![]() انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني ![]() ![]()
Translated
Sheikh's Books |
![]()
2024/01/31
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (16)
الفصل الخامس عشر: بين الخرافة والاستراتيجيا
إن العمل السياسي ينبغي أن يخضع لمنطق مقبول، حتى يُنظر إليه بنظرة الاعتبار. والمنطق المقبول، هو ما ينتظم الفكر السياسي العالمي كله، لا ما يكون مجتزأ؛ وهذا، هو ما يبني عليه السياسيون سياساتهم في المنطلَق، وإن كانوا سرعان ما يخالفونه لاعتبارات ضيّقة. لكن هذه السياسة قد تكون قريبة المدى، وهو الغالب؛ وقد تكون بعيدة المدى، وهو ما يُصطلح عليه بالاستراتيجيا. وقد جعلنا نحن هنا الاستراتيجيا في مقابل الخرافة، لنبيّن أن الاستراتيجيا، ينبغي أن تكون عقلانية ولا بد. وإن مقصودنا من العقلانية هنا، ليس منوطا بالإنتاج العقلي، بقدر ما هو متعلّق بالقبول العقلي. أما الخرافة كالتي تعتمدها إسرائيل، أو تعتمدها حماس ومثيلاتها، وإن تفاوتت في الخرافية نفسها، بما يجعل الخرافة أيضا نسبية؛ فهي الأيديولوجيا في شطر منها. ونعني أن الخرافة هي المعتقدات التي تسميها إسرائيل دينية، وتسميها حماس دينية من وجه مقابل؛ وهو ما يجعل المواجهة، تكون بين خرافتيْن متفاوتتين في درجة الخرافية فحسب؛ وهذا رغم أن حماس تستند في الظاهر، إلى الدين الحق؛ لكن بفهم في مجمله خاطئ. وعندما تكون المواجهة بين خرافتيْن، فإنها تكون مرشحة للدوام؛ إلى أن يعود جانب من المعنيّين، إلى الحق الذي لا مرية فيه؛ فهناك يبدأ الميزان في الميل نحو هذه الجهة. ولقد سبق لنا في الفصول الأولى من هذا الكتاب، أن نبهنا إلى خطورة الوضع الافتراضي الذي يؤسسه العقل النظري، وذكرنا أنه في الغالب يحجب عن إدراك حقيقة ما يحدث في العالم. وهذه الآفة تصيب المفكرين من أبناء الإنسانية، الذين يتوهمون أن الأحداث تسير وفق المنطق العقلي. وعلى الرغم من أن النتائج تأتي في الغالب مخالفة لما توقعته العقول، فإن الناس لا يشعرون بحقيقة ما حدث، ويُرجعون ذلك التباين بين الافتراضي والواقع، إلى عدم ضبطهم لقواعد التفكر فحسب؛ أو إلى غياب معطيات، كان ينبغي أن يضمّوها إلى مقدماتهم. والحقيقة هي أن الأمر على غير هذا، وأنهم عندما يجدون تسويغات لمخالفة الأحداث لتوقعاتهم، يكونون مقيمين على الخطأ نفسه الذي كان سبب انحرافهم، والذي هو جعل العقل المرجع الأوحد فيما يقع؛ وهيهات!... وهنا نعود إلى المراتب العقلية التي كنا قد تناولناها في الفصول الأولى من هذا الكتاب، لنذكر أن السياسيين لا يكونون من الطبقة العليا العقلية دائما، وإنما يكونون في الغالب من مرتبة العوام المحترفين لها. والعوام لا يتمكنون من إدراك العالم على حقيقته، بل يدركون صورته التي في أذهانهم، بحسب الخرافة التي هي معتبرة لديهم، أو هي شائعة في مجتمعاتهم؛ فيجعلهم ذلك يعيشون من الناحية العقلية في عالم موازٍ، لا يلبثون أن يفيقوا فيه على ما يصدم وعيهم في كل مرة. وهنا نتبيّن أن أولئك الذين يتمسكون بالواقع المحسوس في زعمهم، هم لا يُدركونه على حقيقته؛ لأنهم لو أدركوا المحسوس، لارتقوا إلى العقول العليا. وهذه مسألة، يكثر فيها الغلط، ويقل فيها التمحيص؛ والواقع نفسه يشهد بأن تحقيقها لا يكون في متناول كل أحد. ولو عدنا إلى إسرائيل، لوجدنا سياسييها على الهيئة التي ذكرنا؛ يتصورون عالما مخصوصا بهم، يسير نحو غاية تناسبهم، ويُنكرون الحقائق التي حولهم والتي من بينها الشعب الفلسطيني؛ ويبنون صلات بالدول العالمية على أساس "الشيزوفرينيا" التي هم مصابون بها، إلى أن يُفيقوا في يوم من الأيام على مشهد مناقض لتصوراتهم، يدعوهم إلى مراجعتها كلها، إن كانت لهم بقية وقت ينتفعون بها. والمصيبة، هي أن شطرا من هؤلاء الخرافيين، يبقون مصرّين على ما هم عليه من اعتقادات، ويرفضون الواقع المحسوس الملموس الذي أمامهم، رغم مصادمته لاعتبارات من يكون في صفّهم، قبل أولئك الذين يكونون في الصف المواجه. وهذا من أعجب ما يقع للناس!... ولو أتيح للناس أن يروا صور العقول، ويروا مدى مطابقتها للأبدان الحالّة فيها، لرأوا في الغالب الناس منقسمين، لا ينجمع عقل الواحد منهم على بدنه ويطابقه، إلا في النادر من الحالات. وهذا ينبغي أن يكون كافيا، في تلمّس بعض أعراض ما سميناه "شيزوفرينيا" عقلية، يُصاب بها العقل الجمعي، ولا تُحسب من الأمراض؛ في مقابل الـ "شيزوفرينيا" التي يُصاب بها العقل الفردي... إن العقلانية الحق، تقتضي أن يعي المرء الواقع، وألا يتجاوزه إلى غيره؛ وهذا ليس من البراغماتية التي يلتزمها أنصاف العقلاء؛ لأن البراغماتية لا تعدو أن تكون اعتبار الأهواء التي يسمونها مصالح، في واقع هو أوسع في الصورة منها حتما. أما العقلانية التي نعني نحن، فهي اعتبار الواقع كما هو، من غير زيادة أو نقصان؛ وهذا الصنف من العقلانية ديني، لكن من مراتب الدين العليا، لا من المرتبة الدنيا. وقد علمتنا التجربة، أن جُلّ الناس، من اليمين ومن اليسار، يفرون من الواقع، ويعيشون في عتمة الخرافة، خصوصا إن وجدوا من نظرائهم، من يعينهم ويُشعرهم بأنهم عند موافقتهم لهم، إنما يُوافقون الحق. وهذا انطباع يكاد يسود جميع الناس؛ بل هو أساس جل اجتماعاتهم وتوافقاتهم العقدية والسياسية على التخصيص. وحتى من لا يكون على عقيدة مخصوصة، أو على رأي سياسي مخصوص، فإنه سينتسب إلى "حزب" الأغلبية، الذي يقوده الإعلام وتوجهه الإشاعات، إلى حيث يُراد له أن يسير. ويبقى الواقع الحق، المستحقّ للإدراك وحده، مجهولا على الرغم من كونه مرئيا وملموسا... وإن نحن عدنا إلى السياسة العالمية، ونظرنا -مثلا- إلى سياسات الولايات المتحدة، فإننا سنجدها خرافية إلى أقصى الحدود؛ رغم ما يزعمه أهلها من العلمية غير الممحصة. وذلك لأنها تضع تصورات بحسب رغباتها، لا بحسب المعطيات الصلبة؛ ونجدها تعامل العالم من حولها، وكأنه مجموعة بلهاء، تستغفلهم وهم ينظرون فاغري الأفواه. وتطغى عليها هذه التصورات المنحرفة، إلى أن تظن أنها في المركز كالشمس، وأن الدول الأخرى ينبغي أن تدور حولها، إن كانت تبغي تحصيل كمالها؛ مع أن هذا كله، لا يسنده لديها دليل من عقل أو واقع. وحتى تتضح الصورة أكثر، فلنسأل: أليس الفلاسفة في المجتمعات غير الدينية، هم أعقل الناس؟ فإن قيل: بلى؛ فهل يكون الفيلسوف محتالا أو لصّا؟... قلنا: كلا، من دون تردّد. وهذا يعني أن الدولة التي تعتمد في معاملاتها أساليب الاحتيال واللصوصية، لا يكون حكامها (على الأقل) عقلاء!... وهي (أي الولايات المتحدة)، بمساندتها غير المشروطة لإسرائيل، وإن كانت تظن أنها تعلم ما تفعل، تزيد من سوء حالها وحال حليفتها، عندما تؤكد لها أن خرافتها هي الواقع البديل؛ ليبقى الواقع الحق معزولا في جانب الإنكار والرفض. وإن كانت "الشيزوفرينيا" تُعالج أحيانا بتعديل كيمياء الدماغ، أو بعلاج المس الشيطاني ممن لهم دراية به؛ فإن الـ "شيزوفرينيا" السياسية للدول، والتي تتجلى أعراضها في السياسات العامة، ما وجدنا من يُشخّصها حتى يتمكن من علاجها فيما بعد؛ بل إننا قد نجد من يُساير تلك الدول السقيمة، إن هو حصّل نفعا منها، أو توقّى ضررا خَشِيه على نفسه. كل هذا، بحسب ما يتوهم هو أنه ما ينبغي أن يُعمل به، لا بحسب الواقع. ولو مثّلنا لهذا، لقلنا إن الدولة الأولى هي في موضع الطبيب، والثانية، في موضع المريض؛ غير أن هذا الطبيب، لا يعمل على علاج مريضه، وإنما يُوافقه على ما هو عليه، وكأنه على تمام عافيته. والسؤال الآن هو: هل يُعتبر ذلك الطبيب طبيبا بالمعنى المتعارف عليه من الكلمة؟ أم إن الأمر يعود في جملته ضربا من الهذيان الجماعي؟... ولكن علينا أن نسأل أنفسنا سؤالا آخر: هل تكون "الشيزوفرينيا" نفسها، معدودة من عناصر الواقع هي أيضا؟... فنجيب على الفور: نعم!... وهنا تتوقف العقول المنمطة عن السير، وقد تجد الأمر تناقضا، لا يُبقي على شيء من الفكر ولا يذر. ولكنّ الذي ينبغي التأكيد عليه، هو: هل نريد أن نعي الواقع كما هو، أم كما يحلو لنا أن نراه؟... وهذا، لأن الاختلاف في الرأي بين الناس، لا يدل على اختلاف الواقع المنظور إليه أبدا؛ بقدر ما يدل على اختلاف العقول في النظر. ومع أن هذا الأمر جليّ جدا، إلا أنه لا يحظى باهتمام لائق، بسبب سبق الهوى إلى الواجهة. يقول الله تعالى: {أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةً فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. وقول الله تعالى في الآية: {وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٍ}، يعني أن كل أصحاب الأهواء المختلفين يعلمون العلم الصحيح، من جهة حواسّهم؛ لكن الهوى العقلي يسبق فيُغطّي على البصيرة، فيضل المرء الناظر؛ وهذا