![]() انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني ![]() ![]()
Translated
Sheikh's Books |
![]()
2023/11/09
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (7).1.
الفصل السادس: صهيونيات متعاضدة -1-
إن الصهيونية عقيدة عنصرية متطرفة، تقوم على مبادئ منحرفة، تُنتجها أقلية من الناس؛ تعتمد السّلطة والمال والفكر. وسنرى من خلال هذا التحليل، أن الصهيونية اليهودية هي الأساس الذي تنشأ عنه صهيونيات تكون موافقة لها جزئيا؛ داعمة، سابقة لها، أو لاحقة. هذا مع أن الصهيونية لا تنفصل في جوهرها عن الحركات السرية الشيطانية منذ قِدم التاريخ، كالماسونية ومنظمة التنويريّين. ولو نظرنا إلى كل هذه الحركات وغيرها، لوجدناها مرتبطة بحسب الزعم بـ "هيكل سليمان"، الذي تجعل منه قبلتها، وتجعل من إعادة بنائه على أنقاض المسجد الأقصى غايتها. ولو أننا أمعنّا النظر في أصل الصهيونية المرتبط ارتباطا لفظيا بجبل صهيون، لوجدناه دالا على "الهيكل"، لا على الجبل. ولكن اليهود التلموديّين، من خبثهم، يُورّون ولا يُعلنون، من أجل التعمية على العوام الذين لا يعقلون. وعلى هذا، فإن الصهيونية التي ظهرت مع بداية القرن العشرين، لم تكن في حقيقتها إلا مرحلة ما قبل النهاية، بعد كل المراحل السابقة والموغلة في القِدم. ونحن قد جعلنا مرحلة الصهيونية الآن غير نهائية، لأن المرحلة النهائية هي التي تكون إبّان ظهور المسيح الدّجّال، الذي هو عند اليهود المسيح نفسه، من شدة عمههم. وإن كان الصهاينة من العرق العبراني لا يقبلون أن يُساووا بين أنفسهم، ومن لا يرونهم إلا خدما لهم، فهم مع ذلك لا يتورّعون عن توظيف غيرهم إذا سنحت لهم الفرص. وهذا التوظيف، لا بد أن يكون جزئيا، يصب في الصهيونية الكبرى، ولكنه لا يدانيها في المكانة ولا يُزاحمها. والذي يطبع هذه الأصناف من الصهيونيات في الغالب، قد يبلغ أحيانا حدّ الصراع الظاهري والمنافسة، ولكنه لا بد من أن يصب في المصلحة الكبرى للصهيونية عند الطبقة الكبرى من الشياطين. ولنفصل الكلام في البداية عن الصهيونية اليهودية، لنمر بعدها إلى ما يتصل بها من صهيونيات، قد لا تتسمّى باسمها إمعانا في التَّورية؛ وذلك بحسب ما يتيسر، وباختصار مقصود: 1. الصهيونية اليهودية: لقد عرفنا في الفصل السابق، أن الصهيونية التي تبنّاها هرتزل في المؤتمر الأول لممثلي اليهودية الأوروبية في مدينة بازل السويسرية عام 1897م، قد جعل جبل صهيون من القدس رمزا لها يجتمع عليه المجتمعون، ليبقى محورا لكل الحركة الصهيونية فيما بعد، في كل مراحلها. وبجعل "صهيون" محورا، نعرف أن الأمر ليس دينيا بالدرجة الأولى؛ ولكنه وطني قومي، وإن كانت له خلفيّة لا يُعلن عنها أوّل الأمر، سيأتي الكلام عنها فيما بعد. وباجتماع من اجتمع من اليهود على "صهيون"، سيصيرون عاملين للوطنية القومية، التي صارت أيديولوجيا واضحة المعالم، بدل أن يكونوا عاملين للدين، وإن كان الدين مندرسا عندهم. ونحن هنا، إنما نعرض للمسألة من وجوهها المختلفة، وإن كنّا نعلم أن اليهود لو تُركوا للدين وحده، ما كانوا ليجتمعوا؛ للسبب المذكور آنفا. فهم لم يكونوا يسعون إلى إصلاح ديني، كما كان يحدث ذلك في تاريخهم عند الحاجة إليه، وعبر مراحل؛ ولم يكونوا سيعملون على نشر اليهودية وهي عندهم قومية منغلقة، قبل أن تكون دينا؛ وإنما هم يعملون لأيديولوجيا استيطانية فحسب. ولولا هذا، ما كنّا لنجد الملحدين يتزعمون الحركة الصهيونية العالمية، ويترأسون دولة إسرائيل الغاصبة. والصهيونية ككل الأيديولوجيات، لا بد لها أن تقوي بعض جوانب الشخصية اليهودية، لتجمع الناس حولها، بغض النظر عن مطابقتها لأصل الدين، أو عن تأسُّسها على مبادئ الصلاح العام التي يوافقهم عليها نظراؤهم في الخَلق (البشر). وهكذا، وعلى أسوأ ما تكون الأيديولوجيا، سنجد الصهيونية ترتكز على آفات عقلية ونفسية وتاريخية، لتزيد من التشوّه الذي أصاب الشخصية اليهودية على مرّ التاريخ. ويكفي في هذا أن نشير إلى أن الأيديولوجيا الصهيونية قد تراكبت مع الأيديولوجيا الدينية اليهودية المنحرفة نفسها، مما يجعل شأنها مستعصيا على الدارسين. وهذا الخليط الناتج عن أيديولوجيتيْن، سيعطينا تسمما فكريا وأخلاقيا، ربما هو من أشد أنواع التسممات الاجتماعية في التاريخ... ولنعرض لبعض معالم الصهيونية اليهودية، حتى نقف على ما يتبعها من آثار: ا. الصلة المـَرَضية بأرض فلسطين: هنا نلاحظ أن الصهاينة لا يعيشون الواقع، وإنما يعيشون في الواقع تصحيحات تاريخية، يعملون بها على الخروج من وضع الاستثناء إلى الوضع الأصلي غير المتاح. فهم يعتقدون أن أرض فلسطين قد وهبها الله لإبراهيم عليه السلام، وأن العرب الإسماعيليّين قد استولوا على نصيب الإسرائيليّين منها؛ ولا بد لهم من العمل على استرجاع ذلك النصيب (الذي توسّع في المخيال اليهودي حتى لم يترك لغيرهم شيئا) ومنحه لمستحقّيه. وهذه الأرض -كما هو معلوم- حدودها في التصوّر الصهيوني، من النهر إلى النهر؛ كما تدل عليها الراية والخريطة، وبحسب ما يُدرّسه اليهود في المدارس لأطفالهم منذ الصغر؛ وهذا يحدث منهم في انفصال شبه تام عن الواقع. ولو نحن عدنا إلى الأصل في هذه المسألة، لوجدنا الله يقول: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱسۡتَعِینُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوۤا۟ۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ یُورِثُهَا مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ} [الأعراف: 128]، ولنلاحظ أن موسى علّم قومه بأن الأرض لله، وهي عقيدة كل مؤمن؛ والله يورثها من يشاء؛ والمشيئة مطلقة في الأزمنة. ونعني من هذا، أنها قد تختلف من زمان إلى زمان؛ خصوصا إن دلّ على ذلك الاختلاف الوحي من الله، الذي هو رب الأرض ورب الناس. فلا ينبغي لأحد أن يحكم على أيّ أرض بأنها للقوم الفلانيّين، إلا إن كان يعلم حكم الله في ذلك الوقت؛ وإلا فإنه يتألّى. ثم إن التقوى التي هي سبب حكم الله بفلسطين لقوم بعينهم من باب الاستحقاق والجزاء زمنا ما، لم نر للصهاينة أدنى اعتبار لها. وهم بهذا ينسخون أحكام الله، كما يحلو لهم، وباتباع أهوائهم فقط. يقول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِیقًا یَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَـٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ} [آل عمران: 78]. وهذا هو إحلال الأيديولوجيا محل الدين، الذي ينبغي أن تُعتبر فيه مجموع الأحكام الربانية. والكذب من أصحاب الأيديولوجيا، لا مناص لهم منه؛ ليجمعوا الناس على رأيهم المخالف لأصول الدين، مع علمهم بأن ذلك من عندهم لا من عند الله. ب. الأرض تحيا بالشعب: فرأى الصهاينة أن أرض فلسطين لا بد أن يسكنها الشعب اليهودي، حتى تحيا به وتتمدد. ولقد زادوا في الشطح، عندما قالوا إنها قبل أن يسكنها اليهود هي "أرض بلا شعب"، وكأن الشعب الذي كان يسكنها لا اعتبار له؛ وهو افتراء سافر!... نعم، لم تخل فلسطين في المدة التي سبقت تأسيس دولة إسرائيل من يهود، ولكنهم كانوا بضع عشرات آلاف، يعيشون مع الفلسطينيّين تحت حكم الدولة العثمانية؛ حيث لم يكن للدولة القومية محلّ بعد. وهذا يعني أن البلاد الفلسطينية لم تكن مرشّحة لأن تصير دولة، بل كانت إقليما من دولة كبرى تحتوي على عشرات الأقاليم. ولكن تقسيم سايكس-بيكو الاستعماري، سيجعل من القومية أساسا اصطناعيا تقوم عليه الدولة القطرية، وإن كان التقسيم يصعب عليه تحقيق ذلك على الأرض. فكم من شعب قُسّم بمنطق الدولة القطرية، وكم من قومية مزِّقت؛ ولكن هذا يمكن أن يُفهم ضمن النسبية الدنيوية التي نذكرها كثيرا في تحليلاتنا... ولقد كنّا نحذّر الناس من انحجابهم بالحقبة التاريخية التي يعيشون عن إدراك خصوصيات سائر الحقب: ونعني أن فهم ما وقع لليهود، لا يُمكن أن يُدرك من زماننا وحده؛ ولكن ينبغي العودة في الزمان إلى الزمان الأول، لنتبيّن الخصوصيات الدينية التي كانت لهم باعتبارهم المرتبة الأولى بحسب تاريخية الدين التي ستتطور مع المسيحية، ثم مع الإسلام المحمدي. وتمييزنا هنا للإسلام بصفة المحمدية، هو بالأساس لتمييز الإسلام الموسوي الأول عن الإسلام المحمدي الذي صار درجة ثالثة بالمقارنة إليه. واليهود إن لم يعتبروا هذا في الدين بحسب ما هو دين، فإنهم سيبقون على تصورات قاصرة تعوق إدراكهم، وبالتالي تحول دون فعلهم البنّاء في التاريخ. ولنضرب مثلا على هذا، لنقرب المعنى من العقول: فإن نحن مثّلنا الدّين بالسيّارة، من كونه وسيلة يُسافر العبد به إلى ربّه في كل زمان بحسبه؛ وعرفنا أن السيارة قد ظهرت في بداياتها على الصورة التي نعلم، ميكانيكية تعتمد على القوة البدنية للإنسان أو للدواب؛ ثم تطورت إلى سيارة بخارية فسيارة تعتمد الوقود السائل من بنزين وغيره؛ ثم تطورت إلى أن صارت كهربائية أو هيدروجينية وربما قد تصير بعد قليل نووية؛ ثم افترضنا أن إنسانا عاش جده في الزمن الأول للسيارة البدائية، فتأثر هو بجدّه إلى الحد الذي انبهر معه بتلك السيارة ولم يعد يطلب غيرها؛ بل هو لفساد في عقله، لا يعترف بوجود سيارة تخالفها؛ وهو يعيش في الزمن الحاضر بكل ما يستدعيه هذا الحاضر. فهل سنرى إصرار هذا الإنسان على الإبقاء على السيارة البدائية في هذا الزمان أمرا مقبولا؟ أم سنراه علامة على خلل في عقله؟... وهل ستنفع تلك السيارة صاحبها في الطرق السيارة الحديثة التي تشترط سرعة كبيرة للسير عليها، أم إنه سيصبح عائقا بإصراره لحركة السير العامة كلّها؟... بحيث يتطلب الأمر من شرطة المرور إخراج هذا الشخص بسيارته من الطريق؟!... فهكذا الدين، تنسخ آخر صوره (الصورة المحمدية) كل صوره السابقة، بالمنطق الذي عرفناه من المثل المضروب، وبالمنطق الديني التفصيلي الذي نبرز في كل مرة معالمه... ج. التفوّق اليهودي المزعوم: إن النظر إلى عرق بعينه على أنه متفوّق على سواه من الأعراق، مخالف لأصل الدين. وهذا لا يكون عليه أحد من الأنبياء والرسل عليهم السلام، موسى أو غيره؛ لأن الدين معاملة لله بحسب ما شرع؛ وهذا لا يُقطع فيه بأن يكون عرق فيه أفضل من عرق، بل هو يعود إلى حكم الشريعة نفسها؛ أي إلى مدى التزام الناس بها. فالمتّقون