انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2021/10/31
آفة العقل المعياري
1. أصالة المعيارية: المعيارية لدى العقل، هي أساس عقلانيته؛ لذلك لا يمكن القول برفعها، مع الإبقاء على حقيقته. ولكن الأمر ليس بهذه السطحية أيضا، حتى نقبل بالمعيارية كما هو معمول بها؛ وذلك لأنها شطر ما تقوم به العقلانية، لا كله... وفي البداية، لا بد من أن نذكّر بأن المنطق العام، هو أول معيارية اعتمدها العقل في مساره. غير أن هذا المنطق لا ينتظم كلَّ ما يتخذه العقل من طرق، خصوصا عند اختلاف المجالات المنظور فيها فيما بينها، اختلافا يكاد يكون كليا أحيانا. فمثلا لا يُمكن أن ننظر إلى مجاليْ الفيزياء والتاريخ بالمعيارية ذاتها، مع اشتراكهما في المنطق العام الذي يبقى ماسكا لمعاييرهما من الخلفية. وأما الرياضيات، فهي أكثر المجالات معيارية وقربا من المنطق العام الناظم؛ لذلك يمكن أن نعتبر المنطق الرياضي منطقا ثانيا بعد المنطق العام. وهكذا سيدخل المنطق الرياضي في صلب المعيارية بالنظر إلى المجالات المختلفة، مهما ظُن ببعدها عنه. ويكفي هنا أن نأخذ مجال الموسيقى نموذجا، لنؤكد على أنه يقوم في شطر كبير منه على الرياضيات. وإذا كان هذا بالنظر إلى الموسيقى، وهي التي يحتل الوجدان المتحرر عن المعياريات الظاهرة فيها الحيّز الأكبر، فما الظن بالمجالات الأخرى التي تكون أقرب إلى المنطق الرياضي!... وإذا نحن نظرنا إلى علم كالتاريخ أيضا، فإننا سنجد الرياضيات حاضرة فيه من جهة الزمان أولا (التراتب)، ثم من جهة جميع الإحصائيات التي يتضمنها ثانيا. لكن تبقى المعيارية في التاريخ، متجاوِزة للمنطق الرياضي، وشاملة لما نسميه المنطق التاريخي الخاص. والمنطق التاريخي هذا، لن نجده متطابق المعالم فيما بين المؤرخين؛ بسبب خصوصيتهم في أنفسهم. فمنهم من يعتمد معيار القوة أصلا، ومنهم من يعتمد معيار الدين؛ كما منهم من يعتمد الفكر والفلسفة، وغيرهما... وهكذا سنجد معيارية التاريخ غير ثابتة المعالم، وأحيانا سنميّز بين المؤرخين بسبب المتغيرات المعيارية لديهم، لا بتحكيم الثابت منها. وهكذا يبقى التاريخ لدينا مجالا متسعا جدا، بسبب اتساع معياريته؛ إلى الحد الذي سيجعل من الصعب اختزاله في صورة موحدة. وعندئذ، سيقترب التاريخ في نظر الناظر من المجالات الفنية كثيرا؛ وسيمتاز بعض المؤرخين عن غيرهم، بإبراز ما يكاد يكون داخلا ضمن الوجدانيات؛ خصوصا فيما يعود إلى التفسيرات. ومن غريب الأمر، أن الوجدانيات -على اتساعها- في كل المجالات، هي ما يفتح أبواب الجمال فيها؛ بحيث لا يمكن تجاوزها من هذا الوجه أبدا. وأما معيارية الجمال، فلن ندخل فيها الآن، لأنها ينبغي أن تُتناول وحدها، ضمن قراءة خاصة للوجود وللعلوم المتعلقة به... أما إن نحن نظرنا إلى مجال الفكر والفلسفة، فإننا سنجده مبنيا على المنطق العام بما هو هيكل أول، وعلى الاعتبارات الثانوية وصولا إلى الاعتبارات الشخصية، وكأنها تفريعات دقيقة وتشعيبات في الهيكل الأساس. وكلما دخلت المعايير الدقيقة في الفكر، زادت خصوصيته، وسهل تمييزه عن غيره. ومن هنا امتاز الفلاسفة بعضهم عن بعض في فلسفتهم، وامتاز المفكرون في فكرهم. لكنّ المعايير الثانوية لها عيوب، من أهمها الوقوع