انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2023/10/20
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (3)
الفصل الثاني: صنوف التديّن
إن الله خالق الناس وربهم، يريد منهم أن يتعلّقوا به سبحانه، لا بخصوصياتهم. والتعلّق بالرّب استقامة من العباد، أما التعلّق بخصوصياتهم فهي نظر إلى الأسفل من غير شك. يقول الله تعالى: {أَفَمَن یَمۡشِی مُكِبًّا عَلَىٰ وَجۡهِهِۦۤ أَهۡدَىٰۤ أَمَّن یَمۡشِی سَوِیًّا عَلَىٰ صِرَ ٰطٍ مُّسۡتَقِیمٍ} [الملك: 22]. ومما يشدّ الناس إلى أسفل، اعتبار أعراقهم وأوطانهم وجعلها مرتكزات تديّنهم. وأغلب الناس، لا يكون الدين عندهم، خصوصا بعد مفارقة رسلهم، إلا من هذا القبيل. ولكن قبل الاستمرار فيما نحن بصدده، لا بد من الكلام عن الزمن التشريعي الحاكم على التديُن: 1. الزمن التشريعي: هو الزمن الذي تكون شريعة ما، ما تزال معتبرة عند الله بالاعتبار الأول، لأن اعتبارها الثاني يبقى مستمرا؛ ومن هذا الاعتبار الثاني، كان التفريق بين أهل الكتاب وغيرهم من الكافرين. 2. يمتد الزمن التشريعي من زمن بعثة الرسول المخصوص، إلى زمن بعثة الرسول الذي بعده. لهذا فإن كل من كان على شريعة بين الزمنيْن المذكوريْن، فإنه يكون على دين أصلي. وقد تندثر الشريعة قبل مقدم الرسول الثاني، فيكون الناس في زمن فترة. وحكم الفترة حكم الفطرة، بحيث من وافق الفطرة في أعماله وأحواله فيها، فإن ذلك يكون مقبولا منه عند الله من باب قوله تعالى: {لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ} [البقرة: 286]. وسعها: أي طاقتها. وطاقة أهل الفترات ما يوافق الفطرة، لا ما يكون من تفاصيل التشريع. 3. إذا بقي العبد على تشريع سابق، في زمن رسول تالٍ، فإنه يُصبح كافرا وإن حكم هو على نفسه بأنه على دين. وقد أضل الشيطان أناسا كثيرين من طريق التمسك بشريعة ما خارج زمنها التشريعي، وربما حثهم على مزيد تشبث بها وتعصب لها، حتى يوهمهم بأنّ ذلك الفعل منهم تقوى، وهيهات!... وهذا يجرنا إلى الكلام عن الرسل عليهم السلام: 1. إن كل رسول، يكون محلا للاتباع داخل زمنه التشريعي خاصة، إلا خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم، فله اعتبار خاص. والخاتميّة هي هنا الختمية التي تترجم بـ (sceau) أو (seal)؛ والخاتم (الختم) هو الذي تعود إليه أحكام الرسالات كلها، وليس إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يظنَّ أحد أنما نقول هذا من باب التعصب الذي حذّرْنا منه في الفصل السابق، بل نقوله من باب مطابقة الحق من جهة الكشف المؤيَّد بالوحي. ومع هذا، فإن المطلوب هو التعلّق بالله عند اتباع الرسول، لا الوقوف معه. يقول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِی۟ن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡۚ وَمَن یَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ فَلَن یَضُرَّ ٱللَّهَ شَیۡـئًاۗ وَسَیَجۡزِی ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِینَ} [آل عمران: 144]؛ أي هو لا يعدو أن يكون مبلّغا عن الله، كسائر المبلّغين. والعاقل يُعامل المـُرسِل لا المبلِّغ، وإلا انقلب الدين انقلابا تاما، وعاد وثنية من جملة الوثنيات... 2. إن اتّباع موسى يكون معتبرا، ما بين بعثته إلى بعثة عيسى عليهما السلام. وإن اتباع عيسى يكون معتبرا ما بين بعثته وبعثة محمد عليهما السلام. لهذا، فكل من يزعم الآن أنه متبع لموسى أو لعيسى، فإنه يكون مخالفا لأصل الدين، وخارجا إلى الكفر وإن زعم أنه مؤمن. ولقد وقع في الخطأ هنا، قوم من المسلمين حكموا بأن اليهود والنصارى مؤمنون، ظنا من عند أنفسهم. والحق أنهم كافرون لا يختلفون عن سائر الكافرين، إلا باعتبار الأصل الحق الذي كانوا عليه داخل زمنهم التشريعي المخصوص، وهو معنى كتابيّتهم. وأما الآن فصلتهم الشرعية بالله مقطوعة، وإن بالغوا بحسبهم في التمسك بأعمال التوراة. ولقد سبق أن ذكرنا أن الشيطان يدل الناس على شدة التمسك بالشريعة، خارج زمنها ليغطّي عليهم كفرهم، ويجعلهم يتمادون فيه. ومن أراد أن يتأكد مما نقول فلينظر إلى عمل الشيطان مع من يكون متشرعا داخل الزمن التشريعي، فإنه سيجده مثبّطا له عن الشريعة، مثقلا له وصارفا إلى صريح المعصية. ومن لم يعرف أساليب الشيطان في الإضلال واختلافها، فإنه في الغالب يغلبه... 