![]() انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني ![]() ![]() Translated
Sheikh's Books |
![]()
2020/09/01
الحوار الغائب (ج3) -3-
ولادة النبي وطفولته يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ.»[1]. ولقد شاء الله، أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من ولد إسماعيل، ليظهر فضله على الناس أجمعين، وخصوصا على بني إسحاق من بني إبراهيم؛ لحكمة سنُثبتها في آخر الفصل بإذن الله. وقبل أن نذكر النسب الشريف، لا بد من العروج على بعض الأحداث المشهورة، وبعض الشخصيات، لدى العرب في زمن الجاهلية. 1. خالد بن سنان العبسي: ذكر ابن شبة في "تاريخ المدينة"، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أخبر، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَايِعُ النِّسَاءَ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تُبَايِعُهُ فَسَأَلَهَا: «بِنْتُ مَنْ أَنْتِ؟» فَقَالَتْ: أَنَا بِنْتُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ! فقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ بِنْتُ نَبِيٍّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ: أَمَرَهُمْ إِذَا هُمْ دَفَنُوهُ أَنْ يَنْبِشُوا عَنْهُ، فَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ حَيًّا؛ فَلَمْ يَفْعَلُوا. فَهَذِهِ ابْنَةُ نَبِيٍّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ!».[2]. وهكذا يكون بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم، نبي من العرب هو خالد بن سنان، عليه السلام. وأما من استشكل هذا، مع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الأَنْبِيَاءُ أُخْوَةٌ لِعِلاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى؛ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، ...»[3]؛ فليعلم أن سبب عدم اعتبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخالد بن سنان بينه وبين عيسى، هو تضييع قومه له؛ وكأن نبوته لم تكتمل في الزمان. وعلى كل حال فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بالأمر. وأما قول القائلين: إن الله لم يبعث من العرب إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، فهو غير صحيح؛ لأن الله قد بعث من العرب هودا عليه السلام، إلى قوم عاد؛ وبعث صالحا إلى قوم ثمود؛ وبعث إسماعيل إلى جرهم والعماليق واليمن؛ وبعث شعيبا إلى أهل مدين؛ ثم بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الناس كافة. 2. حاتم الطائي: وإليه ينتهي نسب شيخنا الأكبر ابن العربي عليه السلام، من جهة ولده عبد الله بن حاتم، لا من جهة الصحابي عدي بن حاتم؛ كما ذكر هذا ابن قتيبة في المعارف، والمقرّي في نفح الطيب. وإن في إيراده هنا، جمعا بين النسب الباطني المحمدي للشيخ الأكبر، وبين علم من أعلام العرب في الجود من حيث الظاهر؛ ليكون الظاهر باطنا للباطن. وعن عدي بن حاتم الصحابي، رضي الله عنه، قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا... قَالَ: «إِنَّ أَبَاكَ أَرَادَ أَمْرًا فَأَدْرَكَهُ.»[4]. والمعنى، هو أن العمل لا يكون عند الله معتبرا، حتى يكون على شرع من عنده سبحانه؛ وحاتم كان يعمل، لا على شرع. وأما ما أراده حاتم وأدركه، فهو السُّمعة والمحمدة. هذا من جهة الظاهر؛ وأما من جهة الباطن، فإن حاتما الطائي قد تخلق بأخلاق يحبها الله، فكانت له نسبا إلى الله؛ ظهر في خروج الختم المحمدي من نسله. وهذا أمر عظيم، لا يعلم قدره إلا الله ورسوله. وحتى ندرك جانبا من هذا الوجه الباطني، فلنعد إلى كلام لعلي بن أبي طالب عليه السلام، يقول فيه: «مَا أَزْهَدَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي خَيْرٍ! عَجَبًا لِرَجُلٍ يَجِيئُهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فِي الْحَاجَةِ، فَلا يَرَى نَفْسَهُ لِلْخَيْرِ أَهْلا. فَلَوْ كَانَ لا يَرْجُو ثَوَابًا، وَلا يَخْشَى عِقَابًا، لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يسَارِعَ فِي مَكَارِمِ الأَخْلاقِ؛ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى سُبُلِ النجاحِ!»[5]. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ: لَمَّا أَتَى بِسَبَايَا طَيّئ، وَقَفَتْ جَارِيَةٌ حَمْرَاءُ لَعْسَاءُ ذَلْفَاءُ عَيْطَاءُ، شَمَّاءُ الأَنْفِ، مُعْتَدِلَةُ الْقَامَةِ وَالْهَامَةِ، دَرْمَاءُ الْعَيْنِ، خَدِلَةُ السَّاقَيْنِ، لَفَّاءُ الْفَخِذَيْنِ، خَمِيصَةُ الْخَصْرَيْنِ، ضَامِرَةُ الْكَشْحَيْنِ، مَصْقُولَةُ الْمَتْنَيْنِ؛ قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا أُعْجَبْتُ بِهَا وَقُلْتُ: لأَطْلِبَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْعَلَهَا فِي فَيْئِي. فَلَمَّا تَكَلَّمَتْ، أُنْسِيتُ جَمَالَهَا، لِمَا رَأَيْتُ مِنَ فَصَاحَتِهَا؛ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ! إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُخَلِّيَ عَنَّا وَلا تُشْمِتْ بِي أَحْيَاءَ الْعَرَبِ، فَإِنِّي ابْنَةُ سَيِّدِ قَوْمِي؛ وَإِنَّ أَبِي كَانَ يَحْمِي الذِّمَارَ وَيَفُكُّ الْعَانِي، وَيُشْبِعُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعَارِي، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيُفْشِي السَّلامَ، وَلا يَرُدُّ طَالِبَ حَاجَةٍ قَطُّ: أَنَا ابْنَةُ حَاتِمِ طَيّئ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا جَارِيَةُ! هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا! لَوْ كَانَ أَبُوكِ مُسْلِمًا لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ. خَلُّوا عَنْهَا فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ؛ وَاللَّهُ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ.». فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ دِينَارٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلا بِحُسْنِ الْخُلُقِ!»[6]. وهذا يدل على ما ذكرناه، من جزاء الله لحاتم الطائي في ذريته. ونحن هنا لا نتكلم عن حكم الشريعة، وإنما نتتبع أحكام الحقيقة. وأحكام الحقيقة عاملة في أحكام الشريعة، لمن كان ذا علم؛ ولكن من وجه خفي. 3. عمرو بن لحي الخزاعي والأوثان: لقد وليت خزاعة أمر البيت، يتوارثون ذلك بينهم؛ حتى كان آخرهم حُلَيْلُ بنُ حُبْشِيَةَ بن سلول. واستمرت خزاعة على ولاية البيت ثلاثمائة عام، وقيل خمسمائة. ولقد كانت ولايتهم مشؤومة، لأنه في زمنها دخلت عبادة الأوثان الحجاز؛ وذلك بواسطة رئيسهم عمرو بن لحي، الذي كان أول داع إلى ذلك. قال ابن هشام: [حدثني بعض أهل العلم، أن عَمْراً بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق (ويُقال وُلد عمليق) بن لاوذ بن سام بن نوح؛ رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يُقال له هُبَل، فقدم به مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه. قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام؛ أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم، حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد؛ إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم؛ فحيثما نزلوا، وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة.]