![]() انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني ![]() ![]()
Translated
Sheikh's Books |
![]()
2022/12/17
شذرات مما يتعلق بموقعة صفين من أحكام وآيات (4)
(تابع) 4. اتخاذ الذريعة إلى مقاتلة الخليفة: عندما قُتل الخليفة عثمان عليه السلام، قام طلحة والزبير إلى علي عليه السلام وقد بويِع، فأشارا عليه بتتبع القتلة والاقتصاص منهم، فأمهلهما بقوله: "يا إخوتاه! إني لست أجهلُ ما تعلمون؛ ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم، يملكوننا ولا نملكهم؟!... وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفّت إليهم أعرابكم، وهم خلالَكم يسومونكم ما شاءوا. وهل ترون موضعا لقدرة على شيء تريدونه؟! إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة (مددا). إن الناس من هذا الأمر -إذا حُرّك- على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك؛ فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتُؤخذ الحقوق مسمحة. فاهدأوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة، وتسقط منة، وتورث وهنا وذلة. وسأمسك الأمر ما استمسك، وإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي."[1]. وما كان على الجميع أن يعلموه، هو أن عليّاً خليفة تام الخلافة عام الحكم. وهو قبل ذلك، وبوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب موالاته، أصبح صاحب القول الفصل في كل مسألة تدخل ضمن الشأن العام؛ ودم عثمان هو وليّه بحكم مرتبته، قبل قرابته. فمن جهةٍ، قتلُ عثمان ليس كقتل رجل من الناس، وإنما هو قتل خليفة. وقتل خليفة لا ينظر فيه إلا الخليفة الذي بعده. ومن جهة أخرى، فإن ولاية عليّ تنفي ولاية الأقارب كما ذكرنا، وتحجبها. فالمسألة أكبر من قرابة، ومن ولاية دم على قدر العائلة والقبيلة. ورغم أن الله قد قال: {وَلَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومًا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِیِّهِۦ سُلۡطَـٰنًا فَلَا یُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء: 33]، فإن هذا الحكم يبقى عاما، يعمل به عموم الناس، على المستويات المعلومة. وأما بخصوص عثمان، فإن الوليّ هو عليّ؛ من مرتبة الخلافة والولاية كما أسلفنا، وهما أعلى مستوى للنظر في المسألة. وكل من نازعه في هذا الأمر، فإنه يكون على جاهلية؛ لأنه يعود إلى حكم القبليّة من حكم "الدولة"، وإن كان مصطلح الدولة لم يَشع الشيوع اللازم بعد. وهو ما حكم به عليّ عليه السلام في القول السابق. وكل مخالفة لعلي في هذه المسألة، فإنها تكون باطلة من وجهيْن: - الأول: هو أن الخليفة لا كلام يعلو كلامه، ولا رأي يفوق رأيه. وحتى الشورى المأمور بها من كان في مرتبة الخلافة عن الله (نبيّا أم خليفة)، في قوله تعالى: {وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِۖ} [آل عمران: 159]، فإنها تكون في حقه معلمة لا مـُلزِمة. وإن في هذا الصنف من الشورى من تفاصيل العلم، ما لا يعلمه إلا الخواص. وقد جهل هذه التفاصيل أقوام من الصحابة قبل غيرهم، فأخطأوا الحكم، عندما اعتبروا الخليفة رجل يرى رأيه، وهم يرون. والمسألة في حق الصحابة، لم تكن سهلة كما قد يُتوهَّم؛ لأنهم ألفوا النبوة. ومع النبوة، لم يكن يكلفهم الأمر إلا السمع والطاعة. ولما خرجوا من زمن النبوة إلى زمن الخلافة، فإن الأمر تغيّر عليهم؛ ولم يتمكنوا كلهم من التعظيم اللائق بالخليفة، لأنه بالأمس فحسب، كان أخا لهم فقط. ورغم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يترك شيئا مما يخص كل حقب الأمة، إلا ودل على ما يكون حسنا فيها -بحيث لو تصرف العبد في حقبة بما يليق بحقبة أخرى، فإنه يكون جاهلا ومصادما للواقع- ورغم الوصايا النبوية الواضحة، فإن الناس صاروا يُعملون رأيهم، أو يُقلّد بعضهم بعضا، إلى غير ذلك من احتمالات الفهوم... ولو تنبه الناس، لعرفوا أن لبّ هذه المسألة، هو مفتاح كل مجاهيل تاريخ الأمة الإسلامية. وسنرى فيما يأتي من الأحداث، ما يؤكد ما ذكرنا، المرة بعد المرة... - الثاني: هو أن الخليفة ولي أمر المسلمين أجمعين؛ فإن رأى تأخير أمر ما أو تقديمه، فعليهم السمع والطاعة وجوبا. ومن ظن أنه مجتهد معه، فإنه يكون فاسقا معلوم الفسق. وقد يجهل بعض الفقهاء مبنى هذا الحكم، فيقولون إنما السمع والطاعة، يكونان لله ورسوله، وأما من دونه فيُنظر في أمره: فإن كان طاعة أُطيع له فيها، وإن كان خلاف ذلك عُصي. فنقول لهم: أنتم لم تُميّزوا مرتبة الخليفة، فعاملتموه معاملة أي مَلِك. وهذا يعني أولا، أنكم لا تفرقون بين مرتبتيْ الخلافة والمـُلك؛ ثم يعني أنكم -بالتالي- مخلون بشروط العلم، عند خلطكم في الحكم بين مرتبتيْن مختلفتيْن. والذي كان ينبغي عليكم أن تعلموه، هو أن الخلافة وراثة؛ وقد سبق لنا القول بأن الخلافة عن الله بالأصالة، للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما الخليفة بالاصطلاح، فهو وارث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في خلافته. وكل وارث، له حظ من موروثه!... وأول ما يكون عليه الخليفة بعد حصول الوراثة له: العلم