انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني Translated
Sheikh's Books |
2018/10/28
العمل الإسلامي ... - 6 -
خلافة الضرار عندما نرجع إلى تنظيرات جل الإسلاميين، فإننا نجدها تدور في غالبيتها حول محور الخلافة، الذي لا يستطيع أحد من أهل الدين الطعن فيه؛ إلا من انساق وراء النموذج الثقافي الغربي من المفكرين، الذين يسعون إلى إقامة الدولة الحديثة العالمية، معتقدين -كما يعلنون- أن الخلافة نظام تاريخي وليد حقبته، ولا يمكن جعله نموذجا دائم الصلوح. والحقيقة هي أن الخلافة لا تعدو أن تكون نظام الحكم الإسلامي ذاته، الذي كان ينبغي أن لا يغيب إدراكه عن علماء الدين، من جهة خصوصيته التي تتجاوز ما يعلمون من ظاهر الأحكام الشرعية العامة. ولكن، وبسبب الجهل العام بأصول الدين المحددة لمعالمه وتوجهاته، فقد وقع الجهل بنظام الحكم الإسلامي أيضا، بما هو نظام خاص يقع ضمن الحكم الوجودي العام (ربوبية العالم)؛ وهذا منذ القرن الأول. ولقد صار هذا الجهل يتعاظم مع مرور الزمان واندراس معالم الدين عامة، إلى أن وصلنا فيه إلى الحد الذي عدنا معه نستلهم النماذج الكفرية، لعلها تحد من انحدارنا المتزايد. وما التعلق بالديمقراطية الشوهاء، إلا وجه من وجوه هذا الفقر الحضاري الجلي. ولما قام الإسلاميون يبغون إصلاح ما فسد في تصور نظام الحكم، لم يتنكروا للخلافة بما هي نظام حكم؛ ولكنهم لجهلهم بها من جهة، ولخلطها بما ليس منها (الديمقراطية) من جهة أخرى، فإنهم لا هم بقوا على موافقة مجتمعاتهم في الخبط الذي يخبطون؛ ولا هم اجتازوا بها إلى صحيح العلم والمعاملة، حتى نشهد لهم بالفلاح فيما تصدوا له. والخلافة كما رأيناها في الفصل السابق، أساسها الشق الغيبي الذي يكون فيه الخليفة واسطة بين العباد وربهم([1]). والإسلاميون من كونهم لا يُجاوزون مرتبة الأعراب في الغالب (مرتبة الإسلام)، فإنهم يجهلون هذا الوجه الذي للخلافة جهلا تاما؛ بل إن جلهم يتنكر له ولا يقبله؛ خصوصا إن كان على العقيدة التيمية التي تراه قدحا في "التوحيد" بحسبها. ومن كانت هذه حاله من الجهل بالخلافة، فكيف يدعو إليها أو يكون من مقيميها؟!.. ولم يكتف الإسلاميون بجهل شطر الخلافة الأعظم، وإنما خلطوا الفقه السياسي الشرعي بالفكر السياسي العالمي المفتوح، لنجد أنفسنا أمام نموذج غير قابل للتطبيق في الحقيقة في أي مكان من العالم. فالديمقراطية التي يدعون إليها -إما عن اقتناع وإما عن مداورة للأنظمة القائمة- لا يمكن أن تتحقق إلا في بيئة كفرية خالصة؛ والتدين الذي ما زالت معالمه ماثلة لدى المجتمعات على ضعفه، لن يسمح بعيش الديمقراطية كما يراها أهلها. وبالتالي، فإن حال التجاذب والتمزق، سيبقى مستصحَبا إلى ما شاء الله فينا؛ حتى إنّ منّا من قد ألفه ويخشى أن يفارقه... ولولا هذا التنافي بين الإسلام والديمقراطية -لو تفطن الإسلاميون- ما كان متطرفو العلمانيين يسعون إلى القضاء على الدين قضاء تاما. فهم -على الأقل- منسجمون مع مبادئهم، ولا يرمون إلى الجمع بين المتناقضين كما يفعل الإسلاميون. ولقد سمعنا من بعض هؤلاء من غير واسطة، أن المجتمع الإسلامي ينبغي أن يكون منفتحا على كل التجارب العالمية بغية الاستفادة منها. يريدون أن يعملوا بالمبدأ الدجالي المتعمد للتسوية بين الحق والباطل، من دون أن يشعروا بمخالفة أصول دينهم، إن لم يكونوا فيها من الزاهدين. ولم يسأل هؤلاء المساكين