![]() انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني ![]() ![]()
Translated
Sheikh's Books |
![]()
2023/12/01
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (9)
الفصل الثامن: محل العداوة من الدين
قبل أن نمر إلى الجهاد، وإلى أحكامه في الشريعة الإسلامية، ينبغي لنا تناول مسألة العداوة والكراهية، من عدة مستويات، لتبيّن أحكامها كما هي. ولا شك أن المتلاعبين بعقول الناس من السياسيين وغيرهم، عندما يتكلمون يرفضون مبدأ كراهية الناس بعضهم لبعض، من باب إنامة سامعيهم، وإبقاءً عليهم في عالم افتراضي يعمه السلام وتسوده المحبة؛ بينما الواقع المعيش في العالم كلّه، يجعل الناس يبدو شطر منهم وحوشا مفترسة؛ الأشد افتراسا منهم، يأكل الأقل والأضعف. وأول سؤال نسأله هنا، هو: لِمَ طغت هذه الازدواجية في الخطاب؟ ولم لا يُصارح الناس أنفسهم بحقيقة ما هم عليه؟... والجواب، هو لأن الخطاب السائد في زماننا، هو الخطاب الشيطاني؛ والشيطان مـُضلِّل، لا يصْدُق إلا في النادر من الأحيان، وعندما يكون في مواجهة رباني. ولنتجاوز الكذب السافر الذي يستغفل به ذئاب البشرية خرافهم، لأنه جليّ ولا خفاء به؛ ولننزل إلى عمق المسألة لنسأل: لماذا كان الشر موجودا؟... وقد سأل الفلاسفة واللاهوتيون من النصارى، هذا السؤال منذ قرون، ولم يبلغوا فيه الصواب الذي سندل عليه نحن -إن شاء الله- بأيسر العبارات، ولنفكّك المسألة شيئا فشيئا: 1. ما هو الشر؟: الشر أمر نسبيّ، بمعنى أن ما يجده البعض خيرا، يجده البعض الآخر شرا؛ فما يصلح لإسرائيل، يُضر بالفلسطينيّين، والعكس صحيح. وإذا كان الشر نسبيا، فهذا يعني أن حقيقته عدمية، وهو الصواب. ولنعد إلى أصل المسألة الأعمق، لنقول: إن الخير، هو الوجود؛ وإن الشر هو العدم. والعالم (الكون) كان في العدم الذي لا يوصف بخيرية ولا شرية، لأنه عدم غير مقابل للوجود، وإنما هو مُلحق به عند التحقيق. فلما شاء الله أن يُوجِد العالم، أفاض عليه من وجوده بجوده، فخرج إلى مرتبة من الوجود التي هي الإمكان؛ ولم يتصف بالوجود، كما يظن جلّ الناس. وهذا القول محال عند العامة!... وعندما خرج العالم إلى وجوده، ظهر بمراتب موجده، والتي هي الذات والصفات والأفعال؛ من كونه مخلوقا على الصورة. ولقد جاء في سفر التكوين من التوراة: "فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ."[1]؛ وهو نفسه ما أخبر عنه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ.»[2]. وقد يعجب بعض القراء عندما انتقلنا من الكلام عن العالم إلى الكلام عن آدم (الإنسان)، من دون أن نبيّن سبب ذلك؛ وها نحن نبيّنه الآن، فنقول: إن الإنسان عند الأئمة من الوارثين، منه أكبر، وهو العالم؛ ومنه أصغر، وهو الإنسان. غير أن العالم من دون إنسان لا يكون كامل الصورة، وهذا حتى لا يُميّز الإنسان في الاعتبار عن العالم. ولنعد إلى مراتب ظهور العالم والإنسان: فمن حيث الذات (ذات المخلوق)([3])، كان الخير التام هو كمال صورتها؛ وهو ما يقتضي "وجود" كامل وأكمل، من هذا الاعتبار؛ ولن ندخل في تفاصيل مظاهر كمال الذاتية، لأنها أظهر من أن يُعبّر عنها؛ أي هي حسية؛ ولأنها أيضا أغمض من غيرها بسبب عدم التوقف عندها من كونها جبلّة. وأما من مرتبة صفات المخلوق، فإن الخير والشر يُتعقّل منها بأكثر من سابقتها، لكونها كثيرة التفاصيل، مع اتضاح الاختلاف فيما بينها، واختلاطها على الأفهام حتى ظُنّ بها أنها كسبية على التمام. فالذات والصفات بالنظر إلى المخلوق، معا جبلّيّتان، لكن العامة يبعد أن يُدركوا ذلك، وإن زعموه بالكلام أحيانا، موافقة لمنطق الإيمان. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأشجّ عبد القيس (قبيلة معروفة): «إِنَّ فِيكَ خُلَّتَينِ يُحِبُّهُما اللهُ: اَلْحِلْمَ وَالْأَناةَ! فقال: أَخُلُقَينِ تَخلَّقْتُ بِهِما؟ أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عَلَيْهِما؟ فقال: «بَلْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتَ عَلَيْهِما «!، فقال: اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي جَبَلَني عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُما اللهُ وَرَسُولُهُ.»[4]. فمثلا، نجد من العباد العالم والجاهل، والقادر والعاجز، والغني والفقير وهكذا... والصفات الوجودية التي تظهر من المخلوق، تكون خيرا، إن هي قورنت بصفات العدم التي هي عكسها. وهذا، لأن الجهل -مثلا- ليس شيئا موجودا في مقابل العلم، حتى نتوهّم حلوله في محلّه؛ وإنما هو عدم العلم فحسب. وما يوهِم بوجود الجهل الذي هو محال، هو ظهور العالِم والأعلم من الناس فحسب؛ والمقارنة هنا تكون مقارنة بين مرتبتيْن من العلم، لا بين العلم والجهل؛ ولكنّ التمحيص من الناظرين قليل. ومَن ضبط هذه المعاني، فإنه سيسهل عليه ضبط ما ينتج عنها من معان مركّبة فيما بعد. وقد لاحظنا قصورا كبيرا في هذا الجانب، لدى الأكاديميّين المعاصرين، وربما ستظهر قريبا -بإذن الله- الإنتاجات المتناوِلة للفلسفة في مختلف عصورها، من أساتذة "معهد العمرية"، الذي سخَّرنا الله للإشراف عليه. ولنعد إلى مسألة الشر في مرتبة الصفات، لنقول: إنه هو العدم المقابل في العقل للوجود المتجلّي في المحلّ القابل. وأما في مرتبة الأفعال (أفعال العباد)، فالخير والشر أكثر امتيازا، إلى الحد الذي يكاد إدراك العامة لا يخرج عنهما. وسواء أَتعلَّقَ الأمر بمرجعية العقل (الفلسفة)، أو بالشريعة (الدين)، فإن المسألة لا تختلف عما سبق أن ذكرنا، من تقابل فيها للوجود والعدم فحسب. ولكنّ الأمر عندنا هو بخلاف الظن السائد، وهو قولنا بجبلّية الأفعال أيضا. والعامة يبعُد عندهم هذا، لأنه يُشوّش عليهم مسألة الحساب والعقاب. وهذا، لأنهم لا يكونون قد بلغوا مقام الإيمان بالقدر من مرتبة الإيمان؛ لأن من بلغ هذه المرتبة، يؤمن بأن أفعال العباد مخلوقة لله. وأما من بلغ درجة التوحيد الخاص، من أعلى الإحسان، فإنه سيعلم أن الأفعال كلها بالأصالة لله. ومع أن مسألة الأفعال هي أقرب إلى إدراك العامة من حيث الظاهر، فإنها تبقى مجهولة الحقيقة لديهم، يتوهّمون فيها أن الفعل لا بد مخلوق لهم، وإلا كيف يترتب عليه الجزاء!... ونحن لن ندخل هنا في تفكيك هذه المسألة، لكونها مع قربها من أعوص ما يُتكلّم فيه؛ ولكنّنا سنشير باقتضاب، إلى قطب رحاها الذي يُناط به الجزاء، لنقول هو: النِّسبة فحسب. ونحن نعلم أن هذا سيزيد المسألة عند العامة غموضا؛ وحتى لو استمررنا في تبيينها بما نعلم، فإنها ستزداد لديهم غموضا أكثر. وهذا يعني -كما هو الشأن مع مثيلاتها- أن علمها متعلق بمقامها، لا بمجرد فعل النظر إليها. ولو تفطن الناس إلى هذه القاعدة المعرفية العظيمة، لتخلوا عن جلّ ما يظنونه معلومات لديهم... وهذا الذي مرّ، يدل على أن الشر لا وجود له، وإنما هو