![]() انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني ![]() ![]() Translated
Sheikh's Books |
![]()
2020/09/15
الحوار الغائب (ج3) -5-
الباب الثاني : محورية القرآن نزول الوحي لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منعزلا من جهة الوجدان عن قومه؛ ولم يكن يُشاركهم إلا في مهمات الأمور. ولقد وجدنا كثيرا من الدارسين للسيرة النبوية المطهرة، يُسيئون في وصف حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول الوحي، من حيث يرومون الإحسان. وذلك لأنهم يقيسون كمالاته صلى الله عليه وآله وسلم، على ما يعلمون من أنفسهم أو من نظرائهم؛ والأصل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يُخبر عنه إلا من كان قريبا منه من جهة الحال. ولسنا نعني بهذه الصفة، إلا الأولياء من هذه الأمة، الذين يكونون على بعض صفاته، فيمكنهم بالتالي قياس حال النبي على حالهم، لكن مع وجود الفارق، ولا بد. ونحن قد سبق لنا، أن قلنا إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان ساذجا. والسذاجة، هي الصفاء والطهارة اللذان يكون عليهما الصبيان قبل أن تفسد فطرتهم بالتربية الجاهلية. وهذا يعني أن المـُعتنَى بهم، يُبقيهم الله على طهارة طفولتهم، وإن قوي تمييزهم، وازدادت تجاربهم وخبراتهم. وهذه الطبقة، هي التي يختار الله منها أولياءه على مر الأزمنة والعصور. ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على أعلى ما يُمكن أن يكون عليه بشر من الطهارة والصفاء؛ بحيث لا يتصور أحد مقدار ذلك، ولكن نؤمن به إيمانا فحسب. وإن العزلة التي كان يعتزلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس، لم تكن كما يظن الجاهلون من أجل التفكر والتأمل؛ لأن تلك طريق الفلاسفة لا طريق الأنبياء. وإن كان الناس يرون في المتفكر من الصفات، ما يرقى في نظرهم عن صفات العامة؛ فإن ذلك لا يليق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا حتى بورثته. وأما الداعي إلى عزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو المنافرة التي كانت بين طهارته، وما يكون عليه أهل الجاهلية وإن تحرّوا. وهذه منافرة بالحال، تجعل الطرفيْن لا يُطيق أحدهما معاشرة الآخر؛ وتجعل التباعد حتميا. ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجد هذا، من دون أن يعلم حقيقة حاله، ومن دون أن يُسيء الظن بقومه؛ لأن طهارته تمنع ذلك. فبقي على هذه الحال مدة من الزمان، يشتد عليه الحال تارة، ويخفّ أخرى؛ وكأنه ينتظر الفرج من حيث لا يحتسب. ولقد كان هذا تهييئا من الله له، وإنضاجا لحاله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يصلح لما سينزل عليه. ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لسذاجته، يتوقع شيئا، أو يطمح لشيء؛ لأنه منزه عن كل ما توسوس به النفس لصاحبها. ولكن الله العليم الخبير، يعلم ما ينتظره، ويربيه من عنده بما يليق بكل طور من أطواره. ولما كان الحال يقوى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن يُطيق البقاء في العمران؛ وكان يُفضل الخروج إلى البراري والقفار، لمناسبة الخلاء لحاله؛ وهذا هو ما يُسمّى عند أصحاب الطريق "التجرد". ولقد كان لنا بفضل الله، رشحة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من هذا الحال الشريف، الذي يحول بين ميل قلب العبد إلى شيء من الأكوان بأسرها. ولقد كنت عندما بدأني حال التجرد مع سن التمييز، أجد ألما شديدا بسبب عدم موافقتي لشيء مما كان عليه أقراني من طموح دنيوي، ومن عمل في سبيل تحقيق ذلك الطموح؛ حتى صرت أتهم نفسي بكل سيئة أعلم لها أصلا في صفات الناس الظاهرة والباطنة. وإن المرء ليبلغ به هذا الحال، أن يصير غريبا بين جميع المخلوقين؛ وقد يأنس إلى الوحوش، كما حدث مع بعض أئمة الطريق عليهم السلام، بحسب ما تدل عليه سيرهم. وإن هذا الحال، مع اشتداده، يصير مشابها لحال الحمل عند النساء، عندما يقرب موعد الوضع. فيصير العبد كأنه ليس بينه وبين الغيوب إلا حجاب لطيف، يكاد يرى أشخاص ما وراءه. ولم نجد أقرب إلى وصف ما شبهناه بالوضع، والذي يأذن الله به لخروج السر من النفس، إلا ما وصف الله به حال مريم عليها السلام، عندما قالت: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23]. وهذا لا يُعلم إلا بالذوق، وهو صعب التصوُّر من جهة العقل. ولعلنا نعود إلى التذكير به، عند مفاجأة الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحتى لا يبتعد القارئ عن حقيقة ما يقع، فإننا نُعلمه أن الوحي ما نزل إلا من حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم العليا، على حق شخصه الشريف، بواسطة جبريل الذي كان سفيره منه وإليه، موافقة للحكمة وإتماما لتوابع المقام. ولقد علمنا في الفصل السابق، كيف أن جبريل كان مكلفا برعاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من وراء حجاب العادة؛ لكن الأمر سيتغير شيئا فشيئا، مع اقتراب انبجاس القلب الشريف عن الوحي الإلهي. وسيظهر جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مظاهر شتى، بحسب المواطن: فمرة يراه على صورته الأصلية، ومرة يراه على هيئة رجل، وهكذا... مع أن حقيقته -عليه السلام- لا تتغيّر. وهذه المسألة وراءها علوم جمة، تتعلق بنسبة المظهر إلى الظاهر به، وإلى الظاهر له. وهو باب مفيد جدا في المعارف. قال ابن إسحاق: [فذكر الزهريّ عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها حدثته: "أن أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به: الرؤيا الصادقة؛ لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه، إلا جاءت كفلق الصبح.". قالت: "وحبب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلوَ وحده."]. وصدق الرؤيا، يدل على بلوغ العبد الكمال في عالم المثال؛ بحيث تصير مشهوداته هناك مطابقة لحقيقتها؛ وهو ما يجعل هذا الصنف من الرؤى، لا يحتاج إلى تعبير. وهذا أيضا، متصل بعلم الظاهر والمظهر والشاهد والمشهود. ولم يكن أحد من الأولين والآخرين، ليبلغ الكمال المحمدي في هذا المقام، ولا حتى شطرا منه. فسبحان من جمع الكمالات في مظهر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كان قرآنا مشهودا، نُزهةً للناظرين. ومن هذا الباب كان تنعم الخواص في الدنيا والآخرة، بالنظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم؛ وكان رجاء الأنبياء مطالعة وجهه الشريف. قال ابن إسحاق: [حدثني عبد الملك بن عبيد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي -وكان حافظاً- عن بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته، وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد عن البيوت، ويفضي إلى شعاب بين جبال مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله! قال: فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله وعن يمينه وشماله وخلفه، فلا يرى إلَّا الشجر والحجارة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث.]. وهذا يدل على أن باطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد بدأ بمفاتحة ظاهره بشؤونه؛ ولكن بلطف وتدرُّج. وهذه السنة الإلهية، قد حفظها الله على كبار أولياء هذه الأمة، ليحفظ بها عقولهم؛ بعكس ما يقع لغيرهم من ذهاب عقولهم عند مفاجأة الفتح لهم. وعن جابر بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ، قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ؛ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ.»[1]. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عليه السلام، قَالَ: " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ!"[2]. وقد حُكي ذلك عن غيره من كبار الصحابة، رضي الله عنهم. وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على علوّ استعداد الصحابة، وعلى اصطفاء الله لهم، ليكونوا رفقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووزراءه، كما كان الحواريون بالنظر إلى عيسى عليه السلام أو أكثر. نقول هذا، ونحن لا نعدل بعلي في العلم من الصحابة أحدا؛ وإن اقتضت الحكمة الإلهية أن ينال شرف الخلافة عن الله ورسوله بدايةً غيرُه. وأما كيف يُسمع سلام الجمادات، فهذه مسألة تعود إلى علم مراتب العقول؛ لأن الجماد ذو عقل، بعكس ما تظن العامة. والأمر بين العقول الجمادية، والعقول الآدمية، مشترك؛ بسبب احتواء الحقيقة الآدمية لجميع حقائق المخلوقات، بجميع المراتب. والأصل في الآدمي، هو إدراكه لكل صنوف الخطاب؛ لا الحجاب. وذلك لأن الحجاب طارئ على الآدمي، وليس أصلا لديه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ! قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ. وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً، فَتَبِعَهَا الرَّاعِي، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي! قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ.»[3]. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «آمَنْتُ بِهِ...»، لا يعني أنه لا يُعاين مثل ذلك ويسمعه؛ وإنما يعني أن قلبه الشريف، يؤمن من وجه إيمانه، بما يرى بعينه ويسمع بأذنه. هذا فقط!... وأما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم، لأبي بكر وعمر على وجه التخصيص، فهو بسبب كمال إيمانهما، رضي الله عنهما. وما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بمثل هذه الأخبار من كلام الجمادات والحيوانات، إلا ليدل ذوي الاستعداد من المؤمنين، إلى سعة المعاملات لله في مختلف المراتب. ولقد بدأ جبريل بلفت انتباه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه، قبل البعثة؛ تمهيدا منه لها، وحتى يكون عارفا به قبلها. وهذه الرؤية غير الرؤيتيْن الثابتتيْن بقول عائشة عليها السلام، حين أخبرت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ؛ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ: رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ، سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ.»[4]. وأما الرواية التي نشير إليها، فهي عن أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَوَّلُ شَأْنِهِ يَرَى فِي الْمَنَامِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا رَأَى جِبْرِيلَ بِأَجْيَادٍ، صَرَخَ جِبْرِيلُ: "يَا مُحَمَّدُ!"، فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا؛ فَرَفَعَ بَصَرَهُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ! جِبْرِيلُ!". فَهَرَبَ فَدَخَلَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ فَنَادَاهُ فَهَرَبَ. ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إِقْرَائِهِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ."[5]. فإن صح هذا، فإنه لا شك كان تعرفا من جبريل عليه السلام، حتى لا يُفاجَأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم به مفاجأة؛ وهذا أليق بأدبه مع النبي، كما أخبرنا عنه سابقا. وقبل أن نواصل الكلام عن مبادئ الوحي، لا بأس من أن نعرّج على قول عائشة عليها السلام في مسألة رؤية النبي ربه فيما رواه مسروق (وهو من التابعين) حين قال: "قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أُمَّتَاهْ، هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ! أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ، مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ؛ ثُمَّ قَرَأَتْ: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}؛ {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}؛ وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ؛ ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ؛ ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الْآيَةَ؛ وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ."[6]. ولقد تأثر بقول عائشة هذا، جمهور من أهل العلم، وقلدهم في ذلك جمهور العامة؛ والحقيقة هي أن عائشة عليها السلام، إما لم تكن تعلم المسألة عند سؤالها، فأجابت بحسب مبلغ علمها؛ وإما لم تكن ترى السائل أهلا لعلمها، فصرفته إلى ما يليق به وبأمثاله؛ وهذا هو الراجح عندنا. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شهد لها بالكمال، وهو يُعطي من علم هذه المسألة غير ما ذكرت عليها السلام. والصحيح المـُعوَّلُ عليه، هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان في مشاهدة دائمة، بحسب ما تقتضيه مرتبته المنيفة؛ وقد وقع التخصيص في ذلك، بحسب المواطن. ولذلك فإن مشاهدته للحق في مرتبة العرش، فوق سدرة المنتهى، هي غير مشاهدته على الأرض، أو حيثما كان من السماوات. وما خص القرآن رؤيته لربه بالأفق الأعلى إلا من أجل ما ذكرنا، لا لأنها المرة الوحيدة التي رأى فيها ربه؛ هذا إن كنا نفهم من الرؤية المشاهدة؛ وإلا فإن التفصيل سيأخذ منحى مختلفا، لسنا بصدده. وحتى يعلم القارئ صحة استدلالنا، فليعلم أن رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل، لا مزية له فيها؛ خصوصا وقد سبقت له رؤيته على الأرض. فهذا يعني أن المرئي غير جبريل، وأنه برؤيته تعالى وحده تصح المزية. ولعلنا نعود إلى