أنفسهم: هل يعلمون أحكام الإسلام نفسه في هذا المجال، أم هم يرجمون بالغيب، ويجتهدون فيما لا اجتهاد فيه؟.. ولا سألوا: ما هي حدود القبول من الآخر المخالف؟.. أم سنكون منفتحين إلى آخر مدى؟.. وماذا يبقى من الدين عندئذ؟!.. والغريب أنهم مع هذا الخلط، لم يعودوا يخافون حتى على آخرتهم، وكأنهم لا يؤمنون بالآخرة!.. يتضح مما سبق، أن الإسلاميين يدعون إلى خلافة هم من وضعوا محدداتها، وإن كانوا في الحقيقة لم يُنتجوا شيئا ذا بال. بل إن حالهم (وجودهم) تعبير عن مرض جسد الأمة بأسره، كما تعبر الحمى عن مرض الأجسام البيولوجية الطبيعية. ولعل ما لا يُمكن إنكاره عليهم، ظاهر الخلافة المسمى في الشريعة مُلكا؛ والذي قد جاء ذكره في حديث الخلافة: «ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا؛ ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا»[2]. لكن ما يجهله الإسلاميون، هو أن المـُلك العاض والجبري لا يختلف عن معنى الخلافة الذي ينشدون. ولعل ذلك من توهمهم أن الفرق بين الخليفة والملِك هو "الحكم بما أنزل الله" كما يعلمون هم من أوامر الله ومما بلغهم من سير الخلفاء الماضين في الأمة. وهذا غير صحيح!.. بسبب عدم علمهم بحقيقة الحكم بما أنزل الله بالمعنى التام، الذي يشمل الغيب والشهادة معا؛ نعني من جهة الأمر والإرادة معا، بالإضافة إلى طاعة الباطن والظاهر المعلومة. وأما إن كانوا يتوهمون أنه لا بد للخليفة أن يكون منتخبا من قِبل الشعب، كما سمعنا ذلك من متأخريهم، فهو خلط لما هو من أحكام الدين، بما هو من شروط الديمقراطية؛ لأن الانتخاب بالطريقة المعروفة الآن، لم يدل عليه الدين؛ كما ليس مشروطا لأن يحوز الملِك (أو الرئيس) به الشرعية الدينية. أما البيعة التي ظنوا أن صورتها العصرية هي الانتخاب سابق الذكر، فهي غير ذلك؛ لأنها تشترط للمبايِع العلم بأحكام الحُكم؛ وهذا هو ما عبّر عنه الفقهاء بـصفة "أهل الحل والعقد" التي ظنوها تعنيهم وحدهم وتدل عليهم، بسبب جهلهم بالمراتب التي فوقهم. وأما البيعة العامة، فهي بيعة سمع وطاعة، أكثر مما هي تعاقد واشتراط (كما يُراد لها أن تُفهم فتلاقي التنظير الغربي للعقد الاجتماعي)؛ لأن العامة لا يُدركون من الحكم ما يؤهلهم لذلك. والله تعالى قد نهى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال في قوله سبحانه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، فكيف يمكّنهم من التصرف في الحكم وهو أعظم أثرا وأعم؟!.. وإن كل ما يُلقن للعوام من قِبل الإسلاميين، أو من قِبل الساسة الغربيين من قَبلهم، من كونهم (أي العوام) أساس كل حكم عادل، وأن موافقتهم لا بد هي مشروطة في كل ما تريد الدولة الإقدام عليه، وأنهم في المواطنة وحقوقها مساوون لكل الحكام حقيقة، فإنما هو تلاعب بعقول الضعفاء، واستتباع لهم برضاهم؛ لا يخرج بهذا التوصيف عن مخادعة الناس واستغفالهم اللذين سماهما الله استخفافا في قوله تعالى عن فرعون (وهو مثال الحاكم الطاغية): {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]. وكل من ينظر إلى السياسة في دول العالم اليوم، يجدها لا تخرج الآن عن هذا الصنف الشيطاني في غالبيتها. وإنما يقع الاختلاف بين الغرب (المتقدم) والشرق (المتخلف) في كون ساسة الغرب يُمارسون الخداع بقدر من الذكاء، يفرض عليهم أن يرفضوا النزول إلى المعاملات المتخلفة التي كانوا عليها في "القرون