناول السؤال، مع أن كل الأسئلة لا تتعلق إلا به؛ لكن من جهة المعاني الاسمية. وأما الذات، فمجرد السؤال عنها شرك. وقد جهل كثير من أهل الكلام ومن اللاهوتيين هذا المعنى، فضلوا من أول قدم... 5. أنت بين الشك واليقين: والسؤال الآن: هو من أين يأتي للناس جزمهم بأنهم موجودون؟... ومن أين يأتي للعقلاء منهم الشك في أنفسهم، حتى يطلبوا اليقين؟... والجواب هو: بما أنك عدم ظهر بصورته الوجود، فإن حقيقتك منقسمة بين أصليْك وإن توهمت الاتحاد، مع قيام الدليل على انقسامك بصور متعددة. ألست عندما تنفرد بنفسك تكلم نفسك، ولا تشك في انقسامك باطنا، كقطعك بوحدتك ظاهرا؟!... فالانقسام من انقسام حقيقتك، وهو مناط شكك؛ أما يقينك فمن الحق الذي أظهرك بنوره. وإن كل الناس يجدون بالفطرة في أنفسهم اليقين بوجودهم، ولكنهم لا يعلمون من أي مرتبة هو. ونحن سنبيّن هنا هذه المرتبة: اعلم أن وجدان الناس لوجودهم، وذوقهم لذلك الوجود، هو من الوجود الحق، لا من حقيقتهم العدمية. وقد ظهر فيهم حكم الحق، على إمكانهم، بسبب ضعف بشريتهم في بداية نشأتهم، وعلى الخصوص بسبب ضعف عقولهم إلى أدنى حد يمكن أن يُنسب إلى العقل. وعند انمحاء العقل في البداية وعند الولادة وما بعدها بقليل، يكون الحكم في الخلق للحق؛ حتى إن التصرف يظهر منهم، والناس لا يشعرون. والصبيان في هذه الحال، يُشبهون الأولياء الذين سلكوا الطريق إلى أن فنوا عن أنفسهم، وعند فنائهم وجدوا الحق. والفرق هو أن الأول حال البداية، وأن الثاني حال النهاية بالمعنى الاصطلاحي السلوكي. والكلام يطول في هذه المقارنة، ونحن نبغي الإيجاز... وعندما يبدأ العقل الكسبي للإنسان بالنمو، إلى أن يبلغ سن التمييز، فإن الإدراك سينتقل من الفطرة إلى الصورة العدمية التي له (للعقل)؛ وهذا هو الجهل الأصلي للإنسان. والمصيبة الآن، هو أن غالبية الناس (عدا الأنبياء وكبار الورثة)، سيغلطون غلطا منهجيا خطيرا؛ وهو أنهم سيعودون في طلب العلم إلى أنفسهم أو إلى أمثالهم من المخلوقين، وسيضلون عن العودة إلى ربهم في ذلك. ومن هنا سيتوهمون أن العلم هو ما سيكتسبونه عن طريق التعلّم المعتاد. ولا يشعرون أنهم بهذا العلم الكسبي، يكون حالهم كحال الظمآن الذي يبغي الرِّيّ من شرب ماء البحر الأجاج. ونعني من هذا، أنهم سيزدادون بكثرة التعلم جهلا، وبالتالي سيتمادون في الشك، إلى أن يتوهموا تعلّق شكهم بالله!... وفي الحقيقة هم قد توغلوا في عدمهم، إلى أن صاروا يُقاربون العمى التام. يقول الله عن هؤلاء: {وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیرًا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٌ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡیُنٌ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٌ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ} [الأعراف: 179]. فهذا هو ما سميناه انعداما للإدراك، مع بقاء الحواس على سلامتها لدى الشخص من جهة الصورة الظاهرية. وبعد هذا كله، فاعلم أن يقينك إن ظفرت به، فهو من الله، لأنه حق (وجود)؛ واعلم أن شكك من عدمك الأصلي. فإن وجدت الشك، كما تقول، فاعلم من أين دخل عليك، واعلم مرتبتك؛ أو اطلب علم ذلك من العالِمين... وإياك والاستئناس بمن هم على مثل عماك، فتظنوا جميعا أنكم بالعدد قد حصلتم الدليل على جواز تعلق الشك بالحق، فتكون من الجاهلين الخاسرين!... 6. الطريق إلى استعادة العلم والإبصار: أما إن تيقنت أن عدمك قد غطى على عقلك، ومللت التقلب في الشكوك إلى ما لا نهاية، وكثرت عليك الاحتمالات من إمكانك حتى صارت الحقيقة لديك "نسبية" كما يقول الجاهلون، فاعلم أنك محتاج إلى أن تعود إلى حال فطرتك. وهذا سيبدو لك صعبا مع نمو عقلك الكسبي وتوسعه، حتى لقد تعده تراجعا منك عن العقلانية، ودخولا في الخرافية. فإن كنت من هذا الصنف الذي لم يقر له قرار، فاعلم أن الله قد فضلك على كثير ممن خلق تفضيلا، وهو سبحانه بخلخلتك عن معتادك يريد بك خيرا. أما غيرك ممن رضوا بأسفل سافلين، واطمأنوا بالحياة الدنيا، فإنه لا ينفعهم مع ضعف إدراكهم إلا أن يكونوا على الإسلام بالتسليم... ولن نطيل في تفصيل أحوال الناس بحسب الإدراك، ولنعد إليك، أنت الذي قد بدأت تشك في شكك، ولنقل لك: إن عودتك إلى حال فطرتك، لا بد أن يُشرف عليها خبير بالإسلاك، قد عرف ما عرفت ووصل إلى ما تود أنت الوصول إليه. فإن وجدته، فاعلم أن نجم سعدك قد طلع، وأنه لم يبق لك إلا أن تُلقي بنفسك تحت قدميه، يفعل بها ما يشاء، ويأمر فيها بما يُريد. فإن استصعبت هذا القول، فاعلم أنك ما تزال تحت حكم ظلمتك، وأنه لا يجوز أن تستمع إلى نفسك، وإن أتتك بكل الأدلة العقلية والشرعية؛ لأن كل ذلك باطل، تريد نفسك أن تبقى به في حكم عدمها، مع تلبسها بأحكام الوجود زورا (الربوبية). ولو أن نفسك كانت صادقة، فإنه كان يجدر بها عند تفضيلها العدم لشقوتها، أن تتنازل عن كل صفات الحق التي منّ عليها بها من: حياة ووجود وعلم وقدرة وإرادة وكلام وسمع وبصر. وهذا لن تستطيعه النفس، إلا بإذن الله لها بالعودة إلى العدم المطلق. والأمر ممتنع من الجهتيْن: من جهة الله، لأنه سبحانه من جوده حكم بأن لا تعود نفس إلى العدم بعد خلقها؛ ومن جهة النفس، فإنها لا تطيق العدم المطلق الذي يُفنيها، وإنما هي تريد الفوز بأحكام الوجود ونسبتها إلى نفسها. وهذا التربُّب منها جهل، لأنها لو علمت أن الربوبية لله، لا يتمكن مخلوق من التلبس بها، لأيست منها وارتاحت؛ ولكنها بجهلها تروم المحال: وهو الاتصاف بالربوبية مع أنها ليست لها. وهذا المعنى هو الذي قال عنه الغزالي رضي الله عنه: إن في كل نفس "أنا ربكم الأعلى" مضمرة؛ يقصد: في كل نفس جاهلة. والعودة إلى حكم الفطرة الذي ذكرناه، لا يكون إلا بالتجرد عن أحكام الربوبية التي لبستها النفس زورا. ويكون هذا التجرد في المراتب الثلاث، كما كان التلبس في المراتب الثلاث. وأول ما يتجرد منه العبد الآيب، أفعاله؛ فيشهد الفعل لله. ثم يتجرد من صفاته، فيشهد الصفات لله؛ ثم يتجرد من ذاته، وهنا يُستهلك في الحق استهلاكا سرمديا. فإذا عاد إلى الحق، عادت أحكام الحق إليه، فصار حيا عليما قديرا مريدا متكلما سميعا بصيرا، بربه لا بنفسه. فها قد أوجزنا لك سبيل العودة بما يندر أن تجد له نظيرا!... 7. الحقائق لا تنقلب: لا شك أنك عندما سمعتنا نتكلم عن تقلبك بين العدم والوجود، مع توهم وحدة حقيقتك، قد يتطرق إليك توهم انقلاب العدم في حقك وجودا، أو أن الوجود الفطري قد انقلب قبل ذلك عدما. فاعلم أن الحقائق لا تنقلب، وأن الوجود وجود أزلا وأبدا، وأن العدم عدم أزلا وأبدا. وعلى هذا يكون الوجود الحق لله، لا لك؛ ويكون العدم الحق لك لا لله. وقد عبرنا بالعدم الحق، لأن العدم في مرتبته الأصلية حقيّ أيضا؛ وإن كنا لا نريد أن نطيل في هذا. فإذا سألت: فإذا كان الأمر هكذا، فلمَ هذا التردد من الناس بين أحكام الوجود وأحكام العدم، والذي هو متعب للغاية؟... فنقول: التردد جاء من حقيقة الممكن الذي ظهر به الحق. يقول الله تعالى: {ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٍ فِیهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِی زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٌ دُرِّیٌّ یُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ زَیۡتُونَةٍ لَّا شَرۡقِیَّةٍ وَلَا غَرۡبِیَّةٍ یَكَادُ زَیۡتُهَا یُضِیۤءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ یَهۡدِی ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَیَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَـٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ} [النور: 35]. أما إن شئت أن تغوص في بعض معاني هذه الآية، فعليك بـ "الكمال والتكميل" وهو الجزء الثالث من كتابنا "مراتب العقل والدين"، أو عليك بغيره من مكتوباتنا. وعلى كل حال، فعليك أن تعلم أنه ما ظهر في العالم إلا نور الله؛ وأما الصور العدمية التي تعقلها العقول، فهي نتيجة لإحاطة النور بها، كما بيّنّا لك ذلك بمثل اللوح الأسود والكتابة عليه. وعليك أن تعلم الآن أن الإمكان هو في الحقيقة مرتبة للوجود، لا مرتبة مستقلة كما يتوهم العقلاء. وهذا، لأنه لولا الوجود، ما ظهرت مرتبة الإمكان، ولبقيت في مرتبة العدم المطلق الذي هو المحال. فإذا ميزت المراتب الثلاث: الوجود والعدم والإمكان، وعلمت خصوصية كل مرتبة منها، فإنه سيسهل عليك قبول سلوك الطريق بشروطه. وإياك أن تتوهم من بعض التمييز العقلي لذلك، أنك قد ظفرت بالمراد؛ فهيهات!... ثم هيهات!... بل إنك بذلك ستنخرط في سلك الفلاسفة، وستبقى دائرا في إمكانك أبد الدهر، كحال "سيزيف" في الأساطير اليونانية. ونحن ما كتبنا لك هذه الرسالة، إلا لنعينك على النجاة، لا لندلك على الهلاك الذي يتوهمه العقلاء نجاة!... فافهم، يرحمك الله!... |