انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2023/01/07
شذرات مما يتعلق بموقعة صفين من أحكام وآيات (8)
(تابع) 8. أركان دين معاوية: عندما نقول "دين معاوية"، فإننا نعني الدين الذي أسسه معاوية، والذي اتبعه فيه الجاهلون من المسلمين، من ذلك الوقت، وإلى الآن. فمنهم من لم يعرف غير ذلك الدين، فظنه الإسلام الذي أسسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ومنهم من اشتغل بالعلم كما تركه علماء الطائفة، فصار يُتقن الرجوع إلى أصول معاوية، أو أصول معارضيه؛ وصار يُرسّخها في الناس من كونه عالما فيهم، يدلهم على تديُنهم الموروث. ولكن لا أحد من هؤلاء وأولئك، يسأل نفسه سؤالا منهجيا لا محيد عنه، وهو: لمَ لمْ تظهر مع هذا الصنف من التديّن، الثمار العلمية والخلقية التي ظهرت مع أول صنف جرب العمل الدينيّ، والذين هم الصحابة المرضيون، بإمامة معلم الدين محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟... وكأن الناس، لا يجرؤون أن يعيدوا النظر في أصول تقليدهم؛ مع أنها لا تبلغ قوة الوحي النازل من عند الله على أي حال. لهذا فدين الله مخالف عندنا لدين أهل السنة ولدين الشيعة المتأدلجين، وسنبيّن في هذا المقطع من الكتاب، كيف يكون ذلك؟... كل هذا، من دون أن نكفّر أحدا!... فليتنبه القارئ!... 1. قطع الدين عن أصله: ونعني بالأصل هنا الأصل الرباني الذي تتصل سلسلته بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يكون به الاستمداد. ولا نقصد تسلسل السند واتصاله، كما هو عند المتصوّفة، وعند أهل الحديث؛ فذلك لا يثبت به شيء عندنا، إلا إن وافق ما ذكرنا. والشأن أعظم وأخطر مما يتوهمه الناس هنا!... والذي نعنيه بكلامنا هو أنه كما أخذ الصحابة الدين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكذلك الأجيال ينبغي أن تأخذه عن ربانيّ وارث من زمان كل جيل؛ لأن الرباني المتبوع يأخذ علمه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة؛ وإذا كان كامل الربانية، فإنه لا يكون إلا مظهرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم... وهذه السلسلة -كما يلاحظ القارئ- تكون أقصر السلاسل دائما، لأنها من كل زمان، عن الربانيّ الوارث، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لا تزيد أبدا!... وليست سلسلة يزيد فيها واحد، كلما زاد عدد الأجيال؛ لأن هذا الصنف الأخير يُعدّ تسلسلا تاريخيا، لا سلسلة علمية مددية. ونعني من هذا كله، أن الربانيّ من كل زمان، يُعيد الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا إلى الجيل الذي قبله. وهذا الصنف من العودة إلى الأصل، هو ما نشترطه في كل زمان لتجديد الدين الذي أُخبرنا عنه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ اللَّهَ يبعثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها»[1]. وتجديد الدين المدلول عليه، ليس هو تجديد الفقه وحده الذي لا يكاد الناس يعرفون غيره؛ وإنما هو تجديد للدين كله، وكأن الوحي ينزل طريا في كلّ قرن!... إما هذا، وإما السكوت عن التجديد؛ حتى لا ينزل معناه إلى حيث لا ينبغي من السُّفل!... ومن كان ينبغي أن يؤخذ عنه الدين في زمن معاوية، هو عليّ عليه السلام، بغير أدنى شك؛ لو أن البصائر كانت كلها على نور؛ ولكن معاوية اختار دينا يدّعي فيه اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسانا، وهو مُعادٍ له صلى الله عليه وآله وسلم نفسه في الحقيقة. ولو أن الناس عرفوا معنى الوراثة النبوية كما هي في حقيقتها، لأدركوا ما نقول من غير عناء؛ ولكن الظلمة إذا سبقت إلى فهم العباد، فإنهم يجدون صعوبة في إدراك ما نرمي إليه؛ بل قد يرى بعض البُعداء كلامنا مما يُذكي الفتنة ولا يُضعفها!... والعاقل من اعتبر الاختلافات بين الأفراد وبين الجماعات، حتى يتفهم منطلقات كل فرد وكل جماعة، فلا يقسو عليهم قسوة الجاهلين، وإن أخّرهم في الاعتبار!... والدين المقطوع عن أصله، لن يؤتي ثماره من علوم وأخلاق، كما آتاها في مجتمع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم؛ ولكن سيُثمر النفاق والشقاق، وما يلازمهما من أيديولوجيا مموِّهة. وستظهر مع هذا الدين الشركيات في العقائد والعبادات، إلى أن يصل الأمر إلى ما وصلنا إليه في زماننا: وهو زعم الإسلام عند الغالبية، والحال حال جاهلية وكفران (لا كفر)!... وحتى نقرّب ما نقول، فلنعتبر واقعة عظيمة الدلالة في الإسلام، وهي أَمْرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهدم مسجد الضرار. وكيف يسوغ أن يكون هدم مسجد من روح الدين؟!... وأما قصة مسجد الضرار، فنوردها كما جاءت في "البداية والنهاية"، بتصرف قليل: [وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظالم أهله، وكيفية أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخرابه. ومضمون ذلك أن طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريبا من مسجد قباء، وأرادوا أن يصلي لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه، حتى يروج لهم ما أرادوه من الفساد، والكفر والعناد. فعصم الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، من الصلاة فيه، وذلك أنه كان على جناح سفر إلى تبوك. فلما رجع منها فنزل بذي أوان (مكان بينه وبين المدينة ساعة)، نزل عليه الوحي في شأن هذا المسجد، وهو قوله تعالى: {وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مَسۡجِدًا ضِرَارًا وَكُفۡرًا وَتَفۡرِیقَۢا بَیۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَإِرۡصَادًا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَیَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَاۤ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ لَا تَقُمۡ فِیهِ أَبَدًاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ یَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِیهِۚ فِیهِ رِجَالٌ یُحِبُّونَ أَن یَتَطَهَّرُوا۟ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِینَ أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡیَـٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰنٍ خَیۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡیَـٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِی نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ لَا یَزَالُ بُنۡیَـٰنُهُمُ ٱلَّذِی بَنَوۡا۟ رِیبَةً فِی قُلُوبِهِمۡ إِلَّاۤ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ} [التوبة: 107-110]. أما قوله: {ضِرَارًا}: فلأنهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء. {وَكُفْرًا}: بالله لا للإيمان به. {وَتَفْرِيقًا}: للجماعة، عن مسجد قباء. {وَإِرْصادًا}: لمن حارب الله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الفاسق؛ وذلك أنه لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام، فأبى عليه؛ ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاءوا عام أُحد فكان من أمرهم (...)، فلما لم ينهض أمره، ذهب إلى ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصَّر معهم من العرب؛ وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم (...)، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد في الصورة الظاهرة، وباطنه دار حرب، ومقر لمن يفد من عند أبي عامر الراهب، ومجمعٌ لمن هو على طريقتهم من المنافقين. ولهذا قال تعالى: {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}، ثم قال: {وَلَيَحْلِفُنَّ}: أي: الذين بنوه: {إِنَ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى}: أي: إنما أردنا ببنائه الخير. قال الله تعالى: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}؛ ثم قال الله تعالى لرسوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}. فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره؛ ثم أمره وحثه على القيام في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وهو مسجد قباء لما دل عليه السياق. والأحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه. (...) والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل بذي أوان، دعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عديّ -أو أخاه عاصم بن عديّ رضى الله عنهما- فأمرهما أن يذهبا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فيحرّقاه بالنار؛ فذهبا فحرقاه بالنار، وتفرق عنه أهله.][2]. وهنا ينبغي أن نطابق ما فعله مَن بنى مسجد الضرار، بما فعله معاوية، مطابقة صورة مصغَّرة لصورة مكبَّرة؛ لأنهما معا صورتان حسيّتان معنويّتان، فنقول: ا- إن مسجد الضِّرار، في ظاهره مسجد جُعل لتقام فيه الصلاة، ويُعبد فيه الله بما شرع. فلو لم يحكم الله عليه ورسوله بأنه مسجد أريد منه التفريق بين المسلمين، وإعداد لحرب الله ورسوله، فكان لا بد من إحراقه؛ ورأى أحد المسلمين شخصا يقوم بحرقه، فما كان سيحكم عليه؟... من غير شك سيعدّه عدوا لله ورسوله، ومحاربا للدين؛ وربما شكاه إلى السلطان حتى يغلظ عقوبته!... فما هذا الفرق بين ظاهر الصورة وحقيقتها؟... إنه حكم الله ورسوله، ونية من بنى المسجد فيه!... فمن كان على بيّنة في حكم الله ورسوله، فإنه يحكم بما علم ولا يتردد؛ ومن كان مطموس البصيرة، فعليه أن يتبع الربانيّ إن كان يعلمه؛ وإلا أمسك لسانه ويده، حتى لا يزيد من فتنة نفسه ومن فتنة المسلمين. فالأمور في الدين لا تؤخذ بظاهرها وحده، وإنما يُنظر في بواطنها أولا. ومن لا طريق له إلى الباطن، لا ينبغي له أن يحكم على شيء!... ولقد علّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتباعه من المؤمنين -من جملة ما علَّم- أن يميّزوا قوله؛ مما قد يُكذب عليه، ويُنسب زورا إليه؛ وإن طُمس هذا المعنى، واستعاض عنه علماء الحديث بطرقهم في الحكم على درجة الحديث، حتى تاه الناس بعدم رجوعهم في ذلك إلى ثابت. ولسنا هنا ننكر طريقة أهل الحديث في معرفة الحديث ودرجاته، ولكن نشير إلى ما تكمُل به من جهة الباطن. وما سميناه ثابتا، مدلول عليه في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ، فَأَنا أَوْلاكُمْ بِهِ؛ وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ، فَأَنا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ.»[3]. وقصدُنا من إيراد الحديث أمران: الأول: أن نثبت معيارا في معرفة صدق نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أثبته النبي نفسه، وهو القلوب والأشعار والجلود، من المؤمنين. وهذا يعني أن المؤمن الذي هو على صلة إيمانية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا بد من أن يعرف صحة الحديث من وقعه عليه: فإن قبله وخشع له، فهو حديث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإن وجد نفورا وانقباضا، فليعلم أنه ليس منه. هذا هو معنى الحديث المذكور باختصار. فمن لم يكن له قلب يُحكّمه، فلا يلومنّ إلا نفسه!... وقد جربنا نحن هذا الأمر ووجدناه من دون قصد؛ ونحن ما زلنا لم نصل بعد إلى باب شيخنا، رضي الله عنه، في بداية شبابنا. ومع أنه لم يسبق لي الاشتغال بالعلوم الدينية، ولو في الحد الأدنى، فإنني كنت أسمع الكلام مما لا يليق بالله ورسوله، فأرده فورا إن استطعت، أو تكون تلك آخر مجالسة لي مع قائله إن كان متعالما لا أقوى على مواجهته. فمرة وقد كنت أجالس جماعة من الإسلاميين، من أتباع عصام العطار (رحمه الله)، وأنا لا أعرف عنهم شيئا؛ إلا أن لي بهم حسن ظن. فطفق إمامنا في الصلاة بعد أن انتهينا منها، يعظنا؛ فكان من جملة ما حضنا عليه: الاعتناء بتجويد القرآن