مسألة الرؤية للحق، عندما نبلغ حادثة العروج النبوي في حينها، إن شاء الله؛ فإنها مسألة محورية عليها يدور العرفان. قال ابن إسحاق: [حدثني وهب بن كيْسان قال: قال عُبيْد (بن عمير): فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة؛ يُطعم من جاءه من المساكين. فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به -إذا انصرف من جواره- الكعبة، قبل أن يدخل بيته؛ فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله، ثم يرجع إلى بيته. حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء، كما كان يخرج لجواره ومعه أهله؛ حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لَمْ يَكُنْ مِنَ الْخَلْقِ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ مَجْنُونٍ، كُنْتُ لا أُطِيقُ النَّظَرَ إِلَيْهِمَا؛ فَلَمَّا ابْتَدَأَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكَرَامَتِهِ أَتَانِي رَجُلٌ فِي كَفِّهِ نَمَطٌ مِنْ دِيبَاجٍ، فِيهِ كِتَابٌ، وَأَنَا نَائِمٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ! فَقُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ؟ فَغَطَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ؛ ثُمَّ كَشَطَ عَنِّي، فَقَالَ: اقْرَأْ! فَقُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ؟ فَعَادَ لِي مِثْلُ ذَلِكَ فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ؟ فَعَاوَدَنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا أُمِّيٌّ! وَلا أَقُولُهَا إِلا تَنَحِّياً مِنْ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ الَّذِي فَعَلَ بِي؛ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]؛ ثُمَّ انْتَهَى عمّا كَانَ يَصْنَعُ بِي. قَالَ: فَفَزِعْتُ، فَكَأَنَّمَا صَوَّرَ فِي قَلْبِي كِتَاباً، فَقُلْتُ: إِنَّ الأَبْعَدَ لَشَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، فَقُلْتُ: لا تَحَدَّثُ عَنِّي قُرَيْشٌ بِهَذَا! لأَعْمِدَنَّ إِلَى حَالِقٍ مِنَ الْجَبَلِ، فَلأَطْرَحَنَّ نَفْسِي مِنْهُ فَلأَقْتُلُهَا؛ فَخَرَجْتُ وَمَا أُرِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ. فَبَيْنَا أَنَا عَامِدٌ لِذَلِكَ، إِذْ سَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ! فَذَهَبْتُ أَرْفَعُ رَأْسِي، فَإِذَا رَجُلٌ صَافٌّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، فَوَقَفْتُ لا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَتَقَدَّمَ وَلا أَتَأَخَّرَ؛ وَمَا أَصْرِفُ وَجْهِي فِي نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ، حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَيَّ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، وَرَجَعُوا إِلَيْهَا. فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَادَ النَّهَارُ يَتَحَوَّلُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجِئْتُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَجَلَسْتُ إِلَى فَخِذَيْهَا مُضِيفًا، فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَنَّى كُنْتَ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثْتُ فِي طَلَبِكَ رُسُلِي، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْتُ: إِنَّ الأَبْعَدَ لَشَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ! فَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَعَاذَ اللَّهِ يَا ابْنَ عَمِّ، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْعَلَ بِكَ إِلا خَيْراً؛ لَعَلَّكَ رَأَيْتَ شَيْئًا أَوْ سَمِعْتَ؟ فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ عَمِّ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ! ثُمَّ جَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، وَقَصَّتْ عَلَيْهِ مَا قَصَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ وَرَقَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لإِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي، إِنَّهُ لِنَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ! إِنَّهُ لَيَأْتِيهِ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ، الَّذِي يَأْتِي مُوسَى؛ فَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ. قَالَ: فَرَجَعَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ فَاسْتَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِوَارَهُ بِحِرَاءٍ؛ ثُمَّ نَزَلَ فَبَدَأَ بِالْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أَخْبِرْنِي بِالَّذِي رَأَيْتَ؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيَأْتِيكَ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ، الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى؛ وَإِنَّكَ لِنَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ وَلَتُؤْذَيَنَّ وَلَتُخْرَجَنَّ وَلَتُقَاتَلَنَّ وَلَتُنْصَرَنَّ؛ وَلَئِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ لأَنْصُرَنَّكَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنِّي حَقًّا. ثُمَّ دَنَا فَقَبَّلَ شَوَاتَهُ، يَعْنِي وَسَطَ رَأْسِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ.». هذه الرواية لابن إسحاق تحوي من التفاصيل ما لا يحويه غيرها، وتجعل لقاء جبريل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عالم الرؤيا لا في عالم اليقظة. ولعل الناس قد انصرفوا عنها إلى الروايات الأخرى التي تُثبت دخول جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغار يقظة، على هيئة رجل غريب، فكلمه؛ كما أخبرت عائشة رضي الله عنها: "أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْراً هُوَ وَخَدِيجَةُ بِحِرَاءٍ، فَوَافَقَ ذَلِكَ شَهْرَ رَمَضَانَ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَسَمِعَ: السَّلامُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: فَظَنَنْتُهَا فَجْأَةَ الْجِنِّ، فَجِئْتُ مُسْرِعًا حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، فَسَجَّتْنِي ثَوْبًا، وَقَالَتْ: مَا شَأْنُكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: سَمِعْتُ: السَّلامُ عَلَيْكَ فَظَنَنْتُهَا فَجْأَةَ الْجِنِّ. فَقَالَتْ: أَبْشِرْ يَا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ السَّلامَ خَيْرٌ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ مَرَّةً، فَإِذَا بِجِبْرَئِيلَ عَلَى الشَّمْسِ جَنَاحٌ لَهُ بِالْمَشْرِقِ وَجَنَاحٌ لَهُ بِالْمَغْرِبِ؛ قَالَ: فَهِلْتُ مِنْهُ فَجِئْتُ مُسْرِعًا، فَإِذَا هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَابِ، فَكَلَّمَنِي حَتَّى أَنِسْتُ بِهِ ثُمَّ وَعَدَنِي مَوْعِدًا، فَجِئْتُ لَهُ، فَأَبْطَأَ عَلَيَّ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ، فَإِذَا أَنَا بِهِ وَمِيكَائِيلُ قَدْ سَدَّا الأُفُقَ؛ فَهَبَطَ جِبْرَئِيلُ وَبَقِيَ مِيكَائِيلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. فَأَخَذَنِي جِبْرَئِيلُ فَاسْتَلْقَانِي لِحَلاوَةِ الْقَفَا، ثُمَّ شَقَّ عَنْ قَلْبِي فَاسْتَخْرَجَهُ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أَعَادَهُ مَكَانَهُ، ثُمَّ لأَمَهُ؛ ثُمَّ أَكْفَأَنِي كَمَا يُكْفَأُ الأَدِيمُ، ثُمَّ خَتَمَ فِي ظَهْرِي حَتَّى وَجَدْتُ مَسَّ الْخَاتَمِ فِي قَلْبِي؛ ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ! وَلَمْ أَكُ قَرَأْتُ كِتَاباً قَطُّ؛ فَلَمْ أَجِدْ مَا أَقْرَأُ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ! قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى خَمْسِ آيَاتٍ مِنْهَا؛ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدُ. ثُمَّ وَزَنَنِي بِرَجُلٍ فَوَزَنْتُهُ، ثُمَّ وَزَنَنِي بِآخَرَ فَوَزَنْتُهُ، حَتَّى وَزَنَنِي بِمِائَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ: تَبِعَتْهُ أُمَّتُهُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. فَجَعَلْتُ لا يَلْقَانِي حَجَرٌ وَلا شَجَرٌ إِلا قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، قَالَتِ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ."[7]. وعلينا أن نذكر بخصوص كل ما سبق ما يلي: 1. سواء أكان اللقاء الأول فيما يتعلّق بالتنزيل، بين جبريل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، مناما أم يقظة، فالأمر سيان؛ على غير ما قد يتبادر إلى الأذهان. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على أكمل استعداد وأتمه، بحيث يستوي في حقه عالم المنام بعالم اليقظة. ونعني بالاستواء هنا، ما يكون من ظهور الحق فيهما له، لا أنهما في نفسيهما على حقيقة واحدة؛ فإن هذا لا يكون. 2. الواضح من معاملة جبريل في كلتا الحاليْن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان يقصد التلطف به؛ حتى لا ينزعج منه إن هو فاجأه. والأدلة كثيرة من النصّيْن، أبرزها إما ظهوره أولا له في المنام، أو مماشاته له حتى استأنس به. وهذا كله، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما يزال تحت حكم طبيعته ومعتاده. ونحن قد سبق لنا أن ذكرنا في الفصل السابق، أن جبريل كان يرعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيبا، من وراء حجاب الطبيعة والعادة. وعندما جاء أوان الفتح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ظهر له في السماء، ليُعلمه بحقيقته وحقيقة نفسه؛ ثم ظهر له إما في المنام أو في صورة رجل، ليلقّنه أوّل ما سينزل من القرآن العظيم. والفتح الذي نذكره هنا، هو أصل كل فتح يقع للأولياء من الورثة، غير أنه لا نزول لوحي التشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو معلوم. ومعنى الفتح، هو إمداد الروح للقلب بمددها الأزلي؛ وهذا يعني أن الفتح يكون للشخص على قدر روحه وقلبه، ولا أوسع روحا أو أطهر قلبا منه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذلك كان فتحه على قدر مرتبته: الكلامَ الإلهي الجامع للكتاب المكنون، المطابق له. وأما فتح ورثته عليه السلام، فهو بالمقارنة إلى فتحه، كالقطرة مع البحر المحيط. وإلى هذا المعنى، كان يُشير الخضر عليه السلام عند رفقته لموسى عليه السلام. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ ...»[8]. فالبحر المذكور في الحديث، هو بحر علم الله؛ وهو عينه بحر علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة حقيقته؛ لأنه هو مظهر الذات بمرتبتها، وبصفاتها وبأسمائها. وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سيأتيه المدد العلمي من حقيقته، إلى شخصه الطبيعي، عبر جبريل الذي ليس إلا حقيقة جزئية من حقائقه. ولقد ميّز الله لعبده المصطفى في علمه، بين ما هو قرآن، وما هو غيره؛ مما بثه صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديثه بصنفيها: القدسي والنبوي. ونحن نريد من كلامنا هذا، أن نثبت بالسيرة (السنة الذوقية النبوية) أصل الفتح الذي يقع لأولياء هذه الأمة. ومما يؤكد هذا المعنى، قول الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 1، 2]. ولقد ذهب جل المفسرين، إلى أن المقصود بالفتح فتح مكة؛ وقال بعضهم هو صلح الحديبيّة أو بيعة الرضوان. ولم نر لأحدهم ذكرا للفتح العلمي القلبي، مع أنه أقرب إلى ألفاظ الآيتيْن. وذلك لأن هذا الفتح وُصف بالإبانة، وهي من توابع العلم؛ ثم علل الله الفتح بمغفرة الذنب المتقدم والمتأخر، في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولإتمام النعمة عليه، ولهدايته صراطا مستقيما. وهذه الأمور كلها، لا تنتج إلا عن الفتح بالمعنى الذي ذكرناه نحن. وحتى يزداد الأمر جلاء، فإننا نقول: ا. الفتح المبين: هو الكشف العلمي (الوحي)، الذي يعلم به العبد المصطفى أحكام الحق وحضراته، ويعلم أحكام الخلق وإلامَ ترجع. فلا يبقى شيء من الوجود المشهود والوجود الغيبي إلا وله إليه رقيقة، منها يكون علمه به وتحققه. وأعلى ما يُعلم من هذا الفتح الذات في غيبها، لا عند تعيُّنها؛ وهو علم محمدي لا تتطاول إليه العقول، فإن تطاولت عميت. ولأكابر الورثة منه نصيب، لو باحوا ببعضه، لانهدّ العالم. ب. إن مغفرة الذنب المتقدم والمتأخر، لا تكون إلا عند تحقق العبد بالحق؛ فعندئذ إن جرت عليه صورة ذنب -بحسب الثابت في العلم الإلهي- فإنها تُغفر تلقائيا. وهذا هو معنى العصمة، سواء تعلقت بالأنبياء عليهم السلام أم بالأولياء. والسر فيها، هو أن أفعال العبد الرباني تُنسب إلى الله، لا إليه؛ والله سبحانه لا يُسأل عن أفعاله، بل هو يفعل ما يشاء. يقول سبحانه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. وهذا الأصل مجهول لجل علماء الدين. وأما وصف الذنب بالتقدم والتأخر، فمعناه المتقدم على الفتح والمتأخر عليه؛ لأن العبد بعد الفتح يصير حكمه حكم ربه، لا حكم نفسه. ج. وأما إتمام النعمة: فلا يكون إلا بعد بدئها، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الإحاطة والإجمال؛ وليس له عند الورثة إلا المعنى الجزئي. والإنعام الأول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو تجلي الحق في صورته، التي عنها كان خلق السماوات والأرض وما بينهما، من أول مخلوق إلى ما لا نهاية. ولم يبق بعد هذه النعمة في المستوى الأعلى، إلا أن يتجلى الله بصورة صورته (الصورة الطبيعية الأرضية)، ليتحقق قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84]. وأما من يقول إن آدم وغيره من الأنبياء فرطٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف تصح له الصورة الإلهية الأرضية بالأصالة؟ فإننا نجيبه: لا تدع الزمان يحجبك، لأن الحقائق لها وجود خاص بها خارج الزمان، ومن هناك تُعلم. وهناك، لا صورة تسبق الصورة المحمدية، بل إن كل الصور -سواء أكانت للأنبياء أم للأولياء- هي تابعة لصورته في المرتبة ونُسخة جزئية عنها. والجزئية المقصودة لنا هنا، هي المقابلة للتمام لا للكمال؛ فليُعتبر هذا. د. وأما هداية الصراط المستقيم: فهي التحقق بالحق مع التخلق بالخلق، على الاعتدال التام. وهذا المقام لا يكون على التمام إلا له صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو أمر معجِز لغيره غاية الإعجاز. ولا يكون للورثة منه إلا رشحة، تجعلهم يسودون كل أهل زمانهم. وإلى هذه الاستقامة والاعتدال، يشير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعثمان بن مظعون رضي الله عنه: «يَا عُثْمَانُ، أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي؟ قَالَ: "لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ. "قَالَ: فَإِنِّي أَنَامُ، وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ؛ فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ.»[9]. وخلاصة معنى الحديث هي: إعطاء الحق حقه، وإعطاء الخلق حقه. وهذه هي الاستقامة التي لا يستطيعها على التمام إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعلم الاستقامة واسع، تدخل فيه تفاصيل لا يتسع لها الكتاب كله. 3. لقد اتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه الشريفة، وظن بها الالتحاق بالشعراء أو بالمجانين؛ وهذا من طهارته التي تكلمنا عنها مرارا. وهذا لأن الطاهر يتهم نفسه، ولا يتطاول إلى نيل الرفعة لدى الناس. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يتصف بصفة ربوبية قط، فلما عرض له الاتصال بجبريل؛ ظنّ أن هذا مما يسوءه في مكانته الطاهرة. ولقد بلغ به الاغتمام بذلك إلى حد أن يهمّ بقتل نفسه الشريفة. ولقد رأينا كثيرا من الناس، يرون هذا نقصا في النبوة، ولا يعلمون أنه من دلائل كمال الطهارة. ومع ذلك فالهم بالشيء، ليس كفعله؛ وعلى كل حال، فإن من لم يكن له ذوق من أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبعيد أن يعلم ما نقول. ولنعد هنا إلى ما كنا قد ذكرناه من حال مريم عليها السلام، الوارد في قول الله تعالى: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23]. ولقد ذقنا هذا الحال، عند تحقق الوصول لنا، فكنا نتستر مما أُطلعنا عليه، حتى بيني وبين نفسي؛ لعلمي بأن ما ظهر لي، لا يقبله العالم من جهة كونه عالما؛ ولعلمي بأنه فوق مطمَح الطامحين. ولقد كان بعض معارفي يُدلّون في رؤاهم على معنى الخصوصية فينا، فكنا من فرط فرارنا من الأمر، ندلهم على شيخنا، ولا نجد راحة إلا بعد عودتنا إلى أحكام العادة. ولا بد هنا من أن نذكر الفرق بين المجانين والشعراء، وبين الربانيّين؛ وهو أن الأولين لا يتهمون أنفسهم، ويُسارعون إلى الترحيب بما جدّ عليهم، طلبا للتميُّز عن الناس، واستجابة لرغبات النفس من جهة ربوبيتها. أما الربانيون، فهم على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، متهمون لأنفسهم، فارون من الترفع على الغير؛ ولا يقبلون الأمر إلا بالقهر الإلهي، الذي يأتيهم في مظاهر مختلفة. 4. ولقد أحسنت أمنا خديجة عليها السلام، بالذهاب إلى ورقة بن نوفل، الذي كان له علم من الكتاب؛ ليخبر بما عنده في هذه المسألة. ولم ينطق الرجل، الذي أبان عن علم حقيق، إلا بما يُطمئن المرأة على زوجها المبارك، ويثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما أتاه من عند الله. وورقة بن نوفل هو رجل اهتدى إلى المسيحية، وكان يقرأ الكتب السابقة ويكتب منها باللسان العبراني. وعندما سمع بما أُنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذكر أنه الناموس الذي كان يأتي موسى. ولقد غلط قوم، عند هذا، بنسبته إلى اليهودية بدل المسيحية، وقالوا لو كان مسيحيا، لذكر عيسى لا موسى. ولم يعلموا أن التوراة مشتركة بين موسى وعيسى، وأن الأناجيل التي بلغت الناس، خلطت كلام التلاميذ بكلام عيسى؛ وبالتالي فلا يُعتد بها عند العارفين، من جميع الوجوه. ونحن قد بيّنّا في الجزءيْن السابقيْن من هذا الكتاب، أن بعض كلام التلاميذ المثبت في الأناجيل، هو سبب شرك النصارى الذي وقعوا فيه، فيما بعد. وأما هل يُعتبر ورقة صحابيا أم لا؛ ففيه كلام. وعلى كل حال فإنه فوق مرتبة أهل الفترة، يُعدّ مؤمنا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يُدرك الرسالة. وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما قال: "سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ، هَلْ تَنْفَعُهُ نُبُوَّتُكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ! أَخْرَجْتُهُ مِنْ غَمْرَةِ جَهَنَّمَ إِلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا». وَسُئِلَ عَنْ خَدِيجَةَ لأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: «أَبْصَرْتُهَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فِي بَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ». وَسُئِلَ عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: «أَبْصَرْتُهُ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ عَلَيْهِ سُنْدُسٌ». وَسُئِلَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، فَقَالَ: «يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى.»[10]. وزيد بن عمرو بن نفيل هو أحد الأربعة من قريش إلى جانب ورقة بن نفيل، الذين رفضوا دين قريش وطلبوا الدين الحق. والفرق بينه وبين ورقة، هو أن ورقة أدرك نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآمن به؛ بينما زيد لم يُدرك، فعُدّ من أهل الفترة. وإن هذا الخبر الذي رواه جابر رضي الله عنه، من أوضح الأقوال في هذه المسألة، ومن أنفعها للعلماء في هذا الباب. وأما فيما يتعلق بالواقعة، فلا بد من إبراز ما يلي: 1. إن جبريل عليه السلام، كان مرآة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيها يرى حقيقته القرآنية؛ وهذا حتى لا يتصور أحد معرفة الحق معرفة مجردة عن الصورة، كما تتوهم العقول القاصرة. وكما كان جبريل بالنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان -قبل ذلك وبعده- النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بالنظر إلى جميع الخلق، ومن بينهم جبريل نفسه. وإلى هذه الحقيقة المزدوجة في الاعتبار، يشير قول الله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3]؛ فالشاهد والمشهود هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تارة باعتباره حقا، وتارة باعتباره خلقا. 2. إن جبريل ظهر في صورة آدمية، ليقع الاستئناس بها من قِبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة؛ ولتحصل المضاهاة بين الممد والمستمد، من جهة أخرى. ومن هنا نعلم أن الشيخ بالنظر إلى الآدميين، لا يكون إلا آدميا، أو ملكا في صورة آدمية. وأما الجني، فلا يصح تشيُّخه على الآدمي، لأنه لا يضاهيه من جهة الحقائق. ومن هنا أيضا نعلم أن جبريل عليه السلام، لم يكن يُضاهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من جهة ظاهر الصورة؛ وأما من جهة الحقائق، فليس له ذلك. وأما الآدمي الكامل، فيمكن أن يكون شيخا للملائكة والجن، لكونه يحيط بهم من جهة الحقيقة. ومن هنا كان يُقال إن الملائكة تأتي إلى الغوث وتسأله عما لا تعلمه مما يدخل ضمن وظائفها. 3. ما خاطب جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا باللسان العربي؛ لكونه لسانه. وهذا يعني أن القرآن من حيث الأصل غير مقيّد بالألفاظ اللغوية، وإنما هو يلبس الألفاظ عند نزوله من حضرة الغيب إلى حضرة الشهادة. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]؛ ولا يكون الإنزال إلا من مرتبة الأحدية الذاتية، التي هي مرتبة الكنّ. ووصف القرآن بالعروبة، هو من الإعراب عن الحقائق الذاتية، قبل اعتبار عروبة اللغة. وأما شرف العربية، فلكونها لغة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأزل؛ ومن هناك كانت مناسبتها للإحاطة بمراتب النَّفَس الرحماني. وهذا يعني أنه لا أحد يعلم أسرار اللغة العربية، كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ من كونه المـُعرب عن الأسرار الإلهية بذاته وبكلامه. ومن هذه الحقيقة كان الأنبياء السابقون يخاطبون أقوامهم بألسنتهم، كما أخبر الله في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]. وهذا يعني أن لسان كل قوم هو عربيتهم؛ لكن لا بالإحاطة المحمدية، بل بأدنى منها. ووصف كل الألسن بالعروبة، هو من الإعراب الذي أسلفنا ذكره، لا من النسبة إلى القوم؛ فليُعتبر هذا. 4. وأما طلب جبريل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم القراءة بقوله: "اقرأ"؛ فهو لحِكم منها: ا. أن معنى "قرأ" في اللغة هو جمع؛ فكأن جبريل يطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع تحقق الفتح الخاص به، أن يجمع حقه إلى خلقه، ليصدر عنه القرآن (الجامع) لحقائقه، في قالب لغوي، لا يصدر إلا عنه. وأما جبريل فلن يكون إلا واسطة في ذلك، كما هو شأن اللاقط الهوائي الذي يكون واسطة بين مصدر الإشارة الذبذبيّة ومتلقيها. وهذا التعاون في الإعراب عن القرآن، هو في الحقيقة بين الأسماء الإلهية التي عنها صدرت الحقيقة المحمدية بالتوجُّه. ومن أجل هذه الكثرة الاسمية الأولى (الثلاثة)، كان التعبير عن إنزال القرآن في مواضع مخصوصة بصيغة الجمع؛ كقول الله تعالى السابق: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، مع أن الحق في نفسه لا يتعدد. وهذا المعنى، مما يجهله علماء التفسير. ب. أن القراءة الأولى، هي من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة غيبه؛ فإذا سمع جبريل القراءة من هناك، بلّغها إلى السمع الشريف من جهة ظاهر الأكوان، الذي هو بالنظر إلى ظاهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كظاهر الظاهر؛ أو بلّغها إلى القلب الشريف من جهة الباطن مباشرة. وإلى تعدد القراءات، يشير قول الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ . إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ . فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19]؛ وهذا يعني أن أول من يقرأ القرآن الحق من جهة واحديته، ثم يسمعه جبريل فيقرأه على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ثم يقرأه النبي بلسانه. وهذه القراءات كلها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسب مراتبه فحسب؛ أو إن شئت قلت بحسب مراتب الحق؛ ثم تأتي بعد ذلك قراءة القارئين من الخلق أجمعين. وهذا يعني، أن من لم يسمع القرآن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يعُدّ نفسه قد تحقق بسماعه؛ وهذا يكون غيبا وشهادة. ولقد كنا في مرحلة سلوكنا مع شيخنا رضي الله عنه وجزاه خيرا، نسمع القرآن عند تلاوة القارئ، من الحق تعالى؛ وكانت معانيه تتوارد علينا تباعا بحسب تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيبا، وقبل أن ينطق القارئ بالآية التالية. فكنا نعجب من نظم القرآن وتسلسله، بما لا يخطر للناظر من جهة ظاهر ألفاظه وحدها أبدا. ج. وأما تعدد الطلب ثلاث مرات، أو أربعا؛ فهو دعوة لجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في مراتبه الثلاث: الذات والصفات والأفعال؛ ليكون حقا في ذلك كله، وإن ظهر بصورة الخلق. ومن هذه الحقيقة كانت نسبة المظاهر أو الصفات أو الأفعال من الخلق إلى الحق، كقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، أو قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17]؛ إلى غير ذلك من الآيات... وأما إن كانت المرات أربعا، فهي للدلالة على مراتب الوجود المنسوبة إلى الحق في شطرها، وإلى الخلق في الشطر الآخر. فيكون الطلب بـ "اقرأ" عندئذ طلبا إلى الحق لأن ينجمع بالخلق، وإلى الخلق لأن ينجمعوا بالحق. كل ذلك في المظهر المحمدي، لا خارجه؛ لأن العالم ما هو إلا الصورة الوُسطى بين صورة الحقيقة المحمدية وصورة الشخص المحمدي. وأما الغطّ الذي كان يقوم به جبريل، حتى كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظن أنه الموت، فهو من أجل إفنائه صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرة، في كل مرتبة. وذلك لأن الحق، لا ينجمع بالخلق إلا بعد فنائه؛ وقد أشار الله إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]. ولن نخوض هنا في أسرار الفناء والبقاء، لأن الكلام سيطول بنا؛ ولكن نكتفي بالقول بأن الفناء له ألم تذوقه النفس، لا تكون سكرات الموت المعلومة من الموت إلا بعضه. وذلك الألم، قد ذاقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعبر عنه بقوله: «فَغَطَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ.». وأما التعبير بلفظ الموت، فإنه يأتي من معرفة النفس به غيبا، من حقيقة: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. وهذا يعني أن كل متحقق بالحق، بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من ورثته، لا بد أن يكون له ذوق من ذوقه صلى الله عليه وآله وسلم في الفناء المذكور، والذي هو الموت في كل مرتبة بحسبها. ومن هذا الباب كان الصوفية يجعلون موت النفس متعددا، ونعني أن ذلك كائن بسبب تعدد المراتب التي يقع فيها الفناء والبقاء. وكل من ذاق الفناء في مرتبة واحدة، فلا خبر له عما نقول؛ لأن التحقق التام، لا يكون إلا بالفناء الكلي. ومنذ حصول هذا الذوق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، سيدخل به في التحقق بمعاني الأسماء التفصيلية؛ ليكون حقا متنزلا في صورة الخلق، بحسب مراتب الأسماء نفسها. وبهذا، سيفتح صلى الله عليه وآله وسلم، بابا من سنته الشريفة، إلى التحقق بالحق لكل أتباعه من ذوي الاستعداد. وهذه أكبر نعمة له صلى الله عليه وآله وسلم على الناس!... يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]؛ أي: لكان كافيا لهم ومغنيا. فما أعجب القرآن!... وأما معاني الآيات الخمس، التي كانت أول ما نزل من القرآن العظيم، فإننا نقول فيها مستعينين بالله: - قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]: معنى القراءة باسم الرب، هو أن التحقق بالمعاني المختلفة، لا يتعلق إلا بالأسماء الإلهية وحدها، من جهة كونها أسماء. وذلك لأن كثيرا من الجاهلين، يظنون أن الأمر في مختلف المعاملات، يقع بين ذوات مختلفة؛ وهذا شرك، كما لا يخفى؛ وهو مخالف للعلم. ورجوع أمر التحقق إلى الاسم الرب، هو بسبب تعلق هذا التحقق بالتربية التي يتلقاها العبد من قِبل ربه. لكن المقصود من "ربك" عندما يُخاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يكون في الغالب الاسم "الله" من كونه ربا لمظهره والمتوجه عليه. وهذا يُشبه ابتداء سور القرآن بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"؛ ليدل الله بها على أن كل ما سيتعلق به الكلام القرآني، لا يخرج عن إحاطة الاسم الله والاسم الرحمن والاسم الرحيم؛ وأن كل المعاملات الواردة في القرآن، هي معاملات فيما بين الأسماء وحدها؛ وأن المعنى الذاتي لا يدخل في معاني القرآن إلا من باب الإشارة إلى الغيب بـ "هو". فحيثما وجد هذا الضمير، فإنه يكون إشارة إلى الذات من حيث هي ذات؛ لكن الكلام لا بد أن يتعلق بعده بأسماء مخصوصة، من أجل الدلالة على أن الأسماء المختلفة، لا قيام لها إلا بالذات، لا بنفسها. لكن علم تعلق الأسماء بالذات، لا يحصل إلا كشفا؛ فلا يتعب أحد نفسه في التفكر فيه. - قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2]: معنى خلقِ الله للإنسان، هو تقديره في العلم؛ ثم التجلي عليه بالاسم النور، لتظهر عينه في عالم الأعيان. والمقصود من الإنسان معان: الأول: الحقيقة المحمدية الجامعة لجميع الحقائق، والتي هي أول مخلوق؛ والثاني: هو معنى جنس الكُمّل من بني آدم، والذين يستمدون كمالهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأما الثالث: فهو كل آدمي مخلوق على الصورة. وهذا الصنف الأخير، لا يدخل أصحابه في معنى "إنسان" إلا جزئيا؛ وهم المعبّر عنهم بـ "الإنسان الحيوان". وأما العلق المخلوق منه الإنسان، فهو بحسب الظاهر الذي لا يتجاوزه المفسرون، ما يعلق في أول نشأته الطينية بجدار الرحم؛ لكنه من جهة الباطن هو تعلق كل حقيقة جزئية إنسانية، بأم الكتاب من الناحية الوجودية، والتي هي الحقيقة المحمدية. وهذا لأنه لا أحد من المخلوقين، منفصل عنها. وهذه الآية مما يدل على الحقيقة المحمدية الجامعة لكل حقائق المخلوقات، حيث تتعلق كل حقيقة بأصلها هناك. وهذا، هو معنى البنوة، الذي أجزنا نسبة الخلق به إلى هذه الحقيقة، في الجزء الأول من هذا الكتاب. وهو أيضا المعنى الذي تنسب النصارى به عيسى إلى هذه الحقيقة، لا إلى الله؛ لأن الله من حيث هو الحق، لا تتعلق به المخلوقات. ويكون تعلقها من جهتيْن: من جهة الوجود بالحقيقة المحمدية التي هي واسطة بين الحق والخلق؛ ومن جهة المرتبة، ويكون التعلق هنا بالآباء من الأسماء. غير هذيْن التعلُّقيْن، لا يكون. ولقد أخبر سبحانه عن نفسه بقوله: {لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص: 3]، حتى يرتفع الإبهام، ويُنسب كل شخص (شيء) إلى أبيه. يقول الله تعالى من باب الإشارة: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]. - قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3]: "القراءة" الأولى، التي كانت باسم الله، هي قراءة من الحق؛ أما "القراءة" هنا، فهي من الخلق الذي هو شخص محمد صلى الله عليه وآله وسلم. لكن ورود واو الحال وبعدها الجملة الاسمية الحالية المتعلقة بالفاعل من "اقرأ"، تدل على أن العبد لا يقرأ إلا إن تحقق بربه، فيكون الرب كالحال من العبد، عند ظهور قيوميته به؛ كما كان العبد باعتبار الحق شأنا من شؤونه، باعتبار القيومية أيضا. وذلك لأنه من جهة الذات، لا فرق بين الحق والخلق. وهذه المعاني التي فتح باب علمها القرآن، هي معان اسمية فحسب. ومعنى ورود "الأكرم" خبرا في الآية للاسم الرب، هو للدلالة على تمام الكرم الإلهي بفتح علم القرآن لعبده المخصوص. وهذا، لأن من سبقه من الأنبياء عليهم السلام، لم يكن لهم هذا العلم بهذا القدر؛ وفي أحيان لم يكن الله يأذن إلا بمعاملة الأسماء، من دون إذن في معاملة قدس الذات من ورائها. ولم يقع هذا، على التمام إلا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه العبد الذاتي التي كانت تدور عليه معاني الأسماء الإلهية في غيب الغيب. ونعني من هذا، أنه ما ظهر بصورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخَلقيّة، إلا باطن الذات. ولورثته، صلى الله عليه وآله وسلم، من هذا العلم المخصوص به، من كرمه، أنصبة على قدر الاستعدادات. وهذا العلم، مما اختصت به هذه الأمة من دون سائر الأمم؛ وبه كانت لها الأفضلية عليها، لا بالإيمان والعمل وحدهما. لكنه رغم ذلك علم منهي عن الخوض فيه لغير أهله، فليتق العباد الله في أنفسهم. ولو لم يكن مرادنا ترتيب العلوم وإبراز مراتب العلماء في هذا الكتاب، ما ذكرنا مبادئه!... - قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4]: "الذي" يعود على "ربك الأكرم"، ليذكر الله بعده نعمة التعليم