3. والخلاصة من كل ما سبق، هي أن اليهود اليوم كافرون. واتّباعهم لموسى عليه السلام لا يسلم لهم، وهم من لم يُحسنوا اتباعه في زمنه التشريعي الأول. يقول الله تعالى: {ضُرِبَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَیۡنَ مَا ثُقِفُوۤا۟ إِلَّا بِحَبۡلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبۡلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَاۤءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَسۡكَنَةُۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُوا۟ یَكۡفُرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَقۡتُلُونَ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقٍّ ذَ ٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ یَعۡتَدُونَ} [آل عمران: 112]. وليسأل اليهودي نفسه: لم كان بنو إسرائيل يعصون أنبياءهم في حياتهم، ويتمسكون بهم بعد مماتهم وانتهاء زمن شريعتهم؟... ليعلم أن عمل الشيطان ليس بعيدا عما هم عليه... 4. إن اليهود بحسب ما سبق هم طائفة بني إسرائيل الذين انفصلوا عن موسى عليه السلام، وإن بقوا زاعمين أنهم عاملون بالتوراة؛ ونعني من هذا أنهم ليسوا على ملّة موسى. وإن النصارى، هم طائفة بني إسرائيل الذين انفصلوا عن عيسى عليه السلام، مع زعمهم بأنهم عاملون بالإنجيل؛ أي ليسوا على ملّة عيسى. ومقصودنا من الانفصال هنا، هو الكينونة خارج الزمن التشريعي لزمنيْ موسى وعيسى عليهما السلام. وهذا يُخالف معتقَد الفريقيْن بأن دينهم باعتبار تشريعهم، مستغرق لجميع الأزمنة. ومن اعتقد منهم هذا الاعتقاد من اليهود، فلا بدّ أن يكفر بالمسيح عليه السلام وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأما إن كان نصرانيا، فلا بد أن يكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. والكفر بآخر رسول، يتضمّن الكفر بجميع الرسل، لأنه كفر بالمـُرسِل لا بالرسول وحده. وأما الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، فشريعته متضمنة لجميع الشرائع التي قبلها ومهيمنة عليها، والإيمان به متضمّن للإيمان بجميع الرسل الذين قبله؛ يقول الله تعالى: {ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِۦۚ} [البقرة: 285]. وهذا الإيمان العام بالرسل أجمعين، حاصل للمؤمنين بالرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يعلموهم على التعيين؛ وهذا فضل كبير، لا يحصل إلا لهذه الأمة المشرّفة، ومنه كانت حقيقةً (أحقَّ) بالشهادة على الأمم الأخرى يوم القيامة. فهي بإيمانها بكل الرسل، مشرفة على جميع الأمم، ومؤهلة للشهادة عليها. يقول الله تعالى: {وَكَذَ ٰلِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَیَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَیۡكُمۡ شَهِیدًاۗ} [البقرة: 143]. وسطا: أي مشرفة على غيرها. 5. يُفترض أن العباد يتبعون رسلهم ليوافقوا حكم الله ويبلغوا بذلك طاعته سبحانه، لا أن يبقوا مع رسلهم وكأنهم أرباب من دون الله. والأمر واضح ولا يحتاج إلى كثرة بيان، ولكن لو ضربنا مثلا، فإنه سيزداد وضوحا: فلو تصورنا أن أحد الملوك كان يبعث لعامل له بأوامره مع شخص من طرفه، بعلامة بينهما تُثبت صحة التبليغ؛ فهل إذا مات الرسول الأول أو عُزِل، وجعل الملك مكانه شخصا آخر بالعلامة ذاتها، يكون رفض العامل له إذا جاء إليه أمرا مقبولا عقلا؟!... أم إن العامل يُصبح مستحقّا لغضب الملك، وتنحيته من منصبه وإبدال غيره مكانه؟!... فكذلك تكون معاملة العباد لله، مع اختلاف الرسل وتواليهم عليهم تباعا. وأما إن سأل سائل عن العلامة التي تكون بين العباد وربّهم، حتى يطمئنوا إلى الرسول الجديد، فهي جليّة غير خفية؛ ولولا جلاؤها لقامت الحجّة للعباد على ربهم، وهو أمر محال. والعلامة هي علامات لا علامة واحدة، وهي التي سماها الله آيات، فلا بد لمتبع أي رسول داخل زمنه التشريعي أن يعلمها، ويعلم بها أنه على الصراط المستقيم، وإلا فإنه لن يكون مؤمنا وداخلا في جماعة ذلك الرسول. يقول الله تعالى: {كَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِیكُمۡ رَسُولًا مِّنكُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِنَا وَیُزَكِّیكُمۡ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُوا۟ تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 151]، وهذا لسان حال كل رسول. ومعنى تلاوة الآيات، ليس محصورا في الآيات النصيّة من الكتب المنزلة، بل يشمل كتابة آيات الهداية في بواطن السامعين للوحي من الرسل عليهم السلام، ويشمل الآيات الكونية المشهودة الدالة على الأسماء الإلهية في الزمن التشريعي المخصوص. وهذا، لأن معنى الآية في اللغة العلامة؛ والعلامة تكون علامة على معنى ما مخصوص، بغض النظر عن صنف الآية، وهل هي متعلّقة بالتلاوة المعهودة أم بالتلاوة القلبية أم بتلك الكونية. والمعنى المخصوص، لا