![]() انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني ![]() ![]()
Translated
Sheikh's Books |
![]() «السابق
التالي»
2021/05/13
الحقيقة والمادّيّة
إن العقل عندما يكون محجوبا عن الحقيقة -وإن اشتغل بالفكر- كشأن الفلاسفة وعلماء الطبيعة، لا يُدرك إلا المحسوسات (الطبيعة) والمعقولات المستخلصة منها. وعلى هذا، فإن الفلاسفة، لا يتمكنون من الانفصال عن الحس على التمام، لكون المعاني التي يخوضون فيها، مرتبطة به ارتباط العلة بالمعلول. وهذا الارتباط بين الحس والمعنى، يظهر جليّا، في ضرب الأمثال؛ لأنه عودة من المعاني إلى أصولها الحسية من طريق الخيال، وإن كانت الغاية هي توضيح المعاني نفسها في النهاية. وما يدل على ما ذكرناه، هو تسمية الفلاسفة لعالم المعاني "ما وراء الطبيعة"، في ربط جليّ بين العالميْن: الطبيعي والذي وراءه. ومن هنا يظهر أن ما يجعله المتفلسفون من ضمن "الإلهيات"، قد يصح عليه هذا الإطلاق من وجه، وقد لا يصح من وجه آخر؛ لأن الإلهيات منها ما هو معان كالصفات الإلهية من حيث هي صفات، تستدعي وجود العالم ولا تنفك عنه، ومنها ما هو مُستغن عنه وإن كان مندرجا ضمن الحقائق. والحقائق في اصطلاحنا، هي ما فوق المعاني؛ وبذلك تكون أصلا للمعاني وللمحسوسات جميعا. وحتى لا يلتبس الأمر على القارئ من كثرة الاصطلاحات، فلا بد من أن نذكر أن المحسوسات، هي معان مكثّفة فحسب؛ وبالتالي فهي لا تختلف عن المعاني المجردة عن الصورة الحسية كما يعقلها الفلاسفة. وهكذا يكون الفلاسفة مادّيّين من حيث مجال النظر، وإن كانوا يظهرون مفارقين للمادة. وهذا، قبل أن يُنتج الفكر الفلسفي ما يُسمّى "النزعة المادية" في الفلسفة، والتي هي أقرب إلى الأيديولوجيا، بسبب جزئيتها نسقيا. وأما علماء الطبيعة، فإن بحثهم في المادة كان مباشرا، وأكثر انحصارا من البحث الفلسفي؛ وعلى هذا، فإنهم يكونون أقل رتبة من الفلاسفة الأُصلاء في العقل. ولكن بعض الفيزيائيين، وبسبب ضيق المجال المادّي، قد خرجوا إلى ما يُسمّى "الفيزياء النظرية"، فكانوا مشاركين للمتفلسفين في المرتبة العقلية من هذه الجهة، وبقدر ما. والفيزياء النظرية، جُعلت لتكون مُعينة على تفسير الظواهر الفيزيائية التي لم يتوصل العلم البشري إلى تفسير مقنع لها؛ ولتكون أيضا مجال عرض الفرضيات الكليّة، التي يُمكن أن تكون أساسا للبحث الفيزيائي كله، أو تكون مفسرة لـ "وجود" العالم على وجه التحديد. وهكذا، فإن الفيزياء ستلتقي مع الفلسفة من جهة الموضوع، والذي هو البحث في "أصل" العالم وحقيقته؛ مع التأكيد على أن الفلاسفة كانوا في "سلوكهم" الفكري أكثر تحررا من الفيزيائيّين، بسبب الاختلاف الذي بينهم من جهة الميل إلى الماديّة أثناء التفكر، أو إلى التجرد منها. وهذا هو ما يجعل الفلسفة مكملة لكل العلوم القابلة لذلك، بحيث تكون أسبق منها وأكثر تقدما في الطريق الفكري، كالمستكشفة. وعند التفريق بين الفلاسفة والفيزيائيّين من جهة الخصائص، لا بد من أن نميّز بين اتجاهي الفريقيْن؛ حتى لا يبقى الكلام في الفقرة السابقة ملتبسا، فنقول: إن الفلسفة من جهة حقيقتها، تتجه إلى الأعلى؛ لذلك هي تخرج من الحس إلى عالم المعاني. وأما الفيزياء، فإن غايتها، ولو بعد الصعود إلى الفيزياء النظرية، هي إدراك "المادة"، كما هي؛ وهذا الاتجاه بالمقارنة إلى اتجاه الفلسفة، يكون سفليّا في النهاية. ولهذا السبب كانت الفلسفة تطمح إلى الخروج من عالم المعاني، بعد أن جاوزت عالم المحسوسات، مع امتناع ذلك؛ بينما كان طموح الفيزياء، هو الدخول في عالم الجسيمات ومحاولة الوصول إلى منتهاها في الصغر؛ وكأنها تريد أن تبلغ أصغر مكوِّن مادي (المقابل المكاني للزمن الفرد)، ليُمكنها أن تُعلن عن أصل المادة، وبالتالي أصل العالم، بحسب منطقها؛ ما دامت لا خبر لها عن الروح، التي يُنبئ عنها الفلاسفة (العقل بالأصالة). ولا بد هنا في التمييز بين الفريقيْن مرة أخرى، من أن نبيّن مِن أين عَلِم الفلاسفة بوجود الروح، لنقول: إن الفلاسفة علموا بهذا، مِن تمكُّنهم في عالم المعاني، وحين رأوا أن الروح للجسد، هي كالمعنى للفظ. ثم إن الفلاسفة -بخلاف الطبيعيين- قد أدركوا الروح أيضا، من معرفة آثارها على الأجسام (البشرية خصوصا)، وقاسوا تدبيرها للجسم على فعل العقول السماوية وتدبيرها للأرض (المنفعلات). وهذا يجرنا إلى الكشف الظلماني الذي يحدث للفلاسفة، بعد الرياضات، وعند التنزه عن السفليات. ومن هنا يظهر أن العقل عند الفلاسفة، ليس هو العقل (الدماغ) عند الطبيعيين، وإن اشتركوا في الإطلاق أحيانا. ونحن عندما نقول هذا، فإننا على وعي بالخلط الذي يقع فيه المفكرون المعاصرون، بسبب وقوعهم تحت تأثير الفكر الفلسفي من جهة، وتأثير الفكر الطبيعي من جهة أخرى، من دون أن تكون لهم مـُكنة التمييز بين المجاليْن. وهذه الازدواجية تجعل العقل المجرد عن الدين، يعيش أزمة لا مخرج له منها بما يعهده من وسائل؛ وتجعله مضطرا إلى الالتفات إلى الخطاب الديني (الإسلامي)، لعله يجد فيه ما يستنقذه من ضيقه... وإذا عُدنا إلى قولنا "إن اتجاه الفيزياء سفلي"، فإننا سنُدرك علة ظهور "فيزياء الكم"، من حيث هي تكميل للفيزياء الكلاسيكية؛ وإن كانت نظرياتهما على تناقض أحيانا. ومن هنا يكون التفريق ضروريا في الأجسام المادية، بين المستوييْن: الماكرو والميكرو؛ ويكون أيضا التوفيق النظري الذي يُراد منه إيجاد تفسير شامل (تفسير الكل)، غاية لا محيد عنها. وهذا التفسير الكلي، هو ما أنتج نظرية الأوتار الشهيرة، وإن بقيت فيها جوانب ناقصة، يعلمها الفيزيائيون وعلماء الرياضيات. ورغم التفسير الكُمومي الجديد للمادة، والذي فتح آفاقا كبيرة في مجال إدراكها، فإن السؤال الذي ينبغي أن نبادر إليه هو: هل القول بالسحابة الإلكترونية، التي تقوم على تعدد الاحتمالات (بالمعنى الرياضي)، يُمكن أن يكون أساسا لمعرفة المادة؟ وهل الوصول إلى الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات، وما هو أبلغ منها في الصغر (اللبتونات والكواركات والبوزونات)، يجعلنا نجزم بأننا قد عرفنا الجزء المادي الذي لا يقبل القسمة، والذي يكون كالذرة بالنظر إلى المنظومة ما فوق الذرية؟... قد يتوقف الفيزيائيّون في الجواب، لعلمهم بأن الجواب ينبغي أن يكون عاما، يُشبه الفلسفة النسقية التي في مقابل الأيديولوجيا؛ وهو ما لا يبلغونه من طريقهم، بسبب انحصار عالم المادة، ومخالفته لعالم المعقولات. ولكننا نضيف إلى هذا السبب، ما هو من ضمن مقولاتهم؛ ولسنا نعني إلا الفراغ الذي تسبح فيه الجسيمات ما دون الذريّة، المـُشار إليها آنفا؛ أو ما يُسمونه "عكس المادة" (Antimatter). ولن نطيل في الكلام عن صلة المادة بالمادة السالبة من جهة الفيزياء، لأن العقل الفيزيائي في نفسه قاصر عن إدراك ما سنذكره؛ بل لن نجازف إن قلنا إن الفلاسفة -وإن كانوا في المرتبة العقلية أعلى من الفيزيائيّين- لا يتمكنون من الإدراك هم أيضا. والسبب في عدم إدراك الفريقيْن، لما سنبيّن أصوله، هو أن الواحد منهما، لم يبلغ نهاية عالم المعاني؛ وأن الثاني لم يبلغ نهاية عالم الحس؛ رغم المزاعم والتوهمات (الفرضيات). ولنعرج على ما يُسميه أصحاب الفيزياء الفلكية "المادة السوداء"، لنتبيّن أن الجهل يكتنف عالم المادة من جانبيه: الماكرو والميكرو. ولا ينبغي لنا هنا أن نتجاوز توهُّما أساسا، يحرف إدراك كثير من الفيزيائيّين؛ وذلك عندما يبحثون عن معنى الإطلاق الوجودي في المادة، وعندما يتصورون العالم المادي غير متناه. بينما يسهل على الفلاسفة (بالمعنى الأصلي) إدراك محدودية العالم بمجرد العقل، وإن بلغ ما بلغ في الاتساع. ومن هنا كانت تسمية "الجسم الكل" لديهم، والذي هو بالاصطلاح الشرعي "العرش". ولا بأس هنا من الإشارة إلى بعض الجوانب من علم الحقائق، بالعودة إلى الوحي. ولننظر في البداية إلى قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، لنعلم أن معنى عبارة "ما فوقها" عند المفسرين، هو: ما فوقها في الصغر؛ وبالتالي يدخل ضمن هذا المعنى ما يُشار إليه بالذرة، وما يُشار إليه بالجسيمات ما دون الذرية. فأما الذرة -وإن كانت الفيزياء لم تكن قد ظهرت بعدُ بصفتها علما مستقلا عن الفلسفة زمن نزول الوحي- فإن اللغة العربية المـُتطورة مع الزمان، لا بد من أن تستوعبها؛ وعلى هذا فإننا نأخذ معنى قول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، أو قوله سبحانه:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، بالمعنى المـُدرك لنا في زماننا: زمن الذرة وما بعده. وكل هذا، ليس إلا توطئة لما سنذكره بعد... إن الخطأ الذي اشترك فيه الفلاسفة مع الفيزيائيّين، من حيث الأصل، هو ظنهم أن الوجود (الخارجي) هو الحس؛ بسبب غلبة الحس على إدراكهم جميعا، وإن كان بصفة مختلفة. وهذا هو ما يجعل الفيزيائيين على الخصوص، يتوهمون أن الوجود هو المادة؛ وأن كل ما ليس مادة، هو فراغ أو خيال (لا بالمعنى الفلسفي). والفراغ عندهم لا يُمكن أن يكون عدما، لإدراكهم - من وراء عقولهم- لمعنى "الهيولى"، الذي تناوله الفلاسفة. وبالتالي، فإن ما هو "وراء المادة"، لا يكون عند الفيزيائيّين إلا مادة ولو معاكسة، بسبب قصور عقولهم عن إدراك المعاني وما بعدها. ولهذا، يحتاج الفيزيائيون (والطبيعيون عموما) إلى إعادة تعريف لمعنى الوجود، بعيدا عن المادة (الحس). وأما نحن فنقول: إن الحس والمعنى معا، ليسا وجودا بالمعنى الاصطلاحي؛ وإن كان المعنى يبدو في نظر الفلاسفة أعلى مرتبة، ما دام روحا يحيا به العالم الطبيعي السفلي. والعالمان معا: الحسي والمعنوي، يدخلان فيما سماه الوحي "ظلا". والظل بالاصطلاح القرآني -وإن ورد في مَثل محسوس- ليس هو الظل المعروف من الحس، ولكن هو أصله في عالم الحقائق. وقبل المـُضيّ في الكلام، لا بد من ذكر المثل المضروب في القرآن، والذي جاء في قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا . ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 45، 46]. فنحن عندما تكلمنا عن عالم الحس، كنا نعني أنه ظل كثيف؛ وعندما تكلمنا عن عالم المعنى، كنا نعني أنه ظل لطيف؛ لكنهما معا يدخلان ضمن مسمى الظل. وإذا نحن عدنا إلى الظل في عالم الحس، فإننا سنجده بين الوجود الحسي وعدمه؛ لأننا نراه بأعيننا، بحيث لا نتمكن من إنكاره؛ ومع ذلك لا نستطيع أن نعتبره جسما كالأجسام، بسبب خروجه عن الأبعاد المحدِّدة للجسمية. فهو بهذا الاعتبار بين بين؛ أي: إمكان. وكذلك الظل المعنوي، هو بين وجود المعنى وعدمه؛ وهذا ينبه إلى أن العالميْن قائمان على الازدواجية في حقيقتهما. وقد ذكر الله هذه الازدواجية العامة في قوله تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]. وهذا يعني بالتبع أن عالم الحس مخلوق، وعالم المعاني أيضا مخلوق؛ خلافا للعقول الضعيفة التي عندما أرادت تنزيه الله عن الحس، جعلته -سبحانه- معنى. وقد وقع في هذا الغلط النصارى وبعض المسلمين؛ وأما اليهود فإنهم يميلون إلى الحس في هذا، وبالتالي يكونون أضعف الجميع. ولنعد إلى معنى الظل، فنقول: إن الظل وإن كان عدما، فإنه يظهر في الحس على صورة الجسم الناشئ عنه. وهذا يعني أنه قد يكون دليلا على الجسم، إن نحن افترضنا أننا ننظر إلى ظل، جسمه محجوب عن أعيننا بحجاب (ستار)؛ وإن كانت هذه الدلالة، لن تبلغ في القوة نظرنا المباشر إلى الجسم. وهنا علينا أن نعود إلى الآية التي ذكرناها من سورة الفرقان، لنتدبر قوله سبحانه بعكس الاستقراء الحسي: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}، لنعلم أنه سبحانه يُشير إلى شمس الحقيقة التي نشأ عنها ظل العالم (الكون) بشقيه الحسي والمعنوي؛ ويُخبرنا سبحانه أن الله من حيث هو حقيقة العالم، هو الدال عليه، لا العكس؛ لأن ظهور العالم يكون بالله، الذي هو الوجود الحق، والذي هو النور أيضا (النور هنا هو الوجود بالنظر إلى ظلمة الإمكان). يقول الله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]؛ أي: هو مـُظْهِرُهُما. ولنعد الآن إلى الفلاسفة والفيزيائيّين حيث تركناهم، ولننظر الآن: هل هم يبغون معرفة العالميْن (الحسي والمعنوي)، ليعلموا منهما الصورة الإلهية الظاهرة فيهما؛ كما دل على ذلك الحديث النبوي: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ.»