. فهذا أول عبادة الأوثان. ولقد كان العرب يعبدون إلى جانب هبل، اللات والعزّى ومناة. وأما عبادة الأصنام من جهة الحقيقة، فهي من تقييد معاني الأسماء الإلهية التي يعقلها المشركون؛ وهي في المثال السابق: الرازق (واهب المطر)، والناصر (على الأعداء). وهذا يعني أن العباد لا يعبدون من جهة حقيقتهم التي هي باطن قلوبهم، إلا الله. وبما أنهم كانوا يعقلون معاني الأسماء متفرقة، فيرون أن الرازق غير النصير وأن المحيي غير المميت، استبعدوا بسبب ظلمة قلوبهم أن يكون مُسمّى هذه الأسماء واحدا، وهو الله؛ فصاروا يعبدون الأسماء منفصلا بعضها عن بعض، وإن جمعوا بين بعض الأسماء في صنم واحد. وأما قول الله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فلا يعني أنهم كانوا يعقلون جمعية الاسم الله؛ بل كانوا يتصورون الله إلها أكبر، تحته آلهة أخرى. ويدل على هذا، قول الله قبل الذي سبق: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الزمر: 3]. ولقد غلط كثير من الفقهاء، في فهم نمط عبادة المشركين لله. والصنم، كما هو واضح، لم يكن مقصودا لذاته، كما يتوهم ذلك المسارعون إلى الاختزال والسطحية؛ وإنما كان يُتخذ محلا لمعاملة الاسم أو الأسماء المخصوصة به عند القوم. وذلك لأن عقول المشركين -وبسبب غلبة الحس- لم تكن تستطيع أن تعبد المعاني مجردة؛ فهي تستوي عندها حينئذ مع العدم. فكان لا بد من اتخاذ صور محسوسة، تُقيَّد بها الأسماء، وتُقصد فيها؛ ولم تكن إلا الأصنام المختلفة. ولقد كان الله يستجيب للمشركين من وراء صور الأصنام، عندما يعلم سبحانه أنهم يسألونه فيما يجلب لهم المنافع أو يدفع عنهم المضار. ولولا هذه الإجابة الخفية، ما كان المشركون ليستمروا على عبادتهم تلك؛ وهذا من مكر الله للعباد، لا بهم. وعلى هذا، فإن التوحيد الذي في مقابل الشرك، هو العلم بالمعبود، من جهة اتصافه بالمعاني المعبودة (الأسماء)، ومن جهة قيام الصورة المعبودة به؛ والتي هي عند الوثنيين صورة الصنم، وعند أهل الكتاب (ومنهم المسلمون) الحقيقة المحمدية أو الكلمة؛ في صورها المتعاقبة. وهي صورة معنوية عليا، تظهر في صور محسوسة سفلى. وأما قول الله تعالى عن الأصنام: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الرعد: 16]؛ فينفي به الضر والنفع عن الأصنام، لا عن الله الذي تقوم به. وهذا يصح، لا على مظاهر الأصنام وحدها، بل على كل المظاهر؛ وليس المشرك وحده، من يعبد الأصنام؛ ولكن من يعبد أي مظهر من المظاهر من دون الله، وإن كان المظهر نبويا. لكنّ بين عبادة صور الأنبياء والصور الأخرى فرقا، يعلمه من كان متبعا للنبي داخل زمنه التشريعي. ولقد عرفنا في الجزء الثاني من هذا الكتاب، أن شبه الجزيرة العربية قد دخلت إليها اليهودية والنصرانية تباعا، بعد مراحل الاضطهاد المعروفة. ورغم أن النصرانية لم تنتشر إلا بين نخبة من العرب كانوا يقرأون ويكتبون، فإنه ما من شك في بلوغ أخبارها وأحوال أهلها إلى الناس كافة. وأما اليهود، وبسبب اختلاط القومية لديهم بالدين، فإنهم بقوا مجتمعات منغلقة حيثما ذهبوا. ومن أهم ما يُذكر من أحوالهم قبل البعثة المحمدية، ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ . بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ . وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 89 - 93]. وهذا يعني أن اليهود -من جهة- كانوا على علم، بمبعث نبي آخر الزمان، وكانوا ينتظرونه لينتصروا به على المشركين، الذين هم في نظرهم أحط درجة من أن يتبعوا النبي المنتظر؛ ومن جهة أخرى، كانوا على وهم بأن يكون منهم؛ لاعتيادهم خروج الأنبياء منهم، ولاستبعادهم أن يخرج النبي من بين هؤلاء القوم المشركين. فلما جاء هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عربيا، كفرت اليهود به. وقد جاء في تفسير الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ذكر: "أَنّ يَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَرَبِ، كَفَرُوا بِهِ، وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ؛ فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ أَخُو بَنِي سَلمَةَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا! فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ، وَتُخْبِرُونَنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ. فَقَالَ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ أَخُو بَنِي النَّضِيرِ: مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا هُوَ بِالَّذِي كُنَّا نَذْكُرُ لَكُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}. وقد ألحق الله كفر اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باليهود السابقين، كما أوردناه من سورة البقرة: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ . وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ ليبيّن سبحانه، أن الكفر متأصل فيهم، وأن الإنكار للحق دأبهم؛ وهم قد فعلوا هذا مع أنبيائهم، قبل أن يفعلوه مع نبي من بني إسماعيل. فلا داعي لأن يتظاهروا، بأنهم لم يعرفوا صفاته المذكورة لديهم، وبأن علماء التنجيم لديهم لم يكونوا مترقبين لمبعثه... ولهذا السبب، حكمنا على اليهود الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بأنهم أكفر بموسى منهم بمحمد، وإن كانوا يزعمون أنهم يتّبعونه. وكيف لا يكونون أكفر به، وموسى لو كان حيا، ما وسعه إلا أن يكون تابعا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. ألم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا؛ فَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، أَوْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي»[7]. وأما التنصر فقد شمل بعض العرب، ومنهم ورقة بن نوفل الأسدي القرشي، ابن عم خديجة أم المؤمنين عليها السلام؛ والذي ذهب إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستفتيه فيما عرض له من بدء نزول الوحي. وسنعود إلى قصته في محلها، فيما بعد إن شاء الله. 4. أهل الفترة: ومن العرب طائفة تسمى أهل الفترة، وهم من كانوا على الفطرة، من دون أن يُدركوا نبيا يتبعونه، أو يعلموا شريعة يسلكون عليها. وأشهر هؤلاء، قس بن ساعدة الإيادي، الذي توُفي حوالي سنة 600م. غير أن من أهم أهل الفترة في رأينا، عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعبد الله أباه. وإنه يُذكر عن عبد المطلب أنه كان يتحنف بصيام رمضان كما يفعل المسلمون بعد التشريع. وهذا هو ما يليق بآباء وأجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكانة. ومعنى أن يكون المرء من أهل الفترة، هو أنه يُبعث أمة وحده من أهل التوحيد، ولا يُبعث مع المشركين. ويؤكد هذا المعنى حديث الاصطفاء الذي أوردناه في أول هذا الفصل، والذي يدل على أن الله اختار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأصلاب والأرحام من آدم إلى والديه المطهريْن، أطهرها وأبعدها عن سفاح الجاهلية. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا وَلَدَنِي مِنْ سِفَاحِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ! مَا وَلَدَنِي، إِلا نِكَاحٌ كِنِكَاحِ الإِسْلامِ!»[8]. وأما إن توقف متوقف في معنى اختيار الأصلاب والأرحام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليعلم أن ذلك حدث في علم الله، وقبل أن يخلق الله الخلق؛ لأنه في العلم قد عُلمت مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه الغاية من الخلق أجمعين؛ فنظر الاسم الحكيم فيمن هم أقرب في الطهارة إلى طهارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكبرى، فرتب ظهورهم تباعا في الزمان، ليكونوا حاملين للبذرة الشريفة؛ وهكذا كان. وأما حديث مسلم الذي جاء فيه عن أنس: "أَنَّ رَجُلًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ! فَلَمَّا قَفَّى، دَعَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ.»"