حيثما كانوا، هم أقرب إلى الله من غيرهم. وقد أوضح القرآن هذا المبدأ بما لا يدع مجالا لأدنى شك، عند قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبًا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ} [الحجرات: 13]؛ فالخطاب مليء بالعمومات التي تنفي اعتبار الأعراق في الدين، وينتهي بذكر المعيار الأوحد في التفضيل عند الله، وهو: التقوى. وقد أكّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا المعنى بقوله: «يَا أَيُّها النَّاسُ! إِنَّ رَبَّكُمْ واحِدٌ، وَإِنَّ أَباكُمْ واحِدٌ؛ أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ (نظير الإسرائيلي هنا) عَلَى عَجَمِيٍّ (نظير الأغيار في نظر الإسرائيليين)، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ؛ وَلا لِأَحْمَرَ عَلى أَسْوَدَ، وَلا لِأَسْوَدَ عَلى أَحْمَرَ إِلّا بِالتَّقْوَى؛ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ}، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَى يا رَسُولَ اللهِ؛ قالَ: فَلْيُبَلِّغُ الشّاهِدُ الْغائِبَ.»[1]. ولنلاحظ كيف قابل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين وحدانية الربّ ووحدانية معيار التفاضل الذي هو التقوى، لنعلم عِظم الأمر؛ ونفى في المقابل كل التعدّد المتعلّق بالأعراق أو بالألوان، كما يُنفى الشرك في العبادة. وهذا هو الدين في صورته المكتملة، التي بلغها مع خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم. وهنا ينبغي أن نسأل: لمَ وقع اليهود ومن بعدهم الصهاينة في هذه المخالفة العظيمة؟... لنجيب: لقد وقع منهم ذلك، عندما عاملوا الله في الزمن التشريعي المحمدي بحسب ما بقي لهم من آثار إدراك للزمن التشريعي الموسويّ. ونعني من هذا -وقبل مرحلة عالمية الدين- أن الرسل كانوا يُبعثون إلى قومهم خاصة، بحسب منطق المراحل الزمنية التي كانوا فيها. يقول الله تعالى: {وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَاۤءُوهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ} [الروم: 47]، والخطاب هنا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليدل على أن منطق الخطاب الإلهي يختلف في الدعوة الخاتمة، عنه في الدعوات القومية الحصرية السابقة. وهذا يعني -حتى لا نوسّع دائرة النظر- أن موسى وعيسى قد بُعثا إلى بني إسرائيل حصرا، ولم يبعثا إلى الناس عموما. وعلى هذا، فإن كل من يزعم من اليهود أو من النصارى أن دعوته تتوجّه إلى الناس أجمعين، فإنه يكون قد خرج من منطق الدين لديه، إلى منطق العقل؛ خصوصا في الزمن التشريعي المحمدي الذي تكون الدعوة فيه مطلقة من جهة القوم، ومن جهة الزمان، إلى قيام الساعة. يقول الله تعالى في مقابل ما سبق: {وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا كَاۤفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِیرًا وَنَذِیرًا وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ} [سبأ:28]؛ ومن الذين لا يعلمون: اليهود والنصارى قبل غيرهم. ونعني من عدم العلم، أنهم يجمعون بين أمريْن متناقضيْن: خصوصية الرسالة عندهم، وعمومها بحسب زعمهم في زمن غير زمانها. وهذا الخلط الذي لا يخلو من هوى، هو ما يجعل الناس من أمة اليهود على الخصوص، يدخلون فيما لا مدخل لهم فيه. وإن نحن أردنا أن نمثل لهذا الوضع، فهو يُشبه من كان يعمل عملا له فيه سلطة على الناس، ثم عندما يحال على التقاعد، يبقى مرتبطا بتلك السلطة في صورة مَرَضية تُضرّ به وبالناس. وقد سمعنا من الحكايات المتعلّقة بكبار الموظّفين، ما يجعل المرء ينظر إليهم بعين الشفقة عند انقطاعهم عن العمل. وكما أن هذا الموظّف، لم يقع له ما وقع، إلا بعد تماهيه مع سلطة المنصب؛ فكذلك في الدين، ما وقع لليهود ما وقع، إلا بعد تماهيهم مع الدين في زمن ما؛ بحيث لم يعودوا يتمكنون من تعقّل الدين بعيدا عنهم وعما اعتادوه في دعوتهم. وقد يصير رفضهم للدعوات التي بعد زمانهم كالدعوة العيسوية والدعوة المحمدية، رفضا زائدا على المعتاد؛ كما يرفض الجسم الأجسام الغريبة رفضا طبيعيا؛ وهذا كله بسبب سوء التصور للدين الذي علق بأذهانهم؛ ونعني به، سوء تصورهم لصلة الله بعباده، وصلة العباد بربهم. فلو أنهم أدركوا أن الله هو من بيده الأمر في مسألة الدين، يُبقي منه ما شاء، ويُغيّر منه ما شاء، لعرفوا المسألة على وجهها، ولقبلوا ما يطرأ عليها بسهولة. ولكنهم جعلوا حتى تصورهم لله، منوطا بتصورهم للدين، وظنّوا أن الحكم لهم لا لله فضلّوا ضلالا كبيرا. ومن ينظر إلى المسألة من الوجه الذي ذكرنا، فإنه سيتنبه بسهولة إلى الخلل الذي لديه؛ ويكفي هنا أن يعتبر اليهود الدين مع أحد الرسل السابقين على موسى، وليعلموا أنه لو بقي على صورته الأولى، ما ساغ لهم أن يتبعوا صورة متجددة منه، جاء بها موسى عليه السلام. لكن اليهود عندما كانوا من مرتبة عقلية سفلى، وكان تديّنهم من مرتبة دنيا، فإنهم لم يتمكنوا من إدراك الأمر على ما هو عليه. وأما محاسبة الله لهم على جهالاتهم، فإنها أتت من كونهم لم