انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني Translated
Sheikh's Books |
2021/06/28
الحوار الغائب (ج3) -24-
المرحلة المدنية (10) (تابع...) ح. النشاط العسكري بين معركتيْ بدر وأحد: [إن معركة بدر كانت أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، وكانت معركة فاصلة أكسبت المسلمين نصراً حاسماً شهد له العرب قاطبة. والذين كانوا أشد استياء لنتائج هذه المعركة هم أولئك الذين مُنُوا بخسائر فادحة مباشرة؛ وهم المشركون، أو الذين كانوا يرون عزة المسلمين وغلبتهم ضرباً قاصماً على كيانهم الديني والاقتصادي، وهم اليهود. فمنذ أن انتصر المسلمون في معركة بدر كان هذان الفريقان يحترقان غيظا وحنقا على المسلمين؛ {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [المائدة:82]. وكانت في المدينة بطانة للفريقين دخلوا في الإسلام، حين لم يبق مجال لعزهم إلا في الإسلام، وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه؛ ولم تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظا من الأوليين. وكانت هناك فرقة رابعة، وهم البدو الضاربون حول المدينة، لم يكن يهمهم مسألة الكفر والإيمان، ولكنهم كانوا أصحاب سلب ونهب. فأخذهم القلق، واضطربوا لهذا الانتصار، وخافوا أن تقوم في المدينة دولة قوية، تحول بينهم وبين اكتساب قوتهم عن طريق السلب والنهب؛ فجعلوا يحقدون على المسلمين وصاروا لهم أعداء. وتبين بهذا أن الانتصار في بدر كما كان سببا لشوكة المسلمين وعزهم وكرامتهم، كذلك كان سببا لحقد جهات متعددة (...). فبينما كانت المدينة وما حولها تظاهر بالإسلام، وتأخذ في طريق المؤامرات والدسائس الخفية؛ كانت فرقة من اليهود تعلن بالعداوة، وتكاشف عن الحقد والغيظ؛ وكانت مكة تهدد بالضرب القاصم، وتعلن بأخذ الثأر والنقمة، وتهتم بالتعبئة العامة جهارا (...) وفعلا، فقد قادت غزوة قاصمة إلى أسوار المدينة، عرفت في التاريخ بغزوة أحد، والتي كان لها أثر سيئ على سمعة المسلمين وهيبتهم.][1]. وحتى نستبين أعداء المؤمنين، بكيفية تجعلنا نفرق بين البواعث، وإن اتحدت منهم الغايات، فإننا نذكر ما يلي: 1. إن عداوة المشركين من أهل قريش على الخصوص، كانت قائمة على العداوة الأصلية التي كانت بين التوحيد والشرك، ثم انضافت إليها الرغبة في الانتقام بعد ما لحقهم في بدر من هزيمة؛ وهذه يكون باعثها نفسي. فأما العداوة التي بين التوحيد والشرك، فهي منافرة لا تتطلب وعيا بها؛ بل إن كلا من المؤمن والمشرك، عند لقاء صاحبه يجد نفورا قلبيا منه، قد يتعجب منه؛ خصوصا إن كان أحدهما لا يُجاهر بحقيقة حاله. وكلما قوي نور الإيمان في قلب المؤمن، يزيد إدراكه لحال المخالفين بمجرد مجالستهم. وفي الأصل الغيبي لهذا المعنى، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ: فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ!»[2]. والمقصود بالأرواح هنا، غيب القلوب؛ لأن القلوب هي الواجدة للائتلاف أو للاختلاف؛ ولا تدري من أين ذلك. فبيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سبب ذلك؛ حتى يُصدق المؤمنون مواجيدهم. وهذا يدخل ضمن إفتاء القلوب لأصحابها، المذكور في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اسْتَفْتِ نَفْسَكَ. اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ (اسم الصحابي المخاطَب)! [ثَلَاثًا]. الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ؛ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ!»[3]. وإن هذا الأصل من فقه الباطن، قد جعل يضمر مع التقدم في الزمان، إلى أن وصلنا مع فقه الغافلين، إلى تديُّن ماديّ، لا يكاد يجد له صلة بالقلوب. وهذا، مما ينبغي أن يُعاد فيه النظر من جهة العلم والعمل معا... وأما عداوة المشركين التي أصلها النفس بما هي نفس، فهي من الغيظ الذي داخلها مع ذوق الهزيمة في معركة بدر. وهذا الوجدان، تؤججه الثقافة الجاهلية المؤسسة على التفاخر والمغالبة، بين الأفراد وبين القبائل. وعندما ستزداد هذه العداوة على ما يُعطيه الشرك من نفسه، فإنها ستصير مضرة بصاحبها، إلى أن يعمل على تخفيفها بسعيه إلى الانتقام من عدوه. ولهذا، كانت المواجهة بين المشركين، فيما بعد بدر، مسألة وقت فحسب... 2. وأما عداوة يهود المدينة، فهي من المنافسة على الدين؛ لأنهم رغم مُضيّ زمانهم التشريعي، ورغم نسخ شريعتهم، فإنهم باقون -على عادة صنف من أهل الدين- على عصبية دينية، يُريدون منها أن يُقنعوا أنفسهم ويُقنعوا غيرهم، بأنهم خيرة الله من خلقه، وأصوبهم طريقا إليه؛ كما أخبر الله عنهم في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18]. والمعنى هو: أن العباد كلهم سواء بين يدي الله، ولا يفضل بعضهم بعضا إلا بما يُقرهم الله عليه من تقوى؛ لا لنسب لهم ولا لانتساب. والدليل على استواء الناس في الحكم بين يدي الله، هو تعذيبه للمخالفين من اليهود ومن النصارى ومن المسلمين؛ بحسب ما تقتضيه مرتبة مِلك الله لجميع العالم... 3. وأما عداوة الأعراب، فهي عداوة همجية، من معاداتهم للحضارة قبل أي اعتبار آخر. وذلك لأنهم اعتادوا العيش على غرائزهم، التي على رأسها الصفة السبعية. وهؤلاء هم أقل الأصناف اعتبارا، بسبب بعدهم عن الحقيقة الإنسانية. وترويض هذا الصنف، لا يكون إلا بالقهر والقوة، لأن أصحابه لا يعقلون معنى غيرها. وهذه الأصناف المعادية للدين، لا تنقطع أبدا؛ وهي بعد أن كانت أصنافا من خارج الأمة، قد عادت في أزمنة الغفلة داخلها. لذلك فإن من المسلمين من هو معاد لحقيقة الدين، وإن زعم أنه من أنصاره ومحبيه. والأمر عندنا لا يكون دعوى لفظية، ولا شعائر طقسية؛ ولكن هو معان يتلبس بها المرء أو يعرى عنها. فليُعتبر هذا، فإنه نافع جدا في زماننا... - غزوة بني سُليْم بالكُدْر: [أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر، أن بني سليم وبني غَطَفَان تحشد قواتها لغزو المدينة؛ باغتهم النبي صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب في عقر دارهم، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقال له: الكُدْر. ففر بنو سليم، وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولى عليها جيش المدينة، وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخراج الخمس، فأصاب كل رجل بعيرين، وأصاب غلاما يقال له: "يسار"، فأعتقه. وأقام النبي صلى الله عليه وسلم في ديارهم ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة. وكانت هذه الغزوة في شوال سنة 2 هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيام؛ أو في المحرم للنصف منه. واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَة؛ وقيل: ابن أم مكتوم.][4]. يظهر من هذه الواقعة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يرد أن يُمهل الأعداء حتى يجتمعوا عليه؛ بل فضّل عليه السلام أن ينازل كل طرف منهم بأسرع ما يُمكن. وهذا، لأن الحرب القادمة حتمية، للأسباب التي ذُكرت آنفا. - مؤامرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: [كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن استشاطوا غضبا، وجعلت مكة تغلي كالمِـرْجَل ضد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى تآمر بطلان من أبطالها أن يقضوا على مبدأ هذا الخلاف والشقاق، ومثار هذا الذل والهوان في زعمهم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحِجْر