انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2021/10/19
الإيمان غير الديني
يغلط الناس كثيرا، عندما يحصرون الإيمان في الدين (الأديان)؛ ويُغالط اللادينيون غيرهم كثيرا، عندما يوهمونهم بأنهم لا يعتمدون الإيمان طريقا. وقد أدت هذه المغالطة، إلى أن يعتبر كثير من المتدينين الإيمان أقل قيمة من البراهين العقلية أو من النتائج التجريبية (empirical)، في القيمة العلمية. وإننا نجد أغلب الدارسين والباحثين، يُدرجون الإيمان ضمن المواجيد الفردية وإن كانت بعض مظاهره جماعية؛ وبذلك يُصبح غير قابل في نظرهم للقياس، وغير معتمد بسبب عدم خضوعه لمعايير رائزة بحسبهم. وقبل أن نمر إلى الكلام في صنوف الإيمان، لا بد في البداية من أن نبيّن حقيقته، فنقول: الإيمان هو علم مـُجمل ينقدح في العقل (القلب)، من غير تعمُّل. فهو فضل من الله، يهبه لمن يشاء من عباده؛ وليس هو حيلة من لا حيلة له، كما يظن المتحاذقون. وإن المرء عندما يجد الإيمان في قلبه، لا يتمكن من دفعه، كما لا يتمكن من البرهنة عليه؛ وهو رغم عدم دخوله في دائرة البرهنة، فإن له من القوة، ما يبلغ به مرتبة المسلمات. بل إن المسلمات ليست إلا إيمانا عاما يهبه الله لجميع العقول السليمة، ليكون أساسا تبني عليه كل فكرها. فهي (المسلمات) من هذا الوجه، دليل على الإيمان الديني، وإن لم يتنبه إلى ذلك الدارسون لعملية التعقّل في عمومها. وعلى من أراد أن يُدرج الإيمان الديني ضمن العقل الخرافي، أن يُقرّ بأن العقل العقلاني خرافي أيضا في أصله. وهذا ما لا نظن أن أحدا سيقبل به!... وعلينا الآن أن نُميّز أن المسلمات مجعولة في العقل السليم، من جهة فطرته. والفطرة العقلية التي نعنيها هنا، هي الأصل الذي جعله الله في العقل أساسا أول لكل صنوف العقل التي تُبنى عليه فيما بعد، كالعقل الكسبي والعقل الوهبي (الكشفي)؛ وهذا بخلاف ما يظن الظانون من أن أحد العقليْن، لا يستند إلى الفطرة. وإن نحن عدنا إلى ذكر الفطرة في القرآن الذي هو الحق الذي لا يُداخله باطل، كما في قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، فإننا سنعلم أن الفطرة العقلية، أساس للإيمان الذي يؤتيه الله من يشاء من عباده فيما بعد. يقول سبحانه:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]. وهكذا يكون الإيمان بهذا الاعتبار بناء على الفطرة، ويكون زيادة في العقل، بخلاف زعم المـُغرضين. لذلك وصف الله غير المؤمنين بأنهم لا يعقلون، ووصف حالهم بكونه رجسا؛ والرجس هو أصل القُبح والمستقبحات كلها. وهنا ينبغي أن ننبه إلى أن عقل الفلاسفة يبقى عقلا أنقص -على علوه في مجال المعقولات- من العقل المؤمن، وإن كان المؤمن من العوام، كما سنبيّن فيما بعد. وهذه مفارقة، يستعظمها أنصاف العقلاء والمفكرون؛ أما الفلاسفة فإنهم يُبهتون إن هم سمعوا بها، ولا يتمكنون من إنكارها. وأما عقلاء المؤمنين، أو أهل الكشف منهم، فإن مرتبتهم لا تفوقها إلا مرتبة النبوة، التي توهَّم بعض "فلاسفة المسلمين" أنها نظيرة للفلسفة المجردة، إن لم تكن أقل منها عند تقيدها بالخيال بحسب إدراكهم؛ وهيهات!... وأنى للفلاسفة بلوغ النبوة، أو بلوغ مرتبة الحكم عليها، وهي مجال فوق إدراكهم جملة وتفصيلا!... ولقد غلط المتفلسفون في تصنيفهم للنبوة، بسبب توهم خضوع كل المعلومات للعقل النظري من جهة، وبسبب خروج النبوة ذاتها عن دائرة العقل من جهة أخرى، كما ذكرنا. وهكذا يظهر أن كل من