وتحسين الصوت به، وقرأ قول الله تعالى: {ٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ} [البقرة: 121]، فرددت عليه فورا (ولم يكن لي علم سابق بالمسألة غير أنني لا أطيق السكوت) بقولي: تلاوة القرآن حق تلاوته، هي العمل بما فيه!... فأنكر عليّ الرجل، ونظر إليّ شزرا، وأنا من كنت حديث عهد بجاهلية؛ خصوصا وقد كنا في جماعة، والنفس لا تقبل أن يتنقصها أحد أمام الناس. فلامني على تسرعي بالكلام في القرآن برأيي وهواي، وأراد أن يرسخ ذلك بحجةٍ تكون له عليّ. فمد يده إلى رفوف بجانبه، كان عليها تفسير من التفاسير، وقال لي: فلننظر ما جاء في هذا التفسير!... وكم كانت دهشته ودهشتي معه، عندما صرنا نسمع المعنى الذي ذكرته أنا بالعبارة التي ذكرتها تقريبا. فأُسقط في يده وتلعثم قائلا: هذه المرة قد وافقتَ المعنى، ولكن احذر مرة أخرى أن تسارع إلى الكلام بفهمك قبل أن تتأكد!... وبقيت أنا -من كنت لا أعد نفسي من المسلمين بعد- متعجبا كيف أن الله أفهمني المعنى جليّا، لم أشك فيه لحظة!... ولقد حدث معي هذا في مرات أُخَر، ولكن هذا الكتاب لا يتسع لذكر ذلك كله... وحتى يتأكد معنى شهادة جوارح المؤمن بصدق الحديث النبوي، فليقس السامع معنى الحديث السابق، بما أخبر الله عنه في القرآن من أحوال الآخرة، حيث يقول سبحانه: {یَوۡمَ تَشۡهَدُ عَلَیۡهِمۡ أَلۡسِنَتُهُمۡ وَأَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ} [النور: 24]. فما يشهد في الآخرة على العباد بما كانوا يعملون، يشهد هنا من المؤمن على صحة الحديث النبوي. وأما الشهادة في حقيقتها، فهي من الله. يقول الله تعالى: {وَقَالُوا۟ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَیۡنَاۖ قَالُوۤا۟ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَنطَقَ كُلَّ شَیۡءٍ} [فصلت: 21]. أي أنطقنا الله بعلمه في الأمور، كما أنطق كل شيء؛ مما يعلم الناس نطقهم أو مما لا يعلمون في العادة. ولم نجد لهذا الأصل ذاكرا، بهذه المطابقة بين الدنيا والآخرة، إلا إن كان ونسيناه. الثاني: هو أن نَحمِل عليّا محمل القول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أضعف ما يكون من الإيمان به. فلا بد لمن كان على إيمان، أن يراه أبلج نيّرا كالصبح، فيعرفه من نفسه بداهة؛ وفي المقابل يعلم أن مناوئه على الخسران المبين. ولكن عندما نجد الناس ينظرون إلى عليّ وإلى معاوية، فيسويان بينهما في الصحبة (افتراء)، ويحتاجون معهما إلى تحكيم؛ فإنا نقول إن أولئك كانوا فاقدين للحد المطلوب من الإيمان في قلوبهم؛ وهذا أفضل الصنفيْن منهم. وأما الشطر الأسوأ، فلا بد أنهم كانوا على نفاق بيّن، به مالوا إلى إمامهم معاوية، واستطابوا طريقه!... هذا هو حكم الله من فوق عرشه، فليأخذه من شاء، أو ليضرب به عرض الحائط من شاء!... فوالله لن نبدل ما علّمنا ربُّنا ولو عُرضت علينا الدنيا بحذافيرها!... ب- ومعاوية لم يبْنِ مسجد ضرار، وإنما استحدث دين ضرار بأكمله. ومَن سيعلمون شناعة فعلته من الناس، وهم يرونه يذكر الله ويصلي، ويحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!... إن لم يكن لهم نور يمشون به في الناس!... يقول الله تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَیۡتًا فَأَحۡیَیۡنَـٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورًا یَمۡشِی بِهِۦ فِی ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ لَیۡسَ بِخَارِجٍ مِّنۡهَاۚ كَذَ ٰلِكَ زُیِّنَ لِلۡكَـٰفِرِینَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ} [الأنعام: 122]. ومعنى كان ميتا فأحييناه: أي كان كافرا فأسلم. وبعد الإسلام جعل الله له نور الإيمان يمشي به في الناس؛ أي به يعرف المحق من المبطل من الناس. وإلا فما نفع الإيمان في الدنيا؟!... وحتى يعرف المؤمنون حقيقة معاوية، كان يكفي منه أمر واحد، هو مواجهته للخليفة عليّ عليه السلام!... ولكن أين النور؟!... ولو أن الصف الذي كان مع عليّ، كان موقنا بما هو عليه، ولم يتزعزع إيمانه عند النظر إلى صف النفاق يصلي ويصوم ويقوم، لقام إلى معاوية وخُلصائه يُفنيهم في أقرب مدة؛ ولكنه الوهن يتسرب من نفس إلى نفس، كالمرض المعدي، بما يصب في مراد حزب الشيطان. والخليفة مع ذلك كله، في أشد البلاء مع هؤلاء وهؤلاء، وهو يعالج قلوبا معتلة، تتقاذفها أمواج الشك يمنة ويسرة، إلا قلة ممن بقوا على العهد الأول الذي عاهدوا عليه نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم، لم يتطرق إليهم الشك لحظة!... رضي الله عنهم وجزاهم خيرا. فشتان ما بين الفريقيْن، وشتان ما بين نتيجتيْهما!... ومن أراد الزيادة في المطابقة، فليعد إلى معاوية يسأله: هل تريد القضاء على أمة الإسلام؟... فإنه سيسمع منه الجواب الذي ذكره الله عمن كانوا أقل خطرا منه: {وَلَیَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَاۤ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ}. فمن يصدِّقِ الناسُ: ربهم أم معاوية، لأنه حلف؟!... ومن تابع المطابقة في التفاصيل، سيجد أن مسجد الضرار، لو لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضرا في واقعته بشخصه الشريف، ما كان أحد من الناس قَبِل ما فُعل به، ولاتهموا الفاعل بمعاداة الدين البيّنة؛ بسبب تحكيم الظاهر وحده، كما أسلفنا!... ولكان ذلك المسجد فرَطا لسوء معاوية، يشهد له بحسن الصنيع، ولاستمر الناس إلى اليوم يتمسحون بجدرانه!... وكما أن مسجد الضرار، لو لم يُحرق، لكان قلعة للنفاق تنخر الأمة من باطنها منذئذ؛ فكذلك معاوية، عندما انطلت حيله على الناس، فقد شيدوا معه دينا نفاقيا، سيبقى هادما في الأمة إلى أن يشاء الله. ولولا أن الله عصم هذه الأمة بالطائفة الظاهرة على الحق منها، والتي هي حاضرة في كل زمان، لقطعنا بكفر الناس بعد إسلامهم!... ويشهد لما نقول، عدة نصوص حديثية، منها: * عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بهذا الخَيْرِ، فَهلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ شَرٌّ؟ قالَ: «نَعَمْ.» فَقُلتُ: هلْ بَعْدَ ذلكَ الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟ قالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ.» قُلتُ: وَما دَخَنُهُ؟ قالَ: «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بغيرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي: تَعْرِفُ منهمْ وَتُنْكِرُ.» فَقُلتُ: هلْ بَعْدَ ذلكَ الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ علَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا.» فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا! قالَ: «نَعَمْ: قَوْمٌ مِن جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا!» قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، فَما تَرَى إنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ؟ قالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المـُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ.» فَقُلتُ: فإنْ لَمْ تَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إمَامٌ؟ قالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ علَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حتَّى يُدْرِكَكَ المـَوْتُ وَأَنْتَ علَى ذلكَ.»[4]. ولنتدبر الآن بعض معاني الحديث: - الخير الأول: هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس، خالصا صافيا. - الشر الأول: هو الفتنة التي كانت نتيجتها الخروج من الخلافة إلى الملك، من دون أن يكون للناس (عمومهم) علم بذلك وبآثاره عليهم وعلى من يأتي بعدهم. - الخير الذي بعده وفيه دخن: هو ازدهار العلوم الدينية وتفريع الأحكام، مع مواصلة الفتوحات. والدخن، هو ما خالط الدين من ظلمة المعصية الكبرى (الفتنة العظمى)، واستمرار عملها في الأمة إضعافا وتفريقا. والاستنان بغير السنة، هو انقلاب الدين برعاية السلاطين؛ والهدي بغير الهدي النبوي، هو جعل الأمر ملكا عاضا ثم جبريا؛ يكون الحكم فيه للقوة لا للحق. - الشر الذي بعده: دعاة على أبواب جهنم: وهؤلاء هم المتبعون للفلسفات الدخيلة والمـُدْبِرون عن الوحي. أما وصف هؤلاء الدعاة بأنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، فإنه يؤكد أنه لم يبق لهم إلا ذلك؛ وكل أمرهم، هم فيه تبع للخارج كما هو واضح. - أما النصيحة لمن أدركه ذلك الزمان، فهي أن يبقى ملازما لإمام المسلمين وجماعتهم. وهذه هي القاعدة الأصلية التي ينبغي العمل وفقها. ولكن الصحابي السائل كان فقيها، فسأل: إن لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام؟... فكان الجواب: اعتزال جميع الفرق، والصبر إلى أن يأتي الموت. وهذا، لأن الأصل هو أن يكون العبد في جماعة؛ فإن لم يتمكن، فالاعتزال أفضل ما يكون عليه حينئذ. وهذا، هو ما جعلنا نحكم ببطلان الأسس التي تقوم عليها جماعات الإسلاميين في زماننا، أو الجماعات التي في حكمها... وقاعدة لزوم الجماعة الأصلية، هي ما نريد إبرازه الآن: فالجماعة لا تكون جماعة إلا بإمام. وإذا كان الإمام في زمانه عليّا عليه السلام، فإن جماعة المسلمين هي التي كانت معه. وهذا يعني أن الناس كانوا ملزمين باتباعه ونُصرته؛ وإلا فإنهم يكونون واقعين في الفتنة الضارة، والتي خشيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أمته. * قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أنا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أبَدًا. لَيَرِدُ عَلَيَّ أقْوامٌ أَعْرِفُهُمْ ويَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحالُ بَيْنِي وبيْنَهُمْ. (...) فَأَقولُ: إنَّهُمْ مِنِّي! فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدْرِي ما بَدَّلُوا بَعْدَكَ! فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا، لِمَن بَدَّلَ بَعْدِي!»[5]. وهذا الحديث زمنه يوم القيامة، عند ورود الناس الحوض؛ فيعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتباعه بعلامات، فينادي عليهم ليقتربوا وينهلوا؛ فيُحال بينه وبينهم من قِبل الملائكة، فيقول: إنهم منّي!... وهذا من وفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، الذي سيجعله يتتبعهم في المواطن ويحرص على نجاتهم. لكنه عندما أصر على أنهم منه، والعبارة كانت متضمنة لاستفسار معناه: ما الذي فعلوه؟... أجابت الملائكة: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك!... ومعنى هذه العبارة لا يؤخذ على ظاهره، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم كل أحوال أمته، وكأنه لم يغب عنها يوما؛ ولكنه من مجاراة الملائكة، حتى يُفصحوا، فأفصحوا بأنهم قد بدلوا بعده. وهو عليه وآله الصلاة والسلام من تعظيمه لربه، لا يعتبر إلا ما بُعث به؛ فإن تخلت أمته عن الرسالة، فإنه ينحاز إلى ربه، ويبرأ إليه منها. وهذا هو معنى: سحقا سحقا (أي بُعدا بعدا)، لمن بدل بعدي. والتبديل الأكبر قد بدأ مع معاوية، واستمر إلى أيامنا هذه!... ولنكتف بما قدّمناه للدلالة على ورود ذكر التبديل والتحريف في الأحاديث النبوية الإخبارية؛ حتى لا يقول قائل: ما كان لنا علم بأن الدين سينقلب!... 