الوسطى"، بخلاف المسلمين العرب الذين صاروا ضُحكة العالم لبقائهم على الصور العتيقة للملك الجبري. وأما الإسلام من جهة السياسة والحكم، فلم تظهر مزيته إلا في عصر النبوة حصرا، ثم مع الخلفاء الأحد عشر الذين مضَوا؛ حيث يكون الحكم داخلا ضمن معنى الطاعة العام، وحيث يُشرف عليه عباد ربانيّون انتفى السوء من نفوسهم، وطهرهم الله تطهيرا. وأما ما يُزعم الآن في الدول المسلمة، فإنه في معظمه حكم بالهوى والمعصية؛ ومع التخلف الحضاري العام الذي يتبعه التخلف العقلي لدى الأفراد، فإننا وصلنا إلى حكم هو في ظاهره أسوأ من حكم الغربيين الكافرين. ينبغي أن نقول هذا، وأن نقر به، إن كنا نبغي تشخيصا سليما للوضعية التي نحن فيها. فإن قال قائل: فلم يحدث هذا، ونحن على الدين الحق؟.. وكيف يُتصوّر سبق الكافرين للمسلمين في هذا الأمر على أهميته؟.. قلنا: يحدث هذا، لأن الدنيا ليست دار قرار، بل دار امتحان؛ والمؤمن لا ينظر إلا إلى الآخرة في جميع أموره. ولما كان الحكم ظاهر الأثر في الدنيا دون الآخرة، فإنه قد أصابه من صفة الهوان التي لها. وعلى هذا، فإن اعتناء الإسلاميين بأمر الحكم اعتناء يصرف إليه القلوب، هو دلالة على ضعف الإيمان لا على قوته. ومن أراد أن تبلغ أموره الكمال هنا، فهو مخالف لمنطق الدين، طامع في وقوع المحال!.. فعلى العبد أن يعمل في جميع الظروف (الموافِقة المعينة والمخالِفة) بما يرضي الله عنه، وعلى قدر مستطاعه. وعلى جماعة المسلمين أن تتعاون على البر والتقوى، بحسب الوضعية التي هي فيها، مع تحدياتها ومعاكِساتها (الإكراهات)؛ لا أن يجدوا لأنفسهم العذر فيما هم فيه من تقهقر بقولهم: "لو كان حكامنا كالخلفاء الراشدين لتغيرت الحال منا، فنحن لا نجد عونا على ما نريد من طاعة ربنا، ومن خدمة ديننا". هذا القول وإن كان نفسيا باطنيا، لا ينفع أصحابه، وهيهات!.. لأنهم بدل أن يسعوا إلى الفوز في الامتحان، هم يستدركون على الممتحِن، وينتظرون منه سبحانه أن يُغيّر "أسئلة" (بتجوز) الامتحان. فما أحمق من يفعل هذا!.. وأما إن قال قائل: فهذه الصورة المخالفة للصورة الديمقراطية، والتي لا يُعتبر فيها عموم الناس، لا تجعل الحاكم يحكم برضى الشعب؛ وهذا يُدخله في الغصب!.. فإننا نقول: مفهوم الحكم في الشرع، ليس هو هذا الذي يُعرض الآن من قِبل الإسلاميين أو من غيرهم؛ لأن الحكم عندنا في الإسلام لله (أي بأمره وإرادته)، لا للشعب كما هو شأن الديمقراطية الكفرية. ولو تصوّرنا أن الحاكم -خليفة كان أو ملكا- يكون مطيعا لله في حكمه، وعموم الشعب لم يختره ولا هو راض عنه؛ فإنه يكون حاكما شرعيا، ولا يقدح فيه ذلك شيئا. ولا يهمنا هنا كيف وصل إلى المنصب، لكون ذلك مسألة أخرى تُتناول بأحكامها الخاصة بها. وعلى العكس من هذا، لو تصورنا حاكما يحظى بمحبة شعبه لسبب من الأسباب (كأن يُغدق عليهم المال)، ولكنه يخالف الشريعة في الحكم، فإنه يكون حاكما غير شرعي وعاصيا؛ والشعب على صفته ذاتها. فإن قيل: إن الشرع منع إمامة الإمام، والناس له كارهون؛ كما في حديث: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةً: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، و...»[3]، قلنا: إنما ذلك إذا كان المكروه لأجله مما يعتبره الشرع، لا مما يكون من الهوى. وما أكثر ما يركب الإسلاميون الهوى!.. فإن اتضح هذا، فإننا نؤكد ما ذكرنا من أن شرعية الحاكم تُستمد عندنا من الله ودينه: من الله لأنه هو من يوليه سبحانه، بغض النظر عن موافقة الأمر للشريعة من جهة الظاهر، لكون الله لا يُسأل عما يفعل سبحانه، والتولية من فعل الله لا من فعل العباد بنص القرآن: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]. فلن نكذّب الله تعالى، ونصدق الغافلين الجاهلين من الكفار ومن المسلمين!.. نعوذ بالله من ذلك!.. وأما شرعية الحاكم من جهة الدين، فهي تتعلق بما هو فعله بصفته عبدا لله، عند توليه الحكم (وإن كان الله موليه بالمعنى المذكور آنفا)، وعند حكمه للناس. هذا هو معنى كون الحاكم شرعيا، لا غيره. وكل ما نسمعه من الإسلاميين في هذا المضمار، مما هو مخالف لما قلنا، فهو دخيل على أمتنا، ولا أصل له من ديننا؛ وبالتالي فلا يلزمنا. ونحن وإن كنا نرد على الإسلاميين بعض تنظيرهم، فإننا نستثني حسن البنا رحمه الله ومن على شاكلته، الذين كان دافعهم إلى الدعوة لإقامة الخلافة علمهم بالنموذج العثماني الذي كانوا شهودا على سقوطه. فباعثهم لم يكن علميا بحتا، ولا سياسيا بالمعنى المعروف الآن، ولكنه كان تاريخيا واجتماعيا وثقافيا شرعيا؛ يرومون منه الإبقاء على ما قد ألفوا. وهذا حجاب كبير (نعني حجاب إدراك الحقبة التي هو المرء فيها دون غيرها) من الحجب التي تحول دون صحيح الإدراك، يقع فيه جل الناس، لانحصار إدراكهم فيما يعيشون أو هو قريب منهم زمانا. ولولا هذا، لكان الناس يُدركون الإسلام في كل زمن على صورته الأصلية، ولانتفت الانحرافات المعلومة من التاريخ، والتي سببها اختلاف الحقب التاريخية بعضها عن بعض، كما تنتفي أيضا الحاجة إلى التجديد تبعا لذلك... ولنلاحظ هنا أن ما يبلغ الناس من تراث مكتوب، لا ينفع وحده في البقاء على الأصل، وإن اعتُني به من جهة الدراسة، لكون المعاينة أقوى من الخبر لدى العقول. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المعنى: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ»[4]... أما الإسلاميون المتأخرون، فقد خرجت الخلافة عندهم، حتى عن التصور العثماني، بسبب رسوخ الدولة القطرية في أذهانهم، وبُعدهم عن شروط الخلافة كما هي في نفسها. وهكذا صارت الخلافة لديهم نظاما يُخالف النظام القائم فحسب؛ لا من جهة المواصفات، لكونها لديهم شديدة الانبهام وشديدة المرونة؛ ولكن من جهة أشخاص مَن يلون الحكم على الخصوص. هذا لأنهم استحدثوا لأنفسهم شرعية تجعلهم أحق بالحكم من غيرهم؛ لا لشيء، إلا لأنهم يتمسحون ببعض آثار تدين، كاللحية (الوبرية) فيما يتعلق بالذكور، وغطاء الرأس فيما يعود للإناث؛ وبعض عبارات يميّزون أنفسهم بها، مما يُستعمل يوميا في العادة. فهم بهذا وحده، يرون لأنفسهم الأحقية بحكم الأمة؛ وكأن المسلمين في عمومهم جماعة بله لا يعقلون شيئا من أمور الدنيا ولا الدين... وجدير بنا أن نقرّ بأن كثيرا من الحكام الذين يبغي الإسلاميون الحلول محلهم، على ما قد يعتريهم من فساد، هم أفضل حالا منهم بالنظر إلى المحافظة على التوازنات العامة التي ينبغي أن تحكم المجتمعات. نقول هذا، حتى نُظهر عظم الانحراف لدى الإسلاميين، لا للمنافحة عن الحكام. ولو قُدّر للإسلاميين أن يحكموا البلدان كلها لمدة طويلة، لجعلوا الناس يكرهون الدين (لكون الناس لا يميّزون بينهم وبين الدين) ويسارعون إلى الكفر والإلحاد مسارعة. ولقد أخبرت بهذا أحد أعضاء جماعة التوحيد والإصلاح قبل أن يُنشئوا حزب العدالة والتنمية المغربي. قلت له: أنا أخشى وصولكم إلى الحكم، بأكثر مما أخشى الأحزاب المعروفة لدينا بتكالبها على الدنيا. فلما نظر إليّ كأنه يستغرب ما أقول أو يردّه عليّ متحديا، وقد كان من المتحمسين للمشروع "الإسلامي"؛ قلت له: أنتم ستجعلون الناس يكرهون الدين وينفرون منه، بسبب عدم تمكنكم من الحكم حقيقة بما يمليه الإسلام؛ فسكت. ومضت السنون، ورأينا كيف أن حزب العدالة والتنمية صار يخدم قوى الظلم الخارجية والداخلية، من غير استحياء... وبما أن "خلافة" الإسلاميين هي خلافة غير ما هي عند الله ورسوله، فإنها ستكون تنويعا جديدا فحسب، داخل صنف الملك الجبري، رغم الطلاء الديمقراطي الذي يرومون من ورائه اكتساب شرعية بعيدة المنال. وحتى رئاسة الجمهورية التي قد يظنها الجاهلون خلاف الملك، فإنها في نظر الشرع ملك ولا بد. وإننا ندعو هنا إلى العودة إلى الإطلاقات الشرعية في المصطلحات المستعملة في العلوم المتخصصة، من أجل تبيّن الأحكام بعد ذلك، في خطوة أولى نحو تحكيم الدين في شؤوننا كلها. وعلى هذا، فإن ما صار الإسلاميون يسمونه "شرعية الصندوق"، هو مبدأ ديمقراطي كما بيّنّا، ولا صلة له بالإسلام. وكل ما يقدّمه منظرو الإسلاميين بين يدي أطروحتهم في هذا الشأن، هو تلفيق لا ينطلي إلا على العوام الجاهلين، الذين يُراد استنفارهم لـ "غزوات الصناديق"، التي يرجون أن تكون الغلبة فيها لهم، بسبب كون الناس يحنون إلى النظام الإسلامي، وإن كانوا لا يعرفون طريقه ولا مواصفاته. وأما الأنظمة القائمة، فإنها تقبل من الإسلاميين الانخراط في "اللعبة الديمقراطية"، لأن الحكام من خبرتهم ودربتهم السياسية يعلمون أنهم سيتلطخون بتوابعها، من حرص على الترشح والفوز الذي يُدخل أصحابه في شتى صنوف المخالفات الشرعية، التي أقلها الكذب وتبذير المال في غير وجهه؛ إلى الحرص على الحفاظ على المناصب بعد نيلها، والذي يُصبح معه المرء أكثر شراسة وقبولا للدخول في المحرمات. وقد وقع هذا، وعاينه الناس؛ وخسر الإسلاميون من جرائه المكانة غير المستحقة التي كانت لهم في نظر عموم الشعوب. ونحن قد بدأنا نكتب في الفقه السياسي، ونبيّن مكانة الخلافة ومعالمها وما يتعلق بها من أحكام، منذ العقد والنصف من الزمان على أقل تقدير. وكنا نظن أن من الإسلاميين من سيتصل بنا لتكميل تصوره، أو لمناقشتنا فيما قد يستشكله من كلامنا، بما أننا قد صرنا نشاركهم التنظير مضطرين؛ فتبيّن لنا أن لا أحد منهم يهتم لما نقول من وجهه الشرعي، الذي قد يكون العبد بحسبه إما مطيعا لربه وإما عاصيا؛ وإنما همهم المضي قُدما، ليبقى خطابهم -على علاته- مقبولا لدى العوام، وليمكنهم من بلوغ غاياتهم الدنيوية وحدها. قد تبيّنا هذا ولمسناه لمسا، ونورده هنا شهادة لله على الملأ!.. ونحن ومن كوننا لا نشترط على الآخرين الدخول معنا في حوار لغاية نفسية والعياذ بالله، فإننا كنا سنفرح بفتح الحوار العلمي الهادف بينهم ومن يشاءون من الأطراف المؤهلة لخوض هذا الغمار؛ لأن ذلك سيدل على أن من المسلمين من يحرص على أمر دينه حقا... فإذا اتضح أنه لا خلافة يمكن أن تقوم على أيدي الإسلاميين، بل سيكون الحكم ملكا كما هو لدى الملوك والرؤساء الآن، رغم الاختلاف الطفيف في بعض المظاهر؛ وإذا اتضح أنهم لا يريدون خلافة لا يكونون هم على رأس الحكم فيها، مما يجعل شبهة حب الترؤس قائمة لديهم؛ فإننا سنخلص في أفضل الأحوال -ومع ما يتبع ذلك من تلاعب