للعلم الذي بيّنّا متعلَّقه. وكل علم بالنسبة إلى هذا العلم، يكون كالفرع بالنسبة إلى الأصل. ونعني بالأصل هنا، أصل الأصول، لا كل أصل. وهذا التعليم الإلهي، هو عن طريق الكتابة بالقلم الأعلى في النفوس الطاهرة، التي تعود كلها إلى النفس المحمدية الأم. وإن الله يُذكّر بوسيلة تلقي هذا العلم، حتى لا يظن ظان -كما حدث كثيرا- أن علوم النبوة هي نظير لعلوم النظر؛ حتى أخبر بعض الجاهلين من المتفلسفين بأن الفيلسوف يُدرك بعقله، ما يُدرك النبي بخياله. وهيهات!... ومتى استوى في العلم من يكون الله معلّمه، ومن يكون معلمه مخلوق من المخلوقات. ولهذا، لم يكن معتبرا عند أئمة الدين إلا العلم الذي يتلقاه العبد عن ربه، كما أخبر سبحانه في هذه الآية وفي غيرها. وأما القلم، فهو الحقيقة المعلِّمة عن طريق الكتابة الإلهية من الحقيقة المحمدية؛ وهو المستمد من النون الجامعة للمعلومات الإلهية. وقد ذكر الله حضرة العلم وحضرة الكتابة في قوله سبحانه: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]. وأما "يسطرون" فإنه يعود على جنس القلم، الذي يشمل أشخاصا للقلم في كل مرتبة بحسبها. وهكذا يكون القلم الأعلى ما ذكرناه في الحضرة المحمدية العليا، وتكون الأقلام السفلى، ما يُتعارف عليه عادة؛ وبينهما صنوف من الأقلام، لا بد للعالِم من تبيُّنها في مراتبها. ومن نظر إلى مظاهر العوالم المخلوقة، وجدها كلها أقلاما وكتابة؛ ولولا الكتابة من الأقلام، ما ظهر شيء في الحس ولا في المعنى. - قوله تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]: فعل علّم، هو من الله، الذي علّم الإنسان. والإنسان هنا بالمعنى الكلي الذي ذكرناه مرارا، وبالمعنى الجزئي المتعلق بكل شخص إنساني؛ سواء أكان ممن كان على الصورة، أم ممن كان على جزء منها، كسائر المخلوقات غير الآدمية. وحتى لا يجهل الإنسان بعد ورود العلم عليه، فإن الله يُذكره بأنه قبل التعليم الإلهي له، لم يكن يعلم. ومعنى أنه لم يكن يعلم، هو أن صفاته في الأصل كلها عدمية؛ لأن ذاته أيضا عدمية. فما ظهر عليه من النور لتثبت صورته، ومن الصفات الإلهية من علم وقدرة وإرادة وكلام وسمع وبصر، بعد ذلك؛ فإنه بالأصالة لله لا له. فإن هو رأى ظهور شيء من ذلك عليه، فليعلم أنه من فضل الله عليه، وأنه ليس إليه. ولهذا أنكر الله على من ينسب العلم (أو غيره) إلى نفسه، كما في قوله سبحانه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص: 78]. والإهلاك في هذه المرتبة، هو الإعدام؛ أي الإعادة إلى العدم. ومن رحمة الله بعباده مما سوى الحيوانات، أنه لم يجعل ذلك الإهلاك متعلقا بالمظاهر نفسها (الذوات)، وإنما حصره في الصفات، وجعله إلى أمد محدود. وذلك كما أخبر سبحانه عن العبد في هرمه فقال: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]؛ فإعدام العلم هنا محصور في العلم ومثيلاته من الصفات، ولكنه محدود بالموت؛ فإذا مات العبد الهرم، عادت إليه صفاته فضلا من الله. يقول الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]؛ أي على صفات الكمال المتعلق به. ولقد كانت هذه الآيات الأولى من التنزيل، دالة على مرتبة العلم القرآني، الذي تفضل الله به على الإنسان؛ لتُنبّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن كل ما سيتلوها سيكون داخلا في العلم بالله. وذلك لأنه كما تعلق العلم الإلهي بعباده، فإن علم العباد يتعلق بربهم؛ علموا أم لم يعلموا. فكلٌّ من الحق والخلق، هو معلوم الآخر والعالم به. ومن هذا الباب قال أبو يزيد عليه السلام في مناجاته لربه: "مُلكي أكبر من ملكك!": يُريد أن يقول بذلك: "معلومي أشرف من معلومك". كل هذا من وجه، لا من كل وجه!... فليتحفّظ العبد، وليحرص على السير في النور!... وليعلم الناس أن هذا القرآن، ما كان لينزل على عبد غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولو فرضنا أنه نزل، فإن العبد المـُنزل عليه لن يُطيق ذلك، وسيتلاشى ظاهره وباطنه عند النزول. وقد أشار الله إلى هذا المعنى بقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]. والتصدع من خشية الله، هو المحو الذي يُدرِك العبد في جميع مراتبه. ولقد ضرب الله المثل للنفوس البشرية بالجبال، لأنها لا أصلب منها في المخلوقات المشهودة لها. ومن صلابتها أن جعلها الله أوتادا، يُمسك بها الأرض... والماسك لغيره، أولى به أن يكون له الثبات في نفسه (والإشارة هنا إلى الأنبياء السابقين عليهم السلام)؛ ومع ذلك فإن القرآن يذهب به لو أُنزل عليه. أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يتلقى القرآن بالله من مرتبة الذات. وهذا أمر مجهول لكل من عداه من الخلق، إلا بعض الأنبياء وبعض الورثة، فإنه يجعلهم صلى الله عليه وآله وسلم يذوقون شيئا من ذلك المقام، عندما يتّحدون به. ونعني بالاتحاد هنا، عودة حقائقهم الجزئية في ترقيها إلى حقيقته الكلية، فيعلمون منه به، ما يشاء لهم أن يعلموا. وهذه المرتبة هي التي دل عيسى عليه السلام عليها تلاميذه، مع أنهم كانوا أبعد الناس عنها؛ وكأنه من كرمه عليه السلام يقول لهم: اتحدوا بي، حتى إذا اتحدت أنا بالحقيقة المحمدية (أحمد)، فإنكم ستعلمون من الحق ما لا يخطر لكم على بال. ولقد أخلص -عليه السلام- النصيحة لأمته، لو أنهم كانوا يعلمون مراده. وها نحن هنا، نذكِّر من يزعمون أنهم مسيحيون، بأن الحق الذي كان يدل عيسى على الفناء فيه (في عيسى)، هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا غيره. ومن أراد منهم أن يعرف ذلك حقيقة، فليس له إلا أن يُجالسنا، لأنه بمجالستنا سيكون مجالسا للحق المذكور. وأما بقاء النصارى، على توهم كثرة "الأقفاص" الدينية المختلفة، والتي يتوهمون معها أنهم على الدين الحق وحدهم، فهو حرمان من صحبة عيسى نفسها عليه السلام. نقول هذا، ونحن بحمد الله أعلم بعيسى منهم، وأحرص على اتباعه في محمد صلى الله عليه وآله وسلم!... وأما الأمة الإسلامية، فإننا ندعوها إلى معرفة مرتبة نبيّها، وإلى معاملته صلى الله عليه وآله وسلم، بحسبها؛ لأنهم به شرفوا ونالوا المكانة عند الله، لا بأنفسهم، أو بشي مما يُنسب إليها... [1] . أخرجه مسلم في صحيحه. [2] . أخرجه الترمذي في سننه. [3] . متفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [4] . أخرجه مسلم. [5] . ذكره ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري بشرح صحيح البخاري". [6] . أخرجه البخاري في صحيحه. [7] . أخرجه أبو نُعيم في دلائل النبوة. [8] . أخرجه البخاري عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه. [9] . أخرجه أبو داود عن عائشة عليها السلام. [10] . أخرجه أبو يعلى في مسنده. |