يكون إلا معنى اسم أو أكثر من أسماء الله؛ لأن المقصود في النهاية هو معرفة الله بتفاصيل أسمائه. بل إن المقصود في النهاية هو معاملة كل اسم على حدة، بما يليق به؛ لا الاكتفاء بمعاملة الاسم الجامع "الله" من وجه جمعيته، وإن كان العامة من أهل الدين لا يتمكنون من تصوّر هذا المستوى منه. وقد دلّ الله على هذا الأصل المعرفي من أول آية في القرآن، فقال تعالى: {بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ} [الفاتحة: 1]؛ أي، ليكن إتيانك القرآنَ أيها العبد بتوسُّل الأسماء التفصيلية بعد معرفتك باسم الذات. ودل على هذا الأصل أيضا، ختم الله تعالى لآيات الكتاب الكريم بذكر الأسماء المناسبة لها؛ كأن يقول سبحانه: {ذَ ٰلِكُم بِأَنَّهُۥۤ إِذَا دُعِیَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُۥ كَفَرۡتُمۡ وَإِن یُشۡرَكۡ بِهِۦ تُؤۡمِنُوا۟ۚ فَٱلۡحُكۡمُ لِلَّهِ ٱلۡعَلِیِّ ٱلۡكَبِیرِ} [غافر: 12]؛ والمعنى أنه ما كفر الكافر إذا دُعي الله وحده، إلا لأن الله عليّ لا يبلغه إدراك المدرِكين؛ ولا آمن بالشركاء مشرك، إلا لأن الله كبير، وهو أكبر من أن يُحيط به علم عبده القاصر. ولقد تفطّن الفلاسفة إلى "العليّ" من الأسماء، فتكلموا عن الإله المتعالي؛ هذا مع ثبوت قصورهم عن العلم بالأسماء الإلهية الذي هو من أخصّ العلوم التي يهبها الله لأهل الدين الحق. نعني من كل هذا -ونحن قد انطلقنا من معنى الآيات- أنه لا يعلم الآيات حقّا، إلا من علم الأسماء الإلهية التي خلفها. وأما من لم يعلم، فهو ممن أخذ الله بسمعهم وأبصارهم عن آياته. يقول سبحانه: {أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَـٰرِهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ} [النحل: 108]؛ وهذا حتى لا يقول قائل من السابقين: لقيت الرسول ولم تظهر لي الآيات، أو سمعت الوحي ولم أتبيّن الآيات... لأن من فقد الأهلية للوعي والسمع والإبصار، فإن العلة منه لا من الرسول المؤيَّد بالآيات. وهذا يُعلم من أحوال الآخِرين: فإن رأى الغافلون أن بجنبهم أناسا يعقلون أشياء لا يعقلونها هم، ويسمعون (يفهمون) أشياء لا يسمعونها هم، ويُبصرون أشياء لا يبصرونها هم، فليعلموا أنهم فاقدون للأهلية، لا أن آيات الله غير ثابتة. ويقلّ في الكافرين، من يشهد على نفسه بأنه لا يعي الخطاب؛ بل أغلبهم يُنكر الآيات، من جعله نفسَه معيارا في إدراكها. ومتى كان الأكمه -مثلا- حجة في علم الألوان والأشكال على غيره من سليمي الحواس!... ومن هنا نعلم أن الكافرين، لا يلتزمون بالمنطق العقلي في أحكامهم؛ طالما كان الأولى بهم اعتبار احتمال أن يكون المؤمنون المخبرون عن إيمانهم على صواب في إخبارهم. وهو ما كان سيؤدّي بهم -على الأقل- إلى الشك فيما هم عليه من الكفر. ولهذا السبب من العسف، قد أتى نفي صفة العقل عن الكافرين في القرآن؛ يقول الله تعالى: {وَمَثَلُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ كَمَثَلِ ٱلَّذِی یَنۡعِقُ بِمَا لَا یَسۡمَعُ إِلَّا دُعَاۤءً وَنِدَاۤءً صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡیٌ فَهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ} [البقرة: 171]. لا يسمع: أي لا يفهم؛ إلا دعاء ونداء: إلا تكرارا لكلام يسمعه ولا يدري له حقيقة. ومن تأمل حال الكافرين، فإنه سيجد أكثر ثباتهم على الكفر يأتي من التواطؤ عليه والتعاون على إبقائه في الأذهان؛ وهو ما لا يتأتّى إلا داخل الجماعة الكافرة. وأما الإيمان الذي تجاوز طور الإجمال، فإن صاحبه يبقى عليه ولو كان وحده وفي عزلة تامة. ولقد اشترطنا على المؤمن مجاوزة طور الإجمال، حتى لا يُغامر عوام المؤمنين بالخروج من الجماعة، فيقتنصهم الشيطان بسبب ضعفهم!... ولنسأل الآن أسئلة خطيرة: أين المسلمون من حقيقة الدين؟ وهل وقعوا فيما وقعت فيه اليهود والنصارى؟ وما حكمهم إذا وقعوا في ذلك؟... فنجيب: 1. لا شك أن أمة الإسلام قد وقعت فيما وقعت فيه الأمم السابقة، والدليل الواقع المشهود لمن كان ذا علم، لا لمن كان على تقليد؛ لأن المقلّد لا يشعر بمخالفته للأصل وهو لا يعلمه. فمن لم يع الواقع، أحلناه إلى الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ؛ حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ! قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟!...»