بعموم الأمة لا تُستبقى فيه الأنفس ولا الأموال- إلى أنهم يريدون إقامة خلافة ضرار، تحول دون إدراك المسلمين لخلافتهم الحق، ودون انتظارهم لصاحبها الموعود، الخليفة الثاني عشر، المهدي عليه السلام. بل لقد بلغ الأمر لدى المفكرين المتحررين من الإسلاميين، أن يُنكروا الخلافة من أصلها، ويصفوا من يتكلم عنها اليوم بأنه واقع تحت تحكم الخيال، ومعاكس لخط التاريخ الذي بلغ الغاية من التنظيرات السياسية عندما دعا إلى الدولة الحديثة العلمانية الإنسانية الليبرالية (نهاية التاريخ). ولقد استصحب منهم هذا الانحراف انحرافا آخر لا بد لهم منه، وهو القول بأن المهدي عليه السلام خرافة عامة وُجدت لدى الأمم السابقة كلها في صور مختلفة، والأمة الإسلامية ليست بدعا من هذه الأمم في ذلك. وكأن الأمة مقطوعة عن الحق، كما هي الأمم الأخرى!.. وكأنها لا مدد لها من نبيها صلى الله عليه وآله وسلم الآن!.. وصدق الله إذ يقول: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 19 - 22]. والخلافة إن صارت ضرارا، فإنها ستخدم النظام الدجالي علم الإسلاميون أم لم يعلموا؛ لأن الدجاليين لا يُمانعون من قيام نظام حكم يجمع بين النسبة للإسلام ادعاء ومخالفته عملا وتوجها؛ فهذا أفضل من نظام واضح النسبة جلي المعالم، يجعل تمييز الحق من الباطل أمرا محتملا. والنتائج مع اللبس والالتباس ستكون في صالح النظام الدجالي في جميع الأحوال، لسهولة الانتهاء بها إلى ما يُراد، ولو مع بعض الجهد. بل إننا لن نستغرب إقدام الدجاليين على إمداد الإسلاميين بالمال، وبكل ما هو ضروري لإقامة نظامهم بداية، ولمقاومة كل إصلاح حقيقي في الأمة بعد ذلك؛ بدءا من تصحيح المفاهيم وفق الشريعة والوحي، وانتهاء إلى فتح آفاق الترقي بالتزكية المشروعة أمام المسلمين. وإذا أصبح الإسلاميون دجاليي التوجه، إن لم يَصِر شطرهم دجاليي الانتماء بعد الدخول في المساومات، فأين سيقودون الأمة حينئذ؟.. وبأي ثمن؟!.. من أجل كل ما ذكرنا، كنا نحن نقول بعدم جواز الدخول في منازعة الحكم أهله؛ موافقين للحكم الشرعي الأصلي. كيف لا وقد أُخبرنا ببيعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبمَ كانت تتعلق!.. يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ»[5]. وهذه البيعة تلزم كل مسلم بعد الصحابة رضي الله عنهم، إلى قيام الساعة؛ مصداقا لقول الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]. فأين الإسلاميون من هذه البيعة، وهم ينازعون الحكام بأشد مما ينازعون أهواءهم والشيطان!.. وسنعود إن شاء الله إلى هذا الحديث بقليل من التفصيل في أوانه. ولو أن الإسلاميين كانوا يتبعون التوجيه النبوي في أمورهم، لعلموا أن الخليفة الخاتم سيكون خليفة تام الخلافة، بالمعنى الظاهر والباطن. ومعنى هذا أن الله هو من سيبعثه من كونه خليفة عنه، لا نائبا عن الأمة فحسب (خلافة الظاهر). وهذا يعني أن على الناس ترقب ظهوره، لا العمل على مشروع مواز بطريقتهم الديمقراطية، من أجل إيصال خليفة مزعوم إلى الحكم. وقبل مجيء هذا الخليفة الخاتم، فإن صاحب الخلافة الباطنة في جميع الأزمنة (كزماننا) يبقى غيبيا؛ ومع هذا الصنف من الخلفاء لا مجال للخوض في الخلافة، ما دامت من هذا الوجه اختصاصا ربانيا صرفا. وكل ما يتبقى بعد ما ذكرنا، هو أن يتعاون الناس فيما بينهم على البر والتقوى، كل بحسب مكانته ومقدرته، حكاما ومحكومين. فإن