2. اتخاذ أئمة في الدين من دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والمعنى هو أن الإمام لا يكون إماما في الدين، حتى يكون هاديا بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإذا خالفه فإن إمامته تكون باطلة. وهذا الأصل ينبغي أن يُعمل عليه دائما، حتى يأمن المسلمون الانحراف. ولكن المنحرفين، قد يلجأون إلى بعض الحيل، من أجل التلبيس على الناظرين، كما فعل معاوية وأتباعه، عندما أعلنوا التزامهم بالسنة النبوية، وكأنه قد بقي لهم منها شيء؛ وعندما زعموا الاقتداء بالسابقين من المهاجرين والأنصار، وكأنهم على خطاهم يسيرون!... لكن المغالطة الكبرى كانت اعتبار معاوية نفسِه صحابيا، بعد كل ما فعل. فهو إن كانت له شبهة صحبة، قد سقطت عنه بمقاتلته للخليفة الإمام عليّ عليه السلام. ولقد تعرضنا في المجتمعات السّنيّة، منذ نعومة أظفارنا، لسيل من المقولات الإرهابية من قِبل النواصب، والتي جعلتنا لا نجرؤ على إمعان النظر فيما وقع، إلا بعد مدة؛ وبعد تخليص الله لنا من كل شائبة طائفية. وعندما جاء أوان تمحيص ما وقع في معركة صفين، أدركنا لأول وهلة مقدار الفاجعة، وهول التستر عليها على مر القرون. وما كان ذلك ليكون حتى في المجتمعات السنيّة، لولا عمل تيار النصب الدؤوب على التعمية والتخويف!... ولا أشبه بهؤلاء مع معاوية، من أتباع "بولس" في النصرانية، عندما أعاد لهم صياغة الدين صياغة تامة ومنحرفة، مع أنه ليس حتى من الحواريّين!... وبعد بدء صدور هذه السلسلة، تفاجأنا من الإعلانات التي وردتنا من بعض أهل السنة، وقد كانت أكثر من المعتاد، يشهدون أنهم لم يكونوا يجرؤون على النظر في المسألة، وأنهم قد ارتاحوا عند مطالعتهم لما كتبناه فيها. وهذا إنما يُنبئ عن تضليل ممنهج وقع في مجتمعاتنا السنيّة، وإن كان في السابق ضعيف الأثر، بانحصاره في بعض المشتغلين بالعلم، دون سواهم. وأما عموم المجتمع المغربي الذي نحن منه، فقد كان الناس فيه من العامة، على تعظيم خاص للإمام عليّ (وكان لا يُذكر اسم سيدنا عليّ إلا مقرونا بلفظ الإمامة)، ولجميع أهل البيت، وعلى الخصوص سيدتنا فاطمة والسبطان، على الجميع السلام. وقد عشنا هذا ورأيناه في طفولتنا، لا نشك فيه لحظة... ولكننا بعد عقود صرنا نرى تديّنا مختلفا، يقوم أول ما يقوم، على التقليل من شأن أهل البيت، وعلى تعظيم معاوية وابن تيمية. ولقد كنت عندما أتناول الموضوع مع وليّ الله سيدي ابن الطاهر رضي الله عنه (وهو من أعلم الناس بمثل هذه الأمور)، كان يقول لي عن المغرب: المغاربة شيعة معتدلة في الأصل!... وكنت أجد جوابه -رضي الله عنه- منسجما مع ما نعلمه من تأسيس أول دولة إسلامية على يد إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب على الجميع السلام، سنة 172هـ؛ عندما جاء عليه السلام إلى المغرب فارا من موقعة فخّ (قرب مكة)، سنة 169هـ، بين الطالبيّين والعباسيّين. وهي تُعتبر ثاني إمارة مستقلة عن خلافة المشرق، بعد دولة الأمويّين في الأندلس. ولن ندخل في تفاصيل الأحداث، حتى لا تتداخل الأمور بين موروث معاوية وموروث أهل البيت عليهم السلام؛ ولكن بإزاء ذلك، لا بد أن نُشيد بأمازيغ المغرب، الذين احتضنوا العلويّين وأقاموا لهم دولة لم يسمح الشرق بقيام مثلها في ذلك العصر المبكّر. ونحن دائما نقول، من باب إحقاق الحق، وردا على من ينفخ في نار الفُرقة مرة أخرى بين عرب المغرب وأمازيغه: إن العرب جاءوا بالإسلام إلى المغرب، والأمازيغ هم من حملوه!... لا يُنكر هذا إلا مـُغرض!... وما زال جلّ حفظة القرآن والمشتغلين بالعلوم الدينيّة عندنا أمازيغ، اقتداء منهم بأئمة في الدين من الأمازيغ بارك الله في عقبهم، وجزى الأئمة من سلفهم عن الإسلام وأهله خيرا!... ومهما قلنا -ونحن من نعيش بين الأمازيغ منذ قرون طويلة- فإننا لن نفي إخواننا الأمازيغ حقهم، ولن نتمكن من رد جميل كرم أخلاقهم. هذا مع عدم استطاعة التفريق بين الشعبيْن، لتكرار المصاهرة بينهما جيلا بعد جيل. وأنا أذكر أن والدة جدي (والد والدي) كانت امرأة أمازيغية؛ وأذكر أن جدتي (والدة والدي)، كانت تتكلم الأمازيغية في بيتها لا العربية. فلتحذر شعوب أفريقيا الشمالية دعوات التفريق بين العرب والأمازيغ، فإنها دعوات دجّالية خبيثة، وليتحدوا كما اتحد أسلافهم حول محبة أهل البيت، فإنها نعمتِ اللحمة بينهم، ونعمت الآصرة بعد الإسلام!... والذي أردناه من عبارة اتخاذ أئمة في الدين من دون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، هو قصد أتباع معاوية إلى إبراز خلافة الخلفاء الثلاثة الأُول، وفصلها عن خلافة عليّ عليه السلام؛ وكأن الخلفاء الأُوَل كانوا وحدهم خلفاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم!... ونعني من هذا، ما يبقى أثرا لدى المتلقّين، لا ما قد تنطوي عليه الكتب، حين كان المتعلمون قليلين. ثم نعني أمرا آخر مما ذكرنا، وهو إبراز الخلفاء الأُول، وكأنهم مستقلّون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا ما يكون من اقتداء كما تعرفه الفقهاء، ومن اجتهاد يُنسب إلى صاحبه. والحقيقة هي أن الخلفاء جميعهم، يقومون بالحقيقة المحمدية، كما يقوم الخلق بالمعنى الأصلي بالحق (القيومية). فنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، هو الناطق من الخلفاء، وهو المعلّم والمرشد؛ وهذا يجعل عليّا إن لم يُساو غيره ممن سبقوه في الخلافة، يفضلهم لقرابته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وللتبليغ عنه بإذنه، الذي لم يكن إلا له، كما أسلفنا في أجزاء سابقة. وهكذا، فإن المذهب السُّنّيّ الذي أسس له معاوية، لا يُمكن أن يكون سنّيّا على التحقيق، وهو يطعن في عليّ، أو يفصل الخلفاء السابقين عن النبوة؛ وإن كان متأخِّروا أهل السنة لا يبلغون في ذلك مبلغ أسلافهم من جيل معاوية، ويفرون من ذكر عليّ عليه السلام، وكأنهم يرومون بلوغ تجاهله في الأئمة والخلفاء!... ومن يتمكن من تغطية الشمس بكفه عند توسطها كبد السماء؟!... لكن مع ذلك، فإن الأجيال المتأخرة التي تتلقى العقائد بالتلقين عن أسلافهم، قد وقعوا تحت الإضلال الناصبيّ؛ خصوصا وأن النواصب لا يُعلَمون على التعيين في المجتمعات السّنّيّة إلا نادرا، بل يُحسن بهم الظن ويُعتبرون من علماء الدين ذوي الغيرة عليه!... وهذا، وإن لم يبلغ إلى إفساد فطرة الناس على التمام، لكنه بلغ بهم