تكلم في نفي النبوة، إنما هو قاصر من الناحية العقلية ذاتها، بعيد عن بلوغ مرتبة الكمال العقلي، المناسب للعقول بما هي عقول... أما الذين أُنشئوا على تنقُّص الإيمان في مقابل العقل، مع عدم صحة القول بالتقابل بينهما في الأصل، فلا يُقبل منهم ذلك، لسبب رئيس هو أنهم لا يخرجون هم أنفسهم عن الإيمان، وإن عدلوا عن اسمه إلى غيره مما يرتاحون إليه: كالعقلانية والعلميّة وغيرهما، مما هو شائع بين الناس. ولسنا نعني من كلامنا هنا، إلا أن العقلاني مؤمن في عقلانيته بعقلانيته، وأن العلميّ مؤمن بالعلميّة في علميته. ولقد قلنا عن العلمي إنه مؤمن بالعلمية ولم نقل بالعلم، لأنه لا يؤمن بالعلم كله، كما هو في نفسه؛ وإنما هو يؤمن بصنف مخصوص من العلوم، ويُنكر غيره منها على ثبوته. وكلمة "علم" عندما تُطلق بالتنكير أو بالتعريف مع الإفراد، فإنها تعني العلم بإطلاقه وإحاطته؛ وهو ما لا يكون إلا لله وحده. وأما إن جاءت الكلمة مقيدة بصيغة ما، فإنها تعني إما علما واحدا بكماله، أو تعني النسبية في العلم (الجزئية). وعلى هذا، فإن الفيلسوف الذي يظن أنه غير مؤمن في فلسفته، يكون مخطئا؛ لأنه في تفلسفه، لا بد أن يكون مؤمنا بعقله وبقدرته على النظر، وبالفلسفة من حيث هي طريق للعقل. كذلك الفيزيائي عندما يرفض الإيمان، ويظن أنه مفارق له باعتباره للمادة وحدها، التي يظن أنها من جهتها مباينة للإيمان؛ لا بد له من أن يكون مؤمنا بالمادة، ومؤمنا بالفيزياء طريقا إلى العلم بها. وعلى الفيلسوف والفيزيائي، فلْيُقَس كل عالم يشتغل بعلم ما. والإيمان بهذا المعنى العام، شامل لكل الناس، سواء أقروا به أم لا؛ بل إن عدم الإقرار، كما نرى ذلك من العقول المادية الضعيفة، ومن مقلِّدة المفكرين، لا يكون إلا دليلا على نقص العقل فحسب. يقول الله عن هذا الإيمان الشامل والذي يبدو متقابلا بالنظر إلى متعلَّقه:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]؛ وهذا يعني أن غير المؤمن بالله هو مؤمن بالطاغوت. والطاغوت، هو كل ما يطغى على عين البصيرة بحيث تعمى عن الحق عند إدراكه هو. والحديث القدسي الذي جاء فيه أن الله تعالى يقول: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ: فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ؛ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ.»[متفق عليه عن زيد بن خالد الجُهَنيّ رضي الله عنه]، ينسب الإيمان والكفر إلى جميع الناس؛ بخلاف ما يدل عليه الاصطلاح الشرعي. وهو ما يؤكد أن من يظن نفسه غير مؤمن، هو مؤمن لكن بغير الله فحسب، إيمانا غير ديني فقط. وما نريد أن نخلص إليه هنا، هو أن من يتأففون من الإيمان الديني في العادة، هم على إيمان من غير شك؛ بل إن إيمانهم من صنف إيمان الكافرين بالحق المشار إليه آنفا، والذي لا يكون إلا إيمانا مجهول الحقيقة... وإن نحن عدنا إلى من يتوهم العقلانية في نفسه، ويتخذها سبيلا موازية لسبيل الدين في طلب الحقيقة، فإننا سنجده يعتمد الإيمان بالعقلانية لا العقلانية ذاتها. وهذا لأن العقلانية بالمعنى الصحيح، هي ما يكون عليه العقلاء من المؤمنين بالله، لا غيرهم؛ وهو ما يعلمه علماء الدين المعتبَرون بأدنى إشارة. وأما المتوهم للعقلانية وهو على الكفر بالله، فإنه يجهل حقيقة العقل الذي ينتسب إليه، ويجهل عملية التعقل، وبالتالي يجهل مراتب المعقولات وصنوفها. ويُقاس على الزاعم للعقلانية، زاعم العلمية بالمعنى الشائع