[1]. وهكذا يكون اتباع المسلمين في عمومهم لطرائق اليهود والنصارى ثابتا، من يُنكره بعد سماع الحديث لا يكون إلا كافرا. وإن أهم ما يتعلّق به الاتباع ما يلي: ا. الانقطاع عن الرسول المتبوع: فكما انقطع اليهود عن موسى، وانقطع النصارى عن عيسى، فإن المسلمين قد انقطعوا عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم نوع انقطاع. ونحن نقول "نوع انقطاع"، لأن الزمن التشريعي المحمدي ما يزال ممتدا إلى قيام الساعة، قدَرا مقدورا. ومن كان مؤمنا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم إيمانا مجملا، فإنه لا يُحكم عليه بالكفر التام كما حُكم على اليهود والنصارى. والأمر كما يرى القارئ علمي، وليس استثناء بالهوى والتعصّب للقوم!... نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين... ب. اتخاذ المنقطعين أئمة غير الرسول، تغطي إمامتهم على إمامته الكبرى: ويدخل ضمن هؤلاء الأئمةِ، أئمةُ الفقه المعروفون وأئمة العقائد أئمة الفرق، مع كون الأئمة قد يكونون برآء من هذه البدعة (بدعة اتباع الكتابيّين) إما كليّا وإما جزئيّا؛ بل هو الراجح لدينا فيما يتعلّق بأئمة الفقه على الأقل. وقد سبق اليهود والنصارى إلى هذا الفعل، فاتخذوا أئمة، غطّوا في الإمامة على موسى وعلى عيسى عليهما السلام. فتجد الضال من هذه الأمم، يُعرض عليه قول رسوله، فيضرب به عرض الحائط، ويتبع إمامه الذي صار يعبده من دون الله. وقد سمعت مرة من رفيق لي في الطريق، وكنا ما زلنا مع شيخنا حمزة بودشيش رضي الله عنه، بأنه كان في مجلسٍ ذُكر فيه حديث نبويّ أمام الحاضرين، فتجرّأ جاهل على ردّه، بدعوى أن الشيخ قال بخلافه. والشيخ بريء من هذه الجهالة التي تُدخل صاحبها في الكفر الصريح!... ونظن أن هذا الصنف من الضالين كثير في المتصوّفة، لأن الشيطان يُشغلهم بشيوخهم (كما شغل أهل الفِرق بأئمتهم) عن رسولهم الذي هو المبلغ بالأصالة عن الله!... نسأل الله السلامة!... ج. علامة الانقطاع عن الرسول المتبوع: هي عدم إثمار الدين للأتباع، ما ذكره الله تعالى في مثل قوله: {إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔینَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ} [البقرة: 62]. فالأجر من ثمار الأعمال الصالحة، وعدم الخوف الذي هو هنا التأمين من الله، هو من ثمار الأحوال، التي هي بدورها من ثمار الأعمال المشروعة؛ وعدم الحزن هو من نتائج الفوز العظيم برضوان الله وبالجنة في العقبى. والمنقطعون لا يجدون لأعمالهم أثرا، لأنها صورية فحسب، ولا يجدون أحوالا باطنية سَنية، لأنهم لا نور لهم من أعمالهم، فلم يبق لهم إلا نور إيمانهم المجمل الضئيل، إن ثبّتهم الله عليه عند الموت؛ وقد ينقلبون لأقل الأسباب من الكافرين. ومن أراد أن يعرف مصداق ما نذكره من الواقع، فلينظر إلى حال جلّ علماء الدين، الذين لا يكاد المؤمن يشمّ منهم رائحة إيمان، والذين تجدهم يتبعون دعوات الضلال بسهولة ومن دون وازع يزعهم عنها. وما تسويغهم لضلالات العصر التي تقلّد فيها الأمة غيرها من الأمم الكافرة، من مثل الديمقراطية في السياسة، أو الربا في مجال المال، إلا دليلا على جدبهم الباطني من النور، وما غياب النور لديهم مع وجود صور الأعمال إلا لأن أعمالهم على غير السّنّة من جهة الباطن. ولقد كان يليق بعلماء الدين زعما، أن يتفقدوا ثمار تديُّنهم، ليحكموا عليه بالصحة أو بغيرها. ولقد نبّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الأصل في منهجية التدين بقوله: «... وَإنَّما الْأَعْمالُ بِالْخَواتِيمِ.»[2]. ومن معنى الخواتيم الثمار التي ذكرنا، والتي هي كالبراهين للأعمال. د. توارث الانقطاع جيلا بعد جيل: يقول الله تعالى في هذا الصنف: {وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُوا۟ حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَاۤؤُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ شَیۡـئًا وَلَا یَهۡتَدُونَ} [المائدة: 104]. ويظهر جليّا من الآية أن هذا الصنف من الناس مكتف بما وجد عليه آباءه من تديُّن تقليدي. فهو يأخذه بالتسليم، ويجعل الأجيال السابقة حجة له؛ وكأن الضلال منحصر في المـُحدَثين وحدهم!... أو كأن التقدُّم في الزمان يضمن الهداية تلقائيا!... أَوَلَوْ كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من أمر الدين، ولا يهتدون إلى الأخذ عن رسولهم؟!... وفي الغالب، لا يقنع بالتقليد إلا ضعفاء العقول، الذين يتصورون وكأنهم طليعة البشر على هذه الأرض، لم يسبقهم إلى التجربة أحد. أما العقلاء، فيعلمون أن الأجيال يختلف بعضها عن بعض في إدراك الواقع، وفي إدراك الدين، بما تعسر معه المقارنة أحيانا، إلا لكبار أهل النور، ثم لكبار المتخصصين من الدارسين... 2. إن أمة الإسلام لا تُكفَّر اليوم رغم فسوقها، لأنها ما زالت ضمن الزمن التشريعي المحمدي كما أسلفنا. ولكن لا ينبغي في المقابل لعامة المسلمين أن يعتقدوا أنهم على الأصل الأول للدين، بعد مرور كل هذه القرون، وبعد تتابع كثير من أئمة الضلال عليهم. وكون الضلال قد يكون جزئيا في جيل، لا يعني أنه بقي كذلك في الأجيال المتأخرة؛ لأن الضلال قد يتراكم حتى يصبح شبه تام أو تامّا. وعلى الناس أن يمحصوا أحوالهم بالعودة إلى الربّانيّين الذين لا تخلو منهم هذه الأمة في زمن من الأزمان، وأن يجتنبوا توجيه عوام الفقهاء الذين صاروا كأحبار اليهود والنصارى، يُتاجرون بالدين، ولا يكترثون لا لمصائرهم ولا لمصائر غيرهم من الناس. ومن أدلة تعاظم الفسوق، بلوغه ببعض أبناء المسلمين أن يكفروا بعد إسلامهم؛ بل أن يُعلنوا عن كفرهم ويدعوا إليه بين المسلمين. وهذا، ما كان ليُقبل لدى المتقدّمين، وإن كانوا على ضعف في تديّنهم. وما يزيد من تأكيد المعنى المذكور، هو أن الشبهات التي عرضت لأبناء المسلمين حتى كفروا، تافهة جدا، تُنبئ عن ذهاب نور عقولهم ذهابا كلّيّا. ولولا أن الكتاب يضيق عن ذكر تفاصيل هذه المسألة، لأوردنا بعض تلك الشبهات، ولبيّنّا كيف كان السابقون لا يكادون يشعرون بها من قوة إيمانهم. 3. إن كثيرا من الأحكام عند المسلمين اليوم منحرفة، بسبب الانقطاع المذكور آنفا، وبسبب الأخذ بإمامة من لا أهلية له؛ ومن أعظم هذه الأحكام الجهاد القتاليّ. فقد رأينا في زماننا قيام السفهاء من المشرق والمغرب، إلى تنظيم ميليشيات مسلّحة، يقتلون بها الناس اعتباطا وبالباطل، من المسلمين الذين يحكمون عليهم بالكفر، أو من الكافرين الذين لا يحل قتلهم. نستثني من هذا من أسكنهم الله بيت المقدس وأكناف بيت المقدس؛ لأنهم مرابطون إلى يوم القيامة، ولا يحتاجون إلى إذن إمام في قتالهم لأعدائهم. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ، لِعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ؛ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ."، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ»[3]. واللأواء: الشدة والضيق. وهذه الخصيصة لأهل الشام، ليست لغيرهم، لكون إذنهم في الجهاد هو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة وعلى مرّ الأزمان. وهذا يعني أن هذا الإخبار عن خصوصية الشام، هو معجزة نبويّة باهرة، لم تزدها الأيام إلا وضوحا وسطوعا؛ وذلك لعدم تخلّفها طول الأزمان. أما غير أهل الشام من المسلمين فلجهادهم شروط، نرى أن أهل الفقه من المتأخرين قد خالفوها، بسبب الفسوق العام، وبسبب التوجيه السياسي الذي أصبح حاكما على كل شؤون الناس. وسنعود إلى أحكام الجهاد بإذن الله فيما بعد إن شاء الله... 4. حكم أهل الفسق من الأمم الثلاث خصوصا: لا بد من أن نحكم هنا بحكم الله تعالى ومن دون انحياز إلى قوم دون قوم، بأن اليهود قد كفروا عندما لم يؤمنوا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام، وبأن النصارى قد كفروا عند عدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ وبأن الباقين على الدين الحق اليوم هم المسلمون وحدهم. لكن الحكم بإسلام المسلمين، لا يقتضي أن نحكم بكونهم على الحق في كل ما يقولون وكل ما يفعلون؛ لأنهم من الناحية العملية على الخصوص، قد اتبعوا سبيل اليهود والنصارى، كما أخبرنا سابقا، وأصبحوا على تديّن باهت لا يكادون يمتازون به عن اليهود والنصارى أنفسهم في كثير من الأحيان. وإن كان الأمر هكذا، فينبغي علينا تبيُّن حقيقة ما يُسمّيه اليهود والنصارى وغافلو المسلمين دينا، في مقابل الدين الحق، فنقول: ا. عندما انقطعت اليهود عن الدين برفضهم اتباع المسيح عيسى عليه السلام، فإنهم قد صاروا في الجهة المقابلة، أي من حزب الشيطان. وعندما كان الدين قد اختلط لديهم بالقومية، فإنهم أبقوا على هذه الأخيرة، مع ما أمكن الحفاظ عليه من صور الشعائر، وما ابتدعه لهم أحبارهم، وجعلوا ذلك كله دينا من عند أنفسهم؛ فهم الآن يُربّون أبناءهم على هذا الخليط. ولمـّا كان هذا الدين الوضعي محتاجا إلى إعادة ترتيب، وإلى إعادة صياغة، حتى تناسب العقائد المـُثبتة المنظور الذي حرص الأحبار على تثبيته في الواقع، خصوصا في مواجهة المسيحية الحق التي كانت في الزمان التشريعي العيسوي محافظة على الأصول (كما كان الأريسيّون من بعد) فإنهم كانوا (اليهود) محتاجين في ذلك كله إلى عمل فكريّ به ينظمون شتات ما بأيديهم. وهذا العمل الفكريّ الذي يُعيد صياغة الدين، هو ما نسميه نحن بالأيديولوجيا الدينية، تمييزا لها عن مطلق الأيديولوجيا. وهكذا، فإن اليهود عندما فسقوا عن الدين، فإنهم قد أصبحوا على أيديولوجيا يهودية. ولسنا نعني هنا الصهيونية، لأن الصهيونية أيديولوجيا لاحقة على هذه