اعتبار لظهورات مختلفة في مراتب مختلفة، تقابل ظهورات الخير كلها. وهذه برهنة عقلية يحتاجها الفلاسفة والمفكرون في زماننا كثيرا، حتى يعودوا بالأمور إلى أصولها؛ إن هم عقلوها. والنسبية التي تجعل -كما أسلفنا- الناس يختلفون أحيانا في تصنيف الخير والشر، هي تعود إلى المبادئ المـُنطلَق منها؛ ولا أدل في الحس عليها من تصبّر المريض على الآلام التي يُحدثها العلاج الطبيّ له، عند علمه بأن النتيجة المقصودة، هي التخلّص من المرض وإن اعترضها الألم. والمسألة هنا عقلية وحسية؛ كلما قوي العقل فيها، تُجووِز الألم الحسي، وكلما غلب الحس تجووِز العقل. وأما إن تناولناها من كونها عقلية حُكْميّة، فإن الاعتبار الغالب، هو ما يُرجّح كونها خيرا أم شرّا. وقد دل على هذا الأصل في الاعتبار المتعلق بالحس وبالعقل، قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٌ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـًٔا وَهُوَ خَیۡرٌ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تُحِبُّوا۟ شَیۡـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 216]. ومعنى: {كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ}: أوجَبَتْه عليكم الشريعة، وهو بشروط كما سنعلم فيما بعد. وقد بيّنت الآية بأن القتال مكروه للنفوس، من كونه يكون سببا في هلاكها، وهي إن لم تكن على علم بحقيقة الأمر (وهذا نادر في الناس)، فإنها ستراه إعداما؛ أي عودة إلى العدم، الذي هو عندها الشر المحض إن كان الأمر قتلا؛ وأما إن كان الشر إصابة بجرح، أو فقدا لأحد الأعضاء، فإنه عندئذ سيكون في نظرها جزئيا. وهذا الحكم العام من النفوس، لا يكون صحيحا، لأن الله من جوده، قد حرّم على النفوس العودة إلى العدم. فما بقي لها بعد هذا، إلا أن تفوز في الآخرة، فتنال الخير الأكبر بالشهادة أو تفوز بالإصابة في سبيل الله التي تؤجر عليها، أو تنتصر فتنال أقرب الحُسنييْن، أو أن تكون من الخاسرين كليّا أو جزئيا، فيكون مآلها إلى العذاب الذي هو الشر المناسب لها هنا وهناك، ومن دون عودةٍ إلى العدم. ونعني من هذا، أن العذاب المتنوع على أهل النار في الآخرة، هو غياب التنعيم الملذوذ المناسب لكل أعضاء جسم الإنسان، وحلول الضدّ منه ليذوق المـُعذَّب الآلام. ومن فهم عنا ما نقوله عن العذاب، فإنه سيُدرك ما يتعلق بالتنعيم في الجنة، من باب: "بأضدادها تُعرف الأشياء". ولن نتوسع في معاني الآية التي تُغرينا بها الآن، فربما سنعود إليها عن قريب من وجه مناسب آخر، ولنعد إلى مسألة الكراهية. 2. هل الكراهية من الدين؟: وقبل أن ننظر في حكم الكراهية، لا بد من تعريفها؛ فنقول: الكراهية فعل قلبي يقوم على النفور من صفة مؤذية أو من فعل مؤذٍ. ولكن هذا التعريف يصح إن نُسب إلى العبد، وأما إن نُسبت الكراهية لله، كما في قوله تعالى: {وَلَوۡ أَرَادُوا۟ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّوا۟ لَهُۥ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ} [التوبة: 46]، فمعناها عدم الإرادة عن سبب داعٍ لها؛ وهكذا تكون الكراهية الإلهية معاملة من الله لعباده بسبب يبدر منهم بدايةً في عالم الحسّ، يجعله سبحانه لا يريد لهم ما يريده لمن يُحبّ من المؤمنين. وأما إن سأل سائل عن كراهية الله المذكورة في الحديث القدسي الذي جاء فيه: «...، وَما تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنا فاعِلُهُ، تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنا أَكْرَهُ مَساءَتَهُ.»[5]، فإنه يدلّ على الوحدة التي تجمع في الحكم اللهَ بعبده الوليّ (الربّانيّ). ونعني من هذا، أن كراهية الولي للموت، هي ذاتها كراهية الله لمساءته. ومن لم يعرف الولاية على هذا الوجه، فما عرفها!... والتعريف للكراهية الإلهية، بالمعنى الأول الذي دلت عليه الآية، يجعلها فعلا ثانويا فحسب؛ بمعنى أنها ليست ذاتية، وهي بالنظر إلى الذات محال؛ وليست صفاتية، لأن الصفات كلها خير، كما أبنّا في الفقرة السابقة، والشر هو العدم المقابل لها فحسب وهو محال على الله؛ فلم يبق إلا أنها فعلية، ولكن بما أنها ليست فعلا أصليا، فإنها تبقى نتيجة لفعل سابق لها من العباد يذمه الشرع؛ وهو معنى كونها فعلا إلهيا ثانويّا. و من يتصوّر كلامنا على غير وجهه، عندما يفهم خيرية الصفات التي قلنا بها، على أنها وجودات، ويتصورها بعد ذلك شيئا زائدا على وجود الذات، فيسقطَ في القول بالتكثّر في الوجود، فعليه أن يعلم أن الصفات في حقيقتها نِسب عدميّة، لكنّ معانيها هي تجليات في الذات نفسها. ولم نجد -بحسب علمنا- قبلنا من يُصنّف أفعال الله إلى أصلية وثانوية، رغم علم ورثة النبوة جميعا بهذه القاعدة العلمية. فإن صحّ قولنا، ولم يثبت من غيرنا هذا التصنيف الدقيق، فهو من فضل الله علينا وعلى الناس في زماننا. فله سبحانه الحمد وله الشكر!... ولنعد إلى الآية لنقول: إن الله تعالى، عندما أراد أولئك العبادُ القاعدون عن الجهاد التخلفَ، مع توافر الأسباب المساعدة لخروجهم، قد جازاهم من جنس عملهم، فكرِه سبحانه انبعاثهم؛ أي كره نهوضهم وعزمهم، حتى لا يصدر عنهم فعل القيام للجهاد، ولا نيته. وهذا، لأن النية يُجازى عنها العبد المريد للخير، وإن لم يخلق الله الفعل المناسب لها فيه. وهو باب من الفضل عظيم، كما لا يخفى عن عامة العلماء والمؤمنين. {فَثَبَّطَهُمۡ}: أي فحال دونهم ودون صدور الفعل عنهم، {وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ}: أي وحُكم عليهم أن يكونوا مع القاعدين، فانتهى أمرهم إلى ما حكم به سبحانه عليهم. وإذا كانت الكراهية من مرتبة الأفعال كما ذكرنا، فإن المحبة التي هي عكسها، قد تكون ذاتية، ولكن من باب خاص، ينبغي أن ينتفي فيه أدنى شرك؛ وقد تكون من الصفات، لأنها وجود؛ وقد تكون فعلية، كما أخبر تعالى عنها من جانبيها: الحقي والخلقي، في قوله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمٍ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤىِٕمٍ ذَ ٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ } [المائدة: 54]، وبما أن الذلة والعزة صفتان خلقيتان، فإن الفعل الذي هو "يُحبّهم" من الحق، يكون مجاوزا لمرتبتهما؛ وهما في الحقيقة عنه نشأتا؛ وهو من باب نشوء الصفة عن الفعل بأحد المعاني. ونعني من هذا، أن الصفة إن كانت للخلق، فهي ثانوية بالنظر إلى الصفات الإلهية؛ وأن الفعل إذا كان من مرتبة الحق، فهو أعلى من صفات الخلق في المرتبة. وقد ذكرنا هنا أن المحبة فعل من الحق، لأن محبة الخلق للحق، ليست إلا رجع صدى لمحبة الحق الأولى، ولهذا سبق "يُحِبُّهُمْ" لـ "يُحِبُّونَهُ"؛ لأن المحبة التي هي الصفة هي واحدة في الاعتبار، وهي من مرتبة الصفات الإلهية، بل هي من أخصّها، ولذلك ذكرنا عنها آنفا أنها ذاتية. وعندما تجلّى لنا هذا