انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2022/12/12
شذرات مما يتعلق بموقعة صفين من أحكام وآيات (3)
(تابع) 3. الظروف التي ولي فيها عليّ الخلافة: لقد قرّرنا سابقا أن التنصيب في مرتبة الخلافة من جهة الغيب يكون من الله القائل سبحانه: {وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةً} [البقرة: 30]. وعندما علمنا قول الله تعالى في المـُلك الذي هو ظاهر الخلافة: {قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَاۤءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَاۤءُ} [آل عمران: 26]، علمنا أن الله قد تكفل بتنصيب الخليفة وبتنصيب المـَلِك كليهما، وهو ما نسميه الخلافة التامة عند اجتماع الغيب بالشهادة للحاكم كما هو الشأن مع الخلفاء الاثني عشر، الذين عليّ منهم. فإن أدركنا ما سبق، فإنه سيظهر لنا أن تشاور أهل الشورى، وبيعة المبايِعين، ليس منوطا إلا بالحكمة الإلهية التي تربط المظاهر السببيّة بعضها ببعض، بحسب كل بيعة. ومن هنا كانت صورة انتقال الخلافة غير مشتركة، وكان كل خليفة يلي الخلافة بطريقة مختلفة. وقد جهل المشتغلون بالعلوم السياسية هذا الأصل، فظنوا أن اختلاف صور انتقال الخلافة، هو من ضعف التأسيس "النظري" للمسألة؛ وهيهات!... بل إن الأمر من بدايته إلى نهايته مـُحكم إحكاما ربانيا، يعزّ عن إدراك العقول القاصرة!... والخلافة حتى يمرّ حكمها من الغيب إلى الشهادة، كان لا بد من أن يجري فيها اختيار الخليفة من جهة الظاهر، على ألسُن "أهل الحل والعقد" الذين قد تتغير صفتهم في الظاهر، ويتغير عددهم بحسب كل زمان. ومن أهم صفات أهل الحل والعقد المشروطة لهم: العلم بظاهر أحكام الحكم (فقه السياسة)، والتقوى؛ حتى يُراد بالبيعة وجه الله، لا نُصرة على أساس العصبية والهوى. وعلى هذا، فإن البيعة الممضية للحكم بالخلافة للخليفة ظاهرا، إنما تكون أول الأمر من النخبة التي اختارته (أهل الحل والعقد)، ثم يتبعها كل من استطاع أن يلحق بالخليفة الجديد صفا بعد صف (أي بحسب مكانة كل مبايِع في الدين وفي مراتب الدولة): فيُبادر من حضر من المهاجرين ثم من الأنصار، ثم من فقهاء الصحابة، والخواص منهم قبل العامة. ويأتي بعد الصحابة في الزمان الأول، أهل العلم وأهل التقوى وفق ترتيبهم في الناس في الأزمنة المتعاقبة، كل زمن بحسبه. ونحن نؤكد هنا، على أن البيعة ليست الأصل في التنصيب، وإنما هي ظاهره وما يُقدّر الله جريانه على الألسُن؛ أي هي من التنصيب الإلهي كالجسد من الروح. وهكذا، فإن كل من اعترض على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وحكم بأن الخلافة لعليّ منذ البداية، فإنه يكون على جهل بكل ما ذكرنا، لأمريْن: - الأول: هو أن الخليفة إذا نصبه الله غيبا، فإنه يَعلم مرتبته من نفسه، وقبل أن يخوض الناس فيها. وهذا هو ما وقع لأبي بكر رضي الله عنه، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولو علم الناس هذا الأصل، ما سمحوا لأنفسهم بالكلام فيما لا يدخل تحت علمهم ولا تحت تصرفهم... - الثاني: هو أن ترتيب الخلفاء يكون بقدَر الله تعالى، بحسب علمه فيهم. وهو سبحانه كان يعلم أن أبا بكر هو أول الخلفاء بالترتيب الظاهر، وأن عمر ثانيهم، وأن عثمان ثالثهم. فكان لا بد من تولي الثلاثة للخلافة قبل عليّ عليه السلام لهذا السبب، لا لأفضلية لهم عليه، كما أسلفنا. ولا يغترّ أحد بالدخول في التفضيل استنادا إلى ما ورد في الخلفاء من مناقب، قد يكون بعضها ثابتا في القرآن، كما هو في حق أبي بكر رضي الله عنه، حين يقول عنه ربه: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ثَانِیَ ٱثۡنَیۡنِ إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَیۡهِ وَأَیَّدَهُۥ بِجُنُودٍ لَّمۡ تَرَوۡهَا} [التوبة: 40]. فهم رضي الله عنهم كلهم حائزون للأهلية منذ البداية إجمالا، وإن كانت الأهلية الغيبية لا تحصل إلا حين التنصيب، ما دام تعليم الأسماء الإلهية شرطا فيها؛ فهي (حيازة الأسماء) أهلية لا تتوافر إلا حين التنصيب. وأما ولاية عليّ الدينية، التي تكلمنا عنها في الجزء السابق، فإنها خارج أهلية الخلافة؛ لأنها تدخل في ميراث النبوة الخاص، وهي أشمل منها. ومن هنا يصح أن نقول إن ولاية عليّ على المؤمنين، هي أعم من خلافته على المسلمين. وبها كان عليّ عليه السلام ثابت الولاية على أبي بكر وعمر وعثمان، بله غيرهم؛ رضي الله عن الجميع. كل هذا، ينبغي أن يُؤخذ بالمعنى النسبي وبالجزئية، لا على الإطلاق أو من كل وجه. وهذا لأن الله في عليائه، قد حكم أن كل فاضل مفضول؛ حتى ينفرد هو سبحانه بالدرجة التي لا تفضلها درجة. وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: "كانَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ناقَةٌ تُسَمَّى العَضْباءَ، لا تُسْبَقُ؛ فَجاءَ أعْرابِيٌّ علَى قَعُودٍ فَسَبَقَها. فَشَقَّ ذلكَ علَى المـُسْلِمِينَ، حتَّى عَرَفَهُ (أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالَ: «حَقٌّ علَى اللَّهِ، أنْ لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِنَ الدُّنْيا، إلَّا وضَعَهُ!»[1]. وحتى يتجنب المرء هذه المزالق، فعليه أن يعلم أن الظاهر بكل المظاهر هو الله؛ والله لا يقبل أن يُعتبر في مظهر دون مظهر وهو الواحد. وهذا هو ما يُشير إليه قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَیۡنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ} [البقرة: 115]. وهذا أصل كبير في باب المعارف، لا نعتبر منه هنا إلا ما ينأى بنا عن سوء الأدب مع أحد الخلفاء، رضي الله عن جميعهم... وأما تأخر عليّ عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر، حتى لحقت الزهراء عليها السلام بأبيها، فهو من انشغاله بها وترقُّب انتقالها، وهي المبشّرة بذلك الانتقال من أبيها عليه وآله الصلاة والسلام قُبيْل وفاته. وقد أشغل الله عليّا عن الخلافة لحكمتيْن جليّتيْن: - الأولى: هي إنفاذ القدر: ونعني منه ما سيبقى من جهة الصورة، محل تأويل من القدماء والمتأخرين، لتحل الفُرقة في الأمة، ويقع الاقتتال بين المسلمين. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما دار بينه وبين ربه فقال: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فأعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتي بالسَّنَةِ، فأعْطَانِيهَا؛ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتي بالغَرَقِ، فأعْطَانِيهَا؛ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا.»[2]. ومن هذا النص نعلم أن أسباب الفتنة لا بد من أن تظهر في المسلمين منذ عهد الصحابة، ولا بد من أن تثبت وأن تتولَّد عنها الآراء والأحكام مع توالي الأزمان؛ حتى تُفضي إلى ما قد أفضت إليه الآن وبان. وإنَّ نظر الفقهاء إلى الحكم الشرعي في المسألة وحده من فريقيْ الشيعة وأهل السنة، لا يُعطيهم الحكم الحق التام؛ لأنهم لا ينظرون بعين الأدب في ذلك مع قضاء الله وقدره، والذي لا حكم للشريعة عليه. وهكذا، فإن الله قد أمر الأمة بالوحدة، ونهاها عن الفرقة؛ ولكنه قدّر عليها ما نهاها عنه، ليشتد الامتحان، ويظهر من كان مسلِّما لربه تسليما، ممن يعتمد الدليل والبرهان!... يقول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا یَجِدُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَیۡتَ وَیُسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمًا} [النساء: 65]. ومعنى "يُحكّموك" في الآية، ليس هو تحكيم الشريعة بفهم الفقهاء كما يُظنّ؛ وإنما هو العودة إلى حكم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الغيب وفي الشهادة. وحكم النبي في الغيب هو حكم المشيئة الإلهية عينه؛ فليُعتبَر. وما زالت هذه المسألة سببا من أسباب الفتنة المستمرة من ذلك الزمان إلى الآن كما لا يخفى... - الثانية: هي زهد الإمام في الدنيا وما فيها: وليت شعري، إنْ لم يزهد علي في الدنيا، فمن يزهد!... وهو القائل لها: "يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي! أَبِي تَعَرَّضْتِ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ؟ لَا حَانَ حِينُكِ! هَيْهَاتَ! غُرِّي غَيْرِي! لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ! قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا!..."[3]. ومن كان زاهدا في أعلى درجات الزهد، كيف يتطلع إلى منصب أو إلى جاه؟!... كل هذا قبل التنصيب الإلهي، وأما بعده، فإن الخليفة ليس له أن يتمنى خلع ما ألبسه الله، ولو كان ذلك بحزّ رأسه. وهذا عينه ما أجاب به الخليفة عثمان مَن عرضوا عليه التنحي... أفيُلبّي الخليفة طلب العباد، بسوء الأدب مع رب الأرباب؟!... هذا والله لا يكون!... وكل من لا خبر له عن هذا العلم، فإنه سيضِل في مسألة الخلافة ويبني على الوهم. وقد شاء الله أن تدخل هذه الأمة في الفتنة منذ استشهاد الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه. يروي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، قالَ: "أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الفِتْنَةِ؟ فَقالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا أَحْفَظُ كما قالَ. قالَ: هَاتِ، إنَّكَ لَجَرِيءٌ! (قال): قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أَهْلِهِ ومَالِهِ وجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ، والصَّدَقَةُ، والأمْرُ بالمـَعروفِ، والنَّهْيُ عَنِ المـُنْكَرِ. قالَ: ليسَتْ هذِه، ولَكِنِ الَّتي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ! قالَ: يا أَمِيرَ المـُؤْمِنِينَ، لا بَأْسَ عَلَيْكَ مِنْها، إنَّ بيْنَكَ وبيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. قالَ: يُفْتَحُ البَابُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قالَ: لَا، بَلْ يُكْسَرُ! قالَ: ذَاكَ أَحْرَى أَنْ لا يُغْلَقَ! قُلْنَا: عَلِمَ عُمَرُ البَابَ؟ قالَ: نَعَمْ، كما أنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ. إنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا ليسَ بالأغَالِيطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ. وأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ، فَقالَ: مَنِ البَابُ؟ قالَ: عُمَرُ!»[4]. وهكذا، فإن عثمان رضي الله عنه قد ولي الخلافة في زمن الفتنة التي تموج كما يموج البحر، وقد زال المانع الذي كان بينه وبينها. فما زالت تشتد والناس يتقحّمونها، إلى أن مضى الخليفة الثالث شهيدا عند ربه، كما بشره النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولا بد أن نذكر هنا حال الصحابة -وهم الصف الأول من المؤمنين- مع عثمان رضي الله عنه: وقد انقسموا بإزائه ثلاثة أقسام: - القسم الأول: من كانوا يعرفون شيئا عن الخلافة من جهة الكشف، وعلى رأس هؤلاء عليّ عليه السلام؛ وهم قلّة على كل حال. ثم يأتي بعدهم من كان يعلم الحق من دلالة أهل الحق عليه، كما كان يعرفه من عرفه من رأي عليّ عليه السلام. وهذا الترتيب معتبر في العلم، رغم أن جُلّ الناس لا يعتبرونه لسبب من الأسباب. ونعني من هذا، أن أهل الحق في الأمة دائما مرتبتان: الأولى: الربانيون بالمواجهة، والذين يعلمون الحق بالحق؛ والثانية: الربانيون بالتوجه، وهم من يعلمون الحق بدلالة أصحاب المرتبة الأولى، لا من أنفسهم. ومن هنا كان الصحابة الذين يعلمون الحق من معرفتهم برأي عليّ عليه السلام، على الحق، وإن كانوا من مرتبة ربانية التوجه. وسيتضح هذا الترتيب شيئا فشيئا، بدخولنا في تفكيك الفتنة الكبرى إن شاء الله... - القسم الثاني: وهم من حكّموا علمهم. وهؤلاء قد أصابوا الحق في خلافة أبي بكر، وفي خلافة عمر، وانقسموا في خلافة عثمان. فمنهم من اعتبر الأصل في الخلافة، وهو الصواب؛ ومنهم من حكم بظاهر الشريعة بحسبه، فضلّ على علم. والحكم بظاهر الشريعة، على ما يعطيه نظر الناظر، خطأ بحضرة خليفة من أصحاب الخلافة التامة؛ وعثمان كان من أصحابها. ونعني من هذا، أن الخليفة بالمعنى التام، حكمه حكم النص: فكما لا اجتهاد مع النص، فكذلك لا اجتهاد مع خليفة؛ وإنما على الناس السمع والطاعة، فهموا أم لم يفهموا. والخليفة (بالمعنى التام)، خليفة عن الله ورسوله كما بيّنّا آنفا؛ وهو لا يصدر عنه إلا العدل قولا وفعلا. وهذه عصمة من الله لأهل هذه المرتبة، لو أن العامة من أهل الدين عرفوا حقها. وهكذا، فإننا نرى للعصمة التي تقول بها الشيعة أصلا معتبرا، ولكنه مجهول في الغالب لديهم قبل غيرهم. ومعنى العصمة في حق الخليفة، هو أن الحكم الصادر عنه، لا يكون إلا حكم الله ورسوله. فكما أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لا ينطق إلا بحكم الله، فكذلك الخليفة لا ينطق إلا بحكم الله ورسوله. وحكم الله ورسوله لا يلحقه الخطأ، وإن عسُر إدراك علته أو دليله. ومن يزعمُ من فقهاء الأمة من الأولين والآخرين، نسبة الإحاطة إلى نفسه، بعلل الأحكام وأدلتها؛ حتى يقول بإصابة خليفة أو بخطئه؟!... وإنما هذا باب من أبواب الفتنة، دل عليه إبليس مَن لا يقين له من أهل العلم. وما أكثرهم!... ولو أن العلم في نفسه كان عاصما لأصحابه، ما قال الله عن صنف من الناس: {أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةً فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. فليُعتبر هذا الأصل!... ونحن لن ندخل هنا في المطاعن التي آخذ بها العامة الخليفة عثمان، لأنها لا تصح عندنا البتة. واعتبار الأصل الأول في حكم إصابة الخليفة، أولى عندنا بالاعتبار من دون دخول في التفاصيل!... خصوصا ونحن نبغي الاختصار!... وأما نهي الخليفة عثمان رضي الله عنه، للصحابة أن يحموه من الرعاع، فهو ليس من إقرار السفهاء على آرائهم، وهم لا رأي لهم؛ وإنما هو من الضّنّ بدماء الصحابة أن تُسفك على بابه، وهو يعلم علم اليقين أنه مستشهَد. فقد حدّث عثمان رضي الله عنه يوم استشهاده فقال: "إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ، أَفْطِرْ عِنْدَنَا!»، فَأَصْبَحَ عُثْمَانُ صَائِمًا، فَقُتِلَ مِنْ يَوْمِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ."[5]. على أن الرؤيا المنصوص عليها في الكلام، هي في الغالب مشاهدة ومشافهة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخليفته. والخلفاء لهم هذه المكانة: فهم يتصلون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقظة، ومن دون حاجة إلى منام. وسواء وافقنا حقيقة ما أخبر عنه عثمان رضي الله عنه في النازلة بعينها، أم لم نوافق، فإن الأصل الذي ينبغي إقراره هو ما ذكرنا. ولعل عدول الخواص عن الكلام به، هو بسبب استبعاد عقول العامة له، ودخولهم في مقايسات لا يخرجون منها بطائل. ومع كل ما يُقال في هذا القسم الثاني، إلا أن جُلّ الصحابة بقوا في الأمر على الأصل؛ خصوصا وأن كثيرين منهم كانوا في ذلك الوقت خارج المدينة... وأما القصص التي أُحيط بها استشهاد الخليفة الثالث فيما بعد، مما يبغي أهل الباطل تقوية رأيهم به، فأغلبها لا أصل له؛ وتبقى طهارة سيدنا عثمان فوق كل نظر، لائقة بمن رباه واستخلفه، صلى الله عليه وآله وسلم. - القسم الثالث: وهم الأعراب أو المنافقون (لأنهم يُعدون صحابة من جهة الظاهر)، ومن دخل فيهم من السفهاء الذين دخلوا في الإسلام بعد فتح الأمصار. وقد زاد من قوة هؤلاء في العدد وفي الجرأة على الله ورسوله، اتساع الدنيا وظهور مظاهر الترف على المسلمين، ومع دخول الغفلة على المجتمع الإسلامي. وهذان السببان (اتساع الدنيا والغفلة)، كانا كالوقود المغذّي للفتنة منذئذ وإلى الآن... وقد نتج عن اتساع الدنيا، التنافس عليها، واتخاذها غاية بعد أن كانت مهملة مع الصحابة المرضيّين. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... فَوَاللَّهِ لا الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم؛ ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ.»