؛ فإنه يتطلب تفصيلا. وقد ذكر بعض ذلك التفصيل الفقيه محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، في كتابه "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب". وسنذكر نحن بعضا مما أورده هو، ونزيد عليه: يقول رحمه الله: [[قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]: هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الله تعالى، لا يعذب أحدا؛ حتى يُنذره على ألسنة رسله، عليهم الصلاة والسلام. ونظيرها قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134]، وقوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131]، إلى غير ذلك من الآيات... ويؤيده تصريحه تعالى بأن كل أفواج أهل النار، جاءتهم الرسل في دار الدنيا، في قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك: 8، 9]، ومعلوم أن "كلما" صيغة عموم. ونظيرها قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71]، إلى قوله: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]. فقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، يعم كل كافر؛ لما تقرر في الأصول، من أن الموصولات من صيغ العموم؛ لعمومها كل ما تشمله صلاتها (...). ونظيره أيضا قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر: 37]، إلى قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]؛ فإنه عام أيضا، لأن أول الكلام: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} [فاطر: 36]؛ وأمثال هذا كثير في القرآن. مع أنه جاء في بعض الآيات، ما يُفهم منه أن أهل الفترة في النار، كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، فإن عمومها يدل على دخول من لم يُدرك النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك عموم قوله تعالى: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا} [آل عمران: 91]، إلى غير ذلك من الآيات... اعلم أولا أن من لم يأته نذير في دار الدنيا، وكان كافرا حتى مات، اختلف العلماء فيه [نقول: اختلاف العلماء في الغالب ناتج عن اختلاف المراتب، وهم لا علم لهم به؛ وقد يكون الاختلاف اختلاف وجوه، وهم قد لا يحيطون بكل وجوه المسألة لسبب من الأسباب]: هل هو من أهل النار لكفره، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير؟ (...) وسنذكر -إن شاء الله- جواب أهل كل واحد من القولين ونذكر ما يقتضي الدليل رجحانه؛ فنقول، وبالله نستعين: قد قال قوم: إن الكافر في النار، ولو مات في زمن الفترة. وممن يجزم بهذا القول: النووي في شرح "مسلم"، لدلالة الأحاديث على تعذيب بعض أهل الفترة. وحكى القرافي في "شرح التنقيح"، الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار؛ لكفرهم، كما حكاه عنه صاحب "نشر البنود". وأجاب أهل هذا القول عن آية {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وأمثالها من ثلاثة أوجه: الأول: أن التعذيب المنفي في قوله {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وأمثالها، هو التعذيب الدنيوي؛ فلا ينافي ثبوت تعذيب الآخرة. وذكر الشوكاني في تفسيره أن اختصاص هذا التعذيب المنفي بالدنيا دون الآخرة، ذهب إليه الجمهور. [نقول: وصرف معنى التعذيب إلى الدنيا دون الآخرة، ينبغي أن يكون بقرينة، وهي هنا ما يُصاب به أهل العناد من خسف وزلازل وطوفان، وغير ذلك؛ لكن من أهل التفسير مَن صرف المعنى إلى الآخرة، ومنهم الطبري؛ فإنه روى عن أبي هريرة موقوفا، أنه قال: "الذين ماتوا فـي الفترة، والـمعتوه والأصمّ والأبكم، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا، ثم أرسل رسولاً، أن ادخـلوا النار! فـيقولون: كيف ولـم يأتنا رسول؟ وأيـم الله لو دخـلوها لكانت علـيهم برداً وسلاماً. ثم يرسل إلـيهم، فـيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل. قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتـم {وَما كُنا مُعَذّبِـينَ حتـى نَبعَثَ رَسُولاً}."، والكلام هنا عن بعث رسول في الآخرة، إلى من لم يدركوه في الدنيا أو كانوا غير مؤهلين لتلقي خطابه]. واستظهر هو [يقصد الشوكاني] خلافه، ورد التخصيص بعذاب الدنيا بأنه خلاف الظاهر من الآيات المتقدمة -الدالة على اعتراف أهل النار جميعا بأن الرسل أنذروهم في دار الدنيا- صريح في نفيه. الثاني: أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} الآية وأمثالها، في غير الواضح، الذي لا يلتبس على عاقل. أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل، كعبادة الأوثان، فلا يُعذر فيه أحد؛ لأن جميع الكفار يُقرون بأن الله هو ربهم، وهو خالقهم ورازقهم؛ ويتحققون أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا دفع ضر. لكنهم غالطوا أنفسهم فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها شفعاؤهم عند الله، مع أن العقل يقطع بنفي ذلك [ونحن نخالفه من جهة باطن العقل، فيما يتعلق برؤية الضرر والنفع من الأصنام، كما أخبرنا آنفا؛ ومن جهة الفطرة التي سماها هو عقلا؛ وكان الأجدر الدلالة على الفطرة التي هي حال أصل الإيمان الذي يكون عليه الناس. فمن بقي على الفطرة، فإنه يكون من أهل الفترة، ولا يلحقه عذاب؛ أما من خرج عن فطرته بما يُدخله في الشرك، كعبادة الأصنام، فإنه يستجلب على نفسه العذاب بتعديه حدود الفطرة. ولقد فرقنا بين الفطرة التي يقول الله عنها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، والعقل؛ لأن العقل ليس معصوما، كما هي الفطرة. وكم من عاقل أخذه عقله، في سبل الضلال، من كل زمان. انتهى كلامنا]. الثالث: أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أُرسلوا قبله -صلى الله عليه وسلم- تقوم عليهم بها الحجة. ومال إليه بعض الميل ابن قاسم في "الآيات البينات". وقد قدمنا في سورة آل عمران، أن هذا القول يرده القرآن في آيات كثيرة مصرحة بنفي أصل النذير عنهم، كقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6]، وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة: 3]، وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46]، وقوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44]، إلى غير ذلك من الآيات... [ ونحن نقول: إن مسألة اعتبار شرع كل رسول، هي متعلقة بما نسميه "الزمن التشريعي للرسول". ونعني من هذا، أن شريعة موسى، ينتهي زمنها بحسب الظاهر والباطن، بمبعث عيسى عليه السلام؛ وينتهي زمن التشريع العيسوي بحسب الظاهر والباطن، بمبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى هذا، فإن من يزعم أنه متبع للشريعة في غير زمانها، وإن كان على علم بها، لا يُعتبر مُدركا للنذارة التي ينبني عليها حكم انتفاء العذاب عنه في الآخرة. وهذه مسألة، ما كان ينبغي للفقهاء إغفالها.] وأجاب القائلون بأن أهل الفترة معذورون عن مثل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113]، إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، من الآيات المتقدمة، بأنهم لا يتبيّن لهم أنهم من أصحاب الجحيم، ولا يُحكم لهم بالنار، ولو ماتوا كفارا، إلا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان، كأبي طالب [نقول: من أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أدرك زمنه التشريعي، لا يُعد من أهل الفترة من الأصل؛ وعلى هذا فإن أبا طالب ليس منهم. وتسمية "أهل الفترة"، لا تنطلق إلا على من كان في زمان فراغ تشريعي حكما؛ وهو في الغالب نهاية الزمن التشريعي السابق للشريعة الجديدة.]. وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى. واعترض هذا الجواب، بما ثبت في الصحيح من دخول بعض أهل الفترة النار، كحديث «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ»، الثابت في صحيح مسلم، وأمثاله من الأحاديث. واعترض هذا الاعتراض، بأن الأحاديث وإن صحت، فهي أخبار آحاد؛ يُقدَّم عليها القاطع، كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]؛ [قلنا: وهو مذهبنا]. واعترض هذا الاعتراض أيضا، بأنه لا يتعارض عام وخاص؛ فما أخرجه حديث صحيح خرج من العموم، وما لم يُخرجه نص صحيح بقي داخلا في العموم. [قلنا: وهو معنى التخصيص في مقابل العموم]. واعترض هذا الاعتراض -أيضا- بأن هذا التخصيص، يُبطل علة العام؛ لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف، وصرح بأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذَّب بإنذار الرسل في دار الدنيا؛ وبيّن أن ذلك الإنصاف التام، علة لعدم التعذيب. فلو عذب إنسانا واحدا، من غير إنذار، لاختلت الحكمة، ولثبتت لذلك المعذَّب الحجة التي بعث الله الرسل لقطعها، كما صرح به في قوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. وهذه الحجة بيّنها في سورة طه بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} [طه: 134]، الآية؛ وأشار لها في سورة القصص بقوله: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} [القصص: 47]، إلى قوله: {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]. وهذا الاعتراض الأخير، يجري على الخلاف في النقض: هل هو قادح في العلة أو تخصيص لها؟ وهو اختلاف كثير، معروف في الأصول...][نقول: إن الفقهاء لا يعلمون معنى العدل المنسوب إلى الله، ويقيسونه على ما يعلمونه في العادة؛ والحقيقة هي أن الله عدل في عدله، وفي فضله؛ وذلك بحسب مراتب العدل من الحق.]]. (انتهى النقل). وأما قولنا في المسألة باختصار، فهو: ا. نحن في أحكامنا الفقهية، نعتبر المراتب والحضرات؛ التي يصدر منها الكلام سواء أكان قرآنا أم حديثا. والفقهاء -بالمعنى الاصطلاحي- لا خبر لهم، عن هذه المراتب والحضرات، وعن تأثيرها في الأحكام؛ وبذلك يبقى حكمهم قاصرا، وإن كان معفوا فيه عن الخطأ، إن استُفرغ الوُسع، كما هو معلوم. ب. إن الحكم على فلان من الناس بالجنة أو بالنار، هو متعلق أولا بمرتبة المشيئة؛ والمشيئة حكمها أعم من حكم الشريعة. وإلى المشيئة يعود قول الله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. والفقهاء -من دون أن يعلموا- يسألون الله عما يفعل، باستنادهم إلى الأحكام الشرعية الجزئية الواردة في القرآن أو في السنة، عند تفصيلهم القول في استحقاق العذاب؛ لأنهم لا يفرقون بين مرتبة المشيئة ومرتبة الربوبية المشرعة للأحكام. وهذا يعني أن إثبات الحكم لشخص بعينه بالعذاب أو بالمغفرة، لا يجوز، وإن دلت القرائن عليه من جهة الإجمال. وهو يُشبه من وجه القول بالإرجاء، لكن مع زيادة تفصيل. وقد دل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على هذا الأصل فيما رواه عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بقوله: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: فُلاَنٌ شَهِيدٌ، فُلاَنٌ شَهِيدٌ!... حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلاَنٌ شَهِيدٌ!... فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلاَّ! إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ، فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا، أَوْ عَبَاءَةٍ! ... »[9]. وهذا يعني أن الحكم على الناس بنيل المراتب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يصح إلا من جهة الكشف. وأما الحكم الفقهي المعتاد، فينبغي أن يبقى على أصل طلاقة المشيئة؛ خصوصا وأن حديث: «... فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا.»[10]؛ يدل على أثر ما يُختم به للعبد من عمل. وهذا مما لا يعلمه إلا الله، إن كان العمل مما يخفى عن الناس، أو مما يتعلق بالقلب (أعمال الباطن). وعلى كل حال فالمسألة ذات تشعيبات، ونحن إنما أردنا الدلالة على أصلها فحسب. ج. إن الفقهاء يقطعون بعمل العلة في المعلول، وهو أمر صحيح فيما يتعلق بالأحكام الشرعية الجزئية؛ لكنهم يجهلون خروج المشيئة عن حكم العلّة. ونحن عندما نذكّر باعتبار المشيئة، فإنما ندل على أصل الأحكام التي يحكم بها الله على عباده. وهو سبحانه يحكم بمشيئته، مع اعتبار شريعته أو من دون اعتبارها؛ لأن أحكام الشريعة، جُعلت ليخضع لها العبد؛ وأما الله فيتعالى أن يحكم عليه شيء، وإن كان شرعه ذاته. فإن تنزل سبحانه لعباده، والتزم معهم بعهده بينه وبينهم، فهو من باب فضله عليهم، لا من باب استحقاقهم؛ لأنه لا استحقاق لأحد على الله. وإلى هذا المعنى يُشير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ! قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟، قَالَ: لَا، وَلَا أَنَا؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ.»[11]. فإن لم يكن للنبي استحقاق دخولِ الجنة، فلمن يكون بعده يا ترى؟!... وعلى الفقهاء، أن يصححوا أصولهم التي يبنون عليها أقوالهم، لأنهم في كثير منها يخالفون صريح قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ونحن وإن كنا نرجو لهم العفو من الله عن قصورهم، فإننا نرجو لهم أيضا، أن يتداركوا ذلك القصور. د. الله متصف بالعدل على كل حال: سواء أعذب، أم تجاوز؛ والفقهاء عليهم أن يُنزهوا الله عن صفة العدل بحسب إدراكهم؛ لأنها تدخل تحت قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]؛ ونعني بذلك أن مـُدركَهم من صفة العدل الإلهي، هو وصفهم الذي يصفون الله به، لا الصفة التي يتصف الله بها في ذاته. وبخصوص العدل الإلهي، يقول الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 40]. والمعنى أنه إن شاء عذب المستحق وغير المستحق (بحسب ظاهر الأمر)، وإن شاء غفر للمستحق ولغير المستحق. وذلك لأنه سبحانه يعلم مِن المطيعين، معاصي لا يعلمها كتبة الملائكة منهم؛ فإن آخذهم بها عذبهم؛ ويعلم من العصاة طاعات، لا يعلمها الملائكة الكتبة؛ فإن شاء أن يثيبهم عليها، غفر لهم بها. بل إن الله قادر على أن يعذب وأن يغفر من دون سبب، لذلك يختم سبحانه الآية بقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40]. فإن فعل، فإنه يكون منه سبحانه عدلا. وحتى يُدرك القارئ ما نقول: فعليه أن يعلم أن صفة العدل لازمة لفعل الله كيفما كان؛ وليست مشروطة له، كما هي مشروطة لأفعال العباد. ومن لم يميّز مرتبة الرب من مرتبة المربوب، فما شم للعلم رائحة!... 5. حادثة الفيل: ذكرت كُتب السيرة أن أبرهة الحبشي، كان نائباً للنجاشي على اليمن؛ فرأى العرب يحجون إلى الكعبة ويعظمونها، فلم يرُق له ذلك وهو النصراني. فأراد أن يصرف الناس عنها، فبنى كنيسة كبيرة بصنعاء، ليحج الناس إليها بدلاً من الكعبة. فلما سمع بذلك رجل من بني كنانة دخل الكنيسة ليلاً، ونجّسها. فلما علم أبرهة بذلك سأل عن الفاعل، فقيل له: صنع هذا رجل من العرب، من أهل البيت الذي تحج العرب إليه بمكة. فغضب أبرهة، وحلف أن يذهب إلى مكة ليهدمها. فجهَّز جيشاً كبيرا، وانطلق قاصداً البيت العتيق يريد هدمه، وكان من جملة دوابهم التي يركبون عليها الفيل -الذي لا تعرفه العرب بأرضها- فأصاب العربَ خوفٌ شديد، ولم يجد أبرهة في طريقه إلا مقاومة يسيرة من بعض القبائل العربية التي تُعظم البيت؛ أما أهل مكة، فقد تحصنوا في الجبال ولم يقاوموه. وجاء عبد المطلب يطلب إبلاً له أخذها جيش أبرهة في طريقه، فقال له أبرهة: كنتَ قد أعجبتني حين رأيتُك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني؛ أتكلمني في مائتي بعير أخذتها منك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئتُ لهدمه، لا تكلمني فيه؟! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً يحميه!... فقال أبرهة: ما كان ليمتنع مني! قال عبد المطلب: أنت وذاك!... وأنشد يقول: لاَهُمَّ إنَّ العبْدَ يَمْنَعُ رَحْلَــهُ فامْنَعْ رِحَالَــكْ لاَ يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ وَمِحالُهُمْ عَدْواً مِحالَــــكْ إِنْ كُنْتَ تارِكَهُمْ وَقِبْلَتَنــــا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ ولنلاحظ التوحيد الذي عليه عبد المطلب، والذي يؤكد سلامة فطرته من شوائب الشرك. ولنؤكد على أنه كان على علم بدين النصرانية، وبانحرافه لدى النصارى؛ وهذا أمر، يخرج عن معتاد الفطرة، إلى نور العلم؛ كما لا يخفى. وهو من توفيق الله له، عناية بحفيده محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأما قريش ففروا من أرض الحرم إلى رؤوس الجبال، يحتمون بها، ويترقبون ما الذي سيحل بأبرهة وقومه. فلما أصبح أبرهة، عبّأ جيشه، وهيّأَ فيله لدخول مكة؛ فلما كان في وادي محسّر-بين مزدلفة ومنى- برك الفيل، وامتنع عن التقدم نحو مكة. وكانوا إذا وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق انقاد لذلك، وإذا وجهوه نحو الكعبة برك وامتنع. وبينما هم على هذه الحال، إذ أرسل الله عليهم طيراً أبابيل (ومعنى أبابيل: يتبع بعضها بعضاً) مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجر في منقاره وحجران في رجليه؛ لا تصيب منهم أحداً، إلا تقطعت أعضاؤه وهلك. وأما أبرهة فقد أصابه الله بداء، تساقط بسببه لحمه وأنامله؛ فلم يصل إلى صنعاء، إلا وهو مثل فرخ الحمام؛ وانصدع صدره عن قلبه فهلك شر هلكة. وقد أخبر الله تعالى بذلك في كتابه فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ . أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ . وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ . تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ . فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1 - 5]. وقد حدثت هذه الواقعة، في شهر المحرم قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين يوما تقريبا؛ وهو يوافق فبراير سنة 571م. ولم يلبث خبرها أن وصل إلى معظم أرجاء المعمورة المتحضرة في ذلك الزمن: فالحبشة كانت ذات صلة قوية بالرومان؛ والفرس كانوا لهم بالمرصاد، يترقبون ما ينزل بهم وبحلفائهم. وهاتان الدولتان، كانتا تمثلان العالم المتحضر في ذلك الزمان؛ كما سبق أن رأينا في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وكان من النتائج المباشرة لهذه الواقعة، التفات أنظار العالم إلى شرف هذا البيت ومكانته. 6. النسب الشريف والولادة: [هو مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ المـُطَّلِبِ، واسْمُ عَبْدِ المـُطَّلِبِ شَيْبَةُ، بْنِ هَاشِمِ وَاسْمُهُ عَمْرُو، بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ، بْنِ قُصَيٍّ وَاسْمُهُ زَيْدُ، بْنِ كِلاَبِ بْنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بنِ مَالِكِ بْن النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.]؛ هذا هو المجمَع عليه، وما فوق عدنان ليس فيه شيء ثابت، لطول العهد. وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- بإجماع الناس. وأما أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي؛ وأمّها هي برّة بنت عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب. وقد وضعت آمنةُ النبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- في شهر ربيع الأول من عام الفيل؛ وقيل إنّ والده كان متوفًّى حينئذٍ. وقد قيل تُوفّي في مرضٍ أصابه وهو ذاهبٌ إلى المدينة يمتار تمراً؛ وقيل كان في تجارةٍ إلى الشام حين أصابه المرض فمات؛ وقيل في روايةٍ أخرى أنّ عبد الله والد النبيّ تُوفّي بعد شهرين من ولادة النبيّ عليه السّلام. ولنتأمل الاسم الذي سماه الله لأم نبيّه على لسان والديْها، والذي هو "آمنة"، لنعلم مكانتها، وعدم لحوق العذاب بها في الدنيا والآخرة. وأما من يذكر هنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها -عليها السلام-: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي.»[12]، فإننا نقول له: إن معنى الحديث متعلّق بحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ربه؛ وهو عليه السلام عبد تام، يحب بحب الله ويبغض ببغضه؛ ولا أثر لخصوصيات نفسه الشريفة، في كل ذلك. فجاءه الجواب الإلهي من باطنه الشريف، بحسب حاله: وهو أن لا يستغفر لها، ومع ذلك يزورها. ونحن نستنبط من هذا، أنها عليها السلام مغفور لها؛ ولولا ذلك، لم يأذن الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بزيارتها. فهل يكون له آذنا بالزيارة، وهي في عذابها؟!... تعالى الله عن هذا علوا كبيرا!... وأما هل علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما نذكره نحن هنا؟ فنعم، وبالتأكيد!... لكنه صلى الله عليه وآله وسلم، من شدة هضمه لنفسه في حضرة ربه، آثر أن يُبقي ذلك في الغيب، إلى أن يُظهره الله للناس في الآخرة؛ إمعانا منه في أمانة التبليغ، وحتى يقطع وهم أثر الأنساب فيما يدخل تحت حكم الشرع. وحتى يُدرك عنا قومنا ما نقول، ينبغي أن يفهموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لمكانته الفريدة، فإنه كما له تأثير في ذريته وأهل بيته بعده، فله تأثير أيضا في أسلافه. ونحن نرى من التأثير في الأهل قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]؛ والمعنى أوضح من أن يُستجلى. وأخرج الطبري في تفسيره عن أبي الديلم قال: [لما جيء بعليّ بن الحسين رضي الله عنهما أسيراً، فأقيم على درج دمشق؛ قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قُربى الفتنة! فقال له عليّ بن الحسين رضي الله عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم! قال: أقرأت الـ "حم"؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ الـ "حم"؟! قال: ما قرأت: {قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجراً إلاَّ المـَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}؟ قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم!]. ثم يضيف الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا، فكأنهم فخروا؛ فقال ابن عباس، أو العباس، شكّ عبد السلام: لنا الفضل عليكم! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم في مجالسهم، فقال: «يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أَلَمْ تَكُونُوا أذِلَّةً فأعَزَّكُمُ اللّهُ بِي؟» قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: «أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَداكُمُ اللّهُ بِي؟» قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: «أفَلاَ تُجِيبُونِي؟» قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: «ألا تقولونَ: أَلَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فآوَيْناكَ، أوَ لَمْ يُكَذّبوكَ فَصَدَّقْناكَ، أوَ لَمْ يَخْذُلُوكَ فَنَصَرْناكَ؟» قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله. قال: فنزلت {قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}.] ويضيف الطبري عن أبي العالية، عن سعيد بن جُبير، في قوله: {قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاَّ المـَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} قال: هي قُربى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما أثر الشرف في الخلف، فإنه أثر في السلف؛ فلا يتصل به صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة الولادة المباشرة، إلا كل طاهر وطاهرة. ألم يسأل الناس أنفسهم، لمَ نالت مريم عليها السلام الصديقية والبركة في العالمين، لولا أمومتها للمسيح عليه السلام؟... أتُعتبر أمومة مريم عليها السلام، ولا تُعتبر أمومة آمنة عليها السلام؟!... أي قسمة هذه؟... أبلغت عبودية نبينا صلى الله عليه وآله وسلم التامة، أن تحجب أمته، عما هو من الفضل ثابت لمن هم دونه في المرتبة؟!... اللهم صل على محمد وآل محمد كما تحب وترضى!... وأما من يذكر في هذا المقام أبا طالب وامتناعه -بحسب أحد الأقوال- عن الشهادة بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عمه أبا لهب الذي خُلِّد الحكم عليه بالعذاب في القرآن، أو الكفرة والفسقة من أهل النسب الشريف في الظاهر، فليعلم أن ذلك من حكم المشيئة، من باطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو له ذلك من توابع مرتبته (الخلافة الأصلية). وعلى كل من يستعظم قولنا، أن ينظر في قول الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]؛ فإن كانت مشيئة كل العباد من مشيئة الله، فما القول في مشيئة الله ذاته من مظهر الخلافة الأكبر!... وأما أبوه صلى الله عليه وآله وسلم، فهو عبد الله؛ وقد سماه الله بهذا الاسم الشريف، الذي سيتحقق بمقامه الابن محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة؛ وهو من يقول عنه ربه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]. وكيف بعدُ يكون من سماه الله عبد الله، عُرضة للشرك وظلمته!... أفلا يعقل المسلمون عن ربهم؟... ولقد كانت ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجرَ الاثنين الثَّاني عشر من ربيع الأول، من عام الفيل (حواليْ العشرين من أبريل سنة 571م) في دارِ عقيل بن أبي طالب. وإن ولادته في منتصف الربيع، تدل على إصابته من اعتدال الطبيعة، ما سينضاف إلى اعتدال الحقيقة والروحانية؛ ليكون في أحسن تقويم، كما ذكر الله عن حقيقته المسماة إنسانا، في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. ومع أن الشخص النبوي، قد جرى عليه ما جرى على كل النازلين من مرتبة الحقيقة، إلى عالم الطبيعة من التسافل؛ إلا أنه لخصيصته عند الله، بقي على مرتبة أحسن تقويم، عناية من الله به. ولكن ظهور كماله -صلى الله عليه وآله وسلم- سيتدرج بحسب مراحل نموه؛ حكمة من الله. ولنكمل ما كنا بصدده من أحداث الولادة الشريفة، فنقول: وكانت قابِلَتُه "الشفاء" أم عبد الرحمن بن عوف، فسقَطَ ساجداً بينَ يَديها، ثمَّ رَفَعَ رأسهُ وأصبعيهِ إلى السَّماء. وقد سَبَقَت ولادتَه رؤى لأمِّه آمنة بنت وهبٍ: "كَانَتْ تُحَدِّثُ أَنَّهَا أُتِيَتْ فِي مَنَامِهَا لَمَّا حَمَلَتْ بِرَسُولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقِيلَ لَهَا: إِنَّكِ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ بِالْأَرْضِ قُولِي أُعِيذُهُ بِالْوَاحِدِ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ، ثُمَّ سَمِّيهِ مُحَمَّداً." وكانت تَصِفُ حملَها فَتنفي عنهُ الشُّعور بما تَشعُر به النِّساء إذا حملن: فليسَ في حملِها تعبُ النِّساء ولا ما يَجدنهُ من ألمٍ وضعف. ومن ذلك أنَّها رأت أثناءَ حملِها بهِ كأنَّ نوراً خَرَجَ منها فأنارَ لها حتَّى رأت قُصورَ بُصرى من أرضِ الشَّامِ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أخبرت جَدَّه عبد المطَّلِبِ بأمرِهِ، فأخذهُ فدَخَلَ بهِ إلى الكعبةِ وعوَّذهُ ودعا له، ثمَّ أسماهُ محمَّداً؛ ليدل اسمه على مرتبته التي هي واسطة بين الحق والخلق، ومحمودة من كليهما (محمد: منتهى المبالغة في صيغ الحمد). وعن رؤيا أمه، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ. وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ: دَعْوَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةِ عِيسَى قَوْمَهُ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ. وَكَذَلِكَ تَرَى أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.»[13]. وكما أثرت روحانية عيسى عليه السلام، امتناعَ أبوة رجل من الناس له؛ كذلك أثرت مرتبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفاة والده قبل ولادته (عندنا)، وبمجرد انتقال البذرة الطاهرة، إلى الرحم الطاهر؛ وكأنها أمانة أداها وانتقل إلى ربه، عليه السلام؛ ليدل الحال، على تولي العناية الإلهية الخاصة أمر المولود الشريف، من وراء العادة. وأثرت المرتبة أيضا في الوالدة آمنة عليها السلام، بالموت في الطفولة المبكرة للمولود الشريف؛ وبعد إمداده بمدد الأمومة الضروري عادة. قال ابن إسحاق: [فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتاً حسناً؛ لما يريد به من كرامته. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين، توفيت أمه آمنة بالأبواء بين مكة والمدينة. وكانت قد قدِمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة إلى مكة.]. وأول مرضعة أرضعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانت ثُوَيْبَةَ أمة عمه أبي لهب. وأما أشهر مرضعاته، فهي حليمة بنت أبي ذُؤَيْب السعدية. ومن باب الإشارة، فإن اسم حليمة من "الحلم" الذي هو صفة إلهية، لا بد للخليفة الأصلي من أن يتصف بها، ليتمكن من التصرف في المملكة الإلهية الكبرى، بما يُعطيه وُسع الخَلق على اختلاف مشاربهم. ويُقاس الرضاع من جهة المعنى على الاستمداد من حضرة الحقيقة، لجميع الصفات على الترتيب الموجود في الحكمة. وبما أن هذه الفترة كانت بالنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تُشبه بداية سلوكه الخاص إلى ربه، فإنه قد حدث فيها ما يُجمع عليه أهل السير من [أنه بمجرد حلول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حليمة لإرضاعه ورعايته، امتلأ ثديها باللبن؛ فارتوى منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابنها، بعد أن كان يبكي من الجوع لجفاف ثدي أمه، وبعد أن كان لا ينام هو وأهله. وامتلأ ضرع ماشيتها باللبن بعد أن كانت يابسة، وأصبحت راحلتها نشطة قوية تسير في مقدمة الركب، بعد أن كانت عاجزة تسير في مؤخرته. وحيثما حلت أغنام حليمة تجد مرتعاً خصْباً فتشبع، ولا تجد أغنام غيرها شيئا مثل الذي تجد هي. وهذا كله من مدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان ينمو نمواً سريعا، لا يشبه نمو الغلمان. وبسبب البركة التي أصابت حليمة وأهلها، تحايلت حليمة لإقناع والدة النبي -صلى الله عليه وسلم- بضرورة رجوعه إلى البادية بحجّة الخوف عليه من وباء مكة. وقد أحب أهل بيت حليمة هذا الطفل المبارك، وأحسنوا معاملته ورعايته وحضانته، حتى كانوا أحرص عليه وأرحم به من أولادهم.]. ومن باب الإشارة أيضا، فإن نسبة حليمة إلى بني سعد، تدل على سعادتها وسعادة أهلها وقبيلتها، التي ستنالهم ببركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو بعد حين. وفي هذه الفترة وقعت حادثة شق الصدر (والنبي ابن أربع)، والتي مفادها: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ؛ ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ (يَعْنِي ظِئْرَهُ)، فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ! فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ."[14]. ولنستخلص من هذه الحادثة ما يلي: ا. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خضع لعملية جراحية غيبية؛ استأصل فيها جبريل عليه السلام (المـُشرف على تربيته من جهة الحكمة والظاهر) حظ الشيطان من القلب الشريف. وحظ الشيطان من كل قلب، هو الحقيقة التي تمكنه من الوحي للعباد بوحيه فيما بعد. وبهذه العملية، يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، معصوما من إلقاء الشيطان طيلة عمره الشريف. وهذا تهييئ من الله له، حتى يتقبل الوحي الإلهي الذي سينزل عليه، من دون تطرق شبهة اختلاط غيره به. ب. إن ظهور الجرّاح وظهور الأعوان من الملائكة، والآنية والماء، لا يعني أن العملية غيبية صرف؛ لأن أثرها سيظهر على البدن الشريف، كما يظهر أثر خياطة الجروح بعد العمليات الجراحية المعهودة. وهذا تأكيد لوقوعها، وتأكيد لنتائجها وآثارها. ج. نحن لا نتكلم عن إيمان محض هنا؛ لأن تلاميذنا قد عاينوا مثل هذه العمليات الغيبية، لإخوانهم، وهم في جلسة الذكر الجماعي. وظهرت على من أُجريت له العملية آلامُ ما بعد الجراحة، في العضو المعالَج. فإن كان هذا يقع لنا نحن الورثة، فإن الموروث -صلى الله عليه وآله وسلم- أصلٌ في كل ما يظهر من خير على وارثيه من غير شك؛ وهو يزيد عليهم بأمور يختصه الله بها، لا يعلم عددها ولا قدرها إلا الله وحده. ولهذا، فينبغي للمؤمنين أن يُوسِّعوا إدراكهم، وأن يستعدوا لقبول المدد النبوي في كل الأزمنة، لئلا يكونوا من المحرومين. ويقول ابن إسحاق: [وبعد عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من البادية، كان مع جده عبد المطلب. وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول ذلك الفراش، حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جَفْر حتى يجلس عليه؛ فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب، إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأناً. ثم يجلسه معه عليه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع. وعن كندير بن سعيد، عن أبيه، قال: حججت في الجاهلية، فبينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل يقول: رد إليّ راكبي محمدا اردده رب واصطنع عندي يدا قال: قلت: من هذا؟ قال: عبد المطلب بن هاشم، بعث ابن ابنه في إبل له ضلت، وما بعثه في شيء إلا جاء به. قال: فما برحتُ حتى جاء بالإبل معه. قال: فقال: يا بني حزنت عليك حزناً لا يفارقني بعده أبدًا. قالوا: وكانت أم أيمن تحدث تقول: كنت أحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغفلت عنه يومًا، فلم أدْرِ إلا بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول: يا بركة! قلت: لبيك، قال: أتدرين أين وجدت ابني؟ قلت: لا أدري، قال: وجدته مع غلمان قريباً من السدرة؛ لا تغفلي عن ابني! فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم. وكان لا يأكل طعامًا إلا قال: عليّ بابني، فيؤتى به إليه.]. قال الزهري: [سمعت أمي رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف تحدث – وكانت لدة عبد المطلب- قال: تتابعت على قريش سنون ذهبن بالأموال، وأشفين على الأنفس؛ قالت: فسمعت قائلاً يقول في المنام: يا معشر قريش، إن هذا النبي المبعوث منكم –وهذا إبان خروجه- وبه يأتيكم بالحيا والخصب؛ فانظروا رجلاً من أوسطكم نسباً، طوالًا عظامًا، أبيض، مقرون الحاجبين، أهدب الأشفار جعدًا، سهل الخدين رقيق العرنين؛ فليخرج هو وجميع ولده، وليخرج منكم من كل بطن رجل، فتطهروا وتطيبوا ثم استلموا الركن، ثم ارقوا إلى رأس أبي قبيس ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقي وتؤمنون، فإنكم ستسقون. فأصبحتْ فقصت رؤياها عليهم، فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبد المطلب؛ فاجتمعوا إليه، وخرج من كل بطن منهم رجل، ففعلوا ما أمرَتْهم به؛ ثم علوا على أبي قبيس ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فتقدم عبد المطلب وقال: لَاهُمَّ، هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك، وإماؤك وبنات إمائك، وقد نزل بنا ما ترى، وتتابعت علينا هذه السنون، فذهبت بالظلف والخف، وأشفت على الأنفس؛ فأذهب عنا الجدب، وائتنا بالحيا والخصب! فما برحوا حتى سالت الأودية، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم سقوا.]. ونحن نقول، إن مدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجده في الدعاء واضح، وكأنه عليه السلام ينطق على لسانه؛ لا يخفى ذلك، على من له إلف بكلامه. ولقد مررنا فيما تقدم، بحديث العرباض بن سارية؛ ولا بأس من تناوله الآن بقليل من التفصيل. - يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ»: وقد ذكرنا، أن عبد الله هو عبد الاسم الله، الذي يتصف من جهة حقيقته بالألوهية. وهذا، هو ما كنا قد بيّنّاه في حق عيسى ومَن قبلَه من الأنبياء عليهم السلام؛ وذكرنا أن هذه المرتبة لهم بالنيابة عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو صاحبها بالأصالة، قبل أن يخلق الله مَن سواه من الخلق. ومن كان عبدا للاسم الله، فإنه يكون قطب رحى الوجود، بسبب دوران جميع الأسماء عليه. وهذه المرتبة، هي التي يرثها الأغواث من هذه الأمة أيضا، ليكونوا فيها مقابلين للأنبياء السابقين. - ثم يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «فِي أُمِّ الْكِتَابِ»: وأم الكتاب، هي الحقيقة المحمدية، التي كانت أول التعيُّنات الذاتية في مرتبة الواحدية. والكتاب، هو الوجود (الإمكان المشهود) المتكثر بكثرة الأسماء الإلهية. - وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ»: فيعني به أن النبوة كلها تعود إليه، من مرتبة أوليته. ولهذا كان الله الحكيم يصفه بها بصيغة التعريف، فيقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 64]، في مواضع كثيرة من القرآن، منها هذا؛ ولا يناديه باسمه الشخصي كما نادى آدم ونوحا وإبراهيم وغيرهم. ويؤيد هذا الذي نقوله عن ختم النبوة، ما ذكرناه في الفصل السابق، فيما يتعلق بأخذ الله الميثاق على النبيّين. - ثم يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ»: أي، كنت نبيا جامعا للنبوة، قبل خلق آدم، الذي هو أبوه، من جهة التراب. وأما الحقيقة المحمدية، التي عنها الكلام هنا، فهي الصورة الإلهية الأصلية، التي خُلق عليها آدم، كما جاء في حديث: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»[15]. لذلك كنا نقول نحن: إن آدم هو صورة الصورة. وهذا يعني أن الزمان الذي وُلد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو أشرف الأزمنة على الإطلاق؛ لأنه زمن تجلّي الله في الأرض بأكمل صوَره. ولو كان أهل الكتاب يعلمون أن صورتيْ موسى وعيسى هما وجهان من وجوه محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحسب، لسبقوا إليه المشركين؛ ولكنهم حُجبوا بالبعض عن الكل، كما يحدث مرارا مع العقول القاصرة. - وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ»: فمعناه أني سأبيّن لكم دلائل ذلك؛ أي دلائل مرتبتي الفريدة. - والدليل الأول، قوله عليه الصلاة والسلام: «دَعْوَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ»: والمقصود منها، قول الله تعالى على لسان إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]. ويعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بذكره لدعوة أبيه إبراهيم، أن إبراهيم كان على علم بمرتبته؛ وأنه رغم كونه أبا لمحمد من جهة الطينية، كآدم؛ فإنه ابنه من جهة الحقيقة؛ وأن نبوته فرع من نبوته الأصلية الكبرى. ودعوة إبراهيم، ببعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة الدلالة، هي إخبارية لا إنشائية. ونعني بهذا، أن إبراهيم لما علم أن الله سيبعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، دعا بذلك؛ لينال أجر الدعاء، وليبقى له شرف النسبة الظاهرة فحسب؛ ولم يكن بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن دعوته بالأصالة، كما قد يُفهم من معنى الدعاء مطلقا. وإن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الدعوة، هو منه كرد السلام على أبيه إبراهيم. وهذا المعنى هو ما تشير إليه الصلاة الإبراهيمية، مع تفاصيل أخرى، ليس هذا محل ذكرها. - والدليل الثاني، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَبِشَارَةِ عِيسَى قَوْمَهُ»: وهي تُشبه دعوة إبراهيم، من الوجوه التي ذكرنا. ولولا علم عيسى بالحقيقة المحمدية، ما بشر بصاحبها صلى الله عليه وآله وسلم. وحكم البشارة، هو ترقب الاكتمال؛ لذلك فإن النصارى الذين لا يتبعون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، سينقطعون عن عيسى عليه السلام فورا. - وأما الدليل الثالث، فقوله عليه الصلاة والسلام: «وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَكَذَلِكَ تَرَى أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ»: ومعنى رؤيا آمنة عليها السلام، أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، هو أن الله قد عرّفها بمرتبة مولودها، لتكتمل بمعرفتها مرتبة سعادتها. وبلوغ النور لقصور الشام، لا يُفهم منه عمومه لها على وجه الحصر؛ وإنما كان ذلك موافقة للعرب الذين لم يكونوا يعرفون من بلاد الله، ما وراء بلاد الشام واليمن في الغالب. وإلى اليمن والشام، يُشير قول الله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ . إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش: 1، 2]. وقد اختصت رؤيا آمنة عليها السلام، بالشام دون اليمن؛ لدلالة الشام على إشراق المغرب، بنور الهداية المحمدية، بعد إشراقه بنور وجوده. والمغرب هنا كناية عن الكون كله، بوصفه مغربا لنور الحق فيه، عند ظهور صورته بإظهار الحق. وأما تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى أن رؤيا دلائل النبوة تقع لجميع أمهات الأنبياء، فهو من إخباره بأذواقه السابقة؛ لأنه كان حقيقة كل نبي من الأنبياء السابقين، وكان المبشَّر به، لدى كل أم من أمهاته الطينيات؛ من وراء جميع المظاهر النبوية. ولم تمتزْ آمنة على نظيراتها من الأمهات، إلا بكونها قد حملت بأكمل صورة إلهية، من بين سائر الصور فحسب. وهذا شرف ما بعده شرف، لمن كان يعقل!... وأما اعتراض من يقول، بأن الله قد أثبت في القرآن السيادة على نساء العالمين لمريم، في قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42]؛ فكيف تجعلها أنت لآمنة بدلالتك على معنى حملها بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإننا نرد عليه، بأن الشهادة الواردة في القرآن لمريم، هي من الملائكة، لا من الله؛ وهي في ذلك الزمن المخصوص، لا على الإطلاق. ونحن هنا، لا نخالف الملائكة فيما قالوه، وإنما ننسب القول إلى قائله فحسب. ثم إن مما يدل على مفضولية مريم من الوجه الذي ذكرنا، ومن غيره؛ ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.»[16]. وذكر عائشة عليها السلام، من ضمن الكاملات المحمديات، ليس من باب الحصر؛ وإنما حتى لا تُجهل مرتبتها، بسبب ما ابتُليت به -عليها السلام- من الطعن فيها زمنَ النبوة وبعده؛ وإلا فإنه قد ورد في حديث عائشة أم المؤمنين ذاتها، أنها قالت: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَمِيعًا، مَا تُغَادِرُ مِنَّا وَاحِدَةٌ؛ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي، وَلا وَاللَّهِ إِنَّ تَخَطِّيَ مِشْيَتِهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؛ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنَتِي، فَأَقْعَدَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ؛ ثُمَّ سَارَّهَا بِشَيْءٍ فَبَكَتْ بُكاءً شَدِيدًا؛ ثُمَّ سَارَّهَا بِشَيْءٍ فَضَحِكَتْ. فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، قُلْتُ لَهَا: خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بَيْنِنَا بِالسِّرَارِ، وَأَنْتِ تَبْكِينَ؛ أَخْبِرِينِي مَا قَالَ لَكِ؟ قَالَتْ: مَا كُنْتُ لأُفْشِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِرَّهُ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ قُلْتُ لَهَا: أَسْأَلُكِ بِالَّذِي لِي عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ، مَا الَّذِي سَارَّكِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؟ قَالَتْ: أَمَّا الآنَ، فَنَعَمْ، سَارَّنِي. أَمَّا مَرَّتُهُ الأُولَى، فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلا أَرَى إِلا الأَجَلَ قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي. ثُمَّ قَالَ: يَا فَاطِمَةُ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنَّكِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَوْ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ؟ فَضَحِكْتُ.»[17]. والسيادة العامة على نساء العالمين بإطلاق الأزمنة (وهو حكم الآخرة) هي للسيدة فاطمة أمنا –بحمد الله- بلا خلاف ولا شبهة. وما ذكرنا أمومتها لنا، إلا أخذا بشهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنا بالبنوة، وبحضورها -عليها السلام- معنا في الملمات على رأس أهل بيت النبوة. وما ذكرنا هذا إلا من باب التحدث بهذه النعمة الكبرى أولا، ورغبة في اتساع رجاء المؤمنين عامة وأهل النسبة الشريفة خاصة ثانيا. والله عند ظن عبده به، فلا يُسئْ مُسلم ظنه بربه أبدا، بحق من دلنا على الحق وعرفنا به!... وإني إن شاء الله مخاصم كل من لم يعمل بنصيحتي يوم القيامة، فلا يجعلني أحد خصمه. ووالله إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر كلامي بفضله، فأخاف أن يكون سوء ظن الناس بي حجابا عن حسن الظن به. وبما أنني على قدمه الشريفة، أرجو الفوز لأكبر عدد من الناس، لذلك أبوح بهذه الأمور الخاصة، لعلها تكون معتبرة عند من يستمع إلي، فيفوز بسبب نصيحتي؛ رغم أنني أعلم ما سينالني من إظهار خصوصية النصيحة مني، مِن أذى مِن قِبل ضعفاء الإيمان؛ ولكنني لا آبه به، إن أنا بلغت من المسلمين، أن تتسع دائرة رجائهم في ربهم إلى ما فوق ما هم عليه!... وأنال أنا أجر المبلغ الداعي إلى الخير، إن تقبل ربنا عملنا بفضله، وتجاوز عن سيئاتنا... [1] . أخرجه مسلم عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. [2] . ذكره أيضا، الحاكم في المستدرك، عقب حديث: «كَانَ عُمْرُ آدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ.»؛ وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَبَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أَلْفُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ أَلْفُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى سَبْعُ مِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى خَمْسُ مِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ سِتُّ مِائَةِ سَنَةٍ.». [3] . أخرجه إسحاق بن راهوية، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [4] . أخرجه أحمد في مسنده. [5] . أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، عن كميل بن زياد النخعي. [6] . دلائل النبوة للبيهقي. [7] . أخرجه أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. [8] . أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، عن ابن عباس رضي الله عنهما. [9] . أخرجه مسلم في صحيحه. [10] . متفق عليه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. [11] . متفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [12] . أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. [13] . أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم في المستدرك، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه. [14] . أخرجه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه. [15] . أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. [16] . متفق عليه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [17] . أخرجه النسائي في السنن الكبرى، وأبو داود في مسنده. |