في الخطأ من قِبل الناظر، وهو يظن أنه ما يزال على انسجام مع المبادئ الأولى. وهذا يكون بسبب البعد في الطريق، الذي يمكن أن يذهل معه الناظر عن التثبت الدائم مع كل خطوة فكرية يخطوها (وهو عمل مضن جدا)، أو يكون بسبب العوامل الشخصية، التي يغفل المفكر عن سِمتها الشخصانية، ويعاملها معاملة المعايير المشتركة. وهذا جانب، لو أعيدت دراسة الفلسفة على ضوئه، لتغيّرت معالمها بالكلّيّة!... وقد يتوهم الناظر إلى العلوم الطبيعية والتجريبية صلابة معياريتها، فيقول فيها بوحدة المعايير على التمام. وهذا وإن كان يصدق كثيرا من مختلف الجوانب، فإنه لا يبلغ ما ذُكر. أولا، لأن العقل الناظر فيها، هو عقل بالمعنى العام، قبل أن يكون عقلا خاصا (طبيعيا أو تجريبيا). وثانيا، ومن كون العقل عاما، تدخل عليه المعيارية الواسعة، التي قد تصير شخصية في نهايتها، كما أوضحنا آنفا؛ لكن لا بالقدر ذاته، من غير شك. ومن كون هذه المعايير الدقيقة المتشعبة هي أقل في العلوم "الصلبة" من غيرها، نشأ هذا التمييز بين ما هو "إنساني"، ويقصدون منه ما هو متسع معياريا، وبين ما هو "صلب" في الاصطلاح؛ مع وجوب الاشتراك في المعيارية من حيث هي معيارية، ومن حيث صنوفها أيضا؛ كما هو الشأن في تاريخ العلوم، أو في فلسفة الفيزياء، أو غيرهما. وكما تدل التسميات، فإن الأمر يصبح مركّبا بحسب ما يدخل في المعايير من أصناف. فإن نحن أضفنا -مثلا- معيار اللغة إلى فلسفة التاريخ، فإن الأمر سيتسع أكثر فأكثر، من غير شك... وإن العقل يتمسك بالمعيارية، بحيث إن لم يجد لما ينظر فيه معايير يسهل استقراؤها، بحث لنفسه عن معايير -ولو وقتيا- يُقيم عليها نظره. وهو يفعل هذا، لأنه يتوهم أن المعيارية تضفي الصلابة على تعقُّله للمجال الذي يتناوله، أو يشتغل به. وهذا الوهم يعطيه الثقة بعلمه، ويجعله طامعا في التقدم فيه، عن طريق تعميق دراسته، وإطالة أمدها. ونحن نرى من غير شك، أن هذا لا يؤدي إلى الغاية المنشودة في جل الأحوال؛ وهو ما كان ينبغي أن يجعل الناس يعيدون النظر في معيارية علومهم على كل حال. وربما يكون الاستعجال، وإرادة الخروج من منطقة الإبهام، هما الدافعان الأقويان للناس في هذا الاتجاه. وهذا لأن عملية التعقل بجميع صنوفها وتفاريعها، هي من أشق العمليات على الناس؛ بحيث لا يصبر على مشقتها إلا العدد النادر، من كل زمان. ومن هذا الباب، كان التساهل مع المغالطات، إنتاجا وتقبُّلا... وأما المجالات التي يتوهم الناس أنها لا معيارية لها في الأصل، فهي ما يُطلقون عليه الخرافة. فالخرافة عندهم، هي ما لا يستند إلى منطق مشترك مقبول، وما يخرج بالتالي عن المعيارية العامة المتعارف عليها كليا أو جزئيا. ولو نحن أمعنّا النظر في الخرافة، لوجدناها تستند إلى معايير معتبرة عند أصحابها، ولوجدناها لا تُهمل المنطق العام في أصولها؛ فتبدو وكأنها لا تختلف عن العلوم في معالمها، مع جزمنا بمخالفتها لها في حقيقتها؛ ولن يبقى معيار نعود إليه في التفريق بين الخرافة والعلم حينئذ، إلا الاتساع واعتبار الغاية. ونعني منهما أن الخرافة أضيق دائرة من العلم بكثير، وأن العلم أوسع منها بكثير في المقابل؛ على الأقل باعتبار التراكم التاريخي العام. ونعني أن الغاية من الخرافة تكون التفسير للواقع، بما يُناسب العقل المتلقّي، الذي قد يكون في أسفل الترتيب العقلي. وهكذا ستدخل الخرافة ضمن سمات تشترك فيها مع الفنون جزئيا، ولن يبقى من تفريق بينها وبين الفن أيضا إلا أمور باهتة ودقيقة، قد لا نتبيّنها إلا عند تحديق النظر إلى قوم دون غيرهم، أو بالنظر إلى شخص (ضمن الجماعة) دون غيره. وهنا قد تدق المعايير وتميع، إلى الحد الذي قد تُنسب الخرافة معه إلى العلم، أو العكس. ولعل أقرب المجالات إلى هذا التوصيف: مجال التحليل النفسي في القرنين الأخيريْن. فالتحليل النفسي، بناه أصحابه (فرويد ومن تبعه) في البداية على أصول منطقية؛ أو على الأقل أُريد لها أن تبدو منطقية، حتى يقبلها العقل العام. ولكن سرعان ما تساهل التحليليون في البناء، فشيدوا "نظرياتهم" على قناعات شخصية للمحلل، أو على تحايل بيّن؛ مما جعل كل محلل مرموق يعود تحليله مدرسة في التحليل النفسي، مستقلة عن سواها من المدارس؛ وهو ما يُضعف من معياريتها كثيرا كما لا يخفى... ولقد وصل الأمر مع بعض المحللين النفسيين (جاك لاكان نموذجا)، إلى اعتماد الاحتيال الصريح على زبنائهم، من أجل الاستيلاء على أموالهم. وهكذا، يعود التحليل النفسي إلى ملاقاة الخرافة، من أوسع الأبواب؛ إن لم يكن قد صار أسوأ منها. وإن نحن عدنا إلى اعتماد التحليل النفسي، على تحليل الرؤى المنامية للزبناء (نفضل استعمال لفظ الزبناء على لفظ المرضى)، فإننا سنقف مضطرين أمام المعيارية في عالم الرؤيا، ونجد أنفسنا مجبرين على إثباتها، إن كنا نريد أن نُلحق النظر فيها بالعلم. ورغم أن فرويد والمحللين بعده، قد تفطنوا إلى أهمية الرؤى، فإنهم لم يكونوا مؤهلين للنظر فيها، كما زعموا. وهذا يعني أنهم لم يكونوا في نظرهم ذاك على معيارية ثابتة، وإنما قد اكتفوا بالتخمين الشخصي، الذي يسهل إرجاعه إلى الخرافة، ويصعب إلحاقه بالعلم؛ وإن بالغوا وتكلفوا في الترميز. نقول هذا، مع تأكيدنا على معيارية الرؤى في نفسها، وعلى كون علم تعبير الرؤى علما خاصا مستقلا، له أهله الذين يعلمون تفاصيله. ونعني من هذا، أن علم التعبير علم صحيح، وهو حق في نفسه؛ بغض النظر عن مرتبة الرؤيا وعن مدى مطابقتها للواقع في اليقظة. وهذا مجال خاص وواسع، لن ندخل في تفاصيله هنا، إبقاء على وحدة المقال. وعلى كل حال، فـ "علم النفس" المعروف، لم يكن علما قط؛ وإنما هو ظنون صاغها أصحابها، عند عجزهم عن معرفة باطن الإنسان معرفة معيارية موثوقة. ولو أنهم أتوْا علماء الإسلام الربانيين، لوجدوا ضمن علم النفس الصحيح، ما يتجاوز عقولهم بمراتب. ونعني من هذا أن علم النفس عندنا معياري، صلب إلى حد لا يمكن تصوره لغيرنا... وبعد أن أبرزنا نماذج من الحقول المعرفية، ومن المجالات العلمية، بإيجاز؛ وأبرزنا الحد الفاصل بينها وبين الخرافة المتصلة بها مجاليا؛ فلا بأس من أن نعود إلى المعيارية نفسها، لنعرف حدودها ضمن العقل. وهنا نسأل: هل العقل المعياري هو العقل الكامل؟ أم إن العقل الكامل له معايير مختصة به، بحيث يمكن أن نقول عنها إنها غير معيارية، ولو في شطر منها؟ 