[متفق عليه، عن أبي هريرة]؟ أم هم يُريدون معرفة الحقيقة (الله)، انطلاقا من الكون؟... فإن كانوا يُريدون معرفة الله، انطلاقا من الكون، فإن هذا محال؛ لأن الله يُستدل به، ولا يُستدل عليه؛ كما أسلفنا. ونعني بالاستدلال على الله، الاستدلال على معرفته سبحانه، لا الاستدلال على وجوده الذي هو أقصى ما قد يُفهم من العبارة. وهذا، لأن الاستدلال على الوجود، هو داخل ضمن البدهيات من جهة الوجدان، مع دخول للعقل المفكر محدود فيه؛ مما يعده أهله برهنة على وجود الله عندهم. أما معرفة الله حقيقة، فلا تصح لا من طريق الاستقراء الحسي، ولا من طريق الاستدلال العقلي؛ لأنه سُبحانه لا يُنال لعزته بطلب الطالِبين. ومن هذا الباب، يظهر أن المتكلمين (بالاصطلاح) يكونون من المتفلسفة، كما نقول دائما؛ ما داموا يسيرون على خُطى الفلاسفة في "معرفتهم العقلية". وهم بهذا، يُخالفون جزما طريق الأنبياء، الذي هو اتباع الشريعة الإلهية ظاهرا وباطنا!... وتلخيصا لما سبق نقول: إن الفلاسفة والطبيعيين، لا يُمكن أن ينتهوا إلى معرفة (علم) بالمعنى الاصطلاحي؛ لأنهم يستدلون بالظل على الشمس، وهو عكس ما ذُكر في القرآن. ثم إن الله عندما يقول: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}، هو يُخبر سبحانه أنه هو الجاعل للدلالة. ونعني من هذا، أن العارف عندما يعرف الله، لا يتمكن من معرفة صورته في العالم، إلا إذا علَّمه الله ذلك؛ فتكون معرفته عندئذ بالله، لا بنفسه. وهذه المعرفة للعالم، بهذا المعنى، ليست هي التي ذكرناها لطالبي معرفة الصورة الإلهية المعنوية من العالم فيما قبل، والتي عنها تنشأ عقائد كل أهل العقائد؛ ولكنها معرفة يدخل فيها الحس أيضا. ومن هنا يظهر أن العلماء بالله، هم طبقة فوق كل طبقات العلماء، من جميع الطرق والمشارب. وحتى لا يتوقف بعض الناس فيما نقول، عند ذكرنا للصورة الإلهية، إذا هم حصروها في آدم أبي البشر، إيمانا؛ فلا بد من الدلالة على المطابقة بين صورتيْن في العالم: الكون، وهو آدم الأكبر؛ وآدم، وهو الكون الأصغر. وإن نحن أخذنا حديث الصورة بالمعنييْن، فعندئذ -فقط- يزول الإشكال ويرتفع الالتباس. فإن نحن تبيّنّا طريق نيل معرفة الحقيقة، فعلينا الآن أن نعود إلى العالم الذي هو ظلها، لنُخبر أن العودة إليه في المعارف التفصيلية ضرورية. وبهذا، لا يُمكن لعارف أن يقول باستغنائه عن العالم المخلوق في مجال الشهود أبدا؛ وكل من يقول بذلك أو يدل عليه، فليس بعارف!... ومن هنا تظهر حكمة الله في خلق العالم؛ أي ليكون مرآة لشهود الصورة فيه، لا ليكون دليلا حسيا أو عقليا عليه سبحانه، كما يتوهم الفلاسفة والطبيعيون وعوام المتدينين. وإن صح أن نقول بالوجهيْن معا من الدلالة للعالم، فإنها ستكون دلالةً على الأسماء والصفات، لا دلالة على الذات التي هي حقيقة الحقائق (الوجود الصرف)؛ لأن الدلالة على الذات مـُحال، وبالتالي فإن العلم بها أيضا محال. ومن وراء هذا الكلام بحرٌ مِلحٌ أُجاج، لا بد لداخله من الموت الأكبر، الذي تُسميه الصوفية "الاستهلاك في الحق"، أو "فناء الفناء". وهذا يعني أن الكلام ممتنع هنا، إلا ما يكون من كلام الحق (الوحي)؛ فإن له اعتبارا يظهر تارة ويبطن تارة. ونعني بقولنا "تارة" التجلي الذي يكون من الحق وإليه، لا التعاقب الذي تُدركه العقول السفلية في الزمان... ونخلص في الختام، إلى أن الفيزياء، لن تتمكن من بلوغ كنه الوجود؛ وإنما هي تنتقل من محسوس إلى محسوس. والفلسفة على غرارها، لا يُمكن أن تبلغ كنه الوجود، بل هي تسير من صورة معنوية إلى أخرى. والفلسفة بعكس الفيزياء، تتقهقر مع مرور الزمان، إلى الحد الذي لم يعد معه وجود للفلاسفة بالمعنى الأصلي الآن؛ وإنما هم مفكرون متفلسفون، ودارسون للفلسفة؛ يقصرون في الغالب عن الخوض في المعاني المجردة. ولقد عرفنا أن المفكر البريطاني "والتر ستيس"، قد تحدث عن نهاية الفلسفة، وأنه قد اقترح التصوف مخرجا من أزمتها. ونحن وإن كنا نُقر بتقهقر الفلسفة عما بلغته في عصور ماضية، فإننا نجزم بأن والتر ستيس، لم يكن يعلم حقيقة التصوف عندما دل عليه؛ وإنما هو لاحظ أن التصوف أوسع مجالا من الفلسفة فحسب. والتصوف في أصله وحقيقته، هو الدين؛ لكن لا بالمعنى الفقهي الضيّق، بل بصورته النبوية الأصلية. والدين، ينطلق بالمتديّن من عالم الحس المـُدرك للناس جميعا، عندما يفتح له باب العبادات البدنية، وينتقل به بعد ذلك إلى عالم المعاني الإيمانية (لا الفلسفية)، وصولا إلى الحقائق العلوية. وعند بلوغ المتديّن غاية الدين، هناك فقط يعلم مرتبة الحس من الوجود، ويعلم مرتبة المعاني؛ لا قبله. وبسبب عدم بلوغ أهل الدين الغاية كلهم، ينبغي عليهم أن لا يتوهموا أنهم أفضل من الفيزيائيّين أو من الفلاسفة، من حيث الإدراك العقلي؛ وإن كانوا أفضل من حيث الحكم بالسعادة والشقاء. وأفضل طريق لأهل الدين، هو اتباع الشرع ظاهرا وباطنا، لا بفهم الفقهاء الذين يُعيدونهم إلى الحس ويحبسونهم فيه دائما؛ ومن دون إعمال للعقل فيما لم يؤذن لهم فيه، فيكونوا كالفلاسفة أو أنقص منهم. وأما الظن من قِبل الطبيعيّين أن العلم سائر إلى بلوغ الحقيقة مع الزمان حتما، فهو من المسكنات التي لا ينخدع بها إلا العامة. ولو أنهم قاسوا ما بلغوه الآن، إلى ما كان يعلمه أسلافهم، مما هو من قبيل "الكليات الطبيعية"، لعلموا أنهم أنقص منهم مِن بعض الوجوه. فكأنهم عند تقدمهم في العلوم الكونية، ينقص إدراكهم لها من جهة أخرى، قد لا يتفطنون إليها. وهذا -من غير شك- من أكبر الحجب العصرية عن إدراك الحقيقة، وإن كان لا يشعر به إلا كبار "العلماء" من الطبيعيين. ولعلنا سنتناول مسألة الزمان في فرصة أخرى بإذن الله، لنبيّن مدى جهل الفيزيائيين وغيرهم به؛ مع كونهم لا يستغنون عن اعتباره في نظرياتهم وفي علومهم... |