يعني أن العقول لو منع الله عنها تحكم الأهواء، فإنها لن تختلف. ولو عرف الناس هذه الحقيقة، بصرف النظر عن التحقق بالتجرُّد عن الهوى، لاعتبروا الاختلاف الناشئ بينهم فرعا عن نظرهم لا أصلا له كما يظنّون؛ ولعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه، إما كثيرا وإما قليلا. ورفع هذا الاختلاف الناتج عن تحكم الأهواء، هو ما يُبشر الله عباده به في الآخرة، عندما يقول سبحانه: {وَلَیُبَیِّنَنَّ لَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ} [النحل: 92]. ولو لم يكن المختلَف فيه واحدا، ما أمكن رفع الاختلاف فيه في الآخرة؛ وهو ما يدل على أن الأمر في الدنيا أيضا يكون واحدا، لكن مع بقاء بلاء الاختلاف الناتج عن اختلاف الأهواء. وهذا الاختلاف، هو أساس كل صراع وكل حرب؛ وهو إن بقي من جهة العلم واحدا، فيعني أنه من جهة الحال مختلف؛ والحال يبقى منوطا باختلاف التجليات، لا باختلاف المتجلّي. وهذا مبحث واسع، يشمل كل ثابت وكل متغيّر في الوجود، ويستغرق كل المقولات من بدايتها إلى نهايتها؛ وهو كما لا يخفى، خارج عن إحاطة العقول بما هي عقول... وحتى نعود إلى أصل موضوعنا، فإنه سيتبيّن لنا أن الخرافة تكون نتيجة لاتباع الهوى، وأن الاستراتيجيا تكون ناتجة عن تحكيم العلم؛ وسنتبيّن أيضا أن الخرافة متعددة، في مقابل وحدة العلم. وهذه الخرافات المتعددة، هي ما سماه القرآن ظلمات (بصيغة الجمع)؛ في مقابل النور الذي هو غير متعدّد. يقول الله تعالى: {یَهۡدِی بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَ ٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ وَیُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰطٍ مُّسۡتَقِیمٍ} [المائدة: 16]. ولنتنبّه إلى كلمة "السلام" الواردة في الآية، والتي تدل على أن السلام لا يُبلغ إلا بعد خروج الناس عن تحكم الظلمات، إلى تحكم النور (العلم)؛ حيث تتضح معالم الوحدة، ويرتفع الاختلاف. ولقد جمع الله سبل السلام في البداية، وأفرد الصراط المستقيم (الطريق)، ليدل على أن السلام يُؤتى من كل سبيل من سُبل الاختلاف، ليُدرك في الغاية الموحدة، عند بلوغ حال السلام؛ وبعد أن يكون العبد قد استقام على الصراط المستقيم، الذي هو صراط الله (الاسم الجامع). وهذا الصراط، هو الذي يدعو الله الناس إلى اتباعه، حتى يسلموا من آفة الاختلاف الضار، لو أنهم كانوا يسمعون. وإن متابعة الناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تجعلهم حتما على الطريق المستقيم، الموصل إلى السلام الحق؛ وأما من غير متابعة للنبي، فإن المرء وإن كان على الدين الحق من حيث الأصل، فإنه يبقى على ما يُعطيه الاختلاف. ومن هنا كنا نحكم بأن إسرائيل على خرافة، وأن حماس -ومن شابهها- أيضا على خرافة؛ مع أنه لا أحد يشك في إسلامهم بالنظر إلى الزمن التشريعي لكل طائفة. وهذه المسألة يغلط فيها الفقهاء ومن يتقيّد بفهمهم، ويتوهمون أنهم على الصراط المستقيم من باب التساهل والدّعوى، والأمر ليس كذلك... يلوح مما سبق، أن السلام المعتبر لا يتأتّى لكل من يزعمه، ولو صدقا. وهنا نتوقف عند الخطاب العالمي الذي ينبني على تغيِّي السلام، وعلى الحرص على الحقوق، وسواهما من العناصر المؤثّثة له؛ إلى الحد الذي صارت معه هذه المقولات ثقافة عامة، ينادي بها كل متكلم، وإن كان لا يبلغ أن يُعتبر من أهل الرأي في العادة؛ كالعامة من بلداننا المتخلّفة المستلبة. وما نبغي الوصول إليه هنا، هو أن خطاب السلام من الجهات الدولية، لا يصح، لكونه خطابا إضلاليا، يُراد منه إنامة ضعفاء الإدراك، لا تحقيق السلام حقيقة. وهذا لأن تحقيق السلام، ومن ثَمّ الدعوة إليه، تشترط أن يكون الداعي على الصراط المستقيم؛ والحال هي أنه على غيرها. والدليل من الواقع أن تلك الأطراف ليست صادقة في دعوتها إلى السلام، هو مسارعتها إلى مناصرة إسرائيل، وهي ظالمة على طول مسارها. والسؤال الجدير بالتناول هنا، هو: هل يمكن أن يكون سلام مع ثبوت ظلم أحد الطرفيْن؟... والجواب هو: نعم؛ لكن هذا السلام في هذه الحال، سيكون سلام استسلام، لا سلاما بالمعنى التام، المقتضي للإنصاف. وعلى هذا، فإن كل داع إلى السلام، إن لم يكن ملتزما لسبيل الإنصاف، فدعواه باطلة. وهكذا يتبيّن مرة أخرى أن زاعمي الدعوة إلى السلام في فلسطين، من دون اشتراط المحافظة