2. خصوصية العقل الكامل: إن إقرارنا بأن العقول مراتب مختلفة، وصنوف مختلفة، يقتضي منا الإقرار بوجود عقل كامل، إليه تنتهي العقول في سموها. ومع عدم تناول العلماء بالمعنى العرفي، لمعنى العقل الكامل، سيبقى هذا المعنى معقولا من خلف كل كلام؛ من دون إثبات لمعيارية مشتركة يُرجع إليها في تصنيفه. ولعل أكثر الناس إيهاما بتعريف العقل الكامل، وبمعاييره، هم الفلاسفة الذين يعملون على تمييز أنفسهم عن العامة، ويحرصون على ذكر ما قد يبدو في أعين الناظرين معالم معتبرة في سلم التعقُّل. وبهذا الفعل منهم، يكونون قائلين بكمال العقل الفلسفي، إما تصريحا، وهو النادر؛ وإما تلميحا، وهو الشائع. فهل العقل الفلسفي هو العقل الكامل؟... ولنعد في أثناء الإجابة عن السؤال، إلى المعيارية ذاتها؛ ولنقرر أن الفلاسفة لا يتمكنون من الخروج عنها، وإن وسّعوا مجالات النظر وكثّروها. لذلك نقول إن العقل الفلسفي -على سعته بالمقارنة إلى غيره- لا يكون إلا حبيسا لمعياريته. ومن كان حبيسا لشيء، فلا يمكن أن يكون كاملا بالمعنى الذي نريده أبدا. ومن هنا نستطيع أن نتبيّن معالم العقل الكامل، والذي لن يكون إلا عقلا معياريا من أحد وجوهه، وغير معياري من الوجوه الأخرى. ونعني من هذا، أن المعيارية وحدها، وفي أي مجال من المجالات العلمية أو غير العلمية، لا تكفي في تبيُّن العقل الكامل من جميع جوانبه؛ لأن من هذه الجوانب ما سيبقى دائما خارجا عن المعيارية. وهكذا، فإن تمام العلم، لا يكون إلا بالجمع بين المعيارية وما هو خارج عنها (المكمل لها)؛ وهذا ما تُحيله (تراه محالا) جلّ العقول، من كونها ترى المعيارية منطقا، وترى ما هو خارج عنها لا منطقا. فتفهم من الجمع بين الأمريْن انتقاضهما معا، ونحن لا نقر بالانتقاض إلا في الجمع بين النقيضيْن حصرا. وهذا يعني أن ما هو خارج عن المعيارية، لا يكون دائما نقيضا لها؛ خصوصا وأن ذلك الخارج يكون أوسع منها بكثير، بحيث لو كان شطر منه على التقابل العقلي، يبقى الشطر الأكبر خارج هذا التقابل... وحتى نسهّل إدراك ما نقول على العقول، فإننا نضرب مثلا للمعيارية فنجعلها حركة عقلية، بها يتقدم العقل في مساره. ونجعل ما هو خارج المعيارية حركة عقلية ثانية، مخالفة للحركة الأولى في حقيقتها؛ مع ضرورة وجودها لديه حتى يكمُل تعقله. ولا أقرب إلى هذا النموذج في الحس، من حركة الكرة الأرضية في الفضاء، والتي تجمع في الآن ذاته بين دوران الأرض حول نفسها، ودورانها حول الشمس؛ من دون أن تعطل إحدى الحركتيْن الأخرى. وهكذا، فإن العقل ينبغي أن يكون معياريا من وجه، غير معياري من وجه آخر، عند نظره إلى الشيء الواحد. ولم نر هذا الصنف من العقول، إلا لأهل الكمال من العارفين بالاصطلاح الصوفي. والكمال الذي نقول به هنا، هو عينه الإطلاق الذي نقول به في كتابات أخرى؛ مع علمنا بأن العقل الفلسفي يُنكر معنى الإطلاق العقلي، خصوصا وهو من الإرداف الخُلفي (التناقض اللفظي) أيضا. وعلى كل حال، فنحن هنا لا نريد أن نفصل القول بخصوص العقل الكامل، إلا بالقدر الذي نبغي به إثبات هذا الصنف وهذه المرتبة؛ لكيلا يبقى العلم بالعقل من حيث هو عقل، ناقصا لدى المشتغلين به. وإذا أردنا أن نتبيّن الحركتيْن العقليتيْن اللتيْن هما أساس كل تعقّل، فإننا سنجد إحداهما واقعية قريبة الإدراك، والأخرى واقعية خفية (استراتيجية قدرية). وكل من لا إدراك له في الوقت الواحد