نوعا من التوقّف، خوفا من التشيُّع الذي قُدِّم لهم على أنه الكفر بعينه. ونحن نسأل القارئ أن لا يتسرع في الحكم هنا، وأن ينتظر تمام كلامنا عن التشيّع؛ حتى لا يقع فيما يخدم النواصب من اتهامنا بالدعوة إلى التشيع، ونحن من ذلك براء؛ وسنُبيّن لِمَ ذلك؟... ولقد ظهر أثر النصب في العلوم الدينية المنسوبة إلى أهل السنة، ونتجت عنه آثار لا زالت تعمل في المجتمعات السّنّيّة إلى الآن، وسنكتفي من ذلك بذكر ما يلي: ا. الأثر في العقائد: ولقد صارت عقائد أهل السنة، وبالأخص عقائد الأشاعرة، عقائد نصب من دون إعلان؛ حتى لا تُثار الحميّات والعصبيّات. هذا، مع أن العقائد الأشعرية، هي أقرب العقائد الإسلامية إلى الحق؛ وهي أقرب في نظرنا حتى من عقائد الشيعة، لكون الشيعة لم يُحسنوا صياغة عقائدهم دائما، بما لا يُصادم ظاهر الوحي. لكنّ النصب في عقائد الأشاعرة واضح، عند تغطيته على إبراز مكانة أهل البيت عليهم السلام، وعند عدم النص على الإمامة الدينية التي تبني الشيعة عقائدها عليها. ب. الأثر في الفقه: وهو بإهمال الآراء الفقهية لمدرسة أهل البيت التي هي امتداد للفقه النبوي. ونحن هنا لا ندل على إهمال آراء فقهاء أهل السنة، بل ندل على الجمع بين كل الآراء، وعلى تصنيفها بحسب مرتبة من صدرت عنه. وهنا نذكّر مرة أخرى، بأن جعفرا الصادق عليه السلام، كان أفقه من الأربعة أئمة أهل السنة، بما لا يُقاس. وإن سنحت لنا في المستقبل فرصة المقارنة في الفقه بين جعفر والأربعة، فإن الناس سيرون عجبا؛ وسيعجبون أكثر، من تعمية فقه جعفر عليه السلام في المجتمعات السّنّيّة، والذي لا مسوّغ له إلا النصب العامل تحت السطح!... ج. الأثر في علم الحديث: ربما علم الحديث، هو أكثر العلوم تضررا من النصب؛ لأن كثيرا من الرواة قد أُهملوا لتهمة التشيع فحسب. مع أن التشيع إذا كان معتدلا، لا يُعدّ تهمة في الدين؛ لأن من الشيعة قوما حريصين على صدق الرواية، وعلى التقوى في التديّن؛ وقد يكون بعضهم أعلى من رواة أهل السنة في العدالة والحفظ. وهذا الإقصاء لمن ذكرنا، سيجعل علم الحديث فاقدا لشطره من الروايات بسبب التعصب المذهبيّ المقيت. وأقل ما يُلاحظ من هذا الإقصاء، تغييب روايات الأئمة من أهل البيت أنفسهم عليهم السلام، إلا فيما ندر. وكأن القصد من النادر، دفع تهمة النصب فقط!... ومن الرواة المتهمين بالتشيع: أبان بن تغلب الربعي الكوفي (تـ: 141هـ)، وثابت بن أبي صفية (تـ: 148هـ)، وحكيم بن جبير الكوفي الأسدي (وهو من الطبقة الخامسة)، وزاذان أبو عمر (تـ: 82هـ)، وسعيد بن فيروز (تـ: 82هـ)، وعبد الله بن شداد (تـ: 82هـ)، وعبد الله بن محمد (بن الحنفية) بن علي بن أبي طالب (تـ: 98هـ)، وعبد الملك بن أعين (من الطبقة السادسة)، وعدي بن ثابت الأنصاري الكوفي (تـ: 116هـ)، وعطية بن سعد بن جنادة العوفي الكوفي (تـ: 111هـ)، وغيرهم كثير... ونحن ندعو في مجال علم الحديث، ومع توافر الأجهزة المساعدة على البحث والتصنيف اليوم، إلى إعادة النظر في الروايات كلها، ومن جميع طرقها، عند أهل السنة وعند الشيعة، لتبيين درجة أكبر عدد من الروايات المعروفة، ولبلوغ الروايات التي أسقطها التعصب المذهبي من الجانبيْن. وإن هذا العمل، نراه من آكد الأعمال، ومن أسرعها بالأمة إلى الوحدة الشرعية المنشودة؛ إن وجد من يقوم له!... د. الأثر في التفسير: لا شك أن للنصب أثرا في تفسير القرآن، إن كان المفسّر على عقيدة مخصوصة؛ وهذا مما هو معلوم بالضرورة عند المشتغلين بهذا العلم. وقد يكون توجيه التفسير إلى ناحية عقيدة المفسر غير مغرض، وإنما هو من أثر عقيدة المرء على ما يتناوله؛ وإلا لكان على عقيدة مخالفة حتما. وهذا مما لا يحتاج كثير كلام!... وللأمانة، فإننا نجد التفسير متأثرا بعقيدة الرفض أكثر مما هو متأثر بعقيدة النصب؛ وكأنه صار ميدان صراع بين الطائفتيْن!... وهذا مفهوم، لأن القرآن هو محور الدين لدى الجميع، ومن كان يبغي تأصيلا لعقيدته، فإنه سيلجأ أولا إلى التفسير؛ حتى يجعل الناظر فيه يتوهم أن ما يتلقّاه، هو معنى كلام الله الحق. وهذا من أكبر الذنوب التي يقع فيها المفسرون، لأنه يُدخلهم في التقوُّل على الله، المذكور في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِیقًا یَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَـٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ} [آل عمران: 78]. فما أشده من وعيد، لو علم الناس!... واتخاذ الإمامة في الدين، من دون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قد وقعت فيه الشيعة أيضا، عندما اعتبروا أهل البيت اعتبارا، أنقص (فعل الإنقاص) من إمامة الخلفاء. أما الروافض، فلا نتكلم عنهم، لأنهم خرجوا عن أصل الدين كله!... وهكذا، نجد الشيعة يدلون على الأئمة، وكأنهم الوسطاء وحدهم، بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته، من حيث الظاهر، لا على التحقيق كما بيّنّا سابقا. ويُقابلهم أهل السنة، عندما لا يذكرون إلا الخلفاء وحدهم في هذه الوساطة، مع تجنب الوقوف عند خلافة عليّ عليه السلام، وقوفا علميا لائقا بمقامه المنيف. ويتأكد الأمر في مجتمعاتنا -ونحن نقصد بلاد المغرب التي نحن منها- عندما لا يُذكر سيدنا عليّ على المنابر إلا لماما، وعندما يُغيّب ذكر السبطيْن عليهما السلام تغييبا تاما. بل إن الأمر تعدى ما يمكن أن يندرج في الخطاب "العلمي" إلى ما صار رقابة على الخطاب العام؛ فنجد من يذكر الحسيْن عليه السلام -مثلا- يكاد يُقطع بتشيّعه. ولقد بلغ من جهل بعض المتعالمين أنِ اختلق من نفسه معيارا قال عنه: به يعرف الشيعة في المغرب؛ ألا وهو: قول "عليه السلام" بعد ذكر عليّ أو أحد من ذريته الشريفة. فتساءلت أنا عندما سمعت هذه الأغلوطة: فإذاً أنا أكون عنده من غُلاة الشيعة!... قبّح الله الجهل!... وكل هذا الذي نقوله عن الطائفتيْن هو من نتائج تحريف معاوية للدين، وسنبيّن