[6]. ومن هذا التنافس الخبيث، كان الاعتراض على الخليفة العادل عثمان بغير وجه حق كما أسلفنا. وأما ما نتج عن الغفلة (والغفلة هي غياب النظر إلى الغايات وخبوّ نور الاعتبار بالآيات)، فهو الجرأة على الله ورسوله، بتنقّص من أقيم في الخلافة بالإذن الرباني، وبتحكيم النظر القاصر بين أيدي أهل النور الباهر؛ حتى صار الرعاع يبغون خلع من ولاّه الله، ويشترط الواحد منهم عليه ما لا يُجاوز مدى إبصاره وهواه. وهذا مؤْذن عن قريب، بانعكاس الأمر وإياله إلى غير أهله. وهو ما حدث بالفعل، ونتج عنه الاختلاط الذي استفحل مع الأيام، إلى أن بلغ ما لا يخفى عن ذي لب... ولعلنا سنعود إلى مسألة الجمع بين تصرف الخليفة غيبا وشهادة، وتصرّف العامة فيهم بالقتل في موضع قادم، إن شاء الله؛ حتى نُكمّل العلم المتعلق بها من كل وجه. وهذا، لأن الفطناء سيتساءلون عما إليه أشرنا؛ وربما قد يدخل عليهم إبليس بالتشكيك في كل ما نقول، ونحن -بحمد الله- لن نتركهم نُهبة لتلبيسه ما استطعنا... ولقد ذكرنا هذا التقسيم للصحابة والتابعين في زمن عثمان، على ضعف جلائه في زمانه، لنبني عليه في زمن خلافة عليّ عليه السلام، ولنعرف بعض الأفراد من كل قسم، حتى يزداد ظهورهم قوة في عين الناظر، فلا يحتاج مع ذلك إلى كبير عناء!... وعندما استُشهد الخليفة عثمان عليه السلام، لم يجد المسلمون أمامهم إلا عليّا يتحمل وزرهم من جهة الظاهر، ووزر العوالم من جهة الباطن. وقبل أن نمضي في الكلام، علينا أن نذكّر بأن خلافة أبي بكر وعمر عليهما السلام، قد نيلت من جهة الظاهر بالوجه المعلوم من التاريخ. فأبو بكر بايعه أهل السقيفة (من باب الحكمة فحسب)، وعمر أوصى له بها أبو بكر بعده. فلما استُشهد الفاروق عليه السلام، بدأت لجنة الستة المنصَّبة من قِبله، تستشير كبار الصحابة وتستطلع رأي عمومهم، لعلها تهتدي من جهة الظاهر إلى الخليفة الثالث؛ حتى يجتمع حُكما الغيب والشهادة فيه. فكان ممن عُرضت عليه الخلافة عليّ عليه السلام، واشترط عليه عبد الرحمن بن عوف أن يتبع فيها الكتاب والسنة، وفِعل أبي بكر وعمر عليهما السلام. فرفض عليّ الشرط وقبله عثمان، فبويع عثمان (ظاهرا) لهذا السبب المرجِّح. وأما رفْض عليّ عليه السلام للشرط، فهو أولى بالاعتبار في العلم؛ وذلك لأن الخلافة وإن اتحدت في صورة اتباع القرآن والسنة، فإنها تختلف حتما في صورتها فيما بين خليفة وآخر؛ وإلا كانت على نمط واحد جامد، وهذا يُخالف روحها من الأصل، ويُخالف ما يشهد به الواقع. فكل خليفة له طريقة في خلافته، لا بد أن ينفرد بها دون غيره؛ وهذا لأن أحوال الخلافة من الشؤون الإلهية. والشؤون الإلهية لا تتكرر، ومن المحال تكرارها. يقول الله تعالى: {یَسۡـَٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ كُلَّ یَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٍ} [الرحمن: 29]. ولو أن شيئا تكرر في العالم، لانتفى الاسم "الواسع" في حق الله تعالى، وهو ثابت بالقرآن لا يرتفع. يقول الله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ} [البقرة: 115]. ومن هنا يظهر أن اشتراط عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، كان عن جهل، وأن رفض الخليفة الإمام كان عن علم وبيّنة. وشاء الله تغييب هذا العلم عن الصحابة، ليقضي أمرا كان مفعولا، وهو: بيعة عثمان رضي الله عنه. وهذا يعني أن الجهل الذي يتصف به العباد، هو مستند إلى علم الله؛ فلا يقصر المرء الحكم على الجهل من كونه جهلا، ويتوهم أنه متجاوَز دائما. بل إن لله حِكَما في كل ما يظهر من أحوال الناس، بغض النظر عن موافقتها للعقل أو للشرع. وهذا يعني أن كل ما ذكرناه في المسألة