للحركتيْن، فإن إدراكه للواقع سيكون ناقصا بقدر ذلك. وقد ننظر إلى الحركتيْن من وجه آخر، فنجد إحداهما إرادية والأخرى قدرية، كما أخبرنا سابقا؛ بحيث إن من لا يُدخل القَدَر في اعتباراته العقلية، يكون ناقص التعقل في نظرنا. ومن هنا يمكننا الولوج إلى مسألة إدراك الواقع، الذي يظنه الناس أسهل الإدراكات؛ فتجد أحدهم يقول في جدالاته: ... هذا واقعي! للشيء الذي يريد إثباته. وقد جُعل الواقع لدى كثير من المفكرين المتفلسفين، معيارا يُرجع إليه في التمييز بين العلم والخرافة؛ لكن هؤلاء النُّظّار، هل هم يُدركون الواقع كما هو في نفسه، أم كما يتصورونه بحسب ثقافتهم؟... ونحن نجزم أن الواقع مركّب الإدراك، لذلك قليل من الناس من يُدركه. والسبب هو ازدواجية الحركة العقلية الضرورية له، بينما عموم الناس لا يعلمون للعقل إلا حركة واحدة، وهي: طريق التفكر. وكل جهل منسوب إلى الناس -بهذا الاعتبار- لا يكون إلا جهلا بالواقع، في الحال وفي المآل. وهكذا يتبيّن لنا مرة أخرى، أن زعم إدراك الشيء، ليس بالسهولة التي تُظنّ؛ هذا، مع إسفار الواقع في المـُدد القريبة أحيانا، عما يُخالف المقولات، بما ينبغي أن يجعل الناظر يتوقف. وإن الجهل بأسباب الجهل، له دخل كبير في إصرار الناس على كونهم عالمين، رغم كل الإخفاقات العقلية؛ وكأن الأمر لا يعدو أن يكون مغالبة سطحية وعاجلة للخصوم. بينما هو متعلق في الحقيقة، بضبط عملية التعقّل، وبضبط طرقها بحسب كل مجال على حدة، وبحسب المتغيرات المختلفة فيه... وفي ختام هذه الفقرة، لا بد من أن نسأل: هل ما هو خارج المعيارية، معياري من وجه غير معلوم؛ فنكون قائلين بتعدد المعيارية فحسب؟ أم هو تنصل من المعيارية مطلقا؟ فنجيب: - إن نحن قلنا بالتجرد عن المعيارية مطلقا، فهذا يهدم العلمية من الأساس؛ لأن التعقل دائما يكون بضوابط. - فيبقى، أن غير المعياري في اصطلاحنا، هو ما يكون خاضعا لمعيارية أخرى؛ قد تكون معلومة للبعض دون العموم. وهكذا، فإن الدوائر المعيارية تتعدد وتتكثّر على قدر سعة العقل الناظر. فإن كان العقل الناظر كاملا، فإن دوائر المعيارية لديه لا بد أن تكون غير متناهية؛ وهذا من أعجب ما يكون من شؤون العقل، الذي هو مقيّد في أصله!... ولسنا نعني إلا إدراك المقيّد للإطلاق، وعودة المقيّد مطلقا في التصنيف. وهما أمران شائكان، يصعب على العقل الفلسفي الإقرار بهما... 3. المعيارية الزائفة: إذا كانت المعيارية كما رأينا، لها المكانة المعتبرة في عملية التعقّل، فإنه ينبغي لنا القول بعدم إمكان إسقاطها بشروطها، وبعدم تجاوزها. وعندما سيعلم العقل المـُضِلّ (الشيطان) ذلك، فإنه سيجعل من المعيارية وسيلة لاقتناصه العقول المـُراد إضلالها، بإيهامها أنها على معيارية معتبرة في نظرها وفي استنتاجها. وهكذا، فإن أول ما يعتمده أهل الضلال: المنطق العام، الذي يزعمون أنهم وحدهم عليه. ثم بعده يعتمدون معيارية ملفّقة (لا بد أن تكون كذلك) للنسج عليها. فتنتج من مختلف العقول الضالة، مختلف الضلالات، وهي تتدثر بصفة العقلانية الممحصة. وهكذا، لن تجد أحدا من الزائغين يرى أنه على غير الصراط المستقيم. وهو مستقيم في حقه من غير شك، لكن من وجه آخر لا يعلمه هو، ونعلمه نحن من خارج المعايير