في أزمنتنا؛ فتكون صفة العلمية على غير حقيقتها، وإن رام أصحابها مقابلة الخرافة بها. ونحن عندما نجد أحدهم يتحدى بأن ما يتكلم عنه مسألة علمية، نجده لا يعلم معنى العلمية في الغالب، ولا يفرق بين ما هو علم في حقيقته وما هو ظن. وإن أغلب من يقعون في هذا الالتباس، هم المنبهرون بالمقولات الفيزيائية أو غيرها مما هو مندرج في العلوم التجريبية، لتوهمهم بأن المادة المحسوسة أثبتُ من غيرها في صفة الوجود. وهو ما لا يصح، من جهة العلم بالوجود، بما هو وجود؛ وما لا يثبت على وجهٍ، إذا ما انصرف الناس من نظرية إلى أخرى؛ أو من "حقيقة" علمية إلى أخرى، بحسب التقدم الحاصل في العلوم، أو التحقق الناشئ في نفس الناظر. وهكذا، يُصبح -من غير أن يتنبه الناس- ما كان علما في زمان، جهلا في الزمان الآخر، أو في الحال الآخر. والعجب، هو أن الناس يجدون الأعذار لهذا الجهل البيّن، ولا يعتبرون احتمال تكرار الأمر مع ما يُظن أنه علم في الزمان اللاحق؛ بل يعدون ذلك من التقدم العلمي، وكأنهم ينتقلون من علم إلى آخر أكثر يقينا منه؛ لا من جهل إلى علم، هو في الحقيقة ظن آخر فحسب، قد ينكشف أنه جهل هو أيضا. وإن المصيبة قد عظُمت، عندما دخل العوام في هذا الجدل المعرفي، لتجدهم يحكمون بأن المسألة الفلانية علمية، وهي لا تعدو أن تكون خرافة شائعة. أو تجدهم يشترطون للدين موافقته للعلم والعقلانية، وهم لا يتجاوزون في العقل مرتبة المعاشية. وقد رأينا من هؤلاء المساكين، من يُدخل نفسه في عويصات المسائل، ويبدأ في تناول بعض نصوص الوحي التي يظن أنها من الباب ذاته؛ فيُعطي لما يظنه عقلا لديه، الحق في رد بعضها (النصوص)، وهو لا يخطر بباله أنه غير مؤهل للنظر في ذلك كله. ومما سمعناه من أحد هؤلاء في المدة الأخيرة، مقارنة يُجريها بين النظريات الفيزيائية المتعلقة بخلق العالم، والآيات من القرآن والأحاديث النبوية التي تتناول ذلك؛ فيجعل النظريات الفيزيائية أصلا غير قابل للشك فيه، بينما يعرض عليها نصوص الوحي، وكأنها هي المشكوك فيها. وهو لا يعلم بأنه -بعمله ذاك- لا يُنبئ إلا عن وجود مرض في قلبه (عقله)، في الغالب يكون مرده إلى بعض الآثار الناجمة عن معاملة المسلمين له، ممن يكونون من أهل السلطان في بلده، أو من القيادات الإسلامية التي خيبت ظنه في جماعته التي كان قد أسلم لها قياده، ظنا منه أنها على الحق الذي لا يُخالطه باطل، كما تزعم هي في نفسها. وهذه الآثار "النفسية"، لا يمكن أن تكون موقفا عقلانيا لصاحبها أبدا؛ وإن سعى هو إلى التماهي مع بعض مشاهير منظري الإلحاد في العالم؛ وتبقى في جميع أحوالها في الحقيقة احتيالا على النفس أولا، ثم على العامة الذين هم من الطبقة العقلية عينها ثانيا؛ لعلّه يجد ضمنهم من يستتبعه بحماقاته، فيصير عند نفسه إماما من أئمة الزمان!... ولو رجعنا إلى بعض نظريات الفيزياء المتعلقة بالخلق، والتي يجعلها الجهلة مستندا لإيمانهم بالعلم، فإننا سنقف على تهافتها من أول فحص. فنظرية "البيغ بانغ" -مثلا- لا تتجاوز شطرا من العالم المحسوس؛ وإن كان أصحابها يظنون أنهم يبحثون في أصل الوجود. ولقد أنطنا الكلام بشطر العالم المحسوس، لأن من العالم المحسوس ما لا ينضبط لحواس الإنسان، وبالتالي فهو يبقى لديه مجهولا وإن كان محسوسا؛ وهذا يدخل ضمن مسألة العتبة التي ينبغي اعتبارها في الحس، كما هو معلوم لأهلها. ومن كان يظن أن المحسوس كله معلوم، ولو بالآلات والوسائل الوسيطة، فهو جاهل جهلا بيّنا، يحسُن به أن يعود عنه من أجل موافقة العقل نفسه بشروطه. وأكبر دليل على ما نقول: عالم الجن، الذي يبقى عند من لم يُطلعه الله عليه منكَراً ومنسوبا إلى الخرافة، مع أنه حق لا مرية فيه!... وهذا يدخل في نسبية العلم أيضا، بحيث يكون ما هو معلوم لقوم مجهولا لآخرين؛ وثبوت الشيء لدى قوم وانتفاؤه لدى آخرين، لا يعطي للنافين الحق في النفي وهم يجهلون الطريق إلى ذلك العلم. ولو عدنا إلى نظرية "البيغ بانغ"، فإننا نجد أصحابها متوقفين توقف العاجزين عند نقطة البداية، فلا يدرون كيف يصفون ما قبلها: هل يكون عدما، والعدم لا ينشأ عنه شيء؟ أم يكون مرتبة غير الوجود والعدم، وهي لم تثبت لعقولهم. ويزيد من ورطتهم، توهمهم لـ "الزمكان" الذي قال به إنشتاين وغيره؛ فيظهر لهم التناقض بين نقطة البداية (الصفر)، التي ينبغي أن تكون بداية للزمان المندرج ضمن مفهوم الزمكان ذاته، وما ينبغي أن يكون سابقا على العالم (المادة) عقلا، ليكون علة له بحسبهم؛ ما دام العقل "العلمي" لا يتمكن من الخروج عن منطق العلة والمعلول أبدا (causality). وأما ما ينبغي على طالب الحق أن يعلمه عندنا، فهو عدم القطع بأن المادية هي الوجود؛ ونعني أنها مرتبة من مراتبه فحسب. لذلك، فما يخرج عن إدراك الحس، لا يُقطع بعدمه؛ وكل من يقع في هذا الالتباس، فعليه أن يعلم أن عقله سُفليّ تغلب عليه ظلمة الطبيعة؛ وأن ما يقول به لا يمكن اعتباره علما بحال من الأحوال، وإنما هو مظهر من مظاهر القصور العقلي لديه فحسب. وإن لم يكن الفيزيائيون والفلاسفة -في مقابِلهم أو معهم- قد جُنِّبوا الوقوع في الأغلاط المنهجية الكبرى، وفي التناقض العقلي، رغم حرصهم على التزام العقلانية والعلمية قدر وسعهم، فما الظن بالعامة الذين يُزج بهم في المسائل التي تفوق مستوى إدراكهم!... ومن هنا يتبدّى لنا أن هذا الذي يُقدَّم إلى العامة على أنه علم، ليس إلا مكرا من مكر الشياطين في الأزمنة المتأخرة على الخصوص؛ وأن "العلمية" و"العقلانية"، لا تعدوان أن تكونا من الإيمان بالطاغوت الذي يقابل الإيمان بالله فحسب. وعلى هذا، فعلى الخائضين في هذه المسائل، أن يعيدوا النظر فيها بعد أن يحققوا طريق العلم ووسائله، وبعد أن يتخلصوا من هيمنة الأيديولوجيا المقدَّمة لهم في صورة العلم. هذا، لكي يُجنبوا أنفسهم الوقوع في الحماقات، وإن بقوا في المستوى المعاشي (السفلي) من العقول. ومن هنا حكم الشرع على العامي المؤمن بالنجاة، على عكس المفكر المتجاوز للحقائق، والخارج بذلك عن حدود العلم. وعلى الناس أن يعلموا أن كثيرا من المعدودين في العقلاء، يكونون من أهل النار في الآخرة؛ وأن كثيرا من البُلْه يكونون من أهل الجنة. فالنجاة لم تكن أبدا -كما يتوهم العامة- منوطة بالمرتبة العقلية المجردة!... جاء في الحديث النبوي الشريف: «أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ!»، وأدرج فيه بعضهم: "وأعلى عليين لأولي الألباب"، وهو معنى صحيح معتبر. ولا بأس هنا من التنبيه إلى ضرورة التمييز بين مدلول السعادة عند الفلاسفة، ومدلولها في الشريعة؛ لأننا نرى أن المعنى الفلسفي الدنيوي القاصر، قد طغى على المعنى الشرعي الذي هو أولى في الاعتبار. نقول هو أولى في الاعتبار، لا لأنه ديني بالمعنى العامي، كما هو مـُدرك لدى المتأثرين بالأيديولوجيات الهدامة؛ ولكن لأنه موافق للحق، كما هو في نفسه؛ أي بالمعنى الديني الموافق للعلم في الحقيقة!... |