أصر الإسلاميون على ما هم عليه، فإننا سنعلم عندئذ أن خليفة الزمان الغيبي هو من يريد ذلك منهم، لحكمة يعلمها الله. ونحن على كل حال نسلم لله فيما تجري به الأقدار!.. وما كلامنا هذا، إلا للتنبيه إلى الجانب العلمي الشرعي لهذه الأمور؛ لعل أن ينتفع بها أحد من المعنيين، أو يرتب على ضوئها امرؤ معلوماته، فيسهل عليه الإدراك لعموم المشهد؛ فإن سلامة الإدراك عندنا أهم من العمل الذي لا نضمن عاقبته. لقد بلغنا عن حسن البنا رحمه الله، بعد علمه بالآثار الوخيمة لدخول غمار السياسة باسم الدين على قصور، أنه تمنى أن لو يعود به الزمن إلى أيام "المأثورات"، التي كان يعمل فيها على تربية النفوس على الإسلام بما هو متيقَّن. فهذه الحقبة من عمر جماعة الإخوان، كانت أفضل حقبها من غير شك، وإن كانت فيها على تبرك لا على سلوك (بالمعنى الصوفي). وإن كل الرجال (بالمقارنة إلى غيرهم) الذين عرفتهم الجماعة، كانوا ثمارا لتلك التربية خاصة. فلما جاء المنظرون المستعجلون، الذين غرهم عدد المنتسبين، مرت الجماعة إلى السرعة القصوى في سبيل الوصول إلى الحكم، فكانت هذه الحوادث المتتالية التي ذهب ضحيتها كثيرون من خيرة الرجال والنساء؛ نحسبهم... ونحن بمخالفتنا للإسلاميين في تعريف الخلافة أولا، ثم في طريقة العمل لها ثانيا، لا نريد أن نقرّ الحكام القائمين في مختلف البلدان الإسلامية على ما هم عليه كله؛ لأن كثيرا مما هم عليه، هو مخالف للشريعة أصلا وفرعا. وكنا نرجو لو بقي الإسلاميون على نصح الحكام ودعوتهم إلى الحق، من دون أن يسعوا إلى منافستهم والإطاحة بهم. فإن هذا قد نزع عنهم جلباب الورع الديني، بتطرُّق الشك والتهمة إليهم؛ وأعطى للحكام نوع شرعية في مواجهتهم وقمعهم، بسبب شبهة الخروج، وإن كنا نحن نرى أن لا خروج بالمعنى التام إلا على خليفة. وفيما عدا هذا، فهي فتن متلاطمة يضرب بعضها بعضا، بعيدا عن كل حكم شرعي. فهؤلاء جميعا هم كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ.»[6]. وعلى هذا، فإن استنفار الإسلاميين الناس للقيام على الحكام، هو في معظمه مخالف للشريعة وسبب عظيم من أسباب الفتنة، نرجو أن يتوقفوا عنه، وأن يتوبوا. وإذا كان الله قد نهى عن إعمار مسجد الضرار بقوله سبحانه: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، فما القول بالعمل لخلافة الضرار، بما لذلك من أسوأ الأثر على الأمة جمعاء!.. [1] . تأمل ما نذكره، مع قول القائلين بإسقاط الوسائط، وانظر كيف سدوا على أنفسهم باب المعرفة من أول قدم. وأما التنظيرات التي يقدمونها من أجل ذلك ويجعلونها توحيدا بحسب الزعم، فلا تعدو أن تكون تخرصات سفهاء، وإن ادعوا العقل. والخوض في ذلك كله من البدع التي استُحدثت في الدين، فكانت نتيجتها فتنة للمسلمين فحسب. [2] . أخرجه أحمد في مسنده عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. [3] . أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه. [4] . أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن حبان في صحيحه، مع زيادة: «قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: إِنَّ قَوْمَكَ صَنَعُوا كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا يُبَالِ؛ فَلَمَّا عَايَنَ، أَلْقَى الأَلْوَاحَ.» [5] . متفق عليه [6] . أخرجه بن ماجة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. |