انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2022/12/29
شذرات مما يتعلق بموقعة صفين من أحكام وآيات (6)
(تابع) 6: انقلاب الدين: قد يستشنع بعض المسلمين لفظ "الانقلاب"، ويحسبونه مبالغة منّا؛ خصوصا وأن المسلمين قد ظلوا على شعائرهم عاملين، وأن الفتوحات الإسلامية قد زادت اتساعا في ذلك الحين. ونحن نسأل القارئ التريّث، وألّا يتعجّل الحكم، حتى يسمع منا: لقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خُذُوا الْعَطَاءَ مَا دَامَ عَطَاءً، فَإِذَا صَارَ رِشْوَةً عَلَى الدِّينِ فَلَا تَأْخُذُوهُ! وَلَسْتُمْ بِتَارِكِيهِ، يَمْنَعُكُمُ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ! أَلَا إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ، أَلَا إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ فَلَا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ! أَلَا إِنَّهُ سَيكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَقْضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا لَا يَقْضُونَ لَكُمْ؛ إِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ. قَالُوا (الصحابة الحضور): يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ عِيسَى ابْنِ مَرْيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ، وَحُمِلُوا عَلَى الْخَشَبِ! مَوْتٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ!»[1]. ورغم أن الحديث لم تثبت صحته من جهة الإسناد، إلا أنه صحيح المعنى من غير شك. ولنتتبع قليلا ألفاظه: - الإخبار عن انقلاب العطاء (المستحَق) رشوة، واقع؛ وذلك لأن الحكام صاروا يتصرفون في أموال المسلمين بحسب ما يخدم سلطانهم، لا بحسب ما حكم به الله لعباده من أنصبة. وهذا واقع لا يحتاج إلى دليل!... وقد كان معاوية أول من وظّف أموال المسلمين، لخدمة أغراضه!... - دوران رحى الإسلام، يعني انقلاب الدين الذي نتكلم عنه نحن هنا؛ مما كان عليه، إلى النقيض. وهذا من قدر الله الذي لا يُردّ... - الحكم بافتراق الكتاب والسلطان، واقع منذ زمن معاوية؛ والأمر باتباع الكتاب، أمر بالبقاء على الحق، لأن أحكام الله لا تنقلب، ولا يُتنازل عنها؛ أما السلطان (السلطة)، فهو غير ثابت: تارة يكون مع الحق، وتارة يكون في الجانب الآخر. وهذا لأن السلطان (الحاكم) مكلّف، والمكلف تكون أحواله بين طاعة ومعصية. فما وافق الشريعة، فهو طاعة؛ وما خالفها، فهو معصية. وأما الأيديولوجيا التي ظهرت في المتأخرين، والتي تحكم بأن الحاكم دائما على حق، فهي باطلة؛ وهي تعود بالناس إلى الجاهلية الأولى. وها قد وقع الافتراق، وصار معلوما من التاريخ والواقع؛ فهل أحدث الفقهاء لهذا الافتراق فقها خاصا استثنائيا، أم مضوا يعملون على الأصول الأولى، وكأننا في زمن الخلافة الراشدة بعد!... وهذا، لأن الفقه على الخصوص، ينبغي أن يعمل على الموازنة بين الأحوال والتكاليف، على قدر المستطاع، وبما تسمح به الشريعة. والبقاء على فقه ثابت، مع كونه جهلا بحقيقة الفقه، هو تعسير على الناس في تديّنهم. وما وقع ضعف التديّن الذي قد يبلغ نبذه تماما، إلا بسبب الهوة الفاصلة بين الفقه والواقع المعيش. وهذه مسألة ينبغي أن تُبحث مستقلة في مجال أصول الفقه، نكتفي هنا بالإشارة إليها فحسب... - البقاء على الحق، وموافقة الكتاب، يقتضي الصبر على أذى السلاطين؛ وهذا من منطق الأشياء الذي لا يحتاج إلى دليل. وهذا بسبب اختلاف اتّجاهيْ الكتاب والسلطان في الغالب. فلا ينتظر أحد أن ينال رضى الله ورضى السلاطين دائما، كما يتمنى من لا عقل له!... وإنّ توطين النفس على الصبر، من دون مخالفة لأصل، هو المـُنتظَر من كل مؤمن يرجو ربه والآخرة!... هذا كله عندما يكون الوضع أصليا وسليما؛ أما عندما خرج في الأمة طائفة من الفقهاء، يُطوّعون الدين للحاكم، ويجدون لأباطيله سندا ملفّقا منه، فهي المصيبة العظمى!... وهذا لأن الجهلة من الناس، سيرون الدين على الصورة المقدّمة لهم وحدها، وهو ما قد يؤدّي بهم إلى الكفر به، عندما يجدون حقيقته باطلا محضا، لا ينتج عنها إلا الشر المحض!... وقد بدأنا في زماننا، نجد هذا الصنف من الناس، الذين صاروا يُعادون الدين جهرة، وهم في الحقيقة ما يُعادون إلا الدين الرسميّ المشوّه الذي أسسه معاوية. ولكن أنّى لنا بمن يقدم الصورة الأصلية للدين، حتى تقع المقارنة!... - ترسيخ مبدأ: الموت على الطاعة خير من العيش في المعصية، هو من أجل إبقاء اتجاه الدين على الأصل الأول، وإن كان الباقون عليه قلة متناقصة مع الزمان. لكن قلة تعلم مصدرها وموردها، خير من كثرة تُعامل معاملة القطيع، وتُساق إلى حيث لا تعلم... وإننا نعجب (ولا عجب) من أناس يكونون على أيديولوجيا دنيوية، كيف يتحملون المشاقّ في سبيل الانتصار لها، في الوقت الذي لا يكاد يتحمل أهل الدين في سبيله شيئا من ذلك!... والسبب هو منطق ديني فاسد، أسسه الفقهاء وأشاعوه بين الناس، مفاده أن كل ما فيه ضرر بالإنسان، لا يكون من شريعة الرحمن. هكذا بإطلاق، ومن دون تمييز للأحكام!... ونسوا مبدأ الجهاد والمجاهدة الثابت في الدين، والذي قد ينتهي بالعبد إلى فقد حياته الطبيعية قتلا أو تعذيبا؛ أو يجعله يعيش عيشة ضنكا من التضييق والمطاردة!... وهذا الأصل من مخالفة المصلحة العاجلة، لا يكون مخالفا للتشريع، بل هو موافق تمام الموافقة. ولكن المنطق الذي أسسه فقهاء السوء، قد حل محل الفقه الأصيل وزاد من انقلاب الدين... وأما الإسلاميون الذين يبدو وكأنهم قد عادوا إلى الجهاد، فذلك لم يقع منهم إلا صورة، لا حقيقة. والسبب هو كونهم على أيديولوجيا إسلامية، لا على دين. والتفريق بين الأمريْن يحتاج تفصيلا أكبر، ليس هذا محله. فلنكتف بالإشارة إلى هذا الأصل... وأما معاوية، فإنه عندما تولى مـُلك المسلمين، فهذا يعني أولا أن الأمة قد خرجت من حكم الخلافة إلى حكم المـُلك. وهو أمر يستهين به الناس، ويتوهمون معه أن لا شيء تغيّر. وقد لا يعلم مقدار التضاد الحاصل إلا من أدرك الزمنيْن بنفسه؛ وهؤلاء قلة بالنظر إلى عموم الأمة. وهذا الخروج من "نظام" إلى آخر، لا بد أن يأتي ببدع مستحدثة في الدين، بها يحصل التكيّف مع الوضع الجديد؛ وإلا ما وقع الامتياز، ولا استطاع الناس الاستمرار في عيشهم. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَكُونُ فِيكُمُ النُّبُوَّةُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا؛ ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةٌ عَلَى مِنْهاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا؛ ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عاضّاً ما شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُها إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَها؛ ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا؛ ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّة.»[2]. وهذا الحديث إخباري لا تكليفي؛ بمعنى أنه يُخبر الأمة بالمراحل التي ستمر بها، وبخصائص كل مرحلة، ولا يُكلّفها أن تعمل لتغيير صنف الحكم من نفسها؛ لأن ذلك لا يعود إليها. وقد غلط الإسلاميّون في زماننا كثيرا، عندما زعموا العمل لأجل إقامة الخلافة على منهاج النبوة. وما يوضّح غلطهم، جهلُهم بمواصفات الخلافة وشروطها من الغيب ومن الشهادة. ثم يبيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدة الخلافة الراشدة المتصلة، فيقول: «الْخِلافَةُ ثَلاثُونَ سَنَةً؛ وَسَائِرُهُمْ مُلُوكٌ. وَالْخُلَفاءُ وَالْمُلُوكُ اثْنَا عَشَرَ!»[3]. وهذا الحديث، كما يُبيّن مدة الخلافة المتصلة، يُبيّن عدد الخلفاء من ذوي الخلافة الجامعة بين الخلافة الغيبية والملك. وإذا كانت الخلافة المتصلة تبلغ في الزمن ثلاثين سنة، مع خمسة من الخلفاء، فهذا يعني أن السبعة الباقين يأتون متخللين لحقبة الملك بصنفيْه. ولم نجد عند الفقهاء علما بهذه المسألة إلى الآن: فهم لا يميّزون الخلافة بداية، ثم هم لا يعلمون أشخاص الخلفاء في تاريخ الأمة الذي مضى. وهكذا بقي شأن الحكم في الأمة ملتبسا، يسمح بأن يفعل الحكام في الدين معه ما يشاءون. ومن أكبر الجهالات الشائعة، اعتبار كل من حكم المسلمين خليفة، مع أن عددهم يفوق الاثني عشر بأضعاف مضاعفة. ولا أحد يتوقف ليسأل: من هم الاثنا عشر المذكورون؟ وما حكم البقية؟ وكيف يُميّز هؤلاء من أولئك؟ وما المعايير؟... وقد أدى الجهل بهذه الأمور، إلى قول من قال بأن الإسلام لا نظام حكم مخصوصا لديه. بل هو يدل على مبادئ عامة، وكل نظام للحكم مما يعرفه العالم في تاريخه كله، يقترب من تلك المبادئ ويتمثلها أكثر من سواه، يكون هو نظام الحكم الإسلامي المنشود. ويا لها من مغالطة!... ويا له من افتراء!... وإن جهل علماء الدين دينهم، فهذا لا يعني أن الدين به ثغرات خطيرة إلى هذا الحد!... ولولا هذا الجهل بالنظام الإسلامي في الحكم، ما تسللت الديمقراطية إلى البلدان الإسلامية، تنخرها من الداخل نخرا، والناس لا يشعرون. وعلى كل حال، فمسألة نظام الحكم، تتطلب وحدها تصنيفا مستقلا؛ ونحن نركّز الكلام على ما أحدثه معاوية من انقلاب في الدين، ولا نريد أن نُجاوزه بالنظر، لأجل الخروج من كل هذا بما ينفع الناس في بناء تصوّراتهم بناء سليما... فأول ما انقلب مع معاوية: صنف الحكم كما ذكرنا؛ من الخلافة التامة، إلى المـُلك. وكل من يقول بخلافة معاوية فإنه يكون جاهلا وآثما؛ إلا إن كان يعني بالخلافة الملك نفسه؛ وهذا يصعب معه تمييز الخلافة الأولى، عما جاء بعدها من ملك؛ من الناحية العلمية أولا. ونحن -تفاديا للخلط- قد أصررنا على التمييز في الاصطلاح، من أجل رفع اللبس الذي نرى أنه قد طال أمده. وبما أن معاوية لم ينل إلا المـُلك (خلافة الظاهر)، فإنه سيبقى تحت سلطان الحسَن عليه السلام، من جهة الغيب، ولا بد. وهذا، لأن الحسن خليفة خلافة تامة قبل التنازل، وسيبقى خليفة غيبيا بعده. وكذلك الأمر بخصوص الحسين عليه السلام، مع معاوية ويزيد من بعده. والسبب، هو أن الغيب دائما له الحكم على الشهادة؛ وأن ما يظهر من أحداث في عالم الشهادة، يسبق بمدة من الزمان (قد تصل ثلاث سنوات) في عالم الغيب. وهذا هو ما يجعل ملائكة السماوات تتكلم في الأحداث قبل وقوعها. ونعني أن الكلام بينهم فيها، هو من وقوعها في عالم الغيب. وهذا هو أصل ما كانت تأتي به الجن العرّافين من أخبار ما لم يظهر بعد في الواقع، مما كان يُعدّ منهم نبوءات... وهنا نؤكد مرة أخرى، على أن استشهاد الحسن والحسيْن، كان برغبتهما عليهما السلام، للسبب الذي ذكرناه سابقا، من وراثتهما لمقام المحبة النبوي. وأما إن تساءل متسائل عن كلام السبطيْن عليهما السلام، والذي لم يكن يدل على ما ذكرنا في ظاهره؛ فليعلم أن ما هو من الغيب، لا يظهر على اللسان، وإنما يعلمه علماء الباطن بتعليم الله ويبقى منهم في طيّ الكتمان. ولو خرج حكم الغيب من الرّجل، إلى الشهادة، خصوصا في زمن عمله (عمل الحكم)، لعُدّ بين الرجال ناقصا، ولاعتُبر إفشاؤه لأسرار الله سوء أدب منه مع ربه، قد يُعاقب عليه بالحرمان؛ والحال أن السبطيْن من أكمل كمّل هذه الأمة، ولا يُتصوّر منهما إلا كمال العلم وتمام الأدب!... وهنا أيضا ينبغي التنبيه إلى أن مسألة الحكم، أو كل مسألة يتعلق شطرها بالغيب، فإنها تبقى خارج علم الفقهاء من مرتبة الإسلام. وهو ما يجعل كل كلامهم فيها، مجانبا للصواب، عاملا على إضلال الناس والزيادة في حيرتهم!... إذ كيف يُدرك العقل الفقهي ما هو من أمور الغيب؟!... وهذا ينبغي أن يُعتبر في العلم!... وإن انقلاب الحكم في الأمة من خلافة إلى مـُلك، كما قلنا هو قَدَر لا قِبل لأحد برفعه؛ لكنّ انقلاب الدين ظاهريا من الربّانيّة إلى السلطان، هو أمر وافق هوى معاوية، وسيطبع الحكم من الآن بطابع مختلف؛ لا يتحرى الحاكم الحق فيه أكثر مما يتحرى ما يحفظ بقاءه في المنصب؛ ولا يقصد منه رضى الله، بقدر قصد غلبة الخصوم، من أجل الاستمرار في المـُلك. ولقد كنا نعني بالربانية، الشخص البشري الرابط بين الأرض والسماء؛ من يأتي بالخبر من عند الله ورسوله طريّا، ومن يُعامل الناسُ فيه اللهَ. وهذه الربانية العليا، لا تخرج عن صنفيْن من الناس، لا ثالث لهما، وهم: الأنبياء عليهم السلام، والورثة للنبوة. فيخرج من هذه الطبقة كل علماء الدين الذين يظنهم العوام ورثة، وإن عملوا هم على تلبيس المعنى على الناس لمرض في نفوسهم. نعم، إن هذه المرتبة لم تكن معلومة لعموم الناس حتى إبان الخلافة الراشدة؛ ولكن كون الخليفة من هذه الطبقة، سيُبقي على الأصل في "النظام الإسلامي"، ولا بد؛ علم الناس أم لم يعلموا. وأما عندما جاء معاوية، فإن كثيرا من الناس، ظنوا أنه لم يحدث شيء كبير في تديّن الناس، ما دامت الصلاة مقامة، وما دام الناس يصومون ويحجّون البيت؛ ولكن هيهات!... إن الربانية التي كانت معلومة لخواص الأمة -على الأقل- ستصبح دائرة العلم بها أضيق فأضيق مع مرور القرون، وسيُصبح المـُلك أصلا في الدين، وهو أمر طارئ. وقد انتهى الأمر بكثيرين من علماء الدين قبل غيرهم، إلى إنكار الخلافة عند جهلها؛ وكأنها بدعة في الدّين، مع أنها الأصل!... فما أبعده من انقلاب، وما أشد خفاءه على العامة!... إن معاوية عندما تنظُر العامة إلى صحبته للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويتهيّبون محاسبته (التاريخية) على جرائمه، بسبب التنظير النفاقي الذي قام به شطر من الفقهاء، ينسى الناس أو يتناسون معها (الصحبة المزعومة)، أنه ابن أبي سفيان الذي روى العباس عليه السلام عنه يوم فتح مكة قائلا: [فخرجت بأبي سفيان حتى حبستُه بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه؛ قال: ومرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال (أبو سفيان): يا عباس من هؤلاء؟ فأقول سليم! فيقول (استعظاما) مالي ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة! فيقول مالي ولمزينة؟ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال مالي ولبني فلان؟ حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحدق من الحديد! فقال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قال قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار! قال: ما لأحد بهؤلاء مِن قِبَل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مـُلك ابن أخيك الغداة عظيما! قال: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة! قال: فنعم إذن!...][4]؛ ويظهر من الكلام أن أبا سفيان عشية "إسلامه"، لم يكن يعلم شيئا اسمه "النبوة" ولا يؤمن به، وإنما هو يوافق العباس موافقة من لا خيار له. وينسى الناس أو يتناسون، أنه ابن هند بنت عتبة التي جاء عنها: "... فنظروا (أي يوم أحد)، فإذا حمزة قد بُقر بطنه، وأَخَذتْ هند ُكبدَه فلاكتها، فلم تستطع أن تمضغها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَكَلَتْ شَيْئًا؟» قالوا: لا! قال: «مَا كَانَ اللهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ!»[5]. ولم تصحّ الروايتان عند أهل السنة (!)، رغم اشتهارهما على الألسن. وقد كان معلوما لدى أهل الجاهلية أمر المـُثلة، والتي لم ينته الناس عنها، حتى حرّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد وعيده بالتمثيل بمشركي قُريش إن أظفره الله عليهم، عقب أُحد. ونقصد هنا إبراز منطق الأشياء، عند ظهورها في التسلسل التاريخي؛ والذي يؤكد ما نذهب إليه في أقوالنا. وهذا، حتى لا يقول قائل: الروايات ضعيفة أو لها ما يُقابلها، فلا يُبنى عليها!... وهذا أسلوب من الدسّ معلوم، ما زال كل أهل رأي يعملون به من أجل الانتصار لمذاهبهم. ونحن -بحمد الله- لا ننتصر لمذهب بعينه؛ ولعل الناس قد صاروا يعلمون هذا منا، لكثرة ما كتبنا في هذه الأمور... وروى الحاكم في المستدرك عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد، أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلًا، ومن المهاجرين ستة؛ فمثّلوا بهم، وفيهم حمزة؛ فقالت الأنصار: لئن أصبناهم يومًا مثل هذا لنُرْبِيَنَّ عليهم! فلما كان يوم فتح مكة، أنزل الله عزّ وجل: {وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُوا۟ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَىِٕن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَیۡرٌ لِّلصَّـٰبِرِینَ وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ} [النحل: 126-127]. فقال رجل: لا قريش بعد اليوم! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «كُفُّوا عَنِ الْقَوْمِ غَيْرَ أَرْبَعَةٍ!». ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (الشيخان)؛ ووافقه الذهبي. فيظهر من هذا كله أن معاوية قد تشرّب كراهية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام، وإن اضطر مع كثيرين من القرشيّين إلى إعلان الإسلام يوم فتح مكة. وحتى يُدرك الناس مسألة إعلان الإسلام يوم الفتح، فعليهم ألّا يغيب عنهم المعنى السياسي لذلك الإعلان؛ وأن لا يبقوا مع المعنى الشرعي وحده، وإن كان هذا الأخير مما يُعتبر على الإجمال. ونعني من هذا، أننا نفهم أن كثيرين ممن أعلنوا إسلامهم يوم الفتح، لم يفعلوا ذلك إلا حقنا لدمائهم؛ لكن مع هذا، فلا نحكم بأن فلانا على التعيين قد بقي على كفره، إلا إن تضافرت القرائن منه؛ لأن الحكم على البواطن لله وحده، ما لم يُطلع عبدا من عباده على حكمه كشفا. وأما معاوية وأبواه، فتشهد على نفاقهم سيرة معاوية في المسلمين قبل نيله المـُلك، وبعده. فإنه قد تتبع خيار الصحابة والتابعين بالقتل، حتى لم يكد يُبقي منهم أحدا!... زيادة على أمره -ومن بعده- من ملوك بني أميّة بلعن عليّ عليه السلام، وهو من هو في الإسلام والقرابة النبوية!... يغفُل الناس عن كون شطر من الطلقاء، الذين عفا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهم، عند دخوله مكة، والذين كانوا بالأمس ما يزالون على عداوتهم له، سيندمجون في المجتمع المسلم ظاهرا، وسيبقون على عدائهم القديم باطنا. يصدق عليهم ما وَصَف به الله بعد ذلك منافقي المدينة عند قوله تعالى: {وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَـٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِینَةِ مَرَدُوا۟ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَیۡنِ ثُمَّ یُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِیمٍ} [التوبة: 101]. وهذه الآيات من سورة التوبة، وسورة التوبة مدنية، قد نزلت في السنة التاسعة للهجرة، بينما فتح مكة كان من السنة الثامنة. وعلى كل حال، فالمنافقون ديدنهم واحد، وما تأخر من الوحي يعم ما سبق. ولنتوقف عند بعض مفاصل هذه الآية ضرورة: - ذكر الله تعالى بأن المنافقين لا يُختصّون بمكان دون آخر: فهم قد يكونون من أهل البادية (الأعراب)، وقد يكونون من أهل المدينة مجاورين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ونفهم من هذا أنهم قد يكونون أيضا من أهل مكة المجاورين لبيت الله الحرام. والسبب في بقائهم على النفاق، هو اعتيادهم عليه، وإتقانهم لدروبه؛ وهذا، لأن النفاق ليس في مستطاع كل أحد. فالناس منهم مؤمن، لا يتمكن من قبول الكفر؛ ومنهم كافر لا يُطيق الإيمان. أما المنافقون، فهم