على حقوق الفلسطينيين، إنما يرومون سلاما تستفيد منه إسرائيل وحدها؛ أي سلام استسلام من الفلسطينيين ومن العرب جميعا. وكذلك يكون الفلسطينيون عموما، إن هم زعموا قصد السلام، لأنهم لم يستقيموا على الصراط المستقيم. فهل بلغت إسرائيل والفلسطينيون، شيئا من هذا السلام الأعرج، حتى يطمعوا في المزيد؟... نقول: أما إسرائيل، فقد رامت بلوغ بعض ذلك، نعم؛ وما كانت تقصده هي من عمليات "التطبيع"، مع بعض الدول العربية، يصب في سلام الاستسلام، المنطوي على التفريط في حقوق الفلسطينّيين وحقوق العرب كلها. وإن هذه الغاية، قد أصبحت مطمعا لأهل الحضارات الأخرى، عندما وصلت الأمة الإسلامية إلى أشد ضعفها. ولسنا نعني بالقوة المقابلة للضعف هنا، إلا قوة الإيمان، وقوة الاستقامة على الحق. وهذا بعد تسرّب سموم الأيديولوجيات التي نخرت جسم الأمة وأضعفت منعته؛ حتى صارت المعايير المرعية في البلدان العربية مادية خالصة، أو تكاد. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَداعَى عَلَيْكُمْ، كَما تَداعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِها! فَقَالَ قائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثاءٌ كَغُثاءِ السَّيْلِ. وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ. فَقالَ قائِلٌ: يا رَسولَ اللهِ! وَما الْوَهْنُ؟ قالَ: حُبُّ الدُّنْيا وَكَراهِيَةُ الْمَوْتِ.»[1]. ولنتوقف عند رؤوس معاني هذا الحديث، لننزلها على واقعنا عن بصيرة بإذن الله: - إنّ تداعي الأمم على أمة الإسلام، قد صار واقعا معيشا، منذ سقوط الخلافة العثمانية؛ ومنذ تقسيم الدولة الإسلامية إلى دويلات متصارعة متناحرة. - إن إغراء الأمة للأمم الأخرى بالاعتداء عليها، سيقع رغم كثرة عدد المسلمين، كما نرى بأعيننا. ولكن كثرة العدد، تكون مع ضعف القدر والقيمة؛ حينما يُؤْثر المسلمون الدنيا على الآخرة. - إن الوهن الذي أصاب الأمة، مع نزع المهابة من صدور الأعداء، هو من فعل الله بالمسلمين، جزاء لهم على ما فرّطوا في دينهم، وما فَرَطَ منهم من مخالفات كبرى. ومما فرط: الانقلاب على الإمام الخليفة علي عليه السلام، وقتل سبطَيِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتحريف الدين مع الإبقاء على بعض معالمه في الظاهر، وموالاة أعداء الأمة عليها، وهو معدود ضمن خيانة الله ورسوله والمؤمنين. ولقد انتهى الأمر بالمسلمين عند تزايد السوء، أن صاروا نابذين للدين، منتهجين لسبيل الكفر، وإن زعموا أنهم باقون على الإسلام بأهوائهم (ثقافةً). وهذا الذي بدر منهم، ليس إلا كالذي ارتكبته بنو إسرائيل قبلهم، ونهاهم الله عن أن يقتدوا بهم فيه، ومنه: ا. الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء: يقول الله تعالى: {ضُرِبَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَیۡنَ مَا ثُقِفُوۤا۟ إِلَّا بِحَبۡلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَاۤءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُوا۟ یَكۡفُرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقٍّ ذَ ٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ یَعۡتَدُونَ} [آل عمران: 112]. وقتل الأنبياء من الأمم السابقة، يساويه قتل الأئمة من أهل البيت عليهم السلام في أمتنا؛ لأنهم نظراء لهم في المرتبة، من دون نبوة. وأما الكفر بآيات الله، فهو الكفر بهؤلاء الأئمة؛ وليس إلا عدم اعتبار إمامتهم. ومعنى الآية في اللغة العلامة، ولا علامة على الحق كالإنسان الربّاني. والقتل للرباني، قد يكون حسيا، وقد يكون معنويا؛ بحجبه، والتضييق عليه، ومنع الناس من الاتصال به. وإذا ارتُكب الأسوأ، هان على الناس ارتكاب الأقل سوءا، والذي هو عموم المعصية وعموم العدوان. ب. نقض العهد وتحريف الكلام الإلهي: يقول الله تعالى: {فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ لَعَنَّـٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَـٰسِیَةً یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُوا۟ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَاۤىِٕنَةٍ مِّنۡهُمۡ إِلَّا قَلِیلًا مِّنۡهُمۡۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ} [المائدة: 13]. والعهد المنقوض في المرتبة الأولى هو العهد مع الله، ويشمل العهد الأول في مقام الأرواح الذي جاء فيه قول الله تعالى: {وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ أَن تَقُولُوا۟ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِینَ} [الأعراف: 172]. ثم يأتي بعد ذلك نقض كل ميثاق فيما بين الناس، مؤسَّسٍ على رضوان من الله. وكما أسلفنا، فإن ارتكاب الأشد، يوقع في ارتكاب الأدنى. وأما تحريف الكلام الإلهي، فإن المسلمين يجهلون أنهم واقعون فيه؛ وذلك لأن القرآن محفوظ لديهم بحفظ الله لألفاظه. فتوهموا أنهم لم يحرفوه، كما حرفت بنو إسرائيل كتبهم؛ وأغفلوا أن التحريف يكون بمعنييْن: التحريف اللفظي، والتحريف المعنوي. وإن كان المسلمون قد سلموا من التحريف اللفظي الذي وقعت فيه بنو إسرائيل، فإن التحريف المعنوي لا نشك في أن شطرا منهم قد وقع فيه. ومن الذين وقعوا في التحريف المعنوي: المتسلفة، والجماعات الإخوانية، وبعض المفسرين من كونهم متأولين؛ وذلك لأنهم خرجوا عن كل الأصول المعتبرة في الدين، وأثبتوا لنفسهم -بوحي من الشياطين- دينا مخالفا مبنيا على شطر من صحيح الألفاظ. ونقول على شطر من الألفاظ دون كل الألفاظ، لأنهم لا يتمكنون من النظر في بعض الآيات من القرآن، ومن النظر في بعض الأحاديث النبوية، المخالفة لأصول دينهم المخترع. ولقد تكلمنا نحن في مجمل كتاباتنا، عن تلك الانحرافات، فلا داعي إلى إعادة الكلام عنها هنا... ومع وضوح صفة الوهن التي تطبع عيش المسلمين، من كونها نتيجة للأعمال المنحرفة، فإنهم يُصرّون -مع فقهاء السوء لديهم المحرفين للوحي- على أنهم على الدين الأصلي؛ وكأنهم يتهمون الله فيما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويُعاندونه. وكأنهم يقولون له بلسان حالهم، حتى وإن كانت معاملتك لنا، تدل على أننا فاسقون متنكّبون عن الصراط المستقيم، فنحن نصرّ على القول بأننا مسلمون مقيمون على الهدى. وهذا هو حال قوم نوح عليه السلام، من قبلهم، عندما أخبر الله عنهم بذكر شهادة رسولهم فيهم بقوله تعالى: {وَإِنِّی كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوۤا۟ أَصَـٰبِعَهُمۡ فِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡا۟ ثِیَابَهُمۡ وَأَصَرُّوا۟ وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ ٱسۡتِكۡبَارًا} [نوح: 7]. فهل تكون شهادة نوح على قومه معتبرة، وتكون شهادة رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم السابقة فينا، غير معتبرة؟!... لا، ثم لا!... ولنعد إلى الاستراتيجيا التي ينبغي لنا أن نكون عليها، في مقابل الانحراف الذي يكون عليه أهل الخرافات من كل جانب، والتي ليست إلا استراتيجيا السلام؛ أي السائرة في اتجاهه وإن لم تبلغه دائما؛ وهذا، لأن كثيرا من المأمورات الدينية، لا تتحقق لكثير من الناس. والسبب في ذلك، هو كون الدنيا دار امتحان، والامتحان معرّض فيه العبد لأن يفوز ولأن يخسر. ومما لم تحتمله الدنيا، تحقّق السلام بين المسلمين أنفسهم؛ مع أن الله تعالى يقول: {وَإِن جَنَحُوا۟ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ} [الأنفال: 61]. وهذا يعني أن اعتبار السلم مقدّم لدينا على غيره، إن كان السلم بشروطه؛ وهو آكد إن كان فيما بين المسلمين أنفسهم. وأما شروط السلم مع الأمم الأخرى، فنجدها مجملة في الآية السابقة على آية السلم، سبقا يجعل الأمور منوطة بما ذُكر فيها؛ حيث يقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءٍ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} [الأنفال: 60]؛ والمعنى هو: لا تقبلوا السلم عن استسلام؛ ولكن بعد أن تحققوا توازن القوة، وتُثبتوا للأعداء أنكم قادرون على هزيمتهم وهزيمة حلفائهم. ولنذكر الآن مسألة عدم اتساع الدنيا للسلم فيما بين المسلمين؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتي بالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتي بالغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا.»