الخاص بكثير من الغيوب، والعلم بحكمة الله في الأمور، والعلم بما يُصلح العالَم علوا وسُفلا، والعلم بمشيئة الله، قبل حدوث الحوادث في عالم الشهادة. وله الإرادة التي يقول إذا خصص بها الأشياء، كن فتكون، ووجد عنده القدرة على إنفاذها بحسب ما أراد. وله أن يُمضي الأمر كما هو، أو أن يبدله إن أذن الله له في التبديل. وإنّ تلقّيه العلم عن الله ورسوله، يأتيه من نفسه، لا من خارجه. هذا في الغالب، وإلا فإن المسألة فيها تفاصيل متقاطعة. وعلى كل حال، فإن الخليفة إذا كان في الظاهر عليّا، فإنه من جهة الحقيقة هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فمن كان يزعم من الصحابة، أنه كان مطيعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يبادر إلى مخالفة الخليفة؛ فهي العلامة على أنه كاذب!... فإن قيل كيف يكون كذلك، وهو لا يعرف أن باطن الخليفة هو النبي؟!... خصوصا وأن هذا لم يرد به كتاب ولا سنة!... فنقول: أما أنه لم يرد به كتاب ولا سنة، فلا يقطع به إلا جاهل؛ لأن الوحي ليس في مقدور أحد أن يدّعي علمه كلّه!... فلو أخذنا -مثلا- قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَوَلَّوۡا۟ عَنۡهُ وَأَنتُمۡ تَسۡمَعُونَ} [الأنفال: 20]، وتأملنا ضمير "عنه" في عجز الآية، وسألنا: على من يعود؟... لظهرت لنا الاحتمالات الآتية: - فإن قيل: على الله، قلنا قد أسقطتم بهذا طاعة الرسول. - وإن قيل: يعود على الرسول، قلنا فقد أسقطتم طاعة الله. - وإن قيل: هو يعود على الله ورسوله، قلنا لا يصح هذا، حتى يكون الاسم "الله ورسوله" اسم من أسماء الله المركّبة، وهو مذهبنا. وعندما تكون الطاعة لله ورسوله بالمعنى الصحيح، فإنها تكون للظاهر بمظهر الرسول، ظاهرا ومظهرا. ونعني أن الظاهر هو غيب المظهر، والمظهر هو شهادة الظاهر. والعبد يسمع من المظهر كلام الظاهر، وبهذا وحده تكون الطاعة واحدة لا تتعدد. ولننظر الأمر الآن مع الخليفة تام الخلافة، فإنه لا بد أن يكون وارثا لهذه الصورة النبوية: فيكون مظهر الخليفة مختصا بعالم الشهادة، ويكون الظاهر به متعلقا بمستوييْن هذه المرة: الواحد، هو الله الذي يظهر به كل شيء، بما في ذلك الرسول؛ والثاني، الرسول، من كونه واسطة في الغيب بين الله والخليفة. وبعد كل هذا، من لم يعتبر في الخليفة ما ذكرنا، فإنه يكون كمن قال الله فيهم، عند نظرهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَتَرَىٰهُمۡ یَنظُرُونَ إِلَیۡكَ وَهُمۡ لَا یُبۡصِرُونَ} [الأعراف: 198]. فتكون النتيجة هي: أن من الناس من عرف صورة محمد، ولكنه لم يعرف نبوته (خصوصيته)، فكان هؤلاء الكفار الذين رأوه وسمعوا منه؛ وأن من الناس من رأى مظهر النبي، ولكنه علم مع ذلك علما مجملا يُسمّى إيمانا، خصوصيته (صلته بربه)، فكان هذا الصنف صحابيا مؤمنا من عوام الصحابة أو متوسطيهم. والآن سيحدث الشيء نفسه مع الخليفة: فمن عرف مظهره الخلافي، ولم يعرف خصوصيته (صلته بالله ورسوله)، فإنه يكون جاهلا بالخلافة، لا يرى الخليفة إلا رجلا من الرجال. وهذا كفر أصغر، ربما قد يقود صاحبه إلى الكفر الأكبر، إن عبر من إنكار الخلافة إلى إنكار النبوة. وهذا، للترابط والتلازم الذي بين النبوة والخلافة. ومن هذا الصنف يخرج الصحابة المخالفون للخليفة والعاصون له، وربما المتمردون عليه. وأما إن علم الصحابيّ الظاهر بمظهر الخليفة في مستويَيْ الألوهية والرسالة، فإنه يكون كأنه ما زال في زمن النبوة، لم يكد يتغيّر عليه شيء. ومن تتبع كل ما ذكرنا، فإنه سيجد له مصاديق من الصحابة في زمن الخلافة الراشدة، وخصوصا في زمن خلافة عليّ. وأما لماذا كانت خلافة عليّ أدعى لما ذكرنا، فلأن نورها كان باهرا، يُعمي الأبصار الضعيفة، فيعود إبصارها ظلمة. وهذا مما يُشبه فيه عليّ عيسى عليهما السلام!... فليُعتبر!... ولم يكتف طلحة والزبيْر بالإصرار على رأيهما، بل جعلا أم المؤمنين عائشة عليها السلام تدعمهما، وكأن الأمر خلاف بين نظراء؛ والحال أنه لا نظير للخليفة في المجتمع المسلم ولا ندّ، كما بيّنّا. وهكذا ستستفحل الأمور، وسيخرج شطر كبير من الناس عن الطوع بالباطل. وسيصعب على عوام الصحابة أن يُبصروا الحق، وهم يرون صحابة يُخالفون صحابة. والمعضلة الأساس لديهم، لم تكن نظرهم إلى اختلاف الصحابة أمام أعينهم، ولكنها جهل مرتبة الخلافة من ذلك اليوم وإلى اليوم!... ومع أن عليّا كان أولى من غيره بالتوقير والتقديم، إلا أن مقتل عثمان كان قد زرع البلبلة في الصفوف. ومع دخول ضعيفي النور المعمعة، صار يُنظر إلى الخليفة وكأنه رجل من الناس، عليه أن يُمضي ما يرونه هم؛ خصوصا إن استقوَوْا بأم المؤمنين، في إيهام للناس بأن بقية النبوة معهم. وهو ما لم يكن ليصح لو أن العلم بهذه المسألة (مسألة الخلافة) كان جليّا وذائعا... ولما سمع معاوية في الشام بأمر المطالبة بدم عثمان، وهو الكاره لتنحيته عن الولاية من قِبل الخليفة الجديد، لم يُفوّت - وهو الداهية المـُغرض- الفرصة للانضمام إلى المطالبين، الذين بدأوا يدخلون في معارضة الخليفة الإمام. وقبل أن نمضي، علينا أن نعرّج على معركة الجمل. فبعد تولي عليّ الخلافة ببضعة أشهر، استأذن طلحة والزبير