ذلك بتفصيل أكبر فيما سيأتي من الكلام إن شاء الله... 3. الاشتغال بالفروع عن الأصول: والمقصود بالفروع هنا الفقه بمختلف شُعبه، كما هو المقصود بالأصول: ما به يثبت الدين للناس، وما به يصح الاقتداء، مما يُفهم من الوحي من غير عناء. ومعاوية في الوقت الذي قطع الناس فيه عن النبوة، أظهر تشجيعه للفقهاء، حتى يُغطي به على انحرافه. والعامة إذا رأوا السلطان يُعظم علماء الدين ويقربهم، ظنوا أنه يُعظم الدين؛ وهيهات!... وعلى تقريب الفقهاء، يُقاس أمر التوسّع في الفتوحات؛ لأن العامة لا يرون ذلك إلا من الجهاد في سبيل الله، ومن إعلاء كلمة الله. والحقيقة قد تكون مخالفة لذلك: كأن تكون تقوية من المـَلك لمـُلكه، وتماديا في الاستعلاء على عباد الله. وهذا الذي نتكلم فيه هنا، مما يتعلق بالسلطان ونيته، فلا ينبغي أن يخلطه الناظر بما هو من إرادة الله وقدره. ونعني من هذا، أن السلطان قد تكون نيته فاسدة ويكون هو آثما، ومع ذلك فإن الله قد يُقدّر من وراء عمله النفع للعباد، بما لا يخطر له هو أو لغيره على بال. وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على هذا الأصل بقوله: «يا بلالُ، قُمْ فأذِّنْ: لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ، وإنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ!»[6]. وكم من فاجر -بدرجات متفاوتة في الفجور- كان مؤيدا للدين!... ولما دخلت الأمة فيما يُسمّى "عصر التدوين"، وبدأ علماء الدين يؤصلون لعلومهم ويفرعون، توهم الناس أن هذا هو العصر الذهبي للدين، وكأن الدين قد كان ناقصا فكمل!... والحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن أحد، هي أن العصر الذهبي للدين هو عصر النبوة، وأن الدين قد كمل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما أخبر بذلك الله تعالى في قوله: {ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینًاۚ} [المائدة: 3]. وأن كل من توهم الزيادة فيه، فهو في نقصان مؤكد لديه!... وما ظن المشتغلون أنهم قد ظفروا به عند إعمال عقولهم، وعند إلحاق الفروع بالأصول، وعند تتبع المسائل من علم إلى آخر، كان الصحابيّ يظفر بأضعاف أضعافه بنظرة في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلا يغتر أحد!... ومن العجيب أن علماء الدين لم يسألوا أنفسهم: من أين جاء عليّ عليه السلام بكل علمه، الذي هو بحر لا ساحل له؟!... هل كان ذلك بإعماله لعقله كما فعل أئمة المذاهب -مثلا-؟: كلا!... بل إن علم عليّ، وعلم كل متعلم ربانيّ، يأخذه عن مـُعلِّمه صلى الله عليه وآله وسلم متى شاء، من أسهل طريق وأجلاها. ولا يختلف الأمر بين فقه وتفسير وغيرهما، فإن كل ذلك متاح بطريقة ربانية لا تدانيها طريقة!... والخلاصة، هي أن العلوم والتزكية تحصل للوارث من الموروث؛ وكل عدول إلى استخبار النصوص بالطرائق الفكرية، هو ترخُّص في الدين إن لم يكن فسوقا بيّنا!... والدين من حيث حقيقته، هو ما أوصل إلى الله، لا ما شغل عنه!... 4. اختلاق شخصية ابن سبأ: يُقال إن عبد الله بن سبأ من أصل يهودي يمنيّ، أظهر الإسلام ليفتن عنه الناس. وقد نسبوا إليه الفتنة منذ عهد عثمان رضي الله عنه، وما جاء بعده. وكأنه يعمل تارة شيعيا وتارة ناصبيا، من غير محافظة على توجه بعينه. وهذا يجعل الناظر شبه متأكد من أنه شخصية وهمية اخترعها معاوية ومن معه، ليصرفوا الناس عن النظر إلى جرائمهم؛ ولقد انطلى هذا المكر على الناس إلى الآن. ولو أمعن الناس النظر، لوجدوا ابن سبأ وإن كان شخصية حقيقية، وصحّت نسبة ما نُسب إليه من أمور، ما كان ليصل إلى ما وصل إليه معاوية من إضرار بالإسلام والمسلمين... 5. معاوية يصير سلفا لمن بعده: ونعني هنا من اشترطوا للتديّن أن يكون على منهج السلف، والذين على رأسهم ابن تيمية أكبر منافح عن فسوق معاوية. فأصحاب هذا المذهب الفاسد، يرون معاوية صحابيّا، وخليفة للمسلمين لا يعدله خليفة، وحاكما عادلا لا يتطرق الظلم إليه ذرة. ولا ندري أي عمى أصاب هؤلاء، حتى رأوا كل شيء معكوسا!... وقد زاد هذا المذهب الغالي في معاوية وأربى على المذاهب الأخرى التي بدت وكأنها على الجادة بالقياس إليه؛ ولسنا نقصد إلا الأشاعرة على الخصوص. فالأشاعرة قد صاروا بسبب ما ذكرنا، وفي نظر القاصرين، أحق الناس بادعاء السنّة؛ مع أن السنة ليس منها الدخول في العقائد بالعقول؛ إلا لضرورة، لم نر التزامها وفق قدرها سوى عند وقوع الفتوحات ودخول البلدان المختلفة في الإسلام. ولم يكن الشيعة في المقابل أفضل منهم، وقد رأوا أن يُنظّروا هم أيضا لعقائدهم، خوفا من الاندثار... وليت شعري لو اندثرت الطوائف وبقي الدين، فما الذي كنا سنخسره؟!... وهكذا، فإن من سيتخذون معاوية سلفا لهم، ويشترطون تعظيمه واتباعه على أتباعهم، سيصلون إلى ما لا يتمكن غيرهم من الوصول إليه، من انحطاط وانقطاع؛ إلى الدرجة التي صرنا نحتاج معها، إلى الاقتباس من الكفّار أحيانا، من أجل تعديل ما يمكن تعديله من أمور دنيانا (على الأقل). وهذا ما لا مزيد عليه!... وعندما أثبت رأس النواصب ابن تيمية أصل معاوية، وطعن في عليّ عليه السلام، وكأنه يرفع الحرج عن كل متفسّق راغب في اقتحام دروب النار؛ صار هو في نظر هؤلاء المنحرفين مضاعَفي الانحراف شيخا للإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا باتباعه في ضلالاته المضمّنة في كتبه، كما تُضمّن عقائد الوثنية وهلوسات مرضى العقول... ومقصودهم من لقب "شيخ الإسلام" ليس محصورا في مرتبة الإسلام، وهم لا يميّزون المراتب؛ ولكن يريدون منه "الإمامة في الدين" التي انتحلها غصبا. وهكذا سنشهد الترامي على الألقاب والصفات، في كل القرون التالية، إلى الحد الذي ستفقد معه تلك التسميات معانيها، وتصير باهتة لا تضاهي ما يكون من خصائص مراتب العوام والسفهاء... وسيظهر في التاريخ من هو أحمق من ابن تيمية وأكثر جرأة، فينحرف الدين مرة أخرى مع ابن عبد الوهاب المكفّر لجمهور المسلمين، المستحل لدمائهم وأعراضهم. وقد بلغ أثره إلى زماننا هذا، حتى كاد في فترة من الفترات أن يصير المرجع الأول في الدين!... كيف يحدث هذا يا أمة الإسلام؟!... 6. جعل الغاية من الدين رضى السلطان: بعد أن كانت الغاية من الدين الأصلي، رضى الله ونيل الفوز في الآخرة، صار الدين مع معاوية يسعى به الناس إلى بلوغ رضى السلطان والفوز بعطاياه. وقد تفنن معاوية في توظيف أموال بيت مال المسلمين، من أجل شراء الذمم وتأجير الأنصار والحلفاء. وبهذا الفعل سينقلب الدين دنيويا، لا يختلف عن كل مذاهب الحكم غير الدينية، في العالم أجمع. بل إن بعض المذاهب السياسية الدنيوية، لها قوانين تعود إليها، وتجعلها تحقّق بعض الغايات كالمساواة أمام القضاء، والتضامن بين أفراد المجتمع الواحد، وتوفير فرص التعلم والشغل بقدر من التساوي... وأما السلطوية الدينية الدخيلة عندنا، فقد صيّرت المجتمعات عندنا عبيدا يتنافسون في إرضاء من بيده الحكم، ما دام يُعطيهم؛ فإن قصّر معهم، انقلبوا عليه، وناصروا أول منافس له. وهذا عكس ما دل عليه الدين، وأسسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد ترسخ هذا الصنف من الانحراف، مع مرور القرون، ودخول التأثيرات الخارجية على الأمة؛ حتى ما عاد المرء في زماننا يعرف من يقود ممن يتبع، لشدة اختلاط الأفعال من الفاعلين، واشتراكها في الغايات إن خفيت الأسباب والمنطلقات... 7. وضع الحديث واختلاق المواقف: كان لا بد لمعاوية وهو يؤسس لانحراف عظيم للدين، أن يُثبّت انحرافه من الطريق المعهودة في تثبيت الدين؛ ولم يكن ليغيب هذا الأمر عن دهاء معاوية وخبثه، لذلك فإنه سيعمد إلى تحفيز الوضّاعين على وضع أحاديث تغطي زلته، وإلى اختلاق مواقف تظهره في مظهر أصحاب المبادئ، وأنى له!... فمن الأحاديث الموضوعة السافرة، ما رواه الحسن بن كثير عن بكر بن أيمن عن عامر الصريمي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (زعما) أنه قال: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقبلوه، فإنه أمين مأمون.» والحديث من ألفاظه، واضح أنه مكذوب؛ وأن المراد منه دفع التهمة عن معاوية بما لا يقوى هو على دفعها به؛ وكأنه ما قيل إلا ردا على حديث: «إذا رأَيتُم معاويةَ يخطُبُ على مِنْبري فاقتُلوه!». وهذا الحديث وإن كنا لا نجزم بصحة إسناده، إلا أن معناه موافق لأحكام الشريعة من غير شك. والأمثلة على الأحاديث الموضوعة من هذا القبيل، لا تكاد تُحصر، ونحن نترفع عن الإطالة بذكرها... وأما المواقف المختلقة فمنها: أن قيصر الروم بعث برسالة إلى معاوية فيها: "من قيصر الروم لمعاوية:علمنا بما حدث بينك وبين علي بن أبي طالب، وإنا لنرى أنك أحق منه بالخلافة؛ فلو أمرتني أرسلت لك جيشاً يأتونك برأس علي.". فرد معاوية: "من معاوية إلى قيصر الروم: أخوان تشاجرا، فما بالك تتدخل فيما بينهما؟ فإن لم تخرس أتيت إليك بجيش أوله عندك وآخره عندي، يأتونني برأسك أقدمه لعليّ.". والرسالتان مكذوبتان، كما لا يخفى؛ لأن معاوية لم يكن يطيق عليّا عليه السلام، ثم لأنه ما كان ليفوّت فرصة قيام قيصر بالمهمة الخبيثة عنه لو استطاع؛ لأنه يعلم أن المسلمين سيحاسبونه عن فعلته مدى الدهر. ومن الواضح أن مختلق الرسالتيْن وكاتبهما واحد، وهو على هوى معاوية، ويحب أن يستر عنه شيئا من شناعة فعلته. والعبارات هي من الركاكة، بحيث لا تنطلي على سفيه!... وما يُمكن أن يُفهم -بعكس مراد الوضّاعين- هو أن معاوية لا يُستبعد أن يكون قد استعان بالروم على حرب عليّ؛ لأن النفاق يعضّد الكفر، وهو منه على كل حال!... وقد ذكرت بعض المصادر استعانة معاوية بالروم على قتال عليّ وعلى قتل الحسن عليهما السلام، ورغم أننا لم نرد الدخول في المقابلة بين الروايات، لكيلا نوسّع الخرق؛ إلا أننا نميل إلى صحة ذلك، لما نعلمه من حرص معاوية على الدنيا، ولما نعلمه من بغضٍ لديه لأهل البيت عليهم السلام. وقد قيل إن السم الذي طلي به السيف الذي ضرب به عليّ عليه السلام، والسم الذي دُسّ للحسن عليه السلام، هو سم اشتراه معاوية من الروم، لأنهم كانوا وحدهم من توصلوا إلى تركيبه. وهو يُشبه اليوم الأسلحة التي تبيعها بعض الدول، لمثيلاتها في العالم، بأثمنة باهظة... 8. التمهيد لتقسيم بلاد الإسلام: قد يستغرب كثيرون إلصاقنا لمصيبة تقسيم البلاد الإسلامية بمعاوية، وربما يرون هذا إمعانا في التجنّي عليه؛ والحقيقة هي أن ما أسس له معاوية كان لا بد له من الانتهاء إلى تقسيم بلاد الإسلام. والسبب بعد التقسيم الأكبر بين أهل السنة والشيعة، هو إطلاق يد الولاة في الأقاليم، من دون ردع لهم عند ظلمهم للناس؛ لأنهم في مقابل ذلك السكوت يوالون السلطان موالاة تامة وغير مشروطة. وما زالت بعض الأنظمة الحاكمة إلى الآن، تعمل بهذا المبدأ، مما يؤكد قِدمه في التاريخ. وهذا لأنه لا يوالي أحد أمة أخرى، ممن يخرجون عن الولاية المعمول بها، إلا وانتهى به الأمر إلى دخولها عليهم. وهذا معلوم من السياسات الدولية، ومعلوم من أصحاب الخيانة العظمى على مر التاريخ. ورغم أن التقسيم لم يأت إلا متأخرا في تاريخ الأمة، بالصورة البيّنة، لكنه كان قد بدأ يدب في أوصالها مع الفساد الأول، وفي صورة الانقسام المذهبي والعقدي، ودخول العلوج بين الناس بأعداد كبيرة فيما بعد... وهذا يعني أن الربط بين الأسباب والنتائج في تاريخنا، لا يكون دائما ربطا مباشرا، كما قد يُظن أو يُنتظر؛ ولكن السبب قد يبقى عاملا في المجتمعات لقرون متتالية، تتخللها خلافة متقطعة لا تكفي لأن تعود بالناس إلى الأصل، وإن أثبتته وقتيا؛ مما يجعل الانحرافات اللاحقة لها أشد إيغالا من السابقة في الفتنة وأبعد، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه في هذا الزمان من تمزق تام... (يُتبع...) [1] . أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه. |