[2]. ومعنى السنة: القحط والجدب؛ ومعنى عدم هلاك الأمة بالسنة أو بالغرق، هو عدم استئصالها بما ذُكر. وأما إصابة شطر منها بذلك، فهو معروف من التاريخ، ولا يحتاج إلى كلام. وأما الثالثة الممنوعة، فهي تحقُّق السلام في الأمة، بحيث لا يُقاتل بعضها بعضا. ولقد منعه الله، أي منع عمومه وشموله، لأن الدنيا لا تحتمله. وهو في الحقيقة من أحوال الآخرة المنوطة بالجنة؛ حتى إن الله سمى الجنة "دار السلام"[3]. يقول سبحانه: {لَهُمۡ دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ عِندَ رَبِّهِمۡۖ} [الأنعام: 127]، ويقول سبحانه أيضا: {وَٱللَّهُ یَدۡعُوۤا۟ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَـٰمِ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰطٍ مُّسۡتَقِیمٍ} [يونس: 25]. وهذا يؤكد المعنى الذي ذكرناه سابقا، من أن الداعين بالزعم إلى السلام، من غير سلوك لطريق الإسلام، لا يُقبل منهم ذلك من جهة العلم. وتبقى مسألة اختصاص الجنة بالسلام في الآخرة، دون النار، مبحثا لا يتسع له هذا الكتاب؛ ولكن مع ذلك نشير إلى مبادئه إشارة، بذكر قول الله تعالى عن أهل الجنة: {وَنَزَعۡنَا مَا فِی صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَ ٰنًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِینَ} [الحجر: 47]، وقوله تعالى عن أهل النار: {قَالَ ٱدۡخُلُوا۟ فِیۤ أُمَمٍ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ فِی ٱلنَّارِۖ كُلَّمَا دَخَلَتۡ أُمَّةٌ لَّعَنَتۡ أُخۡتَهَاۖ حَتَّىٰۤ إِذَا ٱدَّارَكُوا۟ فِیهَا جَمِیعًا قَالَتۡ أُخۡرَىٰهُمۡ لِأُولَىٰهُمۡ رَبَّنَا هَـٰۤؤُلَاۤءِ أَضَلُّونَا فَـَٔاتِهِمۡ عَذَابًا ضِعۡفًا مِّنَ ٱلنَّارِۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعۡفٌ وَلَـٰكِن لَّا تَعۡلَمُونَ} [الأعراف: 38]... فإن عدنا إلى ما فعلته حماس في السابع من أكتوبر، فإننا لن نجده داخلا في توازن القوة، وإن كان داخلا في الترهيب المشروع ولو جزئيا. ونعني أن إسرائيل عندما أُصيبت بالأضرار، فهي قد رُهِّبت من غير شك؛ وهو ما سيجعلها تعيد حساباتها، من أجل تجنّب أضرار مماثلة في المستقبل؛ ولكن الذي أصاب المسلمين من القتل، هو أكبر من الذي أصاب الإسرائيليين؛ وهذا إخلال بالمعايير الشرعية في العمل. ولقد وقع الإسلاميون في هذه الآفة، بسبب تحريفهم للدين الذي ذكرناه آنفا، وبسبب اعتمادهم لطرائق جاهلية في العمل. ومع ثبوت وقوعهم في المخالفة، فإنهم يُصرّون على المكابرة، ويرفضون أن يوصفوا بها. وإن من أشد ما سمعنا من مسوّغاتهم لارتفاع عدد القتلى من المسلمين (نحسبهم عند الله شهداء والله حسيبهم)، إشارتهم إلى اعتبار تغيّر الرأي العالمي للشعوب كلها، عندما يتضح لهم إسراف إسرائيل في القتل والتدمير. وقالوا: لم نسمع أهل غزة يتذمّرون من القتل الواقع فيهم!... ولبئس ما يقولون!... فأما القول الأول، فإنه لا يُنبئ إلا عن شرك قائله. وذلك لأن المؤمنين لا يعملون من أجل تغيير الرأي العام، ولا من أجل إثبات شيء للناس؛ ولكن يعملون عبودية لله، وطمعا في رضاه سبحانه حصرا. وأما القول الثاني، فهو مغالطة كبرى، ما بقي لهم بعدها إلا أن يقولوا إن أهل غزة يستمتعون بالقتل!... فهل بلغت بهم الوقاحة إلى هذا الحدّ؟!... ولو افترضنا، أن بعض أهل غزة قاموا معارضين لعمل حماس، فما سيكون مصيرهم؟... سيكون القتل على أيدي أفراد حماس، بتهمة "الخيانة العظمى". ولهذا، كنّا نقول نحن دائما، إن استبداد الإسلاميين وقهرهم، يفوق استبداد وقهر بعض الحكام الذين يُعارضونهم بالجهر والإسرار. والأحوال السَّنِيّة التي ندل عليها في هذه الفقرة بالمخالفة، لا تتحقق من جهة الإجمال للجيوش الإسلامية، إلا إن كانت تعمل تحت إمرة الربانيين؛ ولسنا نعني بالإمرة هنا، القيادة العسكرية، لا؛ ولكن نعني الإذن والإبانة. وأما الجماعات الإخوانية، فهي على شركها الكبير المتعدد المظاهر، تأبى أن تسمع النصح، وتعمل بالطريقة الجاهلية التي يعتمدها أهل الخرافة من الصف المقابل أيضا؛ وهذا لأن الله لا يوفق إلى الخير من كان مصرا على الانطلاق من الفسق. يقول الله تعالى: {وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فَتَعۡسًا لَّهُمۡ وَأَضَلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ} [محمد: 8]؛ أي أضل أعمالهم بسبب كفرهم، فالكفر سببٌ هنا، وضلال الأعمال نتيجة له. وقد يقول قائل: إن مَن تتكلم عنهم مسلمون، فكيف تنزّل عليهم آيات لا ينبغي تنزيلها إلا على أهل الكفر البيّن؟!... فنقول: إن الكفر مادة واحدة، وهو جحود الحق وإنكاره وستره؛ وله بداية قد تكون عملا هيّنا، إن تجاوز الله عنه وتاب على عبده منه، وله وسط وهو التمادي في ذلك والاستهانة بعواقبه، وله نهاية وهي الكفر الأكبر المـُخرج عن الملّة. والإسلاميّون، منهم من هو في بداية الكفر، يُرجى له أن يتوب؛ ومنهم من هو في وسطه، ينبغي تنبيهه إلى خطورة ما هو عليه؛ ومنهم من نخشى عليهم أن يبلغ أفراد منهم نهايته... وكلامنا لهم، هو من باب النصيحة، وقد كررناها عليهم سنين عددا؛ لذلك فنحن الآن نقرّعهم ونشتدّ عليهم، لعلهم يعودون عما هم فيه من السوء البيّن... وأما فقهاء الأمة، الذين هم السبب المباشر لما وقعت فيه الأمة من انحراف، فهم على قدم الأحبار الذين قال الله فيهم: {وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِیقًا یَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَـٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ} [آل عمران: 78]. وإن قول الله عنهم: "وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ"، لا يعني ثبوت صفة العلم بالاصطلاح لهم؛ لأن هذا ينقض أول الآية كما لا يخفى، وكلام الله لا يتناقض؛ ولكن معناه أنهم يُخالفون بالقول معنى اللفظ الذي يعلمونه من كونه لفظا، لا من كونه معنى. وهذا، لأن القائل، قد يكون جاهلا، فيُخالف المعنى لعدم علمه، أو لتقليده مَن يُحسن به الظن من الجاهلين؛ وهذا يحدث كثيرا. وهو، وإن كان يُعدّ معصية، فإنه لا يُدخل صاحبه الكفر، الذي يَدخله عند مخالفته للمعنى وهو يعلمه. وهذا لا يفعله إلا من كان شيطانا، قد انخرط في حزب إبليس انخراطا لا رجعة فيه؛ مع أن الشياطين، تُخالف بعض المعاني، لجهلها بها؛ عندما يكون مجرد العلم بتلك المعاني من دلالات شرف العالم. وعلى كل حال، ففقهاؤنا، عليهم أن يحذروا من هذه الآفة الخطيرة، بعدم الإسراع إلى الكلام في كل شيء، مع أنهم من جهة المرتبة ليسوا إلا من عوام المسلمين في غالبيتهم. بل إن كل ما ذكرناه، نزيد عليه بأن بعض الفقهاء قد بلغوا طور الجنون، عند بدوّ ما يخالف العقل والفطرة منهم. وقد سمعت في الأيام الأخيرة في جزء من حوار لأحد فقهاء المغرب (لأنني لم أحتمل أن أستمع إلى الحوار بأكمله من هول المخالفات التي به)، وقد كان الحوار متأسّسا على توقيف ذلك الفقيه الخطيب، عن خطبة الجمعة، بسبب دخوله في المسألة الفلسطينية بطريقة سطحية، لن تزيد الناس إلا تشوُّشا، ولن تأتي إلا بنتائج عكسية. فوجدت ذلك الفقيه (وليس وحده في هذه الحال) مجنونا، في حاجة إلى علاج عقلي وقلبي (نفسي عند غيرنا). ومن جملة ما قال، وهو يكاد ينفجر من النفس، إنه: - يصعد على منبر رسول الله؛ والحال هي أنه يصعد على منبر خشبي صنعه نجار من أبناء مدينته، لم يرقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة؛ ولو اعتلاه رسول الله مرة واحدة، لرجونا للفقيه أن تصيبه بركة الجسد الطاهر الشريف. وهذا التمسح الزائف بالرسالة، هو من باب تنصيب النفس، وإجلاسها على عرش ربوبيتها، بعكس ما تدل عليه الشرائع كلها. وهذا الكلام يكثر من الجاهلين، من دون أن يجدوا رادعا يردعهم؛ وهو من المخالفات التي ينبغي للسلطان التأديب عليها بما يراه مناسبا... - وجد علامات من الله على صدقه (في مواجهة الوزارة)، وهذه دعوى من غير بيّنة. ونحن لا نشك لحظة أن الفقيه المذكور لا خبر له عن معنى الصدق؛ إذ لو كان له خبر، ما صعد على المنبر في زمان دخول الأمة جحر الضب الكتابي، الذي فصّلنا القول فيه في فصول سابقة؛ لأن معتلي المنبر اليوم، لن يكسب من وراء عمله ذاك -على ضعف إيمانه وحاله- إلا أوزارا يُضيفها إلى أوزاره الشخصية. ولا ينجو من ذلك إلا من كان ربانيا، ينطق بالله لله؛ أو كان مع ربّاني يجعله بإذن الله في حمايته. يقول الله تعالى عن ذلك الصنف المخالف: {لِیَحۡمِلُوۤا۟ أَوۡزَارَهُمۡ كَامِلَةً یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَمِنۡ أَوۡزَارِ ٱلَّذِینَ یُضِلُّونَهُم بِغَیۡرِ عِلۡمٍۗ أَلَا سَاۤءَ مَا یَزِرُونَ} [النحل: 25]. وقد يندهش الناس لقولنا هذا، وهم يظنون أنهم على دين أصلي غير محرف، فيقولوا: وهل يترك الناس صلاة الجمعة إرضاءً لقولك، رغم ما جاء في الترك من الوعيد الشديد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في قوله: «لَيَنْتَهِيَنَّ أقْوامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكونُنَّ مِنَ الْغافِلِينَ.»[4]؟!... وهذا الاستدلال وحده فيه من سوء الأدب مع الله ورسوله ما الله وحده به عليم؛ وذلك لأنه لا أحد يُقاس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قياسا غير مشروط. وهذا القياس يتطلب علما خاصا بأحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظاهرة والباطنة، وعلما بالحكمة من ذلك العمل في الشريعة، وعلما بأحوال الناس في الوقت؛ وهو ما لا يتوافر إلا لأفراد. وأما أن يأتي سفيه من سفهاء الأمة، يظن أنه بتقليده لصورة العمل، هو على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عامل، فهو علامة على انطماس بصيرة الشخص المعني فحسب. وعلى كل حال، فنحن لا نريد أن ندخل في شروط صلاة الجمعة هنا، والتي صارت الإمامة فيها في زماننا وظيفة يُؤدّى عنها الراتب؛ لأن الكتاب لا يتسع لها، وإن كنا نشير قبل أن ننصرف عنها إلى أنها مرتبطة بمسألة الإمامة في الدين، والتي أوضحنا أنها مجهولة للعموم، مع بقاء أثارة من علمٍ بها، لدى الشيعة يُحسب لهم التمسك بها على قصور عظيم، في مقابل جهل أهل السنة المطبق (حاشا النسبة السنية). وعلى كل حال، فإن جنون شطر من الفقهاء، قد صار ثابتا، وهو أبلغ من الخرافية الدينية التي انطلقنا منها. نسأل الله السلامة لنا، ولجميع المسلمين. وحتى يحذر القارئ مواقع الزلل، فإننا ننبهه إلى سبب عظيم من أسباب الضلال عند هؤلاء الذين تختلط عليهم الأحكام، لم نسمع أحدا ينبه إليه على شدة وضوحه، وهو نظير ما يُعرف عند المناطقة بـ "المصادرة على المطلوب"، ونعني أن الفقهاء الذين لا نور لهم، يأتون (أو يأتيهم الشيطان)، بصورة علمية لعمل مشروع، قد يكون من أركان الدين، فيرومون إثبات تلك الصورة حسّا فيما يتعلق بهم ويتعلق بالناس من أتباعهم، من دون مراعاة منهم للجانب العلمي الباطني فيها، فيقعون فيما وقع فيه المـصادِرون أنفسهم، من غير أن يشعروا. وإن أغلب ما يجعل "الإمام" يُهمل ما ذكرنا من شطر الأحكام، حرصه على استتباع الناس أكثر من حرصه على التقوى في نفسه. ونحن من قواعدنا الكبرى في الأعمال، أن ما لا تتحقق فيه التقوى الشخصية للإمام، لا يُنتظر منه تحقق التقوى به (أو فيه) للعموم من بعده، إلا نادرا. وهذا أيضا معلوم من المنطق، لأهله. وعندما حكمنا بجنون بعض فقهائنا، فهذا يعني أن حاخامات اليهود، قد جنُّوا قبلهم، وبقدر يفوقونهم فيه!... أما الاستراتيجيا بمعناها الشامل لدينا، فهي السير نحو السلام، ما استطعنا إليه سبيلا؛ إلا إن اعتدي علينا، فإنه يجب علينا عندئذ أن ندفع العدوان. وهذا يعني أن الحروب قد تكون قدَرا للناس، وإن كانوا كارهين لها. يقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٌ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـًٔا وَهُوَ خَیۡرٌ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تُحِبُّوا۟ شَیۡـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 216]. وإن العالم منذ خلقه الله، يعيش بين حاليْ الحرب والسلم، ويسير إلى غاية قد جعلها الله له؛ ولا دخل للعقل البشري في ذلك، إلا من حيث هو فعل لله وسبب من الأسباب. وما مثل العالم فيما ذكرنا، إلا كمثل الجسد الواحد الذي يعيش بين حاليْ المرض والصحة، إلى حين وفاته. وكما لا يرتفع المرض في حق أي جسد ارتفاعا تاما، فكذلك لا سبيل إلى تجنب الحرب في العالم. وإذا كانت فلسطين في هذا الزمان وما بعده، هي بؤرة الحرب والسلم في العالم، فالذي ينبغي النظر إليه من أجل تحقيق السلام هناك، هو الأسباب المحلية التي لا انفكاك لها عن جهات العالم كلها؛ وهو صلب الاستراتيجيا العالمية التي نبرز هنا بعض معالمها... وأما الغاية التي يسير نحوها العالم، والتي هي فناؤه؛ فإن بعضا من أهل الكتاب وبعضا من المسلمين يعلمونها؛ لأنها قد دلت عليها النبوّات السابقة، ودل عليها الوحي عندنا؛ بحيث يكون منكِرها، داخلا بإنكاره في عداد الكافرين. ولم نر في عصرنا من يتكلم في علم الإسكاتولوجيا (علم آخر الزمان) إلا قلة، على ضعف منهم في إدراك المعاني المرادة. ونحن سنورد في الفصل الموالي، بإذن الله تعالى، بعضا من الأصول التي ينبني عليها هذا العلم، حتى يتمكن من شاء الله له ذلك، من تصحيح مساره، على ضوء الثوابت العامة، وعلى ضوء المتغيّرات المخصوصة بآخر الزمان... [1] .أخرجه أبو دواد، عن ثوبان رضي الله عنه. |