الخليفة الجديد في الذهاب إلى مكة، فأذن لهما. فذهبا وأتيا أم المؤمنين عائشة عليها السلام، وأقنعوها برأيهما؛ ثم قرروا جميعا التوجه إلى البصرة رافعين شعار الانتقام من قتلة عثمان. فساروا من مكة إلى البصرة بعشرة آلاف مقاتل، وتحرك إليهم عليّ ولاقاهم على مشارف البصرة. ويقول ابن كثير إن عليّا كان في المدينة يتهيأ للذهاب إلى الشام لقتال معاوية، ولكنه عدل إلى البصرة بعد أن سمع عن جيش طلحة والزبير. وقد استخلف عليّ على المدينة تمام بن العباس، وعلى مكة قثم بن العباس. وحين وصل، أرسل عمار بن ياسر إلى أهل الكوفة يستقدمهم، فانضم منهم جمع إلى جيش عليّ. وقد انتهت معركة الجمل باستشهاد طلحة والزبير رضي الله عنهما، وبعودة عائشة عليها السلام إلى المدينة بعد أن نحر عليّ الجمل الذي كان يحمل هودجها، والذي كان الشيطان قد اتخذه رمزا يجمع الناس حوله. ولولا هذا الفعل الحكيم من الخليفة، لطالت المعركة حاصدة المؤمنين من الجانبيْن، كما كان الشيطان يأمل. وبعد هذه المعركة، سينقل الخليفة العاصمة من المدينة إلى الكوفة، استعدادا لمواجهة معاوية فيما بعد، ولتوسّطها بلاد الإسلام؛ حيث تسهل منها إدارة شؤون الدولة كلها. ولن ندخل في تفصيل دواعي الخليفة الرابع، لتأخير النظر في شأن قتلة عثمان، لأنه يكفينا أن نعلم نحن حُكمه فيها لنعتقده؛ بل لو أن عليّا حكم بإسقاط حكم القصاص لعثمان، لرأينا إسقاطه، لعلمنا بأنه حكم الله ورسوله. علما منا بمكانته، وبوجوب طاعته؛ رغم خفاء هذا الأمر عن صحابة من الطبقة العليا في ذلك الزمان، وهم أجل منا بلا شك!... فيا لها من فتنة ماحقة!... غير أنه لا بد لنا هنا، من التفريق بين من طلب الحق فأخطأه، كطلحة والزبير وعائشة، ومن طلب الباطل فأصابه كمعاوية. فمعاوية لم يكن ليبلغ مكانة المبشَّرين بالجنة ممن سبق ذكرهم، وإنما كان من الطلقاء، الذين أسلموا يوم فتح مكة عندما لم يجدوا بُدّا من الإسلام. وكان زهوُ الجاهلية الذي ورثه عن أبيه وأمه، وهما مَن هما فيها، ما يزال يُراوده؛ خصوصا وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غاب عن المشهد بشخصه، بحسب إدراكه المعوجّ؛ وإلا فمتى غاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم!... فتوهم هو والمغرضون معه -وبعد أن كظموا غيظهم مدة خلافة أبي بكر وعمر- أنه يُمكنهم استمالة الحكم إليهم بالدهاء والمكيدة. وأما سكوتهم في زمن عثمان، فكان لتوهمهم أنه منهم (من بني أمية)، وأن الأمر بعده صائر إليهم بصورة من الصور. ففاجأهم المسلمون ببيعة عليّ عليه السلام، وهم يعلمون علو مرتبته في نفوسهم، ويعلمون قوته في الحق؛ فأيقنوا أن الريح تهب بعكس مشتهاهم، وأن الأمر يكاد يُفلت منهم إلى غير رجعة، إلى حين نفخ إبليس فيهم بـ "المطالبة بدم عثمان"!... فاهتبلها معاوية -مع أن فعله هذا فسوق- معلنا أنه يرفض طاعة الخليفة، إلى حين الوفاء بشرط القصاص، وكأنه معتاد على الوفاء بالحقوق، ليستمر اليوم على ديدنه!... ولو أن عليّا عليه السلام كان في سعة من أمره، لضرب عنق معاوية وأراح الناس من فتنته؛ ولكن القدر، شاء الله له أن يجري بغير ما يوافق الشريعة، في أشد صورة فتنوية، وأقواها في تاريخ المسلمين كله!... ولقد حكمْنا نحن بوجوب قتل معاوية، لأنه حُكم من الأحكام الشرعية المعدودة من الأصول في المسألة. فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَتاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ علَى رَجُلٍ واحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَماعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ!»[2]، ولم يجعل عليه السلام لهذا الحكم استثناءات، بل جعله جازما حازما. فلمَ لم يقتل عليّ معاوية، وهو متبيّن لحكم الله فيه؟... هذا، لأن معاوية عمل على شطر الأمة نصفيْن بدهائه؛ والخليفة لن يُغامر بإفناء شطر الأمة من أجل أداء حق الله في حكم رجل واحد؛ على ما لهذا الحكم من أثر على الأمة جمعاء فيما بعد، وما له من خطر على نفسه الشريفة (عليّ). وهنا قد بدأنا ندخل في فقه الاستثناء أكثر من ذي قبل، خصوصا إنْ علمنا دلالة عمر عليه، بقوله عليه السلام: "ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكن من يعرف خير الشرّيْن!". ولم يكن خير الشرّيْن هنا، إلا الدخول مع معاوية في مفاوضات، لعله يؤوب إلى الحق، أو لعل الله يصرف من معه من المسلمين عنه، إلى حيث ينبغي أن يكونوا. ولكن عمل الشيطان سيزداد، وسينصرف شطر الناس عند تحكيمهم لآرائهم، مع ضعف نور إيمانهم، إلى الصف الذي هو على الباطل. حين انتهى الخليفة عليه السلام من معركة الجمل، دخل الكوفة في الثاني عشر من رجب سنة ستّ وثلاثين للهجرة؛ ثم أرسل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، إلى معاوية يدعوه إلى البيعة، فرفض هذا الأخير إلا بشرطه زعما. وقد كان من شؤم معاوية على الرجل، أنه جعله ينأى بنفسه فيما بعد عن القتال مع الخليفة، كما سيفعل كثيرون غيره ممن سنذكر بعضهم لاحقا. ومِما روى جرير بن عبد الله، قولَه: "كُنْتُ باليَمَنِ، فَلَقِيتُ رَجُلَيْنِ مِن أهْلِ اليَمَنِ: ذَا كَلَاعٍ وذَا عَمْرٍو، فَجَعَلْتُ أُحَدِّثُهُما عَنْ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقالَ لَهُ ذُو عَمْرٍو: لَئِنْ كانَ الذي تَذْكُرُ مِن أمْرِ صَاحِبِكَ، لقَدْ مَرَّ علَى أجَلِهِ مُنْذُ ثَلَاثٍ؛ وأَقْبَلَا مَعِي، حتَّى إذَا كُنَّا في بَعْضِ الطَّرِيقِ، رُفِعَ لَنَا رَكْبٌ مِن قِبَلِ المـَدِينَةِ فَسَأَلْنَاهُمْ، فَقالوا: قُبِضَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واسْتُخْلِفَ أبو بَكْرٍ، والنَّاسُ صَالِحُونَ. فَقالَا: أخْبِرْ صَاحِبَكَ (أبا بكر) أنَّا قدْ جِئْنَا، ولَعَلَّنَا سَنَعُودُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. ورَجَعَا إلى اليَمَنِ، فأخْبَرْتُ أبَا بَكْرٍ بحَديثِهِمْ، قالَ: أَفَلا جِئْتَ بهِمْ؟ فَلَمَّا كانَ بَعْدُ، قالَ لي ذُو عَمْرٍو: يا جَرِيرُ، إنَّ بِكَ عَلَيَّ كَرَامَةً، وإنِّي مُخْبِرُكَ خَبَرًا: إنَّكُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ، لَنْ تَزَالُوا بخَيْرٍ ما كُنْتُمْ إذَا هَلَكَ أمِيرٌ تَأَمَّرْتُمْ في آخَرَ (يعني الاستخلاف عن طريق الشورى)، فَإِذَا كَانَتْ بالسَّيْفِ، كَانُوا مُلُوكًا؛ يَغْضَبُونَ غَضَبَ المـُلُوكِ، ويَرْضَوْنَ رِضَى المـُلُوكِ."[3]. وليلاحظ القارئ أن هذا الصحابيّ، رغم نصح اليمنيّ له، وكأنه كان يُعدّه ليوم صفّين، فإنه قد ضل؛ هذا حتى نعلم قوة الفتنة التي عرضت للصحابة!... وقد كان يكفي أيَّ واحد ممن حضر الفتنة الكبرى، أن يكون له نور في القرآن، أو أن تكون الأحاديث المتعلقة بالفتنة قد بلغته وحضرته؛ حتى يعرف طريقه من غير تردد؛ ولكن قضاء الله مبرم، وإذا جاء أوانه، تسارعت الأسباب إلى خدمته وتيسير سُبُله. وهذا باب عظيم في المعارف، يقلّ في الناس من يُطيق خوض غماره!... يُروى أن معاوية عندما جاءه رسول الخليفة، استشار عمرو بن العاص (يبدو أن الشيطان كان ينطق على لسانه)، فأشار عليه بعدم إجابة طلب الخليفة، وبتجهيز جيش يوجهه إلى العراق، حيث يبغي الظفر (في ظاهر الأمر) بقَتَلة عثمان رضي الله عنه. فخرج عليّ لملاقاة معاوية، وكان الجيشان متقاربيْن من حيث العدد (حوالي 130000). وهكذا وقعت معركة صِفّين -وهو اسم مكان بين العراق والشام- بسنة بعد معركة الجمل، أي في سنة 37 هـ. ولنتوقّف عند اسم صِفّين، الذي يكاد يكون "صَفَّيْنِ"، لنعلم أنها إشارة إلى أن المسلمين انقسموا قِسميْن لا بد لأحدهما أن يكون صف الحق، وللآخر أن يكون صف الباطل؛ ولا مجال للجمع بين الجميع على الحق، كما فعل بعض منظّري الدين المنحرف الجديد. قد يتمنى كثيرون أن يكون الجميع على الحق، وأن الاختلاف في الرأي لا يصل إلى وصم شطر الأمة بالباطل؛ لكن الأمر لا يسير بحسب أهواء الناس، بل بحكم الله فيه!... وهيهات!... وسنقدِّم الآن بما يجعل المتبصر يلمح لوائح الحق من بعيد، إن كان من المنصفين: 1. إن الخليفة في زمانه، وعلى الصفة التي بيّنّاها قبلاً، لا يعدله أحد؛ بل لا يعدله شطر الأمة الأكبر إن واجهه. وعلى هذا، فإن صف الحق، كان صف عليّ ومن معه؛ وأن صف الباطل، كان صف معاوية ومن معه؛ من دون أدنى ريب!... 2. روى أبو سعيد الخدري ضمن ما روى في قصة بناء المسجد النبوي، فقال: "كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ؛ فَرَآهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: «ويْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ! يَدْعُوهُمْ إلى الجَنَّةِ، ويَدْعُونَهُ إلى النَّارِ!»[4]". وقد قُتِل عمار رضي الله عنه، وهو يقاتل خلف الخليفة!... وهذا نص واضح في كون صف معاوية كان يدعو إلى النار وأن صف عليّ كان يدعو إلى الجنة. ولا يدعو إلى النار إلا من كان من أهلها للمناسبة (وهي مبدأ عقلي ثابت)، ولا يكون من أهلها مع التظاهر بالإسلام إلا منافق. فثبت بالدليل الشرعي، لا بالاستدلال العقلي، أن معاوية منافق. وأما من كانوا معه، فإن الله يبعث كلاًّ بحسب نيته: فمن كان عالما بما يأتي من كبائر، فهو على ملة قائده؛ ومن كان جاهلا مستغفَلا، فالله يحكم فيه بما شاء سبحانه. وقيل إن أصحاب عليّ سألوه عمّن قُتل من أصحاب معاوية، ما هم؟ (أي ما حكمهم عند الله)، فأجاب عليه السلام: "هم مؤمنون!". وهذا مما يحتج به النواصب فيما يزعمونه، من كون الاقتتال كان اختلافا في الاجتهاد!... أما نحن فالحديث النبوي الذي أوردناه، أقوى في الحجة عندنا، من كلام عليّ نفسه إن صح. فإن صح كلام عليّ، فهو من خشيته وورعه عليه السلام؛ أي من حاله، أو من رجاء رحمة الله للعصاة وإن قاتلوه، لعلهم يكونون ممن تابوا قبل موتهم، فتاب الله عليهم، فيفوز الجميع؛ لأنه لو حكم عليهم بالنفاق (ولو على رؤوسهم)، فإن حكمه يثبت ظاهرا في الشريعة، كما ثبت باطنا من جهة الحقيقة. فيكون كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ! لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ.»[5] وعلى كل حال، فنحن هنا، لا يلزمنا إلا حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأما إن لم يصح كلام عليّ، فإنه قد يكون اختلاقا من اختلاقات النواصب التي ملأوا بها الكتب ونشروها في البلدان. وسيأتي دليل آخر على نفاق معاوية فيما بعد. أما الأتباع فكما قلنا آنفا، الله أعلم بنياتهم!... وقد يقع الجاهل بجهله في الكبائر، وهو لا يعلم!... وأما إن استدل أحدهم بقول الله تعالى: {وَإِن طَاۤىِٕفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱقۡتَتَلُوا۟ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَـٰتِلُوا۟ ٱلَّتِی تَبۡغِی حَتَّىٰ تَفِیۤءَ إِلَىٰۤ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَاۤءَتۡ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ} [الحجرات: 9]؛ فإننا نرد عليه: هذا إن تساوت الطائفتان من كونهما من عموم المؤمنين، الذين قد تشتبه عليهم الأقوال في الأحكام الشرعية، أو تزيغ بهم الأهواء؛ فيتوجّب على من له علم بذلك، أن يقوم إلى الطائفة الباغية يُقاتلها (أو يقاتلونها إن كانوا جماعة ثالثة) مع الأخرى. أما في حال كانت الطائفتان مجانبتيْن للحكم الشرعي، فإنهما تُردّان معا إلى الصواب، ولو بالقتال؛ والقتال -كما هو معلوم- لا يكون إلا بعد التبيين بالكلام. هذا على العموم، أما في حال معركة صفين، فإن إحدى الطائفتيْن على رأسها خليفة رباني، والأخرى يقودها خارج عليه معلوم الفسق. وهذا، لأن معاوية أول من خرج على عليّ، فهو يلحق بمن خرج على عثمان، ويتبعه بعد ذلك الخوارج المعروفون... وقد يأتي الكلام مستقبلا عن معنى الخروج، لأنه صار مجهولا في أزمنتنا... 3. وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ خُوَيْلِدِ الْعَنْزِيِّ قَالَ: "بَيْنَما أَنَا عِنْدَ مُعاوِيَةَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلانِ يَخْتَصِمانِ فِي رَأْسِ عَمَّارَ، يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو (ابن العاص): لِيَطِبْ بِهِ أَحَدُكُمَا نَفْسًا لِصَاحِبِهِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ!». قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَا بَالُكَ مَعَنَا؟! قَالَ: إِنَّ أَبِي شَكَانِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَطِعْ أَبَاكَ مَا دَامَ حَيًّا وَلَا تَعْصِهِ!... فَأَنَا مَعَكُمْ، وَلَسْتُ أُقَاتِلُ!"[6]. ولنلاحظ هنا أمورا منها: ا. أن من أصحاب معاوية، من كانوا يعلمون أنهم على الباطل؛ ولكن كل واحد منهم يجد مسوّغا لضلالته، ويظن أن ذلك ينفعه عند الله. ورواية عبد الله بن عمرو بن العاص لحديث الفئة الباغية، تدل على ما ذكرنا. ثم إن البغي، قد يأخذه الناس بمعنى الظلم الأصغر، وهو في الحقيقة من الظلم الأكبر، الذي يقول الله تعالى فيه على لسان لقمان: {إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِیمٌ} [لقمان: 13]. ب. إن معاوية لم يَهُلْهُ ما سمع من حديث النبيّ، بل هو مهتم بإفحام جليسه من أجل استبقائه. وبدل أن يتوب إلى الله أمام هذه الحجة التي أوصلها الله إلى أذنيه، التفت إلى أمر آخر، موهما بأنه ما يزال منطقيا مع نفسه؛ فسأل صاحبه: فما بالك معنا؟ (أي وأنت تعلم ما تعلم!). وهذه كلمة حق أريد بها باطل: فهو لا يُريد لصاحبه أن يعود عن معصيته، ولكنه يريد أن يستخرج منه ما يزداد به توغلا فيها؛ تماما كما يفعل الشيطان مع من يُضلّهم!... وهو ما يُسمّى في السياسة المعاصرة "التوريط". ج. وأما عبد الله بن عمرو -إن كان صادقا- فإنه يبغي الاستدلال على معصيته بأمر النبي له؛ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يأمر أحدا بمعصية أبدا، لا في الحال، ولا في المآل. ألم يقل عليه الصلاة والسلام: «لا طَاعَةَ في مَعْصِيَةٍ، إنَّما الطَّاعَةُ في المـَعروفِ.»[7]. وبهذا فإن طاعة عبد الله بن عمرو لأبيه في اتباع معاوية، معصية بيّنة، لا يقوم لها ما توهّمه من استدلال، إن صح الاستدلال ولم يكن تلاعبا واستهزاء؛ لأنه إن صح، فإنه يدخل تحت عموم الحديث المرويّ عن عليّ. ويستوي في هذا معصية السلطان ومعصية الوالدين والأستاذين وجمهور المسلمين، في المعروف المتَبَيَّن لا المظنون، وفي المنكر المتبيّن لا المظنون؛ كما هو الشأن هنا. ونعني أن من كان مع معاوية، كان على منكر بيّن، لا شبهة فيه!... وهذه التلبيسات، هي مما يحتال به إبليس على من لا علم له ولا نور؛ أو مما يحتال به المرء على نفسه، إن كان صاحب هوى... د. أما ما روي عمن تأول عندما سمع الحديث النبوي المتعلق بقتل عمار، فقال: "قتله من أخرجه!" أو ما في معناه، فإنه من أساليب الخبثاء، الذين لا يوقرون كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويستهزئون به عند إخراجه عن معانيه. وهؤلاء حكمهم ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُمۡ لَیَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلۡعَبُۚ قُلۡ أَبِٱللَّهِ وَءَایَـٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ لَا تَعۡتَذِرُوا۟ قَدۡ كَفَرۡتُم بَعۡدَ إِیمَـٰنِكُمۡۚ إِن نَّعۡفُ عَن طَاۤىِٕفَةٍ مِّنكُمۡ نُعَذِّبۡ طَاۤىِٕفَةَۢ بِأَنَّهُمۡ كَانُوا۟ مُجۡرِمِینَ} [التوبة: 65-66]. ولولا أن بعض النواصب من أهل زماننا يرددون هذا التأوُّل (لا التأويل)، وينسبونه بحق أو بباطل إلى إمامهم معاوية، ما ذكرناه لبعده عن الجد، ودخوله في التحامق... ولنتتبع هنا أحداث معركة صفّين باختصار، لنخلص إلى ما ينبغي إثباته من جهة العلم: -[بدا جيش عليّ على مشارف الانتصار وجيش معاوية على وشك الهزيمة، فاقترح عمرو بن العاص -وكان في جيش معاوية- عمل حيلة، وهي أن يقوم الجنود برفع المصاحف على أسنة الرماح، مطالبين بالتحكيم وفقا للشريعة الإسلامية.][8]: وما تنبغي ملاحظته، هو أن فريق معاوية يعتمد الحيلة، والحيلة من إملاء الشيطان هنا؛ كل هذا في مقابل الخليفة الحق. فأي دليل يبقى على نفاق القوم بعد هذا!... وأمْر الجنود برفع المصاحف في وجه جيش الحق، هو امتهان للمصحف يُراد منه استغفال العامة والسفهاء فحسب؛ وهذا لأن المصاحف ليس محلها رؤوس الرماح. وفي المقابل، ما كان عليّ عليه السلام، أن يتوسّل إلى النصر بشناعة كشناعة رفع المصاحف في وجهه!... ومَن أشدُّ تعظيما من عليّ لكلام الله، لو كان بالقوم عقول!... وسنعود إلى هذه المسألة فيما بعد إن شاء الله... وأما المطالبة بتحكيم الشريعة، فلا تكون في وجه الخليفة وهو المؤتمن عليها، ولا تكون في وجه من ولاّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كل مؤمن بالله ورسوله!... ومن أين لمعاوية بفهم القرآن وبعلم أحكامه، وهو من أسلم خوفا من السيف!... سبحان الله، أبلغ العمى بالناس أن يعدلوا بعليّ غيره؟!... ومن؟ معاوية؟!... غير أن خطاب التضليل هذا، سنة الضالين في كل زمن، ومع كل رباني، إن هم لم يُطيقوا نوره!... وسنرى هذا التحكيم: أهو تحكيم، أم استهزاء بأولي النهى من المسلمين؟... - [يقول ابن خلدون إن عليا حذر المسلمين من الخديعة، إلا أن جماعة ممن صاروا فيما بعد من الخوارج، أصروا على القبول بالتحكيم وهددوه بالقتل؛ ووافق بعد إلحاح منهم.]: لا شك في أن عليّا كان على علم بما يُحاك من جهة الأغبياء، كيف لا، وهو خليفة الله العليم في زمنه بالغيب والشهادة، العلم اللازم لمرتبته!... ولكن المواجهة لم تكن بينه وبين معاوية، حتى يحسمها في طرفة عيْن؛ بل كانت فيما بين شطريْن كبيريْن من عوام المسلمين؛ مع وجوب تمييز صف عليّ بصحابة أخيار معتبرين. والعوام، دائما يجعل منهم إبليس وقودا للفتنة، بسبب جهلهم بالوحي وأحكامه، وبسبب خفة عقولهم؛ خصوصا، إن نفخ فيهم قوادهم المستغفِلون لهم بأنهم رجال كسائر الرجال، وأنهم مؤمنون، عليهم أن يغاروا على الدين كما يغار عليه أي واحد من الكبار. فهنا يرتفع العوام عن أرض الواقع، ويسهُل على مستعملِهم تحريكهم كيفما شاء. ولقد ابتلي عليّ بهذا الصنف في صفه، كما ابتلي بهم في صف معاوية؛ حتى صاروا يُلجئونه إلى قبول التحكيم عندما وجده أهون الشرّيْن. وصدق عليه السلام حينما قال (وكلامه كله حكم): "وَلَكِنْ لا رَأْيَ لِمَنْ لا يُطاعُ!"[9]. وسيأتي الكلام على تمام الخطبة العلوية بإذن الله. - [وعندما أرادوا حكما اختاروا أبا موسى الأشعري؛ لكن عليّا رفضه لعدم ثقته به وتخلّيه عنه فيما سبق؛ ورشح الأشتر النخعي، إلا أنهم رفضوه واستقر الأمر على الأشعري. رفض شطر من الخوارج ممن صاروا ينقلبون على إمامهم في الرأي التحكيمَ، معتبرين أن معاوية كافر بخروجه عن طاعة الخليفة الشرعي، وبهذا يجب قتله. واعتبروا التحكيم أيضا خروجا عن حكم الله واحتكاما بحكم البشر -رغم تأكيد بعض المؤرخين على أن شطرا منهم هم من رشحوه- فذهبوا لعليّ يستتيبونه، ويحثونه على قتال معاوية ونقض اتفاق التحكيم؛ لكنه رفض؛ مما أدى إلى انسحاب الخوارج من جيش علي.]: وهنا بلغت المصيبة مداها، وبدأ أتباع عليّ في عصيانه، رغم علمهم بأنه خليفة اصطلاحا. وأما لو علموا مدلول الخلافة، لكانوا يفضلون الموت على منازعته. ولقد وقع لهذه الفئة، ما سيقع لعموم الأمة فيما بعد، وعلى رأسها فقهاؤها!... فهم يسمّون الخليفة باسمه، ولكنهم يجهلون مرتبته وحقوقه؛ بل لقد علّمهم إبليس أن الناس في الإسلام سواسية، فلا فضل لهذا على هذا إلا بما يفهمونه هم من التقوى. ورغم أن هذا المبدأ يتأسس على حديث نبوي شريف، يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أيُّها النّاسُ إنَّ ربَّكُمْ واحِدٌ! أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ!»[10]. لكن، هل يعلم أحد التقوى كما يعلمها عليّ؟!... وهل يتقي الله أحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يتقيه عليّ؟!... ما هذا الارتكاس!... أتكون حفنة من سفهاء الناس، ممن دخل عليهم القول بالرأي، وهم لا يبلغون أن يكونوا من أهله لا عقلا ولا شرعا، أن يُخالفوا خليفة الله من دون أن يرف لهم جفن!... إنها والله الفتنة الكبرى، سيدخلون فيها جزاء عصيانهم البيّن لله ورسوله. وسيكون الجزاء أليما على قدر مكانة مَن عصوه!... ومن الآن فصاعدا، كل ما سيحدث، إنما هو من العقوبة اللاحقة بالقوم من الجهتيْن؛ ولن يسلم بدينه، وإن استُشهد (لأن الشهادة عندنا مغنم)، إلا من وافق الخليفة بظاهره وبباطنه!... [وأورد ابن كثير([11]) في رواية تقول إن عليّا وافق على التحكيم وعارضه بعض الناس. في هذه الأثناء اختار معاوية عمرو بن العاص حكما من طرفه، وكان الحكم من طرف عليّ هو أبو موسى الأشعري. واجتمع الحكمان لإيجاد حل للنزاع، فدار بينهما جدال طويل، واتفقا في النهاية على خلع معاوية وعليّ، وترك الأمر للمسلمين، لاختيار خليفة غيرهما. فخرج الحكمان للناس لإعلان النتيجة التي توصلا إليها، فأعلن أبو موسى الأشعري خلع عليّ ومعاوية، فقام عمرو بن العاص وقال: "إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه؛ وأثبت صاحبي معاوية.". فقال له أبو موسى الأشعري: "غدرت وفجرت!"، ودار عِراك بينهما([12]). بعد حادثة التحكيم، عاد القتال من جديد، واستطاع معاوية أن يحقق بعض الانتصارات. وضم عمرو بن العاص مصر بالإضافة إلى الشام، وقتل واليها محمد بن أبي بكر.]: ولنلاحظ ما يلي: 1. لا يجوز شرعا القبول بالتحكيم بين الخليفة وغيره من الناس؛ لأن مرتبة الخلافة لها الإشراف على الجميع. وما قبل عليّ هذا التحكيم، إلا لأن الأتباع جهلوا مكانته، ودفعوه إلى القبول؛ فهذا، كان في حقه أهون الشرّيْن. ولكن الشّر ما بدأ إلا ليعظُم ويكبر!... 2. إن عمرو بن العاص اعتمد الحيلة والدهاء المـطلقيْن، وهذا أسلوب غير شرعي؛ بل هو أسلوب شيطاني لا معايير فيه ولا أخلاق، وهو ما سيُعرف لاحقا عند الأوروبيين بالماكيافيلية. ولقد وقع أبو موسى الأشعري ضحية لدهاء عمرو، ولم ينفعه أن يُعلن غدره وقد بلغت الناس نتيجة التحكيم، والتي هي عزل عليّ والإبقاء على معاوية. فكان هذا إيذانا بانقلاب المعايير، وبانعكاس الأحوال. وقبل أن نمضي نعود إلى انقسام الصحابة في حق الخليفة ثلاثة أقسام كما أسبقنا بذكر ذلك قبل صفحات: 1. القسم الأول: وهم الذين كانوا على يقين من مرتبة عليّ: ومن هؤلاء: سعد بن الحارث بن عمرو، وجارية بن قدامة بن زهير، وسهل بن حنيف، وعمار بن ياسر، وأبو مسعود الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، وأبو أمامة العبدي بن العجلان الباهلي، وخزيمة بن ثابت بن الفاكه، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وسليمان بن صرد الخزاعي، والأشعث بن قيس الكندي، وقيس بن سعد بن عبادة، وبشير بن عمر (أبو عمرة)، وحجر بن عدي بن الأدبر الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبد الله بن عباس، وعبيد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، والإمام الحسن (السِّبط)، والإمام الحسيْن (السبط)، وجعدة بن هبيرة بن أبي وهب... وهؤلاء هم الذين كانوا على المحجة البيضاء التي ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمة عليها. يقول عليه السلام: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُها كَنَهارِها، لا يَزِيغُ عَنْها بَعْدِي إِلّا هالِكٌ؛ وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا. فَعَلَيْكُمْ بِما عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ. وَعَلَيْكُمْ بِالطّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا. عَضُّوا عَلَيْها بِالنَّواجِذِ فَإِنَّما الْمـُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ، كُلَّما قِيدَ انْقَادَ.»[13]. وهذه التي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعض عليها بالنواجذ، هي ما يُسمّى اصطلاحا: السُّنّة. وبيّن أنها واضحة لا خفاء فيها (ليلها كنهارها)، إذا كان العبد فيها على نور وبصيرة. وأمر عليه الصلاة والسلام، إلى جانب التمسك بسنته، بالتمسك بسنة الخلفاء؛ وهذا لأن سنّة الخلفاء سنة نبويّة تظهر من مظهر الخليفة، كما سبق أن أوضحنا. ولولا هذه الحقيقة، ما جاز أن يتمسك أحد بغير السنة النبوية المعروفة. وعلى هذا، فإن ما كان يقوله عليّ أو يفعله، هو سُنّة نبوية ينبغي التمسك بها وعدم مجاوزتها. فهل أدرك أصحاب عليّ كلهم هذا؟... كلا!... وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفة المؤمن إذا كان مع الخليفة، ألا وهي: الانقياد بسهولة ودون لجاج. فهل كان كل أصحاب عليّ على هذه الصفة المشروطة؟... كلا!... من هنا يظهر لنا أن شطرا من أتباع عليّ هم من كانوا على السُّنة، وهؤلاء هم أهل السنة بالاصطلاح الحق، وهم خميرة هذه الطائفة إلى يوم الدين. وهذا يعني أن أهل السنة، هم شيعة عليّ عليه السلام في ذلك الزمان، لا غيرهم. وسنرى كيف أن صف معاوية المـبْطل، سينتحل صفة التسنّن منذئذ، ليستمر التلبيس في الدين، ولتتحرف معانيه؛ حتى يقول الرجل إنه من أهل السنة، وهو من النواصب ومن أتباع الشيطان. 2. القسم الثاني: وهم المتوقفون الذين رفضوا الدخول في المعركة: وهؤلاء كان ينقصهم العلم، ولما غاب عنهم العلم، عوّضوه بالقياسات العقلية، والتي كانت فاسدة، بسبب غياب بعض المعطيات. فهم ظنّوا أن المعركة قائمة فيما بين الصحابة، وهي كانت بين الصحابة ومنافقي الطلقاء. نعم قد يصير الطليق صحابيا برؤيته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومجالسته؛ ولكن بشرط حسن إسلامه. وأما إن أبقى عداوته لله ورسوله طيّ قلبه، فلا صحبة له، إلا صحبة الشيطان. وهذه التسوية بين هذين الصنفيْن، ممن قل نورهم، تدل على نقصهم وعلى غلبة المكائد لعقولهم. وليتهم إذ عجزوا عن تبيّن الحق، اتخذوا الربانيّين نبراسا يهتدون بهم، وهذا هو الحكم الشرعي في هذه المسألة؛ ولكنهم فضلوا أن يبقوا منقطعين عن النور وأهله، فضلوا الطريق من غير شك، وإن كانوا لا يبلغون شرّ الفريق المعادي بالقطع. ومن المتوقفين من الصحابة: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وسلمة بن الأكوع، وسعيد بن زيد، وصهيب بن سنان الرومي، وأسامة بن زيد، وأبو هريرة، وهبيب بن مغفل، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسعيد بن العاص، ومعاوية بن حديج الأمير، وزيد بن ثابت، وكعب بن عجرة، وسليمان بن ثمامة بن شراحيل، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن سلام، وأهبان بن صيفي، والحكم بن عمر الغفاري... وهؤلاء وإن كانوا على إيمان، إلا أنهم لم يبلغوا منه تعرّف الحق. وهكذا، فإنهم يبقون من عوام المؤمنين، وإن كانت بعض الأسماء منهم معتبرة عند من لا علم له بالمسألة من الخواص. فمثلا، يُعد عبد الله بن عمر عند أهل السنة من متحرّيها، وبالتالي من أعلامها؛ وهو في الحقيقة لا يبلغ تلك المرتبة الآن على الأقل، وإبان معركة صفين. وقد يمنّ الله بالتوبة فيما بعد، على من يشاء من هؤلاء، فلا نجعل الحكم عليهم على صفة الديمومة... 3. القسم الثالث: وهم من أبدوا العداوة والبغضاء لخليفة الله ورسوله: ومن هذا القسم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص (أما ابنه عبد الله فإنه ظن أنه بتكثير سواد معاوية مع عدم القتال معه سينجو، وهيهات!...). ومنهم فضالة بن عبيد الأنصاري، ومسلمة بن مخلد، وحبيب بن مسلمة. ويظهر من هذا، أن عدد الصحابة الذين كانوا مع معاوية، كانوا قلة؛ وهذا يؤكّد الحكم الذي أدلينا به آنفا. فلو علم جمهور الصحابة أن معاوية على الحق لناصروه. ولكن مَن هذا الذي يُمكنه أن يكون على الحق، وهو في مواجهة خليفة الله ورسوله؟!... إلا إن كان الحاكم أعمى البصر والبصيرة!... وقد برئ الخليفة بعد الخديعة من أصحاب التحكيم، وقال عن الرجُليْن اللذيْن باءا بإثمه: "ألا إنَّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما (أي عدلا عن شريعة الله)، وأحييا ما أمات القرآن (أي عادا إلى حكم الجاهلية)، واتبع كل منهما هواه بغير هدى من الله (فدخلا في الفتنة وأدخلا الأمة من ورائهما)، فحكما بغير حجة بينة ولا سُنة ماضية (لأن الحجة وقتذاك عليّ، والناطق باسم السنة عليّ)، واختلفا في حكمهما وكلاهما لم يرشد (أي إن كليهما ضلاّ السبيل إما عن قصد كعمرو بن العاص، وإما عن عجز وقصور كأبي موسى الأشعري)، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين (وهذا الحكم الجليّ الواضح هو حكم الله ورسوله، وكل مخالفة له هي مخالفة للحق وارتماء في حضن الباطل)"[14] . وقد اختلط على الناس أمر هؤلاء المنافقين، عندما لم يحكم الخليفة عليهم بالكفر أو بالنفاق حال مقاتلتهم إياه. والحقيقة أن عليّا حكم أولا بما يُعطيه ظاهر الأمر، وهم في الظاهر كانوا مسلمين يُصلّون ويصومون ويجاهدون (بحسبهم). ودليل هذا الحكم، القول المشهور: «أُمِرْتُ أَنْ أَحْكُمَ بِالظَّواهِرِ، وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرائِرَ.»، ورغم أن علماء الحديث قالوا: ليس بحديث؛ إلا أنهم قالوا أيضا: معناه صحيح. وهذا يجعله قاعدة يُعمل عليها في الباب. ولو فُتح هذا الباب، ما كان الناس يتوقفون عند حكم النبي أو الخليفة؛ ولكنهم سيتجاوزونه إلى أحكام أنفسهم بأهوائهم، ويجعلونها علة لما يرتكبونه من معاص وجرائم، ثم يسمونها دينا. وهذا رغم أن النبيّ والخليفة في الغالب، يعلمون حال بواطن الناس، بحيث لو حكما فإنهما يحكمان بالعدل. فوجب التفريق هنا بين التشريع الذي هو عام، وما يكون من العلم الخاص للخواص. وقد يقول قائل: فكيف يُمسك الخليفة عن القول، وتتجرأ أنت عليه؟!... والجواب، هو أننا نحن بعيدون عن المعركة، ولن يؤثّر فيها قولنا، ما كان سيؤثره قول الخليفة. ونعني من هذا أن الحكم حينئذ كانت ستنتج عنه أفعال، الله وحده يعلم كم كانت ستزيد من الفتنة!... أما نحن، فنتبيّن الجوانب العلمية في المسألة، ونشرحها على طاولة التحري والتشريح العلمي، من دون أن نكون طرفا من أطرافها في حال حماسه، وحالَ العمل بما يُعطيه ظنه أو يقينه... وإن هذه المعركة، قد طال أمد التباسها، ونحن قد تناولناها بكيفية لم نُسبق إليها ربّما. فإن قيل: فهذا الخليفة السابع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال في زمانه: "تلك دماءٌ طهّر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضب بها لساني"[15]؛ وهذا خليفة لن تبلغ مكانته!... قلنا: إن الخليفة بن عبد العزيز، كان يعلم أن الكلام في زمانه سيزيد الفتنة تسعيرا؛ أما نحن، فنعلم أنه جاء أوان فتح هذه الملفات المؤجّلة، لأننا على مقربة من إظلال الخلافة الخاتمة. فهل يظن ظان، أننا سنستقبل المهدي عليه السلام، بهذا الجهل العام والشامل؟!... والفتنة تبقى عاملة في الأمة منذ نشوئها، وإن خفّت أحيانا؛ ولن يتوقف عملها إلا إذا شُرِّحت وفُصِّلت تفصيلا، ليعود كل فعل وكل قول إلى حُكمه الأصلي. فالعملية تشبه تفكيك القنابل، إذا أريد منها ألا تنفجر في الناس... مرة أخرى... (يُتبع...) [1] . نهج البلاغة: الخطبة: 168؛ وتاريخ الطبري: 4/437؛ ومعالم الفتن: 1/499. |