من الناحية العلمية، لا يقدح ذرة في بيعة عثمان، كما قد يتوهم القاصرون. وما يُقال من بيعة عليّ لعثمان على مضض، لا يصح البتة؛ فمكانة سيدنا عليّ العلمية فوق هذا الرأي بكثير. ومن فهم عنا كلامنا منذ البداية، فإنه سيهتدي إلى الحق بإذن الله. وبعد استشهاد عثمان بويع الخليفة عليّ عليه السلام، وقد أجمع على بيعته الصحابة والتابعون والثوار الذين قاموا على عثمان. ومع هذا الإجماع، فإن الناس كانوا قد توسّطوا أتون الفتنة، وإن ظنوا أن الخليفة الجديد سيعود بهم إلى مثل ما كان عليه عصر النبوة. وكانت الأقاليم تكاد يستقل كلٌّ منها برأي، وهي تغلي رويدا رويدا، كما تغلي القدور. ويُروى أن عليّا كان كارها للخلافة؛ وهو ما يدحض افتراء الجهلة عندما اتهموه بأنه كان متطلعا إليها منذ وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فكيف يجتمع الأمران؟!... ويُروى أن أول من بايع عليّا: طلحة والزبير رضي الله عنهما، وهما من هما في نظرهما إلى مسألة الحكم والسياسة في الزمن الأول. وأما في تاريخ الطبري، فيُذكر أن أول من بايع، كان مالكاً الأشتر النخعي؛ وتقول بعض المصادر أن بعض أقارب عثمان لم يُبايعوا، وارتحلوا إلى الشام. كما تقول مصادر بأن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، رضي الله عن الجميع، لم يبايعا بالولاء، ولكن بعدم الانقلاب فحسب؛ وهذا قول مجتزأ، لم يسبق أن قيل به، ولا هو من تمام العلم. وسنعود إلى هذا الاختلاف بين الصحابة عند البيعة، حين تقابل الصَّفيْن من موقعة صِفّين، لأنه سيكون أظهر وأجلى هناك... وقد بادر الخليفة عليّ عليه السلام، بتغيير بعض ولاة عثمان رضي الله عنه، وباستعادة بعض الأموال التي منحها لبعض أقاربه، إلى بيت مال المسلمين. وقبل أن نمضي، علينا أن نقرر أن ما فعله عثمان كان حقا، وأن ما فعله عليّ كان حقا أيضا؛ وهذا بمنطق العلم الخاص بالخلافة وأمورها، وبمنطق الإيمان، لا بالمنطق العقلي الذي أفسد الرأي على أهل الدين. ولسنا هنا بمعرض التفصيل في المسألة من جهة التأسيس المنهجي، وإن كانت ذات أهمية قصوى؛ ولعلنا نعود إليها في مكتوب لنا آخر بإذن الله... ومن هنا يظهر لنا أن هذا الفعل من عليّ، سيكون محل اعتراض من الأمويّين خصوصا، عندما سيرون أنه لا بد للصواب أن يكون مع واحد لا مع اثنيْن، وسيرون أن الأولى بذلك في نظرهم وبحسب السبق الزماني: عثمان!... وهيهات!... ولن يروا في فعل عليّ إلا تحاملا عليهم، بينما عليّ منزه عن مخالفة الحق تنزيها تاما، لو كانوا يعلمون. ومما سيزيد الخرق اتساعا، بعث الخليفة الرابع من الرجال، من يحل محل الولاة السابقين الذين نصبهم سلفه: فبعث عثمان بن حنيف الأنصاري بدلاً عن عبد الله بن عامر إلى البصرة، بحسب الطبري وابن الأثير، أو سمرة بن جندب كما ورد في "البداية والنهاية". وبعث على الكوفة عمارة بن شهاب، بدلا عن أبي موسى الأشعري؛ وعلى اليمن عبيد الله بن عباس، بدلا عن يعلى بن منبه؛ وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة، بدلا عن عبد الله بن سعد؛ وعلى الشام سهل بن حنيف، بدلا عن معاوية بن أبي سفيان. وهكذا ستجد نار الفتنة ما يؤجّج لهيبها في النفوس التي داخلتها الدنيا، وخالطتها الأهواء... (يُتبع...) [1] . أخرجه البخاري. |