يعتبروه سبحانه، ولا اعتبروا إطلاق مشيئته. والدين في النهاية عند اليهود يكاد يكون شأنا عائليا، وعادات ألفتها تلك العائلة فحسب... د. العنف مع الأغيار: وإن أسوأ النتائج التي بلغها اليهود بعقائدهم المنحرفة: هو اعتقادهم أنه يجوز لهم التخلص من مخالفيهم، أو على الأقل استرقاقهم وتسخيرهم. وقد أسس لهم أحبارهم من التلموديّين شناعات، لا يقبلها عقل عاقل. وهذا ينبني -كما أسلفنا- على عدم إدراكهم لانتساب كل الناس إلى ربهم بالخلق: فهو خالقهم جميعا، ورازقهم وممدهم، ومحييهم ومميتهم. فإن امتاز قوم بالدين الحق على سواهم من الناس، فينبغي أن يحصروا المفارقة في الدين، وأن لا يعمّموها على وجوه لا تقبل ذلك التعميم؛ حتى يصير المرء خارجا بذلك إلى الجهل والجهالة. وهذا الجهل الذي وقعت فيه اليهود، عند ظنهم أنهم يختلفون عن غيرهم في الخَلق، سيكون سببا لهم في كراهية الشعوب الأخرى، وسيعود عليهم بكراهية الشعوب لهم حيثما ذهبوا؛ وسيجعل العنف المنطلق منهم، يعود عليهم هم أيضا، كما هو معلوم من تاريخهم الطويل. وهو ما نراه ونعيشه، ما دام اليهود موجودين؛ وكأن أفعالهم تُخبر عن الأزمة الكبرى التي يعيشون في تديُنهم المزعوم، وبتكرار الأغلاط ذاتها في كل عصر، من دون أن يتمكن أحد من معالجتها (الأزمة) وإيجاد الدواء الناجع لها. وفي الحقيقة الدواء موجود، لكنهم يرفضون تناوله، بسبب عنادهم المعهود عنهم؛ وليس ذلك الدواء إلا الترقّي في الدّين، بدل الاستمرار على العيش في موروثهم السقيم... لا شك أن الشخصية اليهودية، المنحرفة عن الدين بمعناه الصحيح، قد أصبحت شخصية سايكوباتية نموذجية، يعسر على الناس العيش معها ضمن مكان مشترك وفي زمان مشترك. ولا ينبغي أن يتحسّس من كلامنا أحد، أو يظن أننا نخاطبه من محل التقابل الحضاري؛ لأنه بعد حين سننتقد المسلمين المنحرفين، بالحزم ذاته!... ولنعد الآن إلى كيفية نشوء الصهيونية اليهودية في أوروبا، حيث إن رغبة الأوروبيّين في التخلّص من اليهود، ستتخذ مراحل وخطوات متتالية لتبلغ غايتها. ولقد كان من الخطوات الأولى، إقناع اليهود بإنشاء دولة مخصوصة لهم؛ ثم اختيار مبشّرين بها من الشخصيات اليهودية البارزة، حتى يتبعهم عوام اليهود الذين اعتادوا على عدم الإقدام على فعل إلا بتوجيه من حاخاماتهم. ولقد كان من بين أول المشرفين الأوروبيّين على هذا التبشير بالدولة اليهودية اللورد "بالمر ستون" الذي شغل عدة مناصب منها وزير خارجية بريطانيا، ثم رئيس مجلس وزرائها، حيث قام بتعيين أول قنصل بريطاني في القدس عام 1838م، وتكليفه بالحماية الرسمية للمستوطنين اليهود في فلسطين؛ كما طلب من السفير البريطاني في القسطنطينية التدخل لدى السلطان العثماني من أجل السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين([2]). ومن القيادات اليهودية التي قامت بالتبشير في المجتمع اليهودي، على تنزيل الرؤية السياسية البريطانية: الحاخام يهوذا القالي (1798-1879م)، والذي عاش في البلقان بعد الحرب التحررية اليونانية، ونشر رسالة بعنوان "اسمعي يا إسرائيل"، وذلك عام 1834م. واقترح فيها إقامة مستعمرات يهودية بفلسطين، وهاجر هو نفسه إليها وتوفي هناك. فقام أتباعه بشراء أول قطعة أرض في فلسطين، وأنشأوا عليها أول مستعمرة زراعية([3]) (كيبوتس). ومنهم (القيادات) "زفي هيرش كالبشر"، والذي نادى في عام 1860م، بضرورة هجرة اليهود إلى فلسطين؛ وكان أحد مؤسسي جمعية رعاية الاستيطان اليهودي في فلسطين، في فرانكفورت. كما برز المفكر الاجتماعي اليهودي "موسى هيس"، صاحب كتاب "روما والقدس" المنشور عام 1862م، والذي اقترح فيه توطين اليهود في فلسطين. ومن الشخصيات التي أضفت الحماسة على الفكر الصهيوني "ليون بنسكر"، وهو طبيب يهودي روسي له كتاب "التحرر الذاتي" الذي نشره عام 1882م وطالب فيه بتحرير اليهود ذاتيا من المجتمعات التي يعيشون فيها، والسماح لهم بالهجرة إلى وطن خاص بهم([4]). ومن الأحداث التي استغلها اليهود من أجل المطالبة بإنشاء كيان لهم، حادث اغتيال القيصر الروسي الإسكندر الثاني، في مايو 1882م، والذي صدرت عقبه قوانين نالت من حقوقهم في روسيا؛ هذا بالإضافة إلى الاضطهاد الذي كان يلحقهم في بولندا وألمانيا. ولقد استغلوا بعض الأحداث الفردية الأخرى، مثلما حدث في فرنسا، عند اتهام الضابط اليهودي الفرنسي "ألفريد دريفوس" بتهمة تزويد السفارة الألمانية في باريس بمعلومات عن الجيش الفرنسي، والحكم عليه بالسجن المؤبّد قبل أن تُعاد محاكمته وتتم تبرئته. وما كان هذا ليُغفله اليهود المتذمّرون من معاملة الدول الأوروبية لهم، وهم من أقدر الناس على توظيف الأحداث في سبيل التعريف بمظلوميتهم. وقد جعل منظّرو الصهيونية اليهودية، كل ما لحق باليهود من تنكيل جماعي أو فردي، أرضية لنتيجة يتوخونها، وهي القول بأن معاداة السامية في أوروبا، لن تزداد إلا استفحالا مع مرور الأيام؛ وبأن حل الإدماج الذي كان ما يزال اقتراحا معمولا له، ينبغي أن ييأس منه اليهود كما الأوروبيّون؛ وكأن هذا التنظير يستند إلى عقلانية معتبرة... وبقيت الصهيونية اليهودية تنتظر