المعنى لأول مرة وجدناه من أعجب الأمور، وتحققنا أنه لا محبة للعبد أصلية، كما كان يتوهّم سابقا؛ وهو في حق السالك، تحقّق بعدمه الأصلي، الذي إن كمل له، نال العلم بالله بعده فضلا من الله، لا تلقائيا؛ وإن بدا الأمر تلقائيا. وهذا يقتضي التفريق بين ما هو شهود في الصورة، وما هو علم بحقائق الصورة. ومن هنا نعلم أن الكراهية ليست مقابلة للمحبة من المرتبة ذاتها؛ بل المحبة أصلية، والكراهية عرضية؛ وما كان عرضيا، رُجع فيه إلى الحكم الأصلي، ولو بعد حين. وإذا كان حكم الكراهية ما عرفنا، فهل بقي لها معنى بعدُ، وبم يتعلّق؟ ولنجب: إن الكراهية الباقية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون، هي الكراهية الشرعية، والتي يتصف بها العبد متابعة منه للشريعة. وهي من الله عدم محبة؛ أي انتفاء صفة ظرفيا، ليصدر فعل الكراهَة عنه سبحانه. فإذا علم العبد عدم محبة الله لشيء، وجب عليه أن يكرهه. والفرق بين عدم المحبة والكراهية، هو أن عدم المحبة من كونه نفي النقيض، فهو فعل حيادي، وأما الكراهية فهي فعل ثبوتي؛ وهذا من مرتبتيْن مختلفتيْن، فلا ينبغي أن يُغفل هذا. وهذا الترتيب، يُظهر مرة أخرى أن الكراهية عارضة وليس أصلية، كما أسلفا؛ وفي هذا المعنى بشارة يعلمها أهلها من كلامنا، أما غيرهم فيعسُر عليهم ما نشير إليه. وعلى هذا، ينبغي فهم الأحاديث التي وردت فيها الألفاظ التي كان عليها مدار الكلام: فيقول -مثلا- النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا؛ ويَكْرَهُ لَكُمْ: قيلَ وقالَ، وكَثْرَةَ السُّؤالِ، وإِضَاعَةَ المالِ.»[6]. وجاء هنا بفعل يرضى بدل أحب الذي هو أقوى منه؛ ليكون الفعلان أكثر مناسبة عند التقابل؛ نعني الرضى والكراهة. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضا: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ.»[7]، ولقد جاء الإبغاض من الله هنا، في مقابِل مرتبتيْن للعبد، وهما: الصفة، والفعل. وذلك لأن الفاحش، صفة؛ والمتفحش فعل. فقابلهما الله بفعل البغض الذي هو أقوى من فعل الكراهية. وهكذا... والبغض فعل إلهي، يكاد يبلغ الصفة. وهو أيضا إن قوبل بالمحبة، ظهرت عرضيته. وهذا كله يجعل الحكم في نهاية التجلّي، للأقوى وللأصل، لا للأضعف والعارض... ولنعد الآن إلى العبد المؤمن الذي عليه أن يكره ويبغض بحكم الشريعة، لا بهواه؛ فكيف يكون منه ذلك؟... ولا شك أن القارئ يذكر أننا قد ميّزنا من كل عبد مراتب ثلاثا، على صورة المراتب الإلهية الأصلية، والتي هي: الذات، والصفة، والفعل. وإذا اعتبرنا هذه المراتب لدى العباد، فبمَ يتعلّق فعل الكراهية الشرعية؟ فنجيب: ففيما يتعلّق بعامة المؤمنين: يتعلق بصفة المكروه وبفعله، دون ذاته. فالكافر -مثلا- لا ينبغي للمؤمن أن يكره ذاته، بل له أن يكره صفته التي هي الكفر، ويكره كفره أو معصيته بما هما فعل. وأما الخواص، فإنهم يُعاملون الكافر بما يدل عليه الحكم الشرعي، من دون أن يكرهوا منه لا ذاتا، ولا صفة، ولا فعلا؛ وهذا لأن الكافر (كسائر المخلوقات) هو فعل لله، وفعل الله لا يُكره؛ بل يُقبل. ونعني أن يُقبل هو، لا أن تُقبل نتائجه في الأحكام الشرعية، التي نهى الله عن قبولها والرضى بها، وأحيانا ينهى حتى عن معاملتها (الإعراض عنها). وهكذا يكون الولي جامعا بين الحسنييْن: قبول فعل الله، والعمل وفق الشريعة. ولما كان هؤلاء الذين هم مع الله في أحكام