انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2024/02/14
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (17).1.
الفصل السادس عشر: شيء من الإسكاتولوجيا
الإسكاتولوجيا، هو علم آخر الزمان؛ وهو إن كان معلوما في بعض جزئياته، لليهود والنصارى، فإنه يكاد يكون مخصوصا بالأمة المحمدية. وذلك لأن الأمة المحمدية هي آخر الأمم في الترتيب القدَري الإلهي، وبالتبع فهي أقرب صلة بالوحي الإلهي، وأكثر علما به؛ من كون خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم، قد أوضح من أمور آخر الزمان، ما لم يُسبق إليه. وكيف لا، وهو عليه السلام، القائل: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ، كَهَاتَيْنِ! (وَقَرَنَ بيْنَ إِصْبَعَيْهِ: السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى)»[1]. فهو عليه السلام أولى الناس بالكلام عن الساعة، كما هو واضح. وأما أمته، عليه السلام، فهي آخر أمة، ليس بينها وبين الساعة شيء؛ لذلك هي معنية بها وبعلمها. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّما أَجَلُكُمْ في أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الأُمَمِ، ما بيْنَ صَلَاةِ العَصْرِ إِلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَإنَّما مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا، فَقالَ: مَن يَعْمَلُ لِي إِلى نِصْفِ النَّهَارِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ إلى نِصْفِ النَّهَارِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؛ ثُمَّ قالَ: مَنْ يَعْمَلُ لي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلى صَلَاةِ العَصْرِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلى صَلَاةِ العَصْرِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؛ ثُمَّ قالَ: مَنْ يَعْمَلُ لي مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ علَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ؟ أَلَا، فَأَنْتُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، علَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلَا لَكُمُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ. فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً! قالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شيئًا؟ قالوا: لَا. قالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ...»[2]. وهذا الحديث، يدلّ على أن الدنيا يوم واحد عند الله، كما أن البرزخ يوم واحد، وكما أن الآخرة يوم واحد، غير أنه لا ينتهي. ولقد اختصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمم في ثلاث، لأن الأمم السابقة على اليهود مندرجة فيهم اعتبارا، من أجل اختصار الكلام؛ وهذا، لأن الوقت بين الصبح والظهيرة طويل نسبيا. فختم اليهود النصف الأول من اليوم الدنيوي، واقتسمنا نحن والنصارى النصف الثاني منه. فكان وقتنا من العصر إلى المغرب، والمغرب هنا هو قيام الساعة. فدل هذا على أننا معنيون بأحوال آخر الزمان أكثر من غيرنا، مع مصاحبة اليهود والنصارى لنا وجودا، لا حكما؛ بما أن زمنيهما التشريعييْن قد انتهيا، كما هو جلي من ألفاظ الحديث. وأما القيراط فهو الجزء من الدينار أو الدرهم، ومعنى "قيراط قيراط"، أي لكل عامل قيراط؛ ومعنى قيراطيْن قيراطيْن"، أي لكل عامل قيراطان. وواضح أن الأجر مضاعف، كما ورد في الحديث لفظا. وقد ردّ الله على المعترضين من اليهود والنصارى، بأنه قد جازاهم ما وعدهم، ولكنه يختص بفضله من يشاء سبحانه. وما نالت الأمة المحمدية هذا الفضل، إلا لأنها تفضل الأمم الأخرى من كونها تنتسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، في حين تنتسب الأمم الأخرى إليه، بواسطة أنبيائها. فنحن في مقابلة الأنبياء، لا في مقابلة الأمم!... ومن هنا، فإنه يكون كفر كلّ كتابي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، متضمنا لكفره بنبيه (رسوله)، حتما؛ علم أم لم يعلم. ويتضح من كلامنا، أن الوجود يدور على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه محبوب الله وسرّه الذاتي. فكل من اقترب إليه أو اتخذ سببا عنده، فإنه ينال حظا من العناية الإلهية الخاصة. وأما إن كان امرؤ يتساءل عن إناطة تفضيل الأمة المحمدية في الأجر بالمشيئة، فليعلم أن كل شيء عائد إلى المشيئة؛ وإنما اختُصّت هنا بالذكر، حسما للجدل، ليس غير... وسوف لن نجمع كل ما يتعلق بأحوال آخر الزمان هنا، لأن الكتاب لا يحتمل؛ ولكن سنذكر ما نراه من الأحاديث النبوية أصلا في المسألة، وسندخل في ذلك بشيء من التفصيل، بإذن الله، حتى يُحسن الناس التنزيل على واقعهم: 1. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتانِ عَظِيمَتانِ، يَكونُ بيْنَهُما مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُما واحِدَةٌ؛ وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبٌ مِن ثَلاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أنَّهُ رَسولُ اللَّهِ؛ وَحَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ؛ وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ؛ وَيَتَقارَبَ الزَّمانُ؛ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ؛ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ (وَهُوَ الْقَتْلُ)؛ وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمالُ فَيَفِيضَ، حتَّى يُهِمَّ رَبَّ المالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لا أَرَبَ لِي بِهِ؛ وَحَتَّى يَتَطاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيانِ؛ وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي مَكانَهُ! وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها، فَإِذا طَلَعَتْ وَرَآها النَّاسُ (يَعْنِي آمَنُوا) أجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا؛ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُما بيْنَهُما، فَلا يَتَبايَعانِهِ، وَلا يَطْوِيانِهِ؛ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بلَبَنِ لِقْحَتِهِ، فَلا يَطْعَمُهُ؛ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ، فَلا يَسْقِي فِيهِ؛ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ، إِلى فِيهِ فَلا يَطْعَمُها.»[3]: وقبل أن نبدأ في النظر إلى مفاصل الكلام النبوي الشريف، ينبغي أن نلاحظ أن الأمر يتعلّق في مجمله -وهو صدر الكلام- بحال أمة الإسلام؛ لأنها المعنية الأولى بالوحي، وإن كانت العلامات الأخيرة مشتركة وعامة. - قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتانِ عَظِيمَتانِ، يَكونُ بيْنَهُما مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُما واحِدَةٌ»: والفئة هنا، وكما يُفهم من السياق، هي مجموعة دول؛ والدعوة الواحدة، هي الملة. وإن نحن عدنا إلى واقع الأمة، فإننا سنجد الفئتيْن: الشيعة وأهل السنة؛ وسنجد الملة الإسلام. وقد يكون هذا الاقتتال بإيعاز من الولايات المتحدة وروسيا؛ وهما أيضا فئتان عظيمتان بالنظر إلى حلفيْهما؛ وملتهما واحدة في العموم وهي النصرانية. وإن عِظم المقتلة التي ستكون، راجع إلى الأسلحة المستعملة، والتي هي "أسلحة الدمار الشامل"، التي رأينا عيّنة صغيرة منها في حرب إسرائيل على غزة. ومن ينظر إلى الاحتقان الموجود بين الشيعة وأهل السنة، والذي يُغذَّى منذ قرون بالخرافة من الجانبيْن، يعلمْ أن الأمر سائر نحو مواجهة يرى كل طرف نفسه الطرف المـُحقّ فيها، ومن هنا كانت الدعوة واحدة؛ وهو -كما ذكرنا في كلام سابق- من قتال الباطل للباطل. ونعني أن القتال منوط بالباطل الذي لدى كل جانب، لا بالحق الجامع بينهما. وأما معاداة الولايات المتحدة لروسيا، فإنها خادمة للعداوة الداخلية للأمة الإسلامية فحسب. وأما إن سأل سائل: فلمَ لم يكن الحق معاديا للحق، كما يكون الباطل معاديا للباطل؟ فإننا نجيب: لأن الحق واحد، ووحدته دالة عليه؛ بخلاف الباطل الذي هو متعدد، والتعدد مفض إلى العداوة عند اشتداد الخلاف. وهذا هو أصل ما يشير إليه قول الله تعالى: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡ یَعۡدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ فكثّر الظلمات التي هي الباطل، وأفرد النور الذي هو الحق، وجعل هذه الطريقة في المقابلة دليلا على وحدانية الله، الذي لا ينبغي لعاقل أن يعدل به (أي أن يجعل له ندّا مساويا). وهنا ينبغي أن نذكر الدعوة التي لم يستجبها الله لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، والتي هي متعلقة بأن لا يجعل بأسها بينها. فإن تقرر هذا الأصل، فإنه علينا أن نعلم أنه لا بد أن يبلغ منتهاه في الشدة، ولن يكون ذلك إلا قُبيل الساعة، وإيذانا بنهاية عمر الدنيا([4]). ومن كان من ذوي الألباب، فإنه سيعود إلى المضاهاة بين العالم والإنسان التي أثبتناها في فصول سابقة، ليعلم أنه كما لعمر الإنسان الفرد نهاية؛ فكذلك لعمر العالم نهاية؛ ونهايته هي المسماة بالاصطلاح القرآني "الساعة". وقد قال الله تعالى فيها: {إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَـَٔاتِیَةٌ لَّا رَیۡبَ فِیهَا وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یُؤۡمِنُونَ} [غافر: 59]؛ ومعنى لا يؤمنون مزدوج: أحد وجوهه، لا يؤمنون مع ورود ذكره في القرآن؛ والثاني، لا يؤمنون بما تستنتجه العقول السليمة من حتمية نهاية العالم. وحتى لا يُفهم كلامنا على غير وجهه، فلْننبه إلى أننا لا نقصد بنهاية العالم، نهاية الحياة، فنكون موافقين للمعاني المرادة للكفار؛ ولكن نقصد نهاية عالم الدنيا، الذي هو المرحلة الأولى للحياة؛ وذلك عند انتقال جميع أفراد البشرية بالموت، إلى عالم البرزخ، الذي هو العالم الثاني الأوسط، بين الدنيا والآخرة. وإن عالم البرزخ يختلف عن عالم الدنيا المعروف بعموم التقييد فيه، وهذا يعني أنه (البرزخ) أكثر اتساعا من عالم الدنيا، وإن كان في نفسه ضيّقا بسبب البرزخية نفسها، التي هي كالخط الفاصل بين فضاءيْن، والتي تدل على أنه فاصل وجامع بين عالميْن. وسيبقى الناس (ومعهم الجن) في البرزخ إلى أن تنتهي مدته؛ ثم يغادره أهله إلى عالم الآخرة الذي سيخلقه الله، ليكون مقرا أبديا للمكلفين ومن معهم من غيرهم من المخلوقين. غير أن الآخرة تختلف عن البرزخ بعدم نهائيتها، وبكونها المرحلة المكتملة للحياة. يقول الله تعالى: {وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ} [العنكبوت: 64]؛ الحيوان: أي الحياة الحق. ولقد وصف الله الحياة الدنيا في هذه الآية باللهو واللعب، ليدل على نسبية الأمور فيها، التي تكون بالمقارنة إلى إطلاق الآخرة مقاربة للصفر. واللهو واللعب في الأفعال، هو العبث الدال على مقاربة الصفر في القيمة؛ غير أن لفظ العبث، الذي يُفهم منه شبه انعدام قيمته، يدل من جانب آخر، على انعدام الحكمة أيضا. والله سبحانه، منزه عن العبث، وهو القائل تعالى: {أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ عَبَثًا وَأَنَّكُمۡ إِلَیۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وبهذا، يتضح أن الحياة الدنيا لهو ولعب بالنظر إلينا، وعند اعتبار أحوالنا في الآخرة؛ لا في علم الله الذي يتنزه فعله عن العبث سبحانه. وإن كان الناس على علم بالدنيا بسبب ذوقهم لها، فإننا قد ذكرنا عن البرزخ أنه أكثر اتساعا منها نسبيا؛ وذلك لأنه محل بداية التنعيم والتعذيب، المنوط في ظاهر نسبته بالقبر، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الْقَبْرُ إِمّا رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النّارِ.»[5]. وهو يُشير إلى أن الجنة رياض، وأن النار حفر. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما بيْنَ بَيْتي ومِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي علَى حَوْضِي.»[6]؛ ويقول الله تعالى، في معرض امتنانه على المؤمنين: {وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ} [آل عمران: 103]. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القبر أيضا: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجا (العبد) مِنْهُ، فَما بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَما بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ.»[7]. وكل الأخبار الواردة عن القبر، لا تدل إلا عن كونه برزخا؛ أي محلا لنتيجة أعمال الدنيا، ومقدّمة (عيّنة) لأحوال الآخرة. ولا يطمع أحد أن يعلم أحوال القبر من الدنيا، لأن البرزخ بالنظر إلى عالم الدنيا غيب، لا يُطلع الله عليه المـُصطفيْن من عباده إلا كشفا. وأما أخذ العوام لمعنى القبر على القبر الترابي، فهو من باب تسمية الشيء بسببه. وبهذا، يبقى القبر المعهود، بابا ومدخلا إلى القبر الغيبي فحسب... ولنعد إلى ما كنا بصدده من مقارنة بين الدنيا والبرزخ والآخرة، حتى يخرج القارئون لكلامنا بما ينفعهم في آخرتهم بإذن الله. وقد قلنا عن الدنيا إنها محل التقييد بالنظر إلى البرزخ؛ لكنها أيضا بالنظر إليه محل الاختلاط؛ فهي لا تصفو لأحد من الأبرار أو من الأشرار. فالأبرار لا بد لهم في دنياهم من أن يصيبهم السوء ولو بقدر ما، والأشرار لا بد من أن ينالهم من الخير، ولو بقدر ما؛ أما البرزخ، فإن الأحوال قد بدأت فيه بالانقسام، بحيث ينفصل فيه المؤمنون عن الكافرين، والمطيعون عن العاصين. وأما الآخرة، فإنها محل الانقسام التام، بانقسام الدار؛ فالآخرة ليست آخرة واحدة إلا في الاعتبار العام، وإلا فإنها آخرتان على التحقيق: إحداهما الجنة والثانية النار. والجنة في حق المؤمنين هي دار الإطلاق، عند مقارنتها بأحوالهم في دنياهم وبرزخهم؛ وأما أهل النار فهم أهل التقييد التام، أو لنقل هم أهل إطلاق التقييد في المقابل (نهاية تقييد التقييد). كما أن الجنة هي مظاهر أسماء الجمال كلها، المعلومة من الدنيا، والتي سيتجلّى الله بها لعباده الأخيار في الآخرة، إتماما لنعمته عليهم؛ في حين أن النار ستكون محلا لتجلّي أسماء الجلال كلها، المعلومة من الدنيا، والتي سيتجلّى الله بها على عباده الأشرار، من باب زيادة العذاب عليهم وإعلاما لهم بطلاقة قدرته سبحانه. ومن لم يعلم الآخرة على هذا الانقسام التام، والفصل العام، فإنه لن يعلمها على حقيقتها. وأما ما يتعلق فيها بمدة الحساب، فإنه بالمقارنة إلى ما لا نهاية يبقى مساويا للصفر؛ ولا اعتبار له إلا في عقول المـُحاسبين بالنظر إلى أحوالهم فحسب. ومن عاد إلى القرآن، فإنه سيجده بالكلام عن أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، يُرسّخ هذا المعنى؛ لكن من بداية إدراكه من الدنيا عند الاختلاط، لمن كان على الصراط المستقيم. أما من بقي مشتتا، لا يعلم من حقيقة الدنيا شيئا، فليعلم أنه ما لامس معاني القرآن!... وهنا ينبغي أن نتوقف عند ما يُسمّيه البعض "العلوم الدنيوية"، كالفيزياء وغيرها، ولنسأل: هل أصحاب هذه العلوم يعلمون الدنيا؟ فنجيب: لا؛ فيأتي السؤال الثاني: فما الذي يعلمونه، وهم على علم كما ذُكر؟ قلنا: هم يعلمون أوهاما يمدّ لهم الله فيها، عند انصرافهم عنه؛ وهذا كله من قدرة الله. ولنسأل سؤالا معاكسا، لنتحقق مما ذكرنا: فهل يبقى لأولئك العلماء من علم، بعد حلول الموت بهم، المفني لعالمهم؟ فنجيب: لا يبقى لهم منه شيء. والآن: من لا يبقى معه شيء مما كان يظنه علما، هل يُسمى ما كان عليه علما حقيقة؟ والجواب بالتأكيد هو: لا. وإن نحن عدنا إلى وصف الله لهذه الحال، فإننا سنجده في قوله تعالى: {وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَعۡمَـٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِیعَةٍ یَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَاۤءً حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَهُۥ لَمۡ یَجِدۡهُ شَیۡـًٔا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ} [النور: 39]. والعلوم التي كنا بصددها، هي من بين أعمال الكفار التي لن يجدوها شيئا. ونحن عندما نجد المسلمين منبهرين بحال الكفار، ونجدهم معظمين لأحوالهم، فإننا نعجب من أمرهم: كيف يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!... وكيف يتطلعون إلى الظلمة، ويزهدون في النور؟!... ولكنه آخر الزمان، الذي تقتدي الأمة المحمدية فيه بالأمم الكتابية!... - «وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبٌ مِن ثَلاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أنَّهُ رَسولُ اللَّهِ»: ومعنى حتى يُبعث: أي حتى يزعم أنه بُعث. ودعوى الرسالة هذه، لا يُعتبر منها إلا ما كان قُبيل الساعة، لا كل من ادعاها ما بين عصر التابعين إلى ما قبل خروج الدجال. وهذا، لأن أمر العلامات الكبرى للساعة عظيم، وهي لهولها تستخرج مكنونات نفوس الناس رغما عنهم؛ بحيث إن من كان ينطوي على دعوى النبوة، فإنها تخرج منه قهرا، ولا يتمكن من كتمها. ولا يزعم العبد أنه رسول الله، حتى يكون قد صار متبعا للشيطان اتباعا تاما، يأمره وينهاه؛ وأما من كان أقل من ذلك، فإنها لن تصدر عنه هذه المعصية الكبرى. وانحصار العدد في قرابة الثلاثين، من مئات الملايين، لا يدل إلا على أن أصحاب هذه الدعوى الكاذبة قليلون. ولن يبلغ هذه المكانة في الخذلان، إلا من كان قد تحلل من أركان الإيمان والإسلام تحللا تاما، مع الفسوق المستشري في الناس، والمتعاظم مع الأيام، إلى أن يجد نفسه فارغا من أدنى بصيص من نور؛ فيتولاه إبليس بوحيه يوجهه ذات اليمين وذات الشمال، ليكون دجالا صغيرا، حتى إذا انضاف إلى نظرائه من الدّجّالين، خرجوا إلى الناس كأنهم طليعة دجالهم الكبير؛ لأنه -لعنه الله- يريد ألا يخرج إلى الناس إلا وحوله بطانة تكون له كالوزراء والمستشارين. وهذا، لأنه على صورة ملك يخرج، ومنتظروه من اليهود، ينتظرونه على هذه الصورة. وإن كان الثلاثون دجالا سيدّعون أنهم رسل الله، فهذا يعني أن الدجال المركزي، سيدّعي الربوبية رأسا. ولو سأل سائل: كيف سيصدّق شطر من الناس أنه الرب، وهو مخلوق ناقص (أعور)؟ فإننا نجيب: إن الناس، والسفهاء منهم على الخصوص، يكونون قد اعتادوا الكلام في العقائد، ويكونون قد عُلّموا ذلك عن طريق الشياطين التي تظهر على وسائل الإعلام؛ حتى يصير ذلك عندهم من أسهل الأمور، ويصير منوطا بالرأي بعيدا عن العلم؛ وحتى يجد الناس السفيه ذا رأي في ربه، وهو يشترط عليه أن يكون كذا وكذا (من الصفات)، حتى يكون أهلا في نظره لأن يعبده. ولقد سمعنا كثيرا من هذا الصنف في زماننا، قد بدأ يُعلن عن نفسه، ويرى ذلك حقا له؛ وكأن الأمر قد انعكس لديه (بل هو انعكس)، إلى الحد الذي صار العبد يجلس مكانه، وينتظر أن يأتيه ربه وهو يسأله سؤال افتقار أن يرتضيه ويُنصّبه عليه وعلى أمثاله من الحمقى!... ولو لم نسمع بآذاننا مقالة هذا الصنف، ما كنا نصدق أن العمه قد يبلغ ببعض الناس هذا المبلغ!... وما علم هؤلاء أن الله غني عن العالمين، ولا صدقوه عندما أخبر بذلك في كلامه. يقول الله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ} [آل عمران: 97]، ويقول سبحانه: {وَمَن جَـٰهَدَ فَإِنَّمَا یُجَـٰهِدُ لِنَفۡسِهِۦۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ} [العنكبوت: 6]؛ والمعنى هو أن الله غني عن كفر الكافرين، كما هو غني عن إيمان المؤمنين، والناس هم الفقراء، لا هو سبحانه. يقول تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَاۤءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ} [فاطر: 15]، ويقول سبحانه: {وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِیُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَاۤءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡا۟ یَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَیۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا یَكُونُوۤا۟ أَمۡثَـٰلَكُم} [محمد: 38]. والمعنى هو: إن لم تكونوا مدركين لفقركم إلى ربكم، ولغناه عنكم سبحانه، فهو في قدرته أن يستبدلكم، ويأتي بقوم خير منكم. يقول الله في الحديث القدسي: «... يا عِبادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغوا نَفْعي فَتَنْفَعوني؛ يا عِبادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كانوا عَلى أَتْقى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنْكُمْ، ما زادَ ذَلِكَ في مُلْكي شَيْئًا؛ يا عِبادي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كانوا عَلى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنْكُمْ، ما نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكي شَيْئًا...»[8]. ولو سأل سائل، سؤالا ما كان ينبغي أن نتجاوزه، وهو: لِمَ زعم قوم هم على الكفر، أنهم رُسل الله؟... والمنطق يقتضي، أن من كفر بالألوهية، فلا محل لأن يؤمن بالرسالة وهي تابعة لها في المرتبة؟... فنقول: ليس الأمر هنا بالمنطق، وإلا كان الناس على بعض خير. فالفلاسفة -مثلا- يؤمنون بوجود الإله، لكن لا أحد منهم سقط في ادّعاء الرسالة، بسبب صرامته المنطقية. أما هؤلاء، فإنهم يكفرون بالإله الحق، ويؤمنون بألوهية الشيطان، بعد تمكنه منهم واستحواذه على عقولهم؛ وإن زعموا في البداية أنهم يكفرون بالألوهية مطلقا. وقد صرنا نسمع هذا في زماننا عن قوم يُسمّون اللعين "حامل النور" (لوسيفر)، وينسبون إليه خلق العالم؛ في إيمان مواز للإيمان الأصيل، فهو إذاً كفر من أكبر الكفر. بل وصاروا يضعون -من شدة اقتراب زمان ظهور خليفته- اسمه أو رموزا له على وثائق هامة وعامة... ولقد بدأ ميل شطر من الناس إلى الدجال، مع ميلهم إلى الشيطان نفسه؛ وذلك منذ قرون عديدة. فنجد اليهود قد انفصلوا عن التوحيد الموسويّ منذ دخولهم في الشرك، كما في سفر أيوب وغيره من الأسفار التوراتية التي كتبت بعد السبي البابلي؛ والتي يظهر فيها الشيطان بصورة واضحة بصفته كائنا خارقا للطبيعة، مستقلا عن الله، ومتحديًا ومصارعا له (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا). وفي وقت لاحق، رفضت اليهودية الحاخامية كتب "إنوشيان"، التي كُتبت خلال فترة الهيكل الثاني، تحت التأثير الفارسي، والتي صورت الشيطان كائنا مستقلا، مخصوصا بالشر إلى جانب الله؛ وهو الشرك بعينه المماثل لصلب المجوسية. ثم انفصل النصارى عن التوحيد المسيحي أيضا، عندما أنكر بعضهم وجود الشيطان، أو عندما جعلوه خالقا لعالم الدنيا المادي، في اختلاف عجيب. وقد وقع منهم هذا، عندما تأثروا بالغنوصية الشرقية، وصاغوا دينهم صياغة فكرية جديدة قاصرة. بل نضيف على هذا، بأن كثيرا من المسلمين مشركون بالشيطان، ومنهم ربما فقهاء يُعلّمون الناس الدين؛ وذلك عندما ينسبون إليه أفعال الشر نسبة حقيقية، بينما هي نسبة شرعية فحسب، في مقابل أفعال الخير التي ينسبونها إلى الله نسبة شرعية فحسب، من دون أن يُميّزوا. ونحن نقول بهذا، لأن الأفعال كلها تُنسب إلى الله من جهة الحقيقة؛ وأما الشريعة فتُراعي الأدب مع الله في ظاهرها. ومن لم يكن له علم بباطنها، فإنه يخرج إلى الشرك بالشريعة ذاتها، وهو يظن أنه على خير؛ فيكون ممن أضلهم الله على علم. ومن هنا كان الناس يحتاجون إلى شيوخ التربية الصادقين، ليدلّوهم على التوحيد الجامع بين ظاهر الشريعة وباطنها؛ ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون حاجتهم إليهم، بسبب انطماس البصائر. وهذا الشرك هو ما وقعت فيه اليهود والنصارى من قبل([9]) نفسه، ولا شك أنه من آثار دخول جحر الضب في المعنى، والذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِراعًا بِذِراعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ؛ قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، آلْيَهودُ وَالنَّصارى؟ قال: فَمَن؟!»[10]. وقد قال المفسرون، إن جحر الضب قد خُصّ بالذكر، لأنه أنتن الجحور؛ وفي نَتْنه إشارة إلى نجاسة الشرك، بلا شك. فلا أبلغ من كلام النبوة، لمن كان على عقل!... - «وَحَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ»: ومعنى يُقبض: ينحسر ويقل. وهذا قد صرنا نلمسه لمسا: فعلماء الدين الذين كان يُرجى منهم أن يكونوا على شطر من العلم، قد أظلمت قلوبهم (إلا قليلا منهم)، وصاروا لا يُدركون إلا المادة؛ حتى صاروا يُشبهون في تديّنهم اليهود الذين لا يعقلون من ثمار الدين إلا ما كان ماديا. وقد بلغ بهم (اليهود) الأمر إلى الحد الذي لا يرون فيه الجنة إلا في الدنيا، وهم عندما ينتظرون بعث الأموات، فإنهم ينتظرون عودتهم إلى الدنيا. وهذا عمى عن معاني الدين، ليس بعده عمى!... ولكنّ الناس حتى يرضوا عن أنفسهم، وتهنأ لهم دنياهم، فإنهم لن يقبلوا أن يُقِرّوا على أنفسهم بأنهم بعداء عن العلم، خصوصا إن كانوا معدودين من العلماء عند العامة؛ لذلك سيلجأون إلى التلبيس في الأقوال والأحوال، ليبرهنوا لأنفسهم بأنهم علماء؛ وليس ذلك إلا بدراسة المقولات العلمية المختلفة، وباختيار ما يُناسب منها لحالهم، ليجعلوه عقائد يعملون عليها. وإن أخص صفة لهؤلاء العلماء الكذبة: جراءتهم على الله ورسوله، بسبب ظلمة قلوبهم؛ وإعجاب الواحد منهم بنفسه، إن أحسن تركيب جملة غير مفيدة؛ وانتصارهم لأنفسهم أمام مجادليهم بكل ما يستطيعون. وللقارئ الآن أن يسأل: كيف سيكون حال العوام الذين يكونون أتباعا لعلماء السوء؟ فنجيب: ألا يرى الناس كيف صيّرهم علماؤهم أحزابا وشيعا، قابلين لخوض المعارك من أجل "شيوخهم"، بينما لا تتحرك لهم شعرةٌ غيرةً على حرمات الله!... ولقد كانت هذه الحال، من أول ما لاحظنا على بعض علماء دمشق، عندما نزلنا بها؛ فعلمنا أن الخطب عظيم، وأنه لا محالة جالب لبلاء شديد؛ فكان من ذلك البلاء ما كان، وعسى الله أن يتوب على من تاب، ليعودوا إلى صحيح الدين... - «وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ»: والزلازل معروفة، وهي الحركة التي تحدث في طبقات الأرض، والتي ينجم عنها هدم المساكن والطرقات، وغيرُ ذلك من الآفات. وقد أصبح ضعفاء الإيمان، ينسبونها إلى الطبيعة، في كفر جليّ بفعل الله في الكون. وإن علم العبد أن الزلزال فعل الله، فإنه لا بد أن يتصوّر له حكمة، من مثل غضب الله على أهل الأرض المزلزلة. يقول الله تعالى تأييدا لهذا المذهب: {فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍ یَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِینَ} [القصص: 81]، وهذا بعد أن قال سبحانه: {إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ} [القصص: 76]، وذكر من سوء أحواله ما ذكر، ليجعلنا نفهم أن الخسف كان عقوبة له على أفعاله؛ وهذا هو الذي يليق بأفعال الله. وأما عموم الزلازل عندما يأمر الله ملائكته بها، الصالحَ والطالح، فهو من الحكمة الإلهية أيضا؛ وذلك لأن الدنيا دار ابتلاء واختلاط، فإن تتبعت العقوبة أهلها وحدهم، فإن ذلك يصير كاشفا لحقيقة الإيمان والكفر، فلا يبقى أحد وقتها إلا آمن؛ والله لا يشاء ذلك؛ وهذا يُشبه ما سيقع عند طلوع الشمس من المغرب، كما سيأتي. وعلى كل حال، فإن الزلازل قد كثرت في زماننا، ولكن الناس -خصوصا أهل الإعلام- يعزونها إلى الطبيعة، وهو جهل منهم، وربما قد يكون كفرا. فليحذر على نفسه، من كان يرجو الله واليوم الآخر!... وحتى لا نُجاوز هذا المعنى، من دون إعانة للمؤمنين على تبيّن الحق فيه، فإننا نقول: إن الطبيعة التي يتعلق بها المخذولون، لا وجود لها في الأعيان؛ بل هي معنى كلي، مستنبط من النظر في الأجسام الطبيعية جميعا. والمعنى الكلي، لا يُنسب إليه فعل إلا مجازا، لأنه في المرتبة الثانية في البعد عن الفعل. ونعني من هذا، أن من يُشرك بشيء يرى الفعل يصدر عنه صورة، كما ينسب القتل إلى القاتل، والشفاء إلى الدواء، يكون على شرك أصغر ممن ينسب الفعل إلى معنى لا يشهد الفعل ملازما له بعينه. فإن قيل: إنه يشهده بعقله، والعقل أقوى في الاعتبار من العين، بدليل اعتبار علم الأكمه، مع عدم شهوده لشيء من المبصرات؛ فإننا نجيب: إن اعتبار الشهود العقلي، يكون عند إحكام النظر العقلي، بحيث يشهد العقل فعلا ما ناتجا عن فاعل معنوي ما؛ وأما الطبيعة، فإنه يُنسب إليها الفعل من غير شهود، لكونها معنى كليا. والمعنى الكلي، لا يكون عنه شيء بالمباشرة، وإلا خرج من المعنى الكلي إلى التعيّن المعنوي. وهذا، لا يقع فيه إلا ضعاف العقول!... وزلازل الظاهر، لا تقع حتى تقع زلازل الباطن، المتعلّقة بالقلوب؛ وهي الفتن المعروضة عليها. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْداءُ؛ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَها، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حَتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا، فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دَامَتِ السَّمَاواتُ وَالْأَرْضُ؛ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا؛ إِلَّا ما أُشْرِبَ مِنْ هَواهُ.»[11]. وهذا يُبيّن أن أثر الفتن معنوي في أصله، وأن ما كان من الفتن حسيا، لا بد أن يعود إلى معناه؛ لأن نهايتها إلى القلوب وأثرها فيها. وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرض الفتن على عموم القلوب، هو لتحقّق الامتحان؛ والامتحان لا يكون امتحانا إلا إذا عم. فإذا عمّ انقسم الناس بإزائه صنفيْن، لا ثالث لهما: صنف يرفضها بما جعل الله فيه من هداية، فيصير أبيض خاليا من السوء، فيثبّته الله على حاله، بحيث لا تضره الفتن بعد ذلك أبدا. وقلب يتشرّبها، فيُصيبه من سوادها؛ حتى إذا اشتد سواده، أُصيب بالعمه، فلا يعود يميّز بين معروف ومنكر؛ وهذا هو الذي يصدق عليه وصف المفتون حقيقة، من كونه سقط صريعا لها. وقد صار صنف المفتونين في زماننا كثرة، يوالي بعضهم بعضا، فيتوهمون بذلك أنهم على الصواب. ورأينا صفتهم البارزة، وهي عدم معرفتهم للمعروف، وعدم إنكارهم للمنكر؛ فهم يسيرون وفق أهوائهم، وكأن الله لم يُنزل شيئا مِن عنده مِن الهدى. وهؤلاء لا يعتبرون بفتنة، بل يصيرون من هلكاها، إلى أن يأتي عليهم اليوم الذي تُغلق فيه أبواب التوبة في وجوههم. وحتى يميّز الناس حال السوء، فعليهم أن لا يتوهموا أن المفتونين سيظهرون في صورة المجانين الذين لا يعتنون بمظاهرهم؛ لأنهم سيكونون مجانين، لكن من جهة العقل وحده. وأما من جهة المظاهر، فإنهم سيبدون محترمين، ومن أصحاب المكانة في مجتمعاتهم، ليفتتن بهم غيرُهم. وأما تواطؤهم فيما بينهم على الباطل، حتى يجعلوه عقلانية يشترطونها على غيرهم، فهو من بلوغهم النهاية في السوء، لا من كونهم معتبرين عند الله وعند المؤمنين!... وإن أغلب ما يقع من الزلازل، يكون نتيجة للخوض في العقائد بغير علم؛ وقد رأينا في زماننا سفهاء يتكلمون في كل ما يعرض لهم، فيعلقون فيما يتقحّمون، كما يعلق الذباب في خيوط العنكبوت؛ ويلحق بعضهم ببعض في العلوق، حتى يصيروا جماعة من الهلكى يحومون حول مقولة بعينها، يجعلونها مذهبا. ونحن رغم نهيِنا عن خوض العامة في العقائد وتفاصيلها، قصد تجنيبهم السوء، فإن كثيرا منهم وجدناهم مصرّين على ما هم عليه؛ ولهم أئمة في هذا السوء، يشدون من عضدهم ويُثبّتونهم في الفتن. ولو رمنا ذكر كل ما سمعناه من المنكرات، لاحتجنا في ذلك إلى كتابة العديد من المجلّدات في هذا المجال وحده... - «وَيَتَقارَبَ الزَّمانُ»: يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ.»[12]. وهذا الانطباع، سيحدث للناس من كثرة الأحداث في أيامهم. فالذين مضوا في القرون الماضية، كانوا يشتغلون بأمر واحد في الغالب، في يومهم؛ وبهذا يمتاز اليوم عن أخيه، وتتوالى الأيام وهي محافظة على تمايُزها؛ أما في زماننا، فالناس ينشغلون بعشرات أو بمئات الأمور في اليوم الواحد؛ وهكذا يفقد اليوم معالمه، ليُصبح وكأنه يحتوي أياما كثيرة، فيُعطي ذلك الشعورَ بِقصره؛ خصوصا عند بقاء أمور كان العبد يريد أن يقوم بها، فإذا به لا يبلغها. والانطباع المفضي إلى الشعور بقصر الزمان وتقاربه، هو ما يجعل بعض العاملين يجلسون أمام "الكومبيوترات" النهار والليل بطولهما، هناك يأكلون ويشربون وينامون؛ وهي سمة مخصوصة بهذا العصر وما سيليه من العصور، بل ما بعده أشد!... ومن كان عيْشه على هذه الشاكلة، فإنه سيبقى على جهل كبير، بالأمور التي كانت تُعلم بالمباشرة حيث هي، أو بالملاحظة؛ كالأعمال في الحقول، وفي المعامل التي كان الصّنّاع يعتمدون فيها على الخبرة اليدوية. وهكذا سيكون من نتائج تقارب الزمان، اندماج الأعمال، لتصبح في النهاية أعمالا قليلة متشابهة، أو عملا واحدا متنوعا. وعلى قدر هذا ينحسر العقل لدى الإنسان، حتى لا يبقى إلا مـُنجِزا لعمل مخصوص به؛ في مقابل جهله بغيره جهلا لا أكبر منه. ومن هؤلاء، من لا يجد وقتا ليتدبر عيشه ذاته، بله أن يتفكر في مصدره ومعاده!... حتى إذا سمع كلاما عن ربه، ربما لم يُميّزه من شدة ضيق عقله... - «وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ»: ومعنى ظهور الفتن: شيوعها وبروزها؛ لأن الدنيا لم تخل من فتن منذ خلقها الله، ولكن الفتن في آخر الزمان ستشتد وتحيط بالناس، حتى تصير لهم كالظرف؛ وتصير مشهودة لأنها ستعلو الحسّ. وهذا يعني كثرة صنوفها، حتى إن نجا العبد من بعضها، بقيت وطأة غيرها تلاحقه؛ إلى أن يخلص لأحد الطرفيْن المذكوريْن آنفا: أصحاب القلوب النقية، وأصحاب القلوب الدّنِسة. ثم إن كل صنف، ينقسم إلى صنوف، مختلفة المظاهر، ومتعددة المشارب؛ حتى إن من نجا من أحدها، لم ينج من غيره إلا بفضل من الله. ونعني من هذا، أن من رأى الفتن، وحال المفتونين معها، فإنه سيقطع بهلاكهم جميعا من جهة العقل؛ لأن أسباب النجاة قليلة وغير متَّبَعة، إما لضعف عام، وإما لجهل كبير. ولكن الله مع هذا، ينجي بعض عباده بمشيئته، فيجعل لهم سبلا إلى الهداية من وراء عقولهم، أو يمنحهم في عقولهم من النور ما يتبيّنون به الطريق، فتكون نهايتهم إلى خير رغم صعوبة الحال. يقول الله تعالى في مثل هذه الهداية: {أَوَمَن كَانَ مَیۡتًا فَأَحۡیَیۡنَـٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورًا یَمۡشِی بِهِۦ فِی ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ لَیۡسَ بِخَارِجٍ مِّنۡهَاۚ كَذَ ٰلِكَ زُیِّنَ لِلۡكَـٰفِرِینَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ} [الأنعام: 122]. والمراد من قول الله تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَیۡتًا}: أي من كان في حكم الميت، في النظر العقلي، مقطوعا بهلاكه. {فَأَحۡیَیۡنَـٰهُ}: أي فبعثناه من غفلته، فالحياة هنا معنوية في مقابل موت معنوي. {وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورًا یَمۡشِی بِهِۦ فِی ٱلنَّاسِ}: أي جعلناه على بصيرة، يتبيّن كيف يوالي ويعادي، بعد أن يكون قد تخلّص من الهوى الذي يجعله تابعا للجماعة التي تكون على ذلك الصنف من الهوى. وفي المقابل يذكر الله تعالى من يسقط صريع الفتن، فيصفه بكونه في الظلمات ليس بخارج منها. وهذا الصنف الذي تُحيط به الظلمات، من علامته، أنه لا يعلم أنه وسط الظلمات ومحاط بها؛ وربما قد تجده ممن يُحسن الظن بنفسه، ويطمئن إلى حاله، مع أن الناظر إليه يفرَق مما يرى، ويكاد -لهول ذلك- يُفارق جفنيْه الكرى... وحكم الله على من اكتنفته الظلمات بعدم الخروج منها، هو ختمه على قلبه بنتيجة افتتانه، إن كان قد ألفها وأعجبه مقامه فيها لسببٍ مما ذكرنا، أو مما لم نذكر. وأما من بقي مستجيرا بربه، لاجئا إليه، فإنه لا يخاف على نفسه بإذن الله. وذلك لأن الله أكرم من أن يُخيّب عبدا لجأ إليه!... ومن حافظ على هذا الأصل، فإنه سيكون له كالبشارة بالنجاة في زمن الفتن!... ومن معاني ظهور الفتن، غلبتها؛ كقولنا: ظهر المسلمون على الكافرين، إذا غلبوهم. وهذا يشير إلى اشتداد الفتن، إلى الحد الذي لا يبقى معه أمل لأحد في النجاة بحسب ما يُعطي القياس؛ ولكن كما قلنا، العبرة في مثل هذه الأحوال، لا باستطاعة الإنسان أو عدمها، ولكن بصدق اللّجوء إلى الله فحسب. وكل هذا، يحدث في الدنيا، بسبب اقتراب الساعة التي هي بدايةٌ للآخرة. ونعني أن هبوب ريح الآخرة على الدنيا، يجعل الأمور تنفعل لأحكام الآخرة، أكثر من انفعالها لأحكام الدنيا، بسبب القرب. فمثلا، كان يُعوّل في السابق من أجل النجاة على إحسان الأعمال والاجتهاد فيها؛ أما عند ظهور الفتن فإن التعويل يصير على الله وحده، ومن دون نظر إلى سبب؛ وإن كانت الأسباب لا ترتفع بالكلّيّة. وهذا الباب من أبواب العلم مستقل، هو في العلوم أيضا كالبرزخ، وفيه من الأسرار التي لم نر لها ذكرا لدى علماء الدين المترسّمين، ما الله به عليم؛ ولولا مخافة الإطالة، لجئنا من القرآن ذاته، بما يؤكّد المرة بعد الأخرى ما ذهبنا إليه. وعلى كل حال، فليس المطلوب من المؤمن الآن فهم ما نقول، ولكن المطلوب العمل به؛ لأن الوقت لا يتسع للفهم، وقد صار تقارُب الزمان في تزايد... - «وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ»: والهرج كما فسره النبي صلى الله عليه وآله وسلم: القتل. ولا يكثر القتل، حتى يُستهان بقدر النفس البشرية، وتكون وسائله عامة. وهذه الاستهانة، هي من علامات الجهل الأكبر، الذي يكون عليه شطر من المتأخرين. ومن يتأمل في التاريخ، فإنه سيرى القتل -على العموم- يفشو مع التقدّم في الزمان؛ إلى أن وصلنا إلى زمن يُقتل الناس فيه بالأعداد الكبيرة في الضربة الواحدة. وهذا يعني أنه صار يُنظر إلى الناس بالجملة، لا أفرادا؛ وكأنهم قطعان حيوانات، أو مجموعة مـُقتنيات. وهذا دليل واضح على غياب معنى الإنسانية، رغم التغنّي بها، وجعلها بالزعم غاية الغايات عند الدجّاليّين. ولولا قصد الشياطين إلى التلبيس، وخوفهم من تنبّه بعض الناس إلى حقيقة الحال، ما أعلوا من ذكر الإنسانية، ولا من سواها من المعاني الأصلية؛ لأنهم على عبادة للشيطان من جهة نظرهم خالصة. وعندما نقول المعاني الأصلية، فإننا نعني أننا لا نفهم من الإنسانية اليوم، ما كان يُفهم منها في السابق؛ لأنها اليوم، قد فقدت معناها، وصارت في أفضل الأحوال تعني حيوانية الإنسان؛ وأما في أسوئها فإنها تعني الشيطنة كما أسلفنا الإشارة. ولن يكثر القتل، حتى توجد أسلحة "الدمار الشامل"، التي لا تقتل الواحد بعد الواحد؛ وإنما قد تمحو الألوف في الضربة الواحدة، وربما الملايين؛ كما هي الحال مع الأسلحة النووية. وهذا يعني، أن ظهور هذا الصنف من الأسلحة، هو نفسه علامة من علامات الساعة. وأما توهّم الدول (أو الأشخاص) الذين يحوزون هذه الأسلحة الفتاكة، بأنهم على سبب من أسباب النصر، فهو بعيد. وهذا، لأن ارتداد آثار هذه الأسلحة على أصحابها، يكاد يكون متيقَّنا. ولو نظرنا إلى بناء أغنياء العالم اليوم للملاجئ تحت الأرض، بالمواصفات التي يُتوقّع أن تحميهم من الانفجارات النووية، لأزمنة طويلة (عشرات السنين)؛ لعرفنا الاتجاه الذي تتجه إليه البشرية. وببلوغ أثر هذه الأسلحة الفتاكة، إلى الهواء والماء والتربة، فإنها تكون قاتلة لكل حياة تبلغها؛ وهو ما سيجعل الواقع يتغيّر تغيُّرا كبيرا، إن كان ما يزال في عمر الدنيا بقية... - «وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمالُ فَيَفِيضَ، حتَّى يُهِمَّ رَبَّ المالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لا أَرَبَ لِي بِهِ»: والكلام يدل على أن الناس سيخرجون من صورة الاقتصاد المعتادة، إلى صورة جديدة، تُفقد النقود المعهودة قيمتها. وقد بدأنا نطالع ملامح اقتصاد تنتفي فيه النقود الواقعية، لتحل محلها النقود الافتراضية. وبدأنا نطالع سياسات دولية، تريد أن توفّر حاجات الناس، بالقدر الذي يحفظ التراتب الطبقيّ الذي لديها؛ من دون أن تمكّن الطبقات الدنيا من تملّك شيء. وقد عبر بعضهم عن هذه الحال بقوله لسامعيه: "سوف لن تملكوا شيئا، وستكونون راضين!". وإن بلغ الناس هذه الحال، فلا شك أن صاحب المال إذا أخرج صدقته (إن كان به حنين إلى سابق العهد)، فإنه لن يجد أحدا يقبلها. والعبارة النبوية الواردة في الحديث: "لا أَرَبَ لِي بِهِ"، تدل دلالة واضحة، على أن المال يكون قد فقد قيمته، إلى الحد الذي يُصبح وجوده وعدمه سواء. وهذا، لأننا نعلم من الواقع المعيش، أن صاحب المال، لا يكتفي منه، وإن بلغ ماله ما بلغ!... فبقي أنه لا تخريج للمعنى إلا على الوجه الذي ذكرنا. وهذا يعني أن العيش يكون قد اختلف تماما، ولم يبق للناس مما كان معلوما لأسلافهم، إلا الشيء القليل، من وراء الآلات "الذكية" والنظارات الافتراضية. - «وَحَتَّى يَتَطاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيانِ»: وهذا قد أصبحنا نراه عيانا، وأصبحت الدول تتسابق في بناء أعلى برج؛ وكأن الحضارة مقياسها بالأمتار!... وإنّ تكاثر "ناطحات السحاب"، سيغيّر من معالم المدن، ويُغيّر من وسائل التنقل فيها. فمثلا، سيأتي الوقت الذي تُجعل الحدائق والمسابح في الأبراج (وقد بدأ ذلك يتحقق)، لتختفي من الساحات، بل ولتختفي الساحات نفسها. وستُبدّل سيارات الأجرة بطائرات للأجرة صغيرة، تسمح بالتنقل بين سطوح البنايات طيرانا، لتنقلب السطوح أرضية، ويحل النزول محل الصعود. كل هذا، يحدث بسبب الخلل الواقع في المعايير العقلية، التي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث أخرى، من مثل قوله عليه السلام: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَواتٌ خَدَّاعاتٌ: يُصَدَّقُ فيها الْكاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ؛ وَيُؤْتَمَنُ فيها الْخائِنُ، وَيُخَوَّنُ فيها الْأَمينُ؛ وَيَنْطِقُ فيها الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَما الرُّوَيْبِضَةُ؟ قالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ (يتكلم) في أمرِ العامَّةِ.»[13]. وهذا الحديث يبيّن مقدار الخلل الذي سيصيب المعايير، حين تنقلب الأمور إلى أضدادها، وحين يتكلم التافهون في السياسات العامة، ويخططون لمن هم أرجح عقلا منهم. وهذا يعني أن النتائج ستكون هدما لا بناء، وإفسادا لا إصلاحا، وإماتة لا إحياء... وهذا، حين تصبح الفتن يتولّد بعضها عن بعض، كما يتوالد الزرع عن الزرع... وإن بلوغ تطور العيش المادي، أطوارا تُصبح الحياة معه، شبيهة بحياة الجنة من حيث التيسير وقرب قضاء المآرب، سيجعل الناس يتوهمون أنهم متحكمون في الدنيا؛ وهذه هي علامة اقتراب فنائها. يقول الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا یَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَـٰمُ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَاۤ أَنَّهُمۡ قَـٰدِرُونَ عَلَیۡهَاۤ أَتَىٰهَاۤ أَمۡرُنَا لَیۡلًا أَوۡ نَهَارًا فَجَعَلۡنَـٰهَا حَصِیدًا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمٍ یَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]. وأما الحمقى الذين يظنون أن "تقدم" البشرية لا نهائي؛ وأنه منوط بالتقدم في العلوم المادية وحدها، بالنظر إلى الزمان، فإنهم أقل قدرا من أن يُلتفت إليهم. وقد يُقبل هذا النظر من غير المميّزين من المراهقين، عندما يُفتنون بأساتذة يُصرّون على تعليمهم ما يُحرّف إدراكهم؛ وأما إذا بلغوا سنّ التمييز، فإن أغلبهم يعود إلى صحيح الإدراك، بسبب عدم خضوع أمور الدنيا المختلفة في عمومها وفي تفاصيلها، للتنظيرات المـُختزِلة والقاصرة، والتي لا يكون أصحابها إلا من أهل الكفر؛ أي من أهل عمى البصيرة. ولقد صار عدم تبيين هذه الحقيقة الواضحة، سببا من أسباب الفتن في بلاد المسلمين، عندما سكت العلماء ونطق الجاهلون... - «وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي مَكانَهُ!»: وهذا يظهر من ضيق العيش الذي يصبح غير مطاق. وهو يستبطن لجوء كثير من الناس إلى الانتحار، عندما ينعدم الإيمان أو يضعف كثيرا. كل هذا، مع عدم وجود من يُشاطر المرء قسطا من عبئه، في أنانية طاغية، وتجاهل للغيرية؛ وهذا كله صرنا نراه في زماننا رأي العين. والسبب المباشر في بلوغ الناس هذا المبلغ، هو إيقاف العمل بالشريعة؛ لأن الشريعة وحدها، هي الحامية لحقوق المستضعفين، وهي مانعة الظالمين من العمل بأهوائهم في ظلمهم. فلما غاب هذا، صار المسلمون كحيوانات الغاب، يأكل منهم القوي الضعيف، ويسلب الكبير الصغير؛ والأزمة تشتد يوما عن يوم، إلى أن يُصبح الموت نعمة ينتظرها الأحياء... - «وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها، فَإِذا طَلَعَتْ وَرَآها النَّاسُ (يَعْنِي آمَنُوا) أجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْرًا»: يقول علماء الفلك: [يدخل النجم الطارق المجال الفضائي للأرض مما بين كوكب الزهرة والأرض؛ وتبعد الزهرة حوالي 30 مليون كلم عن الأرض في الوقت الحالي، وسيصل الطارق إلى أقرب مكان له من الأرض، ويبعد ما بين 15 و25 مليون كلم، ويكون ذلك من فوق المدار المجرّي بزاوية قدرها 32 درجة، من اتجاه الشمال الشرقي. ونظرا لدورانه عكس دوران الأرض، يكون قطبه الشمالي مكان الجنوبي والعكس، مما يعني أن القطب الشمالي للنجم الطارق سيكون موجها إلى القطب الشمالي للأرض؛ وهو ما ينتج عنه تنافر القطبين. وقد بدأ ذلك بالفعل سنة 2011م، وهو في ازدياد مستمر. وعند وصوله إلى حد بعينه، سيبدأ في دفع الأرض وهي في حالة التنافر، فيتسبب في حدوث زلازل شديدة، وتغيرات عنيفة في الطقس. وبسبب مجاله المغناطيسي وحركته العكسية، ستنشط جميع البراكين في الأرض، ثم تنفجر نتيجة للتأثير الذي يسببه على مركز الكرة الأرضية، وهو يُشبه تأثير موجات "المايكروويف" إذا سُلّطت على مركز الأرض، والذي سيزيد من ارتفاع درجة حرارتها. وتبدأ الأرض في الميل، ومعه يتحرك القطب الشمالي للأرض، حتى يصل الى الجنوب الغربي، وتبدأ هنا الأرض في التباطؤ إلى أن تقف عن الدوران في مدة ستة أيام. ثم تثبت الأرض على هذا الوضع ثلاثة أيام تكون ليلا في المغرب ونهارا في المشرق. وعند وصول القطب الشمالي للأرض إلى أقصى موضع في الجنوب، ستبدأ الحركة العكسية للأرض، وتطلع الشمس من مغربها. ثم يجذب القطب الشمالي للطارق القطب الجنوبي للأرض -بسبب التجاذب الذي بين الأقطاب المتعاكسة- جذبة قوية، وهو ما يُسمّى التغير القطبي. ويكون مقدار زاوية الجذبة 45 درجة بالتمام. وعند ذلك تبدأ الكرة الأرضية، في الدوران العكسي مرة أخرى، لترجع إلى طبيعتها الأولى...]. ونحن إنما نورد هنا كلام الفلكيين من باب الاستئناس، وإلا فإننا لا نقيّد أفعال الله بشيء، حتى يُظهرها هو سبحانه بما شاء وكما شاء... ومن جهة ارتباط الأمور بعضها ببعض، فإن أحوال الناس تكون قد انعكست على التمام، بحيث يُصبح المعروف منكرا، والمنكر معروفا، كما أسلفنا؛ وهذا هو ما ينتج عنه انقلاب حركة دوران الأرض حقيقة. فإذا وقع ذلك، أدرك الناس حقيقة حالهم، فكان نتيجة ذلك طلوع شمس إيمانهم، من مغرب كفرهم. وهو أوان إغلاق باب التوبة، كما أخبر الله تعالى بقوله: {هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَوۡ یَأۡتِیَ رَبُّكَ أَوۡ یَأۡتِیَ بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَۗ یَوۡمَ یَأۡتِی بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَ لَا یَنفَعُ نَفۡسًا إِیمَـٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِیۤ إِیمَـٰنِهَا خَیۡرًاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوۤا۟ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام: 158]. وإن كون تغيّر اتجاه دوران الأرض سببا في إيمان الكافر، هو من انكسار حجاب العادة في عينه؛ فإذا ارتفع حجاب العادة، أبصر الناس الأمر على حقيقته؛ وهذا يُشبه ما يقع عند رؤية الناس للمعجزات. لكن الفرق، هو أن مخالفة العادة من دوران الأرض، يكون مشهودا للجميع، فيعطي نتيجة عامة في الناس، وهي إيمان مَن لم يكن قد آمن. ولكن الله قد أخبر بأنه لا يقبل إيمان المؤمن يومئذ، لأنه سيكون إيمانا عن شهود؛ والإيمان لا يكون إيمانا إلا بالغيب، وهو محل الابتلاء. يقول الله تعالى: {ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ} [البقرة: 3]. وهذا هو سبب ربط الله لإتيان الآيات، بعدم نفع الإيمان، في الآية السابقة. وأما قوله تعالى: {لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِیۤ إِیمَـٰنِهَا خَیۡرًاۗ}، فيعني لا ينفعها إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل، الإيمان المعلوم الآن؛ وكانت قد عملت بمقتضى ذلك الإيمان خيرا يُحسب لها. وهذا يعني أن حال المؤمنين لا يتغيّر عند طلوع الشمس من المغرب، لأنهم سيزدادون إيمانا، ويزدادون أعمالا صالحة. وإن عدم قبول إيمان الكافرين عند طلوع الشمس من المغرب، يمنع من تسوية حال المؤمن بحال الكافر؛ وذلك لأن إيمان الكافر لو قبل، فإنه سيجعله مندرجا في جماعة المؤمنين، وقد كان مفارقا لها. وهذا من باب قول الله تعالى: {أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ كَٱلۡمُجۡرِمِینَ . مَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ} [القلم: 35-36]. ومن هذا الباب، ينبغي على الناس أن يعلموا أن كل من يموت يؤمن، عند معاينة ما كان غيبا في سابق عهده. ولكن الله لن يقبل إيمانه، وبالتالي لن تتغير حقيقته عند اطلاعه على الغيوب الأخروية. ونستطيع القول بأنه لا يَرِد الآخرة إلا مؤمن: مؤمن إيمانا صحيحا، وافق فيه حاله الآخر أول حاله؛ ومؤمن عن اضطرار، بسبب رفع كثير من الحجب. وأهل النار أنفسهم، لن يبقى فيهم كافر واحد؛ ولكنهم مع ذلك سيُعذّبون عذابا أليما. ومن كان قد فهم ما نرمي إليه، فإنه سيعلم أن إيمان الاضطرار، لا يُسمّى إيمانا إلا مجازا؛ وإلا فإن صاحبه ما يزال على حقيقته التي كان عليها. ولو تصورنا، أن أهل النار يبقون على كفرهم، فهل يظن ظانّ أنهم سيتألمون ألما شديدا؟!... لا!... لأن كفرهم حينئذ سيرفع عنهم جُلّ العذاب، عند عدم علمهم لما فاتهم من الأحوال السَّنيّة ومن الأعمال الصالحة. وهذا الذي نذكره، من العلم بالآخرة، الذي يُنال من الدنيا، والذي سبقت منا الإشارة إليه... - «وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُما بيْنَهُما، فَلا يَتَبايَعانِهِ، وَلا يَطْوِيانِهِ؛ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بلَبَنِ لِقْحَتِهِ، فَلا يَطْعَمُهُ؛ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ، فَلا يَسْقِي فِيهِ؛ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ، إِلى فِيهِ فَلا يَطْعَمُها.»: والمعنى هو أن الساعة، التي هي أوان فناء الدنيا، يشبه الأمر فيها فصل الكهرباء عن الشاشة، فتنطفئ دفعة واحدة، وتختفي مظاهر المخلوقات لتعود صورها بعد انتقال جميع أفراد البشرية إلى البرزخ، إلى العدم. فإذا جاء أوان خلق الآخرة، فإن الله تعالى يخلق العالم خلقا جديدا، مناسبا لما تتطلبه الآخرة من دوام وعدم فساد؛ ثم يبعث الله العباد إلى الآخرة بالنفخة الثانية، ويُفني البرزخ؛ لتبقى الآخرة وحدها من بين العوالم الثلاثة، من كونها الغاية من الخلق كله، كما تبقى الفراشة بعد فناء صورة الدودة بعد خروجها من الشرنقة. وعالم الآخرة في هذه المرة، سيكون مرادا للإبقاء؛ وهو أمر يخرج عن إدراك أهل الدنيا، إلا من كان منهم من أهل الكشف، وشاء الله أن يُطلعه على بعض غيوبه. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عدة مرات عن مشاهد من الآخرة، عندما شاء الله أن يُطلعه عليها في عالم التمثيل. فقد أخبر أنس بن مالك رضي الله عنه: " أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ علَى المِنْبَرِ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ، وذَكَرَ أنَّ بيْنَ يَدَيْهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ ما دُمْتُ في مَقَامِي هَذا!». قالَ أنَسٌ: فأكْثَرَ النَّاسُ البُكَاءَ، وأَكْثَرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَقُولَ: «سَلُونِي!» فَقالَ أنَسٌ: فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقالَ: أَيْنَ مَدْخَلِي يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: «النَّارُ!»(مع أنه في الظاهر صحابي!). فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقالَ: مَنْ أَبِي يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ!» (وقد كان يُشك في أبيه). قالَ: ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: «سَلُونِي، سَلُونِي!». فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقالَ: رَضِينَا باللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسولًا. قالَ: فَسَكَتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ قالَ عُمَرُ ذَلِكَ، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا، في عُرْضِ هَذا الْحَائِطِ، وأَنَا أُصَلِّي؛ فَلَمْ أرَ كَاليَوْمِ في الْخَيْرِ وَالشَّرِّ!»[14]. ولو أن هذا الكتاب كان يتسع لبعض معاني هذا الحديث، لتناولناها؛ ولكن نرجئ ذلك إلى كتاب مناسب بإذن الله... (يتبع) [1] .أخرجه مسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. |