المشتركة... ومن أشد ما يقع فيه اعتماد المعايير الزائفة، مجال السياسة، الذي يُمكن أن تسمع فيه القول ونقيضه، مع إصرار القائلين على أن كلا منهم على صواب. والمعيارية في مجال السياسة، تكون مغشوشة من جانبيْن: - من جانب السياسي. - ومن جانب السامع له. فالسياسي ليس له من العلم ما يجعل معاييره سليمة، والسامع يكون في الغالب أضعف منه، فتنطلي عليه أقواله. وبما أن السياسيين تتعدد مذاهبهم في السياسة، إلى الحد الذي يُغطي جميع الأهواء، فإنها قد صارت بذلك ذات معايير كثيرة ومتداخلة؛ بحيث لا يكاد يكون الحسم فيها إلا بالهوى، الذي يكون ترجيحا شخصيا أولا، يتساهل صاحبه فيه كثيرا؛ بعكس ما تقتضيه الصرامة العلمية. وبما أن مجال السياسة، قد أصبح بهذه الميوعة وعدم الضبط -كما نرى في الواقع- فهل تكون السياسة معه مختلفة عن سائر المجالات، وتكون غير معيارية في أصلها؟ أم تكون لها معايير تصير مجهولة، مع كثرة الاتساع والتلبيس؟ فنقول: إن السياسة كغيرها من المجالات علم، والعلم حيث كان، لا بد له من معايير تضبط مسار العقل فيه. غير أن السياسة لخصوصيتها، كانت على الدوام محلا لتلاعب العقول المـضِلّة. والإضلال قبل أن يشمل الغايات التي هي المعتبرة عند الشياطين، فهو يشمل المعايير قبلها، ليجعل النتائج تبدو منطقية. وأول ما يقع فيه الشخص المـُضلَّل سياسيا، هو انفصاله عن الواقع، وعيشه من وجوه كثيرة، في واقع افتراضي لا يعلم أنه افتراضي. وسنبيّن نحن هنا بعض المعايير الفاسدة التي يعتمدها السياسيون، مع أنها ليست كذلك دائما؛ لنتبيّن مدى الإضرار الواقع على العقول: 1. معيار المساواة: لن تجد سياسيا ينفي هذا المبدأ من جهة اللفظ، ونحن نقول من جهة اللفظ، للدلالة على كون المعنى المراد يختلف من شخص إلى آخر. والمساواة بين الناس التي هي مزعومة لكل السياسيين، هل بلغت أن تكون واقعا في يوم من الأيام؟ أم هي سراب لا يُدرك؟!... وهل للمساواة مظاهر متفق عليها، أم ما يكون مساواة عند قوم، هو غيرها عند آخرين؟!... ولنأخذ مثالا على هذا: المساواة التي تنادي بها النساء ضمن حركاتهن العالمية الآن، أو غيرها من صنوف المساواة التي ليست كذلك إلا عند القائلين بها. وأخيرا: هل بلغ مجتمع ما -كيفما كان ادعاؤه للرقي- العيش على مبدأ المساواة حقيقة؟... مثلا: هل بلغ أي مجتمع التسوية في الحقوق بين طبقة الحكام وطبقة المحكومين؟... أم إن الأمر مخادعة كبرى للعامة؟... 2. معيار العدالة ضمن معنى العدل: هل يوجد مجتمع عادل بالمعنى التام النسبي، يمكن أن نثبت له معيارية واضحة في هذا المجال؟... أم إن الأمر خاضع للتفاوت، بحيث نحكم بالعدل لأكثر المجتمعات عدلا، صوريا لا حقيقة؟... نقول هذا، لأن العدل أمر شاق على النفوس، بسبب مخالفته للأهواء في الغالب الأعم. وإذا كان الوضع على ما نقول، فكيف نثبت العدل لمجتمع ما، أو لشخص ما (قاض مثلا)؟!... فهل معيار العدل والعدالة من بعده، هو القانون؟ وهل القوانين واحدة في مضامينها، ليتأكد لنا أنها معتبرة؟ وهذا لأن الوحدة الإنسانية ثابتة، فكان ينبغي أن تعطي وحدة في القوانين حتما. ثم: هل العمل بالقانون الواحد، يكون واحدا، أم هو يخضع لمعايير ثانوية، قد تجعل نتيجة العمل بالقانون الواحد متعددة؟ وكيف يصح القول بالمعيارية مع التعدد؟!... وهل لمعضلة القانون من حل عقلاني معتبر؟ أم هي مقاربة مستمرة لتصورات صعبة المنال؟... لن نجيب نحن هنا عن هذه الأسئلة، ولكن نضعها أمام العقول، لتنظر فيها وتقارن ما ندلها عليه بما هو مستقر لديها... 3. معيار الوحدة: ونعني بها وحدة المجتمع، بما أنه مجموع الناس الذين يعيشون فيه، كما نعني البشرية جمعاء من كونها الناظم الأعم. وهذا، بحيث لا يعتبر فرق بين شخص وآخر في الأصل؛ فيكون الأبيض كالأسود، والأصيل كالوافد، إلى غير ذلك من المتقابلات... وهنا لا بد من عدم إدراج الفروق بين الذكور والإناث ضمن الفروق الاجتماعية، إلا إن وقع النيل من إنسانية أحد الفريقيْن؛ لأن الفروق النوعية، ينبغي أن تُعتبر في النظر؛ لكن من غير مصادمة للمعايير الأشمل... ولا بد هنا من التذكير بمبدأ الإنسانية الزائف، الذي يعتمده العقل الدجاليّ، والذي يريد به نقض المعايير الشرعية قبل غيرها، ليسهل عليه الدخول في عملية الإضلال الكبرى، التي ستُبتلى بها الإنسانية كلها في آخر الزمان. ولقد عرضنا للمبادئ الكبرى التي يزعم السياسيون أنهم عليها عاملون، ولم نرد توسيع الأمر إلى الحد الذي يشوش على الإدراك؛ لعلمنا بانطلاء المقولات الزائفة على العامة، إلى الحد الذي صارت معه هذه المقولات معايير لدى العقل في هذه الحقبة. وهذا أمر خطير، ووخيم الآثار، كما نريد أن نبيّن دائما. ولنسأل هنا: - هل يُقر جميع الناس بهذه المعايير المشتركة؟ أم إن منهم من يصر على وجود عنصر أرقى، أو وجود طبقة فوق تناول القانون مثلا (عمليا على الأقل)؟ وهل يكون الرافضون لهذه المبادئ معلِنين عن معاييرهم بصدق دائما في مجتمعاتهم، أم يعتمدون المغالطة؟... وإن كانوا يعتمدون المغالطة، فهل لضعف في عقولهم، بحيث يرون ما ليس معياريا كذلك؟ أم هو أمر آخر؟... - ما رأي الأغلبية في المجتمع؟ هل هي موافقة لرأي الأقلية الحاكمة (بصفة مباشرة أو غير مباشرة) عن اقتناع؟ أم هي موافقة بالقهر؛ حتى إن وجدت حريتها افتراضا، انقلبت على المعايير السائدة؟ أم هي مغالطة من المحكومين للطبقة الحاكمة، بإظهار الانصياع من أجل نيل أغراضهم بمعاييرهم الخاصة، فيكون ذلك نفاقا اجتماعيا يستحق الدراسة من جهة أخرى؟... ولن نجيب نحن بالتفصيل عن هذه الأسئلة كلها، كما سبق أن بيّنّا؛ وإنما نشير إشارة، إلى إمكان تنوع المعيارية داخل المجتمع الواحد بحسب الموقع. وقد تكون هذه المعايير ثابتة في المجتمع المعني، من دون أن تكون مـُجمَعا عليها، كما قد تكون موثَّقة، كما هو شأن القوانين المختلفة المرجوع إليها. وهذا يجعل الأمر مركبا جدا، بحيث لا يُحكم على مجتمع من المجتمعات، إلا من وجوه مخصوصة، وفي وقت مخصوص؛ إن أردنا أن نُبقي على مـُسحة علم في كلامنا... ولكن، في مقابل ذلك، نرى أنه من الواجب تناول العقل العامي في المجتمعات، لنسأل: هل هو مدرك لجميع ما يعرض له في مجتمعه؟ فتكون الإجابة: حتما لا!... وإذا كان العوام لا يُدركون، فهل يكون الخطاب الموجَّه إليهم معياريا؟ أم لا؟... ويكون الجواب: نعم بالتأكيد!... لكن المعيارية هنا مزدوجة: فهي معيارية تخص المـُخاطِب، بما يعلم في نفسه، وبما يريد من غايات؛ وهي معيارية تخص المـُخاطَب، بما يعلم في نفسه، وبما يُقِرّ من خطاب. وهذا يعني من البداية، أن ما يرمي إليه السياسي، قد يكون مخالفا تماما لما يرجوه العامي؛ ولكن الأمر يمر وكأنه خاضع لمعايير مشتركة، ومتفق عليها. وما هي في الحقيقة إلا مخادعة كبرى، قد يشعر العامي بها ولا يتبيّنها؛ وربما قد يُوافق عليها من باب النأي بنفسه عن مشاق التمحيص العقلي، ومشاق المخالفة للنظام السائد في مجتمعه... 4. معيار الشريعة: لن يبقى أمام الوضع المبهم الذي قد يعيشه الفرد، كما قد يعيشه المجتمع، إلا البحث عن معيارية سامية، تغيب معها الأضرار الجانبية التي تنغص على الناس عملهم بالمبادئ المذكورة آنفا، وبغيرها من المبادئ. وليست المعايير السامية، إلا الشريعة، التي جعلها الله رب الناس، ناظمة للمجتمع من جهتيْ فردانيته وجمعيته معا؛ بما يضمن المعيارية التامة، وبما يضمن حقوق جميع الأطراف؛ بغض النظر عن مظاهر القوة المحرفة في العادة للأحكام. لكن -ومن دون الدخول في التفاصيل- هل الشريعة أكمل في المعيارية، من المعايير التي ذكرنا أنها تُهمل الواقع، من بعض جوانبه؟ بحيث تكون كاملة بعكس غيرها؟ وكيف يكون ذلك؟... وجوابنا هو: - أولا: لا بد للشريعة من أن تكون كاملة، بمجرد الإقرار بربانيتها؛ وهذا ما لا يمكن أن يغالط فيه أحد. والكلام هنا من حيث المبدأ، لا من حيث ما يعطيه إيمان كل مؤمن؛ لأن الإيمان قد ينعدم، وقد يضعف. وما يكون من جعل الله، لا يمكن أن يُقارن إلى ما هو من جعل الناس؛ وإن كان جعل الناس عندنا، مندرجا ولا بد، ضمن جعل الله. لكننا نحصر الكلام في المستوى الأول من النظر، لنُبقي على الأرضية العقلية المشتركة في التناول فحسب... - ثانيا: أما من جهة الجمع بين الحركتيْن العقليتين بالمعنى الشرعي وحده، فينبغي أن نميّز فيها المعيارية الأولى، والتي هي نظيرة للمعايير العقلية المجالية، والتي ليست إلا الحركة الفقهية؛ مع الإقرار باتساع الشريعة ومجاوزتها لكل المعايير الفقهية من جهة أخرى؛ وهذا يفتح جانب فقه باطن الشريعة أولا، ثم يفتح باب المعرفة الإلهية لمن كان مؤهلا، ثانيا. وعلينا هنا أن نخصص حيّزا للقدَر الذي سبق لنا أن جعلناه من تمام المعيارية، لنقول بأن الشريعة تفتح إليه بابا خاصا من العلم، يجعل المعيارية بكاملها أوسع وأتم. وهذا يعني أن الدين مكمل للعقل، وبهذا الاعتبار فهو ضروري له؛ بخلاف ما يظن القاصرون من أنه شأن شخصي واختياري... وهكذا، فإن العقل الشرعي، له حركة نقول عنها إرادية (قانونية)، وله حركة قدرية تخرج عن إرادته، ولا تخرج عن علمه. ومع أن الجمع بين الحركتيْن يبدو لأول وهلة تناقضا، إلا أنه تكامل في النظر، يُعطي معرفة للواقع، لا توجد إلا لهذا العقل. وينبغي أن نذكر هنا أن المستوى الذي نتكلم عنه، هو دون العقل الكامل المطلق؛ ولكنه مع ذلك أكمل من العقل المجرد (الفلسفي)، بما لا يقارن. فالشريعة، ليست تقييدا للعقل، كما يظن الجاهلون؛ بل هي موسعة له ومرقّية. ولكن هذا لا يكون إلا للشريعة الحية الربانية، التي يكون الناس داخلين في زمانها التشريعي من جهة؛ ويكونون على اتصال بمصدرها الرباني النبوي من جهة أخرى، عن طريق مرتبة الوراثة في مثل هذه الأزمنة المتأخرة. وكل كلام عن الشريعة خارج هذين الشرطيْن، فلا عبرة به!... |