قوم لهم القدرة على ملاقاة هؤلاء بوجه، وأولئك بوجه غيره. يقول الله تعالى عنهم: {هَـٰۤأَنتُمۡ أُو۟لَاۤءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا یُحِبُّونَكُمۡ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡا۟ عَضُّوا۟ عَلَیۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَیۡظِۚ قُلۡ مُوتُوا۟ بِغَیۡظِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} [آل عمران: 119]. - وأما قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ}، فلا يُفهم منه ما يفهمه الفقهاء؛ بل يؤخذ على أنه إعلام من الله بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم من حقيقته. ونعني أن الله الذي يعلمهم، هو من يُعلّمه إياهم؛ لكن ذلك لا يظهر على ظاهره دائما، حكمةً من الله. فالذي لا يعلمهم هو ظاهر النبي، والذي يعلمهم هو باطنه صلى الله عليه وآله وسلم. هذا فحسب!... وهذه الخصيصة يرثها كل ربانيّ من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، على قدره. وعلى هذا، فإن حال معاوية، لم يكن ليغيب عن عليّ؛ ولكنه كان يستن بسنة النبي، فلا يُظهر كلَّ علمه على ظاهره. والخوض في مسألة مطابقة باطن الربانيّين لظاهرهم، ليست من مرتبة إدراك العوام؛ لذلك يُسكَت عنها... - أما العذاب الذي سيُعذّبه الله المنافقين مرّتيْن، فهو عذاب الدنيا والآخرة. فعذاب الآخرة هو ما أخبر به الله تعالى في قوله: {إِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ فِی ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِیرًا} [النساء: 145]؛ ولقد كان دركهم أسفل من درك الكافرين، لأنهم أسوأ حالا منهم، كما لا يخفى. وأما عذاب الدنيا، فهو مُقاساتهم في تردادهم بين الإيمان والكفر، وبين المؤمنين والكافرين، ما يشقّ عليهم ولا يتمكنون من الانفكاك عنه. وهذا الترداد، هو عذاب بواطنهم الذي أخبر الله عنه في قوله أيضا (من باب الإشارة): {نَارُ ٱللَّهِ ٱلۡمُوقَدَةُ ٱلَّتِی تَطَّلِعُ عَلَى ٱلۡأَفۡـِٔدَةِ} [الهمزة: 6-7]. وهذا العذاب المزدوج جاء على صورة ازدواج حقيقتهم، وجزاء لهم على ازدواجيتهم في المعاملات. ومن أراد أن يفهم شيئا من حال المنافقين، فلينظر إلى حال من هو مرغم على صحبة من يخالفه، من زوج أو صاحب أو رئيس في العمل، إلى غير ذلك... وقد قيل في هذا المعنى: من علامة الشقاء في الدنيا: صحبة المخالف الذي ليس من صحبته بد!... فإذا أدركنا ما سبق، علمنا أن الطلقاء كان بينهم منافقون، سيبقون على نفاقهم على مر الزمان. وهذا لا يخص أهل ذلك الزمان وحدهم، بل إن تيار النفاق سيستمر في الأمة طول عمرها؛ يقوى أحيانا ويضعف أخرى، لكنه لا يندثر. ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَعْلمهم كما أوضحنا آنفا، لكنه لم يكشفهم جميعا؛ وإنما كشف في المدينة جماعة منهم، ليدل على علمه بهم من جهة، وليُحذر المؤمنين خبث المنافقين إن هم لم يعلموهم. ولنتطرق الآن إلى الحكمة التي من أجلها علّم الله نبيّه كتم أحوال الناس، إلا فيما قلّ. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: "كُنَّا مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ في غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المـُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ، فَقالَ الأنْصَارِيُّ: يا لَلأَنْصَارِ! وَقالَ المـُهَاجِرِيُّ: يا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: «ما بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ؟!». قالوا: يا رَسولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المـُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ. فَقالَ: «دَعُوهَا، فإنَّهَا مُنْتِنَةٌ!». فَسَمِعَهَا عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ (رأس النفاق في المدينة) فَقالَ: قدْ فَعَلُوهَا!... وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المـَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. قالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هذا المـُنَافِقِ! فَقالَ: «دَعْهُ، لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ!»"[6]. ولنستفد من الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قد اعتبر المنافقين أصحابا له؛ وهذا من اعتباره لظواهرهم. والإنسان كما هو معلوم، له ظاهر وباطن؛ وقد يتحد الظاهر مع الباطن من الشخص دائما أو أحيانا، وقد يختلف ظاهره عن باطنه دائما أو أحيانا؛ والحكم يكون بالتغليب كما لا يخفى. والمنافق مسلم في الظاهر، وربما قد يُزايد على المؤمنين، فيظهر في صورة من هو أشد إيمانا منهم، وأكثر حرصا على الحق والخير. ولو أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فتح باب معاملة المنافق بحسب باطنه، لدخل المسلمون في العمل بمبدأ "محاكم التفتيش" منذ الزمن الأول. ولو فُتح هذا الباب، لصار كل واحد يحكم على من يشاء بأنه منافق، من دون بيّنة؛ وهكذا تضيع الشريعة التي هي مبنية على الحجج والبيّنات، ويهلك صالحو الأمة قبل فاسديها. ومن هنا علينا أن نفهم، أن الصبر على أذى المنافقين، أهون من الدخول في فوضى لا تُبقي ولا تذر، ثم لا يُعلم بعد ذلك مؤمن مِن منافق!... ولهذه الحكمة قد غلّظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بإسلام العبد إن شهد بشهادة الإسلام ظاهرا. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حتّى يقولوا لا إلهَ إلّا اللهُ؛ فإذا قالوها، فقد عصَموا منِّي دِماءَهم وأموالَهم إلّا بحقِّها، وحسابُهم على اللهِ.»[7]. وليس معنى الحديث أن كل من لم يقل "لا إله إلا الله" يُقاتل، ولكن معناه أن من يقول "لا إله إلا الله" يُعصم دمه، بخلاف الكافرين الذين لا يقولونها، إن وجب قتالهم؛ والمنافق يقولها، فحكمه حكم المسلم في الظاهر. وكلمة التوحيد لها من الحرمة، ما يُدخل المنافق تحت ظلها في الدنيا، لكون الدنيا دار التباس؛ أما في الآخرة، فإن الله يُظهر ما في بواطن جميع عباده، ليحق عليهم الجزاء اللائق بحالهم. يقول الله تعالى واصفا يوم القيامة: {یَوۡمَ تُبۡلَى ٱلسَّرَاۤىِٕرُ} [الطارق: 9]. ولقد مر بنا أن الله قد قضى أن تخرج الأمة من الخلافة إلى الملك، وهو ما يعني ألّا يكون الحكم في الظاهر للرباني زمن الملك. فإذا لم يكن الحكم لرباني من ربانيّي المواجهة، فلا بد أن ينزل الأمر إلى أحد عامة المؤمنين أو إلى أحد المنافقين، ما دام المنافق معدودا في المسلمين. ويبقى الحكم في هذا التنصيب للقدر، حتى يصيب الأمة من بلاء الدنيا ما كتبه الله عليها في ذلك الزمان. وعندما ولي معاوية الحكم، فإن جُل الصحابة عدُّوه مسلما، وخافوا أن يتهموه رغم كل ما بدر منه. وهذا، لأنهم رضي الله عنهم، يعلمون عِظم شهادة الإسلام، ويعلمون أن لا معصية تُخرج من الملة وإن كانت من الكبائر؛ خصوصا وأنهم لا يتمكنون من الحكم على حال العبد وما حكم الله به عليه عند موته. فهذا كله، جعل أهل الإيمان يتوقفون؛ وهذا مبلغ علمهم. أما أهل الكشف من كبار الصحابة، فإنهم كانوا يعلمون حقيقة معاوية؛ ولكن مع علمهم ذاك، أدركوا أن الأمة ستدخل في فتنة كبرى، إن هي أُخبرت بالحقيقة وقتها؛ لاختلاف النظر بين أهل الكشف وأهل الإيمان من الصحابة ومن التابعين -مع كثرة عدد المؤمنين ورجحان كفتهم على أهل الكشف والعيان- وهو ما وقع رغم الاحتياط. فما كان من بدّ أمام كل عبد، إلا أن يحتاط لنفسه، ويعمل بما يُعطيه علمه وحاله عن صدق يشفع له عند ربه. فكان ما كان من اصطفاف، أدى فيما بعد إلى الاقتتال!... وعلى هذا، فلا ينبغي لأحد من المتأخرين أن يعترض على أحد من الأولين من أتباع معاوية، إن رأى أنه يُخالف الحق لعلة الجهل؛ لأن الجهل من أعظم أسباب الدخول في الفتنة، ولأن تكليف الناس أن يكونوا على الحق في زمن الفتنة، سيكون من تكليفهم بما هو فوق طاقتهم، والله تعالى يقول: { لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ} [البقرة: 286]. كل هذا في حال عدم علم الرجل بحقيقة الخليفة، وبمكانة الخليفة عند الله؛ وأما مَن علم من جهة الباطن أو من جهة الظاهر إن أخبره من لا يشك في عدالته، فلا يسعه إلا اتباع الخليفة!... ولم نر أحدا فصّل -فيما نعلم- في الحكم بين العلم والجهل هنا، وبين حكم علم الباطن وعلم الظاهر، كما فصلناه نحن بحمد الله. فليُعتبر!... وأما معاوية وهو الداهية ابن الداهية، فإنه كان يتوق إلى إعادة السلطان إلى قريش الجاهلية. ولكن كيف يُعيده والناس قد دخلوا في الإسلام جماعات جماعات؟... وكيف يأمن على نفسه، إن هو أظهر للناس سريرته، أن لا يقتلوه، وهم يعملون على التقرب إلى الله بما يرضيه؛ خصوصا، وهو يُغامر بمواجهة عليّ عليه السلام، الذي لا نظير له في زمانه على الأقل؟... فلا بد أن يسلك فيما عزم عليه من مغامرة، مسلك التلبيس، وهو الماهر به!... فكان إذا رأى من الناس نزوعا نحو حكم الشريعة في أمر ما، أظهر لهم حكما شرعيّا آخر يصرف به أنظارهم عنه؛ كما فعل عندما ادعى طلب القصاص لدم عثمان عليه السلام، عندما رأى الناس يجتمعون على الخليفة؛ مع أن الاجتماع على الخليفة أولى من إقامة الحد على القَتَلة. ولما كان الناس لا يعلمون ترتيب الأحكام الشرعية، انطلى الأمر عليهم ووافقوه -شطر منهم- على رأيه؛ فكانت تلك زلتهم. أما إن نحن تتبعنا حال معاوية، فإننا سنجده يتنكر لدم عثمان ولا يأبه له. ففي رواية ابن كثير: [وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُلْوَانُ بْنُ دُوَادَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَوَّلَ حَجَّةٍ حَجَّهَا بَعْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَلَقِيَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَتَوَجَّهَ إِلَى دَارِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَلَمَّا دَنَا إِلَى بَابِ الدَّارِ، صَاحَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ عُثْمَانَ، وَنَدَبَتْ أَبَاهَا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِمَنْ مَعَهُ: انْصَرِفُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَإِنَّ لِي حَاجَةً فِي هَذِهِ الدَّارِ. فَانْصَرَفُوا وَدَخَلَ، فَسَكَّنَ عَائِشَةَ، وَأَمَرَهَا بِالْكَفِّ، وَقَالَ لَهَا: "يَا بِنْتَ أَخِي، إِنَّ النَّاسَ أَعْطَوْنَا سُلْطَانًا، فَأَظْهَرْنَا لَهُمْ حِلْمًا تَحْتَهُ غَضَبٌ، وَأَظْهَرُوا لَنَا طَاعَةً تَحْتَهَا حِقْدٌ؛ فَبِعْنَاهُمْ هَذَا، وَبَاعُونَا هَذَا. فَإِنْ أَعْطَيْنَاهُمْ غَيْرَ مَا اشْتَرَوْا، شَحُّوا عَلَى حَقِّهِمْ، وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ شِيعَةٌ (مؤيِّدون)، وَهُوَ يَرَى مَكَانَ شِيعَتِهِمْ. فَإِنْ نَكَثْنَاهُمْ، نَكَثُوا بِنَا؛ ثُمَّ لَا نَدْرِي أَتَكُونُ لَنَا الدَّائِرَةُ، أَمْ عَلَيْنَا؟ وَأَنْ تَكُونِي ابْنَةَ عُثْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونِي أَمَةً مِنْ إِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ! وَنِعْمَ الْخَلَفُ أَنَا لَكِ، بَعْدَ أَبِيكِ!"][8]. ورغم أن أهل النصب من أهل السنة، قد ضعّفوا الرواية تضعيفا شديدا، حتى لا ينفضح بها إمامهم، إلا أن نَفَسَ معاوية طافح منها، وسياسته بادية!... وهي تُبين عن نظره إلى الأمور وإلى ترتيبه لها، بما يُعطيه حاله ودهاؤه؛ لا بما يفهمه الناس من الدين وأحكامه!... وهذا يؤكد أنه لم يكن من البداية يأبه لدم عثمان كما كان يُعلن، ولكن عينه كانت على السلطان يريد أن ينتزعه من الربّانيّين بأي طريقة بحسب وهمه، ليُعيده إلى قريش في شخصه وأشخاص من سيورثهم الحكم من بعده. ولكنه لم يكن يعلم أنه ممكور به في مكره، كما أخبر الله تعالى في قوله عن الماكرين: {وَیَمۡكُرُونَ وَیَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَیۡرُ ٱلۡمَـٰكِرِینَ} [الأنفال: 30]. بل يسوغ لنا أن نفهم صدر الآية ذاتها على أنه مخبِر عن عليّ عليه السلام، وهو قوله تعالى: {وَإِذۡ یَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِیُثۡبِتُوكَ أَوۡ یَقۡتُلُوكَ أَوۡ یُخۡرِجُوكَۚ}، والذي نزل في مشركي قريش عند كيدهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه المطابقة، حقيقية لا مجازية، لأن الوراثة تكون سببا في انتقال الأحكام في المسائل، من الموروث إلى الوارث؛ فتصير كل الأحكام المتعلقة بالنبوة، منوطة بالخلافة الربانية؛ وراثة محمدية. ومن هنا أيضا سيأتي القول بكون الوارث نسخة قرآنية من الدرجة الثانية، فيما بعد إن شاء الله. وهذا علم غريب، لم نر له ذاكرا إلا كبار الأولياء من هذه الأمة... وإذا عدنا إلى وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم اتباع وجهة السلطان، عند افتراقه عن الكتاب، فإننا سنجد عكس الوصية هو الذي حصل. فلقد ذهب عموم الأمة مع السلطان، وسينشأ تديّن وضعي بهذا التوجه المنحرف، يقوده معاوية ومن بعده. وسيظهر فقه في الأمة يؤسِّس لطاعة السلطان طاعةً شبه مطلقة، بدل طاعة الله ورسوله؛ وكأن القدوة لدى المسلمين فارس أو الروم!... وسيسأل قوم: لمَ يحدث هذا لأمة هي خير أمة أخرجت للناس؟... وكيف سيبقى الدين مُجديا مع كل هذه الانحرافات المتراكمة، والتي صرنا نتبيّن شيئا فشيئا ثبوتها؟... وهنا ينبغي أن نحذّر من تناول المسألة تناولا عقليا صرفا، كما نراه لدى جلّ الدارسين؛ وكأن الدين في أصله مذهب سياسيّ، تقاس نجاعته بمدى تحقيق العدل والرفاهية لشعوب الأمة. أو كأن الدين مؤسَّس على أحداث تاريخية، يحكم على مآلاته تفسيرنا لها، ومدى إصابتنا في ذلك التفسير. ونحن وإن كنا سنرجئ الكلام عن هذا كله إلى حين التفصيل في نتائج الانقلاب الديني العام، فإننا نرى أن نبدأ بالتأسيس للكلام بما يلي: ا. إن الدين غايته الآخرة: وهذا يعني أن ما يتصوره الناس من تحقيق الاستقرار الدنيوي، ليس هو الغاية، وإن كان يدخل ضمن التكاليف الفرعية. ويعني -أيضا- أن التشريع (الأمر الإلهيّ) والإرادة لا يتفقان دائما، وبهذا يضل من لا علم له؛ أو على الأصح من له نصف العلم الظاهر. وهذه من أعسر المسائل على العقول في مرتبة الإسلام، خصوصا وأن الفقهاء لا يتبيّنونها، وهم من يظنهم الناس أعلم الناس بالدين!... ب. لن تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق: وهذا يعني أنه رغم كل الانحرافات، فإن الأمة باقية على الهدى ببقاء قلبها حيّا، وعلى الدين الأصلي. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتي ظاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ. وفي رواية: وهُمْ كَذلكَ.»[9]. ومعنى الظهور على الحق، هو الكينونة عليه والانحياز إليه، علما وعملا؛ لأن الحق له العلو بذاته في المرتبة. وهذا حكم وإن كان يخص الطائفة المذكورة، فإنه يعم الأمة كلها بالإلحاق ببركة الحق. والكينونة على الحق، تقتضي اتباع الربانيّين من الأمة، أصحاب الوراثة النبوية. فهؤلاء أتباعا ومتبوعين -بحسب المتاح- هم الجماعة بالمعنى الشرعي. وقد غلط الفقهاء بعد الانحراف الديني، عندما جعلوا الجماعة السلطان ومن تحت حكمه (الحاكم والشعب، بلغة العصر)، بالمعنى الظاهر الذي يكون عليه الكافرون أنفسهم عند تعريفهم لأنفسهم جماعة؛ وهيهات!... والحق في هذه المسألة، هو أن الجماعة الشرعية في الإسلام تقتضي توافر ركنيْن: الأول: الإمام، وينبغي أن يكون وارثا، أي مظهرا نبويّا؛ والثاني: المأمومون، وينبغي أن يكونوا معه على ما كان عليه الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو السمع والطاعة في المنشط والمكره. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اِفْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّها فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً. قِيلَ: مَنْ هِيَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَنْ كانَ عَلَى مِثْلِ ما أَنا عَلَيْهِ وَأَصْحابي. وفي بعض الروايات: هِيَ الْجَماعَةُ.»[10]. فإن نحن طابقنا الحديث على الأمة في زمن معركة صفّين فما بعد، فإن الجماعة الناجية، هي من كانت مع عليّ عليه السلام؛ ثم هي من كانت مع الحسن عليه السلام؛ ثم هي من كانت مع الحسيْن عليه السلام. وأما معاوية ومن معه، فلا شك أنهم كانوا من الفرق الاثنتيْن والسبعين التي في النار. ومعنى أنها في النار، هو أنها تدخل النار، لا أنها تخلد فيها بكل عدد أفرادها. وهذا لأنه لا شك في وجود بعض المضلَّلين الذين يكونون عصاةً مرتكبين لكبيرة، من دون أن يكفروا. وأما خُلَّص المنافقين، فهم مخلدون في النار من غير شك. والجمع بين الجميع في الحكم الواحد، وإن كان بطريقة عكسية، هو من تلبيسات شياطين النواصب، بغرض تعمية الحق الصّراح!... ج. دخول الأمة من جهة العموم في تديّن منحرف من دون أن تدري: إن بقاء الطائفة الظاهرة على الحق منصورة مؤيدة من عند الله، على مدى عمر الأمة، يعني في الآن ذاته أن غالبية الأمة ستنحرف عن الطريق رغم ذلك؛ ولسنا نقصد إلا الدخول في التديّن المقطوع عن المدد النبوي. وهذا، هو ما عنيناه في كتابات لنا سابقة، بنزول الأمة إلى تديّن أهل الكتاب. ورغم أن القرآن كله يدل على هذه الآفة بكيفية غير مباشرة، عند عرضه لأحوال أهل الكتاب على المؤمنين، مع تحذيره لهم من أن يقتفوا أثرهم أو يستنوا بسننهم؛ وهو ما يدل دلالة واضحة على أن شطرا منهم سيقع في المحذور، ولا بد؛ يقول الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ تَفَرَّقُوا۟ وَٱخۡتَلَفُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمٌ} [آل عمران: 105]، ويقول أيضا: {وَلَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ قَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَهُمۡ لَا یَسۡمَعُونَ} [الأنفال: 21]، وغيره كثير... ورغم دلالة السنة أيضا على وقوع الأمة فيما وقعت فيه الأمم السابقة، كما في حديث جحر الضب، والأحاديث التي ذكرت المعاصي التي سيرتكبها المسلمون بعد أن ارتكبها الكتابيّون، ذكرا بالاسم والنعت؛ فإن عامة المسلمين وعلى رأسهم الفقهاء، سينخدعون بتديّنهم الظاهري، وسيتوهمون البراءة من "الكتابية"، فيكون ذلك منهم دليلا على وقوعهم فيها، وهم لا يشعرون. ولو أنهم اعتبروا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِراعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ!... قلنا: يا رسول الله، الْيَهُودُ وَالنَّصارى؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَن؟!»[11]، وصدقوه، لتحروا أحوالهم ليتبيّنوا هل هم ممن اتبع الكتابيّين أم لا؟... ولكنهم غلّبوا حكم هواهم، وتجاوزوا التحذيرات النبوية، وكأنها لم ترد؛ فكان من نتيجتهم ما كان، وما صار مرئيا بالعيان!... وسنكتفي هنا بالإشارة إلى هذا الانحطاط عن الأصل، في انتظار العودة إلى ذكر تفاصيله عندما يحين حينه، إن شاء الله... (يُتبع...) [1] . أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، والصغير، وفي مسند الشاميّين، عن يزيد بن مرثد عن معاذ بن جبل. وقال علماء الحديث: يزيد بن مرثد لم يسمع من معاذ. وهذا يعني أن الحديث ضعيف من جهة الإسناد؛ لكنهم قالوا مع ذلك: إن المعنى صحيح. ونحن نضيف إن المعنى يُصححه الواقع... |