مجيء هرتزل (1860-1904م)، ليعمل على تنظيمها، وإخراجها من طور الطموح إلى طور الواقع. فأنشأ هرتزل 1897م مجلة أسبوعية أسماها "العالم"، أصبحت بعد مدة الناطق الرسمي باسم الصهيونية. وقد جعله تواجده في باريس، أثناء محاكمة "دريفوس"، أكثر حماسا للقضية اليهودية، وجعله يفكّر في حلّ جذري لها. فكتب في عام 1895م كتابا بعنوان "الدولة اليهودية"، أكد فيه على أن القضية اليهودية، ليست اجتماعية ولا دينية صرفا؛ بل هي قضية قومية، لا تُحلّ إلا بعد تصنيفها قضية سياسية عالمية، تتم تسويتها على أيدي الدول الكبرى مجتمعة. وأكد مع ذلك على ضرورة إنشاء شركة على غرار الشركات الاستعمارية الكبرى في المستعمرات الأوروبية في آسيا وفي أفريقيا، لتقوم بتوطين اليهود وباستغلال الموارد الطبيعية للبلاد المراد استيطانها. واقترح لأسباب موضوعية، أن يكون مقرّ هذه الشركة: لندن. وهنا تبدو أولى معالم التقاء الفكر الصهيوني اليهودي بالفكر الاستعماري الأوروبي، وهو ما سينتج عنه الفكر الصهيوني الأوروبي لاحقا... ولقد انقسم اليهود في البداية، بين مُوافق لهرتزل ومعارض؛ خصوصا عندما جعل دعوته علمانية. وهو ما استدعى انعقاد مؤتمر بازل لحسم الجدل الداخلي في المسألة. ورغم العراقيل التي اعترضت المؤتمر، فإنه انعقد سنة 1897م بحضور مائتيْن من الشخصيات اليهودية الممثلة لطوائف عديدة في العالم. وقد حدد المؤتمر الصهيوني الأول غاياته فيما يلي: - العمل على إنشاء مستعمرات زراعية عمرانية في فلسطين (كيبوتسات)، تأوي عمال الزراعة والصناعة اليهود. - تنظيم اليهودية العالمية وربطها بواسطة منظمات محلية ودولية تتلاءم مع القوانين المتبعة في كل بلد. - تقوية الشعور والوعي القومي اليهودي. - اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على الموافقة الحكومية الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية. وقد ظلت المؤتمرات من الثاني إلى السادس (1898-1903م) تناقش الإقليم الذي يقع عليه الاختيار النهائي بصفته وطنا قوميا لليهود. ولم تُحسم المسألة إلا في المؤتمر السابع عام 1905م، عندما تقرر بالأغلبية الساحقة العمل على أن تكون فلسطين دون سواها هي الوطن القومي لليهود. وبالعودة إلى مؤتمر بازل، نجد أن الحركة الصهيونية قد بلورت تصورها السياسي؛ كما أقرت العلم الصهيوني والنشيد القومي، واتُّخذ هرتزل رئيسا للحركة؛ وقد بدأ على الفور العمل للحصول على الشرعية الدولية لمقررات المؤتمر. وسعت رئاسة الحركة في وضع برنامج عملي لتنفيذ هذا المخطط، يقوم على ثلاثة خطوط: التنظيم، الاستيطان، الديبلوماسية والمفاوضات. وفي سبيل تحقيق هذه الغايات، تم إنشاء مؤسستيْن: لجنة العمل، والبنك الاستعماري اليهودي (الكيرن كايمت). ومما يجدر ذكره عن برنامج عمل المؤتمر الأول، أنه تجنب ذكر كلمة دولة، وأحل محلها عبارة: وطن يضمنه القانون العام. وهي عبارة غامضة كان المقصود منها مساعدة الحركة الصهيونية على كسب تأييد أكبر عدد من اليهود، لا سيما الطبقة البورجوازية التي تعيش في غرب أوروبا والولايات المتحدة([5]). 2. الصهيونية الأوروبية: لقد التقت رغبة الأوروبيّين في التخلّص من اليهود الذين لا يقبلون الذوبان في مجتمعاتهم، مع رغبة المتطرفين اليهود الذين يريدون إنشاء دولة خاصة بهم في فلسطين. وقد أدرج بعض الدارسين الصهيونية الأوروبية ضمن صنف الصهيونية السياسية، في مقابل الصهيونية الدينية التي لليهود؛ ولكنها في الحقيقة ليست مستقلة عن الدين تماما، كما سنرى؛ بما أن أوروبا نصرانية في عمومها، وبما أن الحركة الصهيونية النصرانية القديمة مستكِنّة بها، لا تنتظر إلا الظروف الملائمة لتحيا من جديد. ونقصد أن التوافق أو الاختلاف على الدين معا، سيبقيان مميّزا من مميزات العمل الصهيوني الأوروبي، لا شك هو يتطلّب في كل مرة دقة في النظر، تتجاوز ما يكون عليه العوام من الشعوب. وقبل أن نكمل الكلام، لا بد من ذكر أن شطرا من اليهود المتديّنين قد كانوا رافضين لإنشاء الدولة، من جهة الأحكام الدينية اليهودية الأصلية التي لديهم؛ فمنهم من سيبقى على هذا الأصل، ومنهم من سيُغيّر رأيه عند تشجيع الصهيونية النصرانية له، كما سنرى. ونحن قد ذكرنا سابقا، أن اليهود كانوا يعودون بعد كل شتات في الحِقب الأولى إلى فلسطين، بإذن الله وبقيادة أنبيائهم. وأما بعد هذا الشتات الأكبر، وانتقال الزمن التشريعي من الموسوي إلى العيسوي ثم إلى المحمدي، فإنه لا مجال لظهور أنبياء فيهم؛ ولقد كان الأولى بهم اتباع عيسى إبّان زمنه التشريعي، واتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم في زمنه، كما هو واضح؛ ولكنهم بسبب جهلهم بحقيقة الدين، وجهلهم بأن الله قد يختار رسلا من خارج عرقهم، وبسبب انقلاب الدين لديهم إلى موروث تاريخي وثقافي مجرد عن الإيمان، فإنهم قد عجزوا عن تبيّن التغيّرات الدينية المهمة، وبقوا جامدين على تصوراتهم؛ وهو ما جعلهم يعيشون واقعيا وماديّا في غيتوهات حيثما كانوا. ونعني من هذا، أنهم لو لم يكونوا في غيتو معنوي عقلي قبلا، لم يكونوا ليقبلوا العيش في الغيتوهات