أفعاله بما هي أفعاله، وبما هي أفعال العباد منوطة بها، أخبر الله عنهم في قتالهم، وهو الذي لا يكون في العادة إلا عمن قامت به الكراهية والبغض طاعة لله، فقال عنهم: {فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ} [الأنفال: 17]، ليتحمّل عنهم فعل القتل، جزاء لهم على اعتبارهم لحُرمة أفعاله (خلقه). وهذا مقام عظيم، قد دللنا على مبدئه، وأما في نهايته فإنه يُعطي العصمة، وكفى بها مكانة!... وقد يختلط هذا المقام، على بعض السالكين، فيضلّون عندما يقبلون بعض أفعال الله التي لم يأذن سبحانه لعباده بقبولها. ويدل على هذا المعنى، لمن عقل ماسبق عنّا، قول الله تعالى: {وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَزَیَّنَهُۥ فِی قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡیَانَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلرَّ ٰشِدُونَ} [الحجرات: 7]. فهذا تحبيب لفعله بفعله، وتكريه لفعله بفعله؛ ثم جعل نسبة الفضل منّة منه سبحانه وفضلا للمحلّ. فما أعجب أفعال الله في أفعاله!... وأما قولنا آنفا بتحمّل الله لفعل القتل عمن يقاتل عن أمره سبحانه، فهو بسبب عِظم القتل عند الله. ولهذه العلة جاء قول الله تعالى: {مِنۡ أَجۡلِ ذَ ٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٍ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِیعًا وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعًاۚ} [المائدة: 32]. وهذا التشبيه من الحق بين قتل النفس الواحدة عن غير إذن إلهي، وقتل كل النفوس، ليس مجازيا، كما يظن من يعتمد اللغة وحدها في فهم معاني القرآن؛ وإنما هو حقيقة تؤكد قيمة كل نفس فردية. وأما إن سأل سائل: فالكافرون يُبغضوننا، ويعملون على أذيّتنا؛ ألا نقابلهم بالمثل؟ قلنا، لا!... وذلك لأن الكافرين يكونون على جهل، ويكون خواص المؤمنين على علم، والله أخبر عن الفريقيْن بقوله تعالى: {قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]، وقال سبحانه: {قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلَّذِینَ یَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ} [الزمر: 9]. وهو يعني أنه لا يجوز للعالم أن يتخلّق بأخلاق الجاهل، ولا المؤمن بأخلاق الكافر؛ وهذا علم مجهول للفقهاء. وأما المؤمن العامي، فعليه أن يتبع إماما يُعرّفه أحكام الشريعة على وجهها، أو أن يتبعه تقليدا، لا أن يتبع فقهاء هم أيضا عمي البصائر ولا يعلمون. وإنّ ردّ المؤمن على أفعال الكافر بما هو من جنسها، ومن مرتبتها، يكون منه مخالفة للشريعة؛ يحكم به على نفسه بأنه على فسوق ومعصية. وإن نحن نزّلنا هذه الأحكام على الإسرائيليّين الذين يرتكبون من كل صنف من الجرائم أعتاها، وعلى المسلمين من الفلسطينيّين، فإنه ينبغي للمسلمين ألا يُساووا اليهود في سوئهم، بله أن يزيدوا عليهم، كما صرنا نرى؛ لأن المسلمين لا ينتصرون لأنفسهم، ويحرصون على إرضاء الله عنهم باتباع أحكامه، رغم المشقّات القلبية والماديّة؛ فإذا رضي عنهم بسبب ذلك، نصرهم من عنده سبحانه. يقول تعالى: {وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ} [آل عمران: 126]، أي إنما النصر الذي ترجونه، لا يأتيكم إلا من عند الله، العزيز، الحكيم؛ وهنا يظهر أن اسم الله "النصير" يكون من أتباع الاسم "العزيز"، وهما معا تحت الاسم "الله" بصفة غير مباشرة. وأما الاسم "الحكيم"، فهو لترتيب الأحكام، وهي هنا: إما النصر، وإما الخذلان. والله أعلم وأحكم، بما يصلح من ذلك لعباده، وبما يُناسب حالهم. وليس الأمر مطلقا، كما يظنه جلّ الفقهاء، والسواد الأعظم من الإسلاميّين. ونعني هنا أن الله قد ينصر الكافرين ويخذل المؤمنين، مع أنه القائل سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرُ المـُؤمِنِينَ} [الروم: 47]. وربما قد يرتدّ الجاهل، عندما ينهزم حزبه (الذي يتوهّم أنه على الهدى) أو جماعته، أمام الكفر أو الفسوق، كما فعل عدد كبير من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بعد أن أُطيح بحكمهم؛ وكما فعل المتسلّفة، عندما أُدخلوا السجون؛ لظنهم أن هذا الدين الذي تكون عاقبته العذاب في الدنيا، لا يكون إلا زورا!... معاذ الله!... وللمسألة وجهان: الأول: تدل عليه الآية بعمومها، وهي: {وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَاۤءُوهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَٱنتَقَمۡنَا مِنَ ٱلَّذِینَ أَجۡرَمُوا۟ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَیۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ}، ونعني أنه بما أن الرسُل لا أقوى من إيمانهم، فإن النصر يكون حليفهم في الغالب، وهذا سيجعل نصر الله استحقاقا منهم. وأما لمَ قلنا في الغالب؟... فلأن هزيمة الرسل قد وقعت، ووقوعها بالتأكيد لا يعود إلى إيمانهم، ولكن يعود إلى أسباب أخص في المعاملة، لا يعلمها غيرهم؛ وأما في الغالب الأغلب، فإنهم إذا انهزموا، فإنهم ينهزمون بسبب أحوال من معهم (أقوامهم). الثاني: وهو الذي ذكره الشيخ الأكبر رضي الله عنه، عندما أخبر أن الله في الآية أطلق الإيمان فقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرُ المـُؤمِنِينَ}، ولم يقل الإيمان بِمَ؛ وبهذا يكون المعنى: إذا كان اليهود -مثلا- أكثر إيمانا بدينهم أو بربهم (من الوجه الذي يخصّهم)، من المسلمين بربهم وبدينهم، فإن النصر يكون حليف اليهود. وهذا سر من أسرار القرآن، يشهد عليه الواقع، وينبغي أن يتنبه له الإسلاميّون قبل العامة، لأنهم يدخلون فيما لا علم لهم به، وبالتالي كثيرا ما يخيب ظنهم مع كونهم على الإسلام (إسلام إجمالي وفي أحسن الأحوال إسلام من مرتبة الإيمان). وينبغي أن نعتبر في معاملته لخواص عباده، ما حكم به على بعض أنبيائه من سجن؛ كما أخبر سبحانه عن يوسف عليه السلام بقوله: {فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِی ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِینَ} [يوسف: 42]. ومن تأمّل، فإنه سيعرف السبب الذي زيد به في سجن يوسف؛ ليعلم المعاملة الخاصة التي تكون بين الأنبياء وربّهم. ومع هذا الذي نقول: لا ينبغي أن يقيس المؤمن نسيان يوسف لربه، بنسيان نفسه لربه؛ لأن نسيان يوسف هو بعدم ذكر ربه في كلامه للرجل المفرَج عنه، لا لغفلته ونسيانه بقلبه؛ حاشاه!... وقد حكم الله على بعض أنبيائه بالقتل، كما أخبر سبحانه: {أَفَكُلَّمَا جَاۤءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰۤ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِیقًا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِیقًا تَقۡتُلُونَ} [البقرة: 87]. فعلى أهل الدين أن يفقهوا معاملة الله، وأن لا يروا انهزامهم أو قتلهم دليلا على غضب الله منهم. والخواص منزهون عن الوقوع في هذه الآفة، لأنهم يكونون على ذوق من الجمال في سجنهم وفي قتلهم، لو علمه الناس لتعجبوا أشد العجب؛ لأنه من اجتماع الأضداد في المحل الواحد وفي الوقت الواحد. وأما هؤلاء الذين صاروا يرتدون لأقل بلاء يصيبهم، فإنهم لم يكونوا على دين من الأصل، وإنما كانوا على أيديولوجيا. وهذا، هو ما يجعلنا نحذر الناس كثيرا من الأيديولوجيا الدينية؛ ونعني أن المساكين إذا نزل عليهم البلاء (وهم كانوا يستدعونه بالحال)، لم يجدوا إيمانا في قلوبهم يتحمّله عنهم، فكفروا وسخطوا ربَّهم!... وهذا الذي ذكرناه عن تحمّل الإيمان للبلاء عن صاحبه، حقيقة ثابتة، ولها صور متعدّدة، لا يحتمل هذا الكتاب فيها أكثر من هذه الدلالة... ويُفترض فيما هو عمل بالدين، أن يحب المؤمن بحب الله، وأن يُبغض ببغض الله، ليكون من حزب الله؛ وهذا لأن من أحب بحب نفسه، وأبغض ببغض نفسه، فإنه لا يكون عبدا خالصا لله. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ»[8]. ومن اندرج حبه في حب الله، وبغضه في بغض الله، وانتفت عنه شوائب النفس، فإنه سيصير رحمة لعباد الله، بخلاف ما يظنّ الظّانّون. وهذا، لأن الناس عندما ينظرون إلى التقابل فيما بين الحب والبغض الإلهييْن، ينسون -إن لم يكونوا من الخواص- أن كل ذلك من الله رحمة. وفي نسبة العذاب إلى الله، في مثل قوله تعالى: {قَـٰتِلُوهُمۡ یُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَیۡدِیكُمۡ} [التوبة: 14] رحمة لمن كان يعقل؛ فلا ينبغي أن يُغفل هذا. والكلام يطول في هذه المسألة، فلنُضرب عنه... وحتى يكون جيش المؤمنين على الصفة الموافقة للأحكام الشرعية التي دللنا عليها، فعليهم أن يتخلّصوا من الدخول في الأعمال بنفوسهم؛ وهذا، لن يبلغوه إلا بالتزكّي على يد شخص ينوب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في التزكية (خليفة تزكوي). وهكذا فإنهم إذا عملوا بقول الله: {وَقَـٰتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ} [البقرة: 190]، والذي هو الأصل في كل قتال، فإنهم سيكونون بُرآء من الأذى الذي يلحق أعداءهم؛ وسيكونون مأجورين على كل أذى يلحقهم في أنفسهم وأموالهم. ولكن شرط فوزهم بهذه المكانة، هو أن يكونوا تحت قيادة إمام ربّاني نائب فيهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولنستخلص هنا الآتي: 1. أن الجهاد لا يكون إلا للدفع في الأصل، فإذا كان للطلب، فإنه يكون فرعا عن الدفع، لا مساويا له. وقد غلط الفقهاء القائلون بجهاد الطلب غلطا كبيرا، سنبيّنه في الفصل القادم بإذن الله. 2. أن الدخول في القتال بالنفس، ينزل بعمل العبد إلى الأسفل، وربما صار مشابها فيه للكافر الذي يقاتله إن لم يكن أسوأ منه... 3. إن الإمام الرباني، يمنع من تحت إمرته من مخالفة الشريعة، إن هم أطاعوه بنية الاقتداء بالصحابة في معاملتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. 4. إن القتال الذي يعرفه المسلمون في زماننا، هو قتال جاهلي، وبالتالي لا يُرجى نفعه، بل يُستغفر منه. هذا، باستثناء أهل الشام، الذين أقامهم الله في أكناف بيت المقدس، وما لم تدخل عليهم الظلمة من جهة أخرى، كالاعتماد على الأسباب، بالصورة التي يكون عليها الكافرون؛ أو كجلب الأذى بقتالهم، على المسلمين عامة. وهذا سنفصل فيه الكلام -إن شاء الله- أيضا في الفصل المـُقبل... [1] . تك: 1: 27. |