الأيديولوجيا الأولى؛ مما يجعل الأمر مركّبا تركيبا، ليس من السهل الخوض فيه اليوم. ب. وكما حدث لليهود مع البعثة العيسوية، حدث للنصارى مع البعثة المحمدية؛ ونعني من هذا أن النصارى قد سقطوا هم أيضا في الأدلجة النصرانية، ليحافظوا بها على بنائهم العقدي خصوصا، بما أن معظمهم قد أسقطوا الشريعة جملة. وهم لم يعلموا أنهم بإسقاطهم للشريعة، قد أسقطوا شطر الدين الأعظم؛ لأن الشريعة هي الماسكة لمعالم الدين بما في ذلك المعالم العقدية؛ ولولاها لقال كل واحد في الدين بما يشاء. وعند انقطاع أي أمة عن رسولها، فإنها تفقد نور الهداية الذي كان لها، ويحلّ الفكر محل النور كما هي العادة. وحلول الفكر محل الدين الأصلي، ليس اعتباطا؛ وإنما لأنه نور للعقل، يهتدي به في مجاله. ونعني من هذا، أن الناس عندما يفقدون نور الهداية الربانية، ويكونون غير عالمين بحقيقة حالهم، فإن الشيطان يدلّهم على نور العقل المجرد، ليستعينوا به. ويتوهمون بذلك، وعند إعادة صياغة مفردات الدين، أن ما هم عليه هو الدين الأصلي؛ وأن العباد لا يُمكنهم غير ما هم عليه. وهو غلط منهجيّ قاتل، تسبب في فسوق الأمم وأحيانا في كفرها... ومما تجدر الإشارة إليه هنا، هو الاستفزاز الذي تعيشه كل أمة، عند ظهور الرسول الجديد والأمة الجديدة؛ وهو ما يجعل الأمة الأولى تعيد النظر في تديّنها كله، على ضوء ما تسمعه من الأمة التالية؛ حتى لا تفقد معه ما تظنه عرْضا حسنا لدينها، وبالتالي، حتى تحافظ على كيانها بالمحافظة على انتظام أجيالها الجديدة في صفوفها. وقد وقع هذا لليهود مع المسيحيّين، ووقع للأمتيْن معا مع المسلمين؛ حتى إننا نجد الدين اليهودي تطور مرتيْن: مرة مع المسيحية ومرة مع الإسلام؛ ونجد النصرانية تطورت مع الإسلام، ودخول المقولات الإسلامية عليها. كل هذا يحدث داخل الأمم، من قبل الأحبار والرهبان، من دون أن تعلم العامة تفاصيل ذلك، وهم يظنّون أن دينهم يبلغ من القوة ما يجعله لا يتزعزع أمام العقائد المخالفة؛ وهيهات!... وهذه مسألة نرى أنها لم تلق العناية الكافية من قِبل الدارسين. ولو فُتح هذا الباب وتوسع فيه ذوو الأهلية، لرأى الناس العجب من أمر الدين والتديّن. ولقد اطلعنا نحن على اللاهوت النصراني (بعد المسيحي)، واطلعنا على العقائد اليهودية المتأخرة (على الخصوص في زمن ابن ميمون فما تلا) فوجدناها حوارا فكريا يناقش المقولات الإسلامية الواردة، ويأخذ منها ما يراه يصبّ فيما عند اليهود والنصارى كلا من جهته، ويردّ ما يراه مناقضا لذلك. ونعني من هذا، أن القبول والرد، لا يكونان بإعادة المسائل إلى أصولها الأولى المعرفية، لأن هذا المستوى نادر جدا في أهل الأديان، ومن كان من أهله فإنه سيهتدي -بعد إذن الله- بسهولة إلى الدين الحق في الغالب؛ ولكن يكونان بالاحتيال والغش، وبتلقيح العقائد السابقة وأحيانا العبادات، بما يستر انحرافها ويجعل عموم أهل الطائفة، يتوهّمون أنهم على مثل ما هي الأمة المحقة عليه. وهو حجاب كثيف عن الدين، ينسجه الأحبار والرهبان، ليُبقوا الناس تابعين لهم. وقد يشذّ عن هذا الإضلال من داخل الأمة الواحدة، من يكون ذا عقل نقديّ كبير، كما كان "سبينوزا" الذي ظهر له انحراف اليهودية وانحراف النصرانية، ولو أنه لم يهتد إلى الإسلام الأصلي. لكن من بدأ السير في الطريق، لا يكون قط كمن لم يرتحل!... ولْنذكر الآن -على سبيل التمثيل- مسألة التثليث عند النصارى، والتي مهما بالغ رهبان الكنيسة في التنظير لها فكريا، فإنهم أبقوها ضمن نطاق الالتباس المستمر عبر القرون؛ مع الشهادة لكثير من أئمة المسيحية والنصرانية بعلوّ الكعب في عرضها. ولو قارنّا ما بين عوام فقهاء الإسلام وعلماء اللاهوت الكنسي، للاحظنا عجز المسلمين عما بلغه اللاهوتيّون من رقيّ فكريّ نظري. نقول هذا من باب الإنصاف، مع أننا نرفض إعمال الفكر فيما هو دينيّ عقدي من حيث المبدأ. ولنُذكّر هنا بأن الإنجيل -كما أخبر سيدي عبد العزيز الدباغ الذي كان يعلم الكتب المنزّلة كلها بالتعليم الإلهي- قد نزل هكذا: باسم الآب والابن والروح القدس؛ وهذا لسر التثليث الذي يكون عنه الإنتاج. ونعني أن العالم ما كان ليظهر، إلا بسر هذا التثليث الثابت في مستوى الحقائق؛ لكن لا بفهم الضالّين من النصارى. وأما المسلمون فلو تنبهوا، فإن التثليث موجود لديهم في البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم. ومن يطابق بين التثليثيْن، يعلم تفسير تثليث النصارى الصحيح. فالآب، بالآرامية هو الرب، لا الأب؛ والابن هو الرحمن، وهو عندنا الخليفة؛ والبنوة هنا بنوة تنزّل حضرة عن حضرة، لا بنوة طبيعية، لأن الطبيعة في هذا المستوى لم تُخلق بعد. وأعلى مجالي الخلافة الإلهية، الحقيقة المحمدية، التي هي عند المسيحيّين "الكلمة". ومن هنا كنا نحن نقول بأن عيسى هو ابن محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الحقيقة. والروح القدس، هو مجلى الاسم الرحيم، الذي هو السر الربّاني المتجلّي في الربانيّين من العباد. فمن فهم الأمر على ما ذكرنا، فإنه سيظهر له الدين الرباني المستمر مع الرسل الثلاثة، ويعلم أن الدين من عند الله، وأن كماله هو ما جاء في الشريعة المحمدية الخاتمة، ومن بقي مع أحباره ورهبانه وفقهائه، فإنه سيبقى على دين وضعيّ وإن خالطته بعض معالم أي شريعة، على تفاوت في هذه الوضعيّة من غير شك بين اليهود والنصارى والمسلمين... 5. الأيديولوجيا الإسلامية: عندما تحقق اتِّباع المسلمين لليهود والنصارى في فسوقهم، كان لا بد لهم من اقتفاء أثرهم حذو القُذّة بالقذة، وشبرا بشبر وذراعا بذراع، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فكان لا بد من بلوغ طور الأيديولوجيا الإسلامية. وهذه الأيديولوجيا قد بدأت منذ القرن الأول، مع الفرق الكلاميّة على الخصوص، وصارت تتنوع بحسب كل الأزمنة، وتزداد استفحالا؛ إلى أن قطعت كثيرا من المسلمين عن النور النبوي. وأغلب من انقطع، هم أشباه الفقهاء الذين أحلّوا العمل العقلي محل النور، وقنعوا بذلك. ولكن أشد ما بلغته الأيديولوجيا الإسلامية، هو ما صار يُعرف إعلاميا بـ "الإسلام السياسي" في هذا القرن. ولقد بدأت هذه الأيديولوجيا مع مَن يُسمّون برجال الإصلاح، من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنّا. وأخطر ما وقع مع هؤلاء، هو دمجهم بين الأيديولوجيا من حيث هي، والتنظيم الهرمي المأخوذ عن الماسونية وعن التنظيمات السرية المعلومة من التاريخ. وهكذا بلغت أمة الإسلام مرحلة من الضلال، صار الناس معها يكادون يخرجون من الملّة، وهو ما عبّرنا نحن عنه سابقا بالكتابيّة. ونعني أن جلّ المسلمين لشدة ضعف إيمانهم، قد نزلوا إلى مرتبة أهل الكتاب، من دون أن يكفروا. وكما أوضحنا سلفا، فإنهم ظلوا على الإسلام قدَرا، لا استحقاقا؛ والحمد لله على عموم فضله... ومع بلوغ الأمة هذا المبلغ، فلن يتمكن أحد من القول بأنها تُعامل كما يُعامل الصحابة والتابعون الذين كانوا على عهد قريب بنور النبوة. ومِن جهل المتأخرين، سمعنا بعضهم يخبر عن نفسه بأنه على طريق الصحابة؛ وأين هو من الصحابة!... بل إن الأولين لو اطلعوا على الآخرين من المسلمين اليوم، لما عرفوهم!... ومن لم يُدرك هذا، فليعلم أنه بعيد عن الحق، وليصمت، فإنه أسلم له!... والآن علينا أن نتساءل: إن تغيّر حكم عموم المسلمين اليوم، بتحقُّق اتباعهم للأمم السابقة، فكيف ستكون معاملتهم لمتبوعيهم؟... 1. ما هي الأحكام المنطبقة على عموم المسلمين اليوم؟: هي كل ما حكم به الله على اليهود خصوصا في القرآن، لأن الصفة تتبع متعلَّقها، وليست لصيقة بأمة من الأمم وحدها من دون الناس. وهذا الفهم في التصاق الصفات بأناس مخصوصين، سيدخل أصحابه في العنصرية المقيتة، وهم يظنّون أنهم متّبعون للوحي... ا. فالله قد حكم على أحبار بني إسرائيل الذين خالفوا ما يعلمون من التوراة بأنهم أشباه الحمير. ونحن نرى اليوم جل فقهاء المسلمين لا يكادون يعملون من أحكام القرآن بشيء، أفلا ينطبق عليهم الوصف ذاته؟... بلى، ينطبق؛ لأن الله ذكر علة الحكم، ولم يتركه لصيقا ببني إسرائيل وحدهم. وإن كل تعريض ببني إسرائيل في القرآن، هو تعريض بالطائفة من هذه الأمة التي تكون على أحوالهم وأفعالهم. ومن لم يفهم القرآن هكذا، فما فهمه!... وقد فعل الله هذا، بهذا الأسلوب، إكراما لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وحتى لا يقول له صراحة: أمتك على كذا وكذا (من الصفات)!... وهذا التلطف، لا ينبغي أن يحجبنا عما وراءه من الوعيد!... ب. إن قتل الأنبياء من طرف بني إسرائيل، يقابله عندنا إماتة السنّة وإحياء البدع... لذلك فقول الله تعالى: {ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُوا۟ یَكۡفُرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّۗ ذَ ٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ یَعۡتَدُونَ} [البقرة: 61]، ينطبق على طائفة من هذه الأمة. ومن نظر إلى صدر الآية المذكورة، فإنه سيجدها تبدأ هكذا: {وَإِذۡ قُلۡتُمۡ یَـٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَ ٰحِدٍ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ یُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّاۤىِٕهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِی هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِی هُوَ خَیۡرٌۚ ٱهۡبِطُوا۟ مِصۡرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَاۤءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِۗ}، وهذا يتعلّق بالمسلمين الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وما أكثرهم!... ويعني أن مطالبهم ما عادت تتعلق إلا ببطونهم، فاستحقّوا أن يُشاركوا اليهود في جزء مما أصابهم جزاء لذلك: وهو الإهباط إلى مصر بعد أن كانوا قاصدين لبيت المقدس؛ وسنرى مكانة بيت المقدس من الفصل الموالي إن شاء الله. والمعنى هو أن المسلمين المؤثرين للدنيا، سينزلون في المرتبة عن الإيمان والإحسان، ويبقون على إسلام باهت حسّيّ، لا يكاد يفي لهم بثمار التديّن. ثم لينظر القارئ إلى الذلة والمسكنة التي ضربت على بني إسرائيل، جرّاء كل مخالفاتهم، ألم يصبح المسلمون أسوأ منهم فيها؟!... حتى صار اليهود أعز من كثير من المسلمين، نرى هذا رأي العيْن!... ج. ألا يشبه كثير من المسلمين اليهود عند قولهم: {وَقَالُوا۟ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّاۤ أَیَّامًا مَّعۡدُودَةً قُلۡ أَتَّخَذۡتُمۡ عِندَ ٱللَّهِ عَهۡدًا فَلَن یُخۡلِفَ ٱللَّهُ عَهۡدَهُۥۤۖ أَمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 80]. وربما سيقول قائل: هذه الأمة مرحومة، وقد سبق لكم أنتم أن دللتم على أنها لا تُعامل كغيرها؛ فنقول: إن ما يحكم به الله تفضلا، لا ينبغي أن يواجه به في معرض الحجاج عند المخالفات؛ لأن هذا سيكون من كفران النعمة لا من شكرها. ثم إن الله، له أن يحكم بما شاء، وأن يُغيّر أحكامه كما يشاء ومتى يشاء سبحانه؛ فليتعلم العباد معاملة رب الأرباب!... ولقد جعل الله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة الحسنة، فلمَ لا يعود المسلمون إلى الاقتداء به في أدبه مع ربّه، ويعودون إلى ما تُنتجه عقولهم الضعيفة المعتلة فيضلّون؟!... ثم ألا يشبه اعتقاد المسلمين السائد قول اليهود: {وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰۤؤُا۟ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰۤؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ یُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ یَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۖ وَإِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ} [المائدة: 18]؛ وقطعهم بأنهم أفضل من الأمم الأخرى، مع ما هم عليه من المخالفات؟!... ومعنى نحن أبناء الله وأحباؤه، لا يؤخذ على ظاهره وحده، بل يؤخذ بمعنى نحن خلصاؤه، ولن يعذّبنا. وهذا لسان الجهلة من المسلمين اليوم، خصوصا عند احتقارهم لليهود وللنصارى من غير تمحيص. فعليهم أن يسمعوا جواب الله لهم: {قُلۡ فَلِمَ یُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ یَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۖ وَإِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ}. بل أنتم بشر ممن خلق: أي أنتم لا تمتازون عن غيركم من الأمم، إلا إن ميّزكم هو سبحانه بفضله، لا بما تميّزون أنتم به أنفسكم. فالحكم لله، لا لكم!... وهكذا، فليقس المسلمون كل ما ورد من الوعيد الذي خُصّت به اليهود والنصارى، على أنفسهم؛ إن كانوا يريدون الهداية والتوفيق؛ وأما الاغترار بالله، فعاقبته وخيمة. يقول الله تعالى: {بَلۡ إِن یَعِدُ ٱلظَّـٰلِمُونَ بَعۡضُهُم بَعۡضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر: 40]. فعلى المسلمين أن يخرجوا عن إضلال أحبارهم، بالعودة إلى كلام ربهم ونبيّهم، قبل أن يفوت الأوان، خصوصا ونحن مقبلون على فتن أعظم من التي نحن فيها، فليحذر العبد على نفسه!... ولنختم هذا الفصل بتنزيل عمليّ لما ذكرنا بسيط، يتعلّق باستنفار الأزهر للأمة بعد إثخان اليهود فيها في هذه الأيام، وذلك باعتماد خطاب جامد ومتخلّف، وكأننا في العصر الأول!... ويستدل الأزهر في آخر بيانه، بقول الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ} [آل عمران: 139]، نعم، صدق الله وكذبت قلوبكم!... وأين هو شرط الإيمان يا شيخ الأزهر؟!... أم هي بيانات إنشائية، نسمعها منكم ومن وزارات خارجية دولكم، ترفعون بها العتب (أو هكذا يُخيّل إليكم) عن أنفسكم، ثم تعودون إلى ما كنتم عليه من سبات حضاريّ، وأنتم تتفرجون على مستضعفي المسلمين يُمزّقون أشلاء في فلسطين وفي غيرها؟!... كفى نفاقا، وكفى كذبا!... واصمتوا واستحيوا هو خير لكم، بدل أن تدلّوا على عوراتكم العالم أجمع، وتُشهدوه على سوء حالكم!... [1] . أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. |