المعلومة. وهذا يدخل ضمن جدلية الحسيّ والمعنوي، التي لا يتوقف الناس عندها كثيرا، رغم حضورها في عيشهم... وبعد أن صاغ المؤتمر الصهيوني الخامس في ديسمبر 1901م، النظام الأساسي للمنظمة الصهيونية، والذي بمقتضاه أصبح انعقاد المؤتمر كل سنتيْن بدل أن يكون كل سنة، تركّزت جهود زعماء الحركة نحو دول غرب أوروبا والولايات المتحدة (الغرب بالاصطلاح السياسي المعاصر). وبما أن بريطانيا كانت أقوى الدول الاستعمارية آنذاك، فقد اتخذها الصهاينة منطلقا لنشاطهم، خاصة وأن فرنسا (النّدّ القوي) لم تبدِ رغبة حقيقية في مساندة الصهيونية، إيمانا منها بأنها (الصهيونية) ليست إلا أداة بيد ألمانيا، للإضرار بمصالحها. كما أن اليهود الفرنسيّين، لم يعتنقوا الصهيونية، وظلوا يعارضونها بشدة في بداية نشأتها. وزيادة على ذلك، فقد كان الفرنسيون يخشون من أن تكون نتيجة تأييدهم للصهيونية، نفور أنصارهم من نصارى الشام الذين اعتادوا على التبعية لفرنسا. هذا، وإن الصهاينة أنفسهم كانوا يفضلون أن يكونوا تحت حماية بريطانيا، لأنهم يتخوفون من هيمنة فرنسا الثقافية على دولتهم الناشئة، ومن عدم سماحها لهم بقيام ثقافة يهودية متميّزة([6]). ومن هنا كان الدارسون يميّزون بين الاستعمار البريطاني ونظيره الفرنسي، ويقولون إن بريطانيا لم تكن تعمل على محو ثقافات الشعوب المستعمَرة بالقدر الذي كانت تتقصّده فرنسا... اتجه هرتزل بعد ذلك إلى بريطانيا، وأثار القضية الصهيونية في الصحافة ومع الزعماء السياسيين. وكان الرأي العام مهيأً للاستماع إليه، خصوصا بعد أن تدفقت أعداد كبيرة من اليهود المهاجرين من شرق أوروبا، إلى بريطانيا... لذلك انحازت بريطانيا إلى مطالب اليهود، رغم أن الحكومة تحفظت على فلسطين في البداية، خوفا من إغضاب الدولة العثمانية؛ وهو ما جعل هرتزل يعرض مشاريع بديلة. واقترح "جوزيف تشمبر لين" وزير المستعمرات، أن تُمنح لليهود جزيرة قبرص، فرُفض طلبه، كما رُفضت البدائل الأخرى المختلفة. وبعد وفاة هرتزل سنة 1904م، حسم "حاييم وايزمان" الخلاف حول الوطن، وأصر على فلسطين، فأصبح القائد للحركة بعد هرتزل... عمل الصهاينة في بريطانيا منذ مطلع القرن العشرين على إيجاد مؤسسات داعمة لمطالبهم، بدءا من افتتاح بنك أنجلو-فلسطين عام 1903م، وعلى تأسيس الصندوق القومي اليهودي الذي شرع في ابتياع الأراضي عام 1905م، وعلى افتتاح مكتب فلسطين في يافا، عام 1908م؛ كما أُسِّست في السنة ذاتها شركة تطوير أراضي فلسطين، لكي تُعِدّ الأراضي للاستيطان. وقد استطاعت الصهيونية بزعامة "وايزمان" اختراق الحكومة البريطانية في وقت وجيز، وحصلت على تأييد عدد من المسؤولين، ومن أبرزهم: "هربرت صموئيل" الذي صار وزيرا للدولة عام 1916م، و"لويد جورج" الذي صار رئيسا للوزراء في العام نفسه، بالإضافة إلى رئيس تحرير جريدة المنشستر غارديان، ورئيس تحرير التايمز اللندنية، وآخرين([7])... وعندما قامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، عرض "وايزمان" الموقف الصهيوني الذي سيُقدّم للحكومة البريطانية على "هربرت صموئيل"، وذكر فيه: [إننا نستطيع القول إنه في حال وقوع فلسطين في دائرة النفوذ البريطاني، أو إذا قامت بريطانيا بتشجيع استقرار اليهود هناك باعتبار فلسطين محمية بريطانية؛ فإننا نستطيع خلال عشرين إلى ثلاثين سنة، جمع مليون يهودي هناك، وقد يتجاوز العدد ذلك؛ وسيشكّلون حرسا هاما لقناة السويس]. ولقد أراد "وايزمان" بهذا الكلام، جذب انتباه بريطانيا إلى فلسطين؛ وذكر قناة السويس التي كانت بريطانيا تخشى من منافسة فرنسا عليها، ليجعل بريطانيا معنية وذات مصلحة قريبة. ومن الواضح أنه كان وراء السياسة الصهيونية في جذب الحكومة البريطانية نحو فلسطين عدة غايات، أهمها: - إقامة انتداب بريطاني في فلسطين. - أن يقوم هذا الانتداب بتسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتوطين اليهود الذي سينتهي بسيطرتهم عليها، خدمة للمصالح المشتركة بين الطرفين في المنطقة([8]). وهذا هو ما يجعل السياسيين اليوم يصفون إسرائيل، بأنها قاعدة غربية وظيفية في المنطقة؛ وهو ما سيُضعف حتما من اعتبارها دولة كسائر الدول. وبعد أن قامت الحرب، ازدادت الجهود الصهيونية نشاطا، إذ عملت على تحقيق غاياتها المسطرة. ولقد سخّر الصهاينة جهودهم في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، من أجل الحصول على تعهّد بإنشاء كومنولث يهودي، وفتح أبواب فلسطين أمام هجرة غير مقيّدة([9]). ونجحت مساعي الصهيونية بالتنسيق بين "وايزمان" في بريطانيا، و"برانديز" زعيم المنظمة الصهيونية في الولايات المتحدة، في جذب الانتباه الرسمي للدول الكبرى، نحو قضية اليهود في فلسطين. ومن نتائج ذلك: المراسلات التي تلقتها وزارة الخارجية الأمريكية من اليهود النافذين في السياسة الأمريكية، وكذا من أعوان الصهيونية في عدد من الدول الأوروبية. ومنها أيضا، جهود السفير الأمريكي في تركيا "مورغنتو" -وهو يهودي الأصل- الذي بذل جهدا كبيرا في إقناع إستانبول بجدوى المطالب اليهودية في فلسطين) ([10]). وأمام المعارضة، عمدت الصهيونية في بريطانيا إلى شن حملة دعائية لتشكيل لجنة "فلسطين البريطانية" التي تسعى إلى نشر الآراء الصهيونية وكسب التأييد لها. وسارت حملة الدعاية خلال عامي: 1915 – 1916م، في محاولات سياسية لإقحام الحكومة البريطانية في سياسة رسمية تلتزم بتأييد اليهود؛ رغم أن الصراع كان على أشده بين الأطراف المتحاربة، وأن المراسلات كانت حثيثة بين بريطانيا والعرب (مراسلات الحسين، مكماهون)؛ وهو الأمر الذي أيقنت من خلاله بريطانيا وحلفاؤها، أن العرب أخذوا يتنصلون من الأتراك، وأنه يُمكن التلاعب بهم استراتيجيا لخدمة الصهيونية بطريقة خفية؛ كما أدرك الحلفاء أن انهيار الخلافة العثمانية أيضا، قد أصبح وشيكا. وتبعا لذلك فإن ملء الفراغ في المنطقة قد أصبح ضروريا، حتى لا تُنازع بريطانيا فيها حليفاتها من الدول، بسبب الأطماع المتضاربة([11]). وفي أوائل عام 1916م، أخذت الحكومة البريطانية في اتخاذ موقف رسمي أكثر تأييدا للصهيونية، وذلك عن طريق جس نبض الحكومات الفرنسية والروسية والأمريكية. فقام السير "إدوارد غراي" بإرسال مذكرة إلى وزير الخارجية الروسي، يوضح فيها رأي بريطانيا في الصلة بين اليهود وفلسطين، متضمنة الإشارة إلى حرص بريطانيا على إيجاد سبل تجعل اليهود في العالم يُساندون قضية الحلفاء. واقترحت المذكرة التوصل إلى نوع من الاتفاقات التي تساعد على كسب اليهودية العالمية، عن طريق تسهيل تواجد اليهود في فلسطين. وهذا يوضح بجلاء تخادم المصالح بين الأطراف المتحاورة المختلفة: أي بريطانيا من جهة، والحلفاء المتورطون في الحرب، ويهود العالم تحت الزعامة الصهيونية؛ من جهة أخرى. وقد أبدى الروس مساندتهم للعرض، ولكنهم شدّدوا على وجوب الحفاظ على المصالح الدينية في الأراضي المقدسة، وهذا بسبب مكانة الكنيسة الأرثذوكسية لديهم. وهو ما يعمل على حفظ المصالح الكنسية من قبل الروس في فلسطين، رغم أنهم لن يتمكنوا من الوفاء بهذا الشرط فيما بعد، وعندما ستتقوّى إسرائيل. وقد تولّى قيادةَ هذه المرحلة من الجانب البريطاني "مارك سايكس"، الذي كان يشغل منصب وكيل وزارة الحرب البريطانية، عن شؤون الشرق الأدنى. وقد ارتبط "سايكس" بصلات وثيقة مع عدد من الصهاينة الذين كان أبرزهم: الصهيوني البريطاني "موسى كاستر" الذي استطاع إقناع "سايكس" نفسه بمطالب اليهود، حتى قيل إن "كاستر" جعل منه صهيونيا. وهذا يجعلنا نقف على التداخل بين الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية فيما يتعلّق بالشخص الواحد نفسه، وهو أمر قد لا يتمكن الدارسون من تمييز حدوده لغموضه. وأما نحن فإننا نتبيّن ذلك -بحمد الله- ونعتبره في كل من نتناولهم من الشخصيات، سواء منهم السابقون في الزمان أو المعاصرون... وقامت الحكومة الفرنسية إثر ذلك بإرسال عالم يهودي يُدعى "فيكتور غيوم ياس" إلى الولايات المتحدة، ليؤكد هناك أن المستعمرات الصهيونية في فلسطين، ستُمنح حماية كاملة من بريطانيا وفرنسا عند انتهاء الحرب. وبالتزامن مع جهود الصهاينة في الولايات المتحدة، قام "جيمس مالكوم" وهو أرمني مناصر للصهيونية، وأحد أصدقاء "سايكس"، بإقناع هذا الأخير، بأن جهود "برانديز" في الولايات المتحدة، تسير نحو إقناع الحكومة (الأمريكية) بالدخول في الحرب([12]). وهو ما يؤكّد أن مصالح جميع الأطراف، قد التقت على تحقيق الغايات الصهيونية... وبتولّي "لويد جورج" رئاسة الحكومة البريطانية أواخر عام 1916م، تغيّرت الكثير من الأمور المتعلقة بسير الأحداث، إذ يُعتبر رئيس الوزراء الجديد أحد أنصار الصهيونية. وزاد الأمر وثوقا، بتولّي "بلفور" وزارة الخارجية في الحكومة الجديدة، فصار التزام بريطانيا بالتوجه الصهيوني أكيدا. وكان عاما 1916-1917م حافليْن بمجموعة من الاتصالات الدولية التي كان أبرزها: تلك التي جرت بين "وايزمان" و"ناحوم سوكولوف" أحد أعضاء الهيئة التنفيذية الصهيونية في روسيا، من أجل تنسيق الجهود بقصد حشد الرأي العام في روسيا، حول تأييد مطالب الصهيونية في فلسطين([13]). ولا تفوتنا الإشارة هنا، إلى أن بعض اليهود المعارضين، كانوا يرفضون "العودة" (بالمعنى الديني) إلى فلسطين، لكون ذلك يخالف شريعتهم؛ وإن كان هذا الجانب يُغطَّى كثيرا بقصد استغفال بسطاء اليهود. أما في المستقبل، فلا شك أنه سيكون لهذا التيار الرافض لقيام دولة إسرائيل، الأثرُ في مسار الأحداث؛ خصوصا بعد انكشاف النتائج المباشرة لدولة إسرائيل على الشعب اليهودي... وقد حدثت في صيف عام 1917م تطورات أدت إلى إبراز المبادئ الصهيونية، حيث قامت حكومة "كرانسكي" في روسيا بوضع عدد من اليهود في وظائف حساسة في المجلس التشريعي الروسي، كما كانت بريطانيا من جهتها، وعن طريق استرضاء اليهود، ترغب باستمالة القادة اليهود الروس ليقوموا بالضغط على حكومتهم، من أجل استمرار روسيا في الحرب. وهذا، رغم أن الصهاينة أنفسهم كانوا غير متحمسين لخروج روسيا من الحرب؛ لاستبعادهم موافقة الحكومة القيصرية على تحقيق أماني الصهيونية، ولخشيتهم من أن الانسحاب الروسي، من شأنه أن يزيد من حدة الصراع بين بريطانيا وفرنسا في فلسطين؛ وهم في النهاية ينشدون وقوع بريطانيا في الحاجة السياسية إلى تأييد الصهيونية([14]). وهذا أسلوب معتاد لدى السياسيّين، عند ربطهم لمصالح غيرهم بمصالحهم؛ فربما قد يقوم الغير بالمهام بالنيابة عن صاحب المصلحة، علم أم لم يعلم. واليهود من أقدر الناس على توظيف غيرهم، من أجل قضاء مآربهم، على مر العصور... وبعد أن دخلت أمريكا الحرب، ركّزت بريطانيا جهودها على الرأسماليّين اليهود، ليساندوا ألمانيا في الحرب، وذلك باستمالة اليهود في دول الوسط، وعن طريق إبداء استعدادها للوقوف إلى جانب المطالب الصهيونية؛ مستغلة في ذلك ما يتعلل به الصهاينة أنفسهم بأن سيطرة اليهود على فلسطين، ستقوّي الوضع الاستراتيجي لبريطانيا في الشرق الأقصى. وقد أخذ بعض الإنجليز الرسميين تلك الاعتبارات بحماس زائد، من أجل جعل فلسطين قاعدة أمامية من أجل السيطرة على قناة السويس. كما أن مساعدة الصهيونية من شأنها أن تغطّي على ما ورد في اتفاقية "سايكس-بيكو" من جعل فلسطين منطقة دولية، وإخضاعها للنفوذ البريطاني وحده. وقد زاد من سير الأمور بحسب ما تشتهي بريطانيا، انجذاب عموم الأنجليكان الإنجليز وبروتيستانت الأمريكان إلى القضية الصهيونية، لاعتبارات دينية وعاطفية) ([15]). وهو ما سنبرزه فيما سيأتي من الكلام بإذن الله... وقبل صدور تصريح "بلفور"، كانت الصهيونية الأمريكية بزعامة "برانديز" على اتصال مباشر بالمباحثات التي يُجريها "وايزمان" في لندن. وبدوره قدّم "برانديز" ورقة عن تلك المباحثات إلى وزارة الخارجية الأمريكية في دلالة واضحة على التنسيق المستمر بين الأطراف الصهيونية في العالم الغربي؛ ولكي يضمن "برانديز" من ذلك عدم تأخر الولايات المتحدة في مساندة أي مشروع صهيوني تسفر عنه تلك المباحثات. وبالفعل تُوّجت جهود "برانديز" بالنجاح، من خلال اللقاء المشترك الذي تم بين الرئيس "ويلسون" و"وايزمان"، عند زيارة هذا الأخير للولايات المتحدة في 15 مايو 1917م. وبعد هذا اللقاء، أبرق "برانديز" إلى زعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا، يُخبرهم بأنه قد أجرى مباحثات ناجحة مع كل من "بلفور" والرئيس "ويلسون"، نجمت عنها الآتي: ا. الاعتراف بفلسطين وطنا قوميا لليهود. ب. السماح لليهود في كل أرجاء العالم بالهجرة دون قيد، إلى فلسطين. ج. أن يتمتع اليهود بجميع الحقوق، في أماكن إقامتهم بفلسطين. د. أن تُمنح إحدى الشركات الصهيونية امتيازا من أجل تطوير فلسطين. ه. الاعتراف باللغة العبرية لغة رسمية لليهود في فلسطين.([16]) وفي 2 نوفمبر من العام نفسه، قدّم وزير الخارجية البريطاني "جيمس آرثر بلفور" إعلانه لليهود من أجل إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وذلك في رسالة تاريخية وجهها إلى أحد أبرز الزعماء الصهاينة في بريطانيا "ليونيل والتر روتشيلد"، تنص على ما يلي: [إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدا لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جليا أنه لن يؤتَى بعمل من شأنه أن يُضرّ بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير الصهيونية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.]([17]). ولا يخفى -من خلال دخول "روتشيلد" في المسألة- ما وراء القرارات السياسية التي تتخذها الدول، من نفوذ للمال، يمكن أن نجازف معه بالقول إن "روتشيلد" قد اشترى إعلان بلفور شراء، ليمنحه إلى قومه اليهود... وبهذا الإعلان تُوّجت جهود الصهيونية السياسية التي بُذلت على مر عشرات السنين، بإيجاد وطن قومي لليهود. كما تُوِّجت بهذا الإعلان جهود الساسة الإنجليز المناصرين للصهيونية، بإيجاد موطئ قدم دائم في "الشرق الأوسط"، من أجل تأمين المصالح البريطانية في التواصل مع مستعمراتها؛ بالإضافة إلى سيطرتها على قناة السويس، كما أسلفنا... وفي ختام هذا الجزء، ينبغي أن نسأل: هل الصهيونية الأوروبية سياسية صرف، أم هي دينية بدرجة ما؟... والجواب هو حتما هي دينية نصرانية، خلف الواجهة اليهودية، عند اعتبار مقدار انتشار الفكر الصهيوني النصراني البروتستانتي في بريطانيا، التي لا يخفى تبنّيها للصهيونية اليهودية العالمية، بدرجة لم تبلغها دولة أوروبية أخرى في هذا التاريخ. ولكن لا بد من التأكيد على أن الصهيونية النصرانية في بريطانيا، لن تخرج إلى العلَن في البداية، وستكتفي بترجيح الصبغة السياسية؛ ربما لتسهل عليها مخاطبة الجهات الدولية المختلفة، ولتتجنّب إيقاظ الغريزة الدفاعية لدى الدولة العثمانية خصوصا، ولدى المسلمين عموما. ولكن هذه الصهيونية النصرانية ستظهر فيما بعدُ، وبصورة أكثر وضوحا لدى الولايات المتحدة، التي يبدو كأنها قد استلمت رعاية مشروع العمل الصهيوني النصراني من بريطانيا؛ لا لأن هذه الأخيرة قد تراجعت عنه، ولكن لأن الولايات المتحدة ستتولى الهيمنة على العالم بالنيابة عنها ظاهريا. وسنخصص جزءا من هذا الفصل للكلام عن الصهيونية النصرانية بشيء من التفصيل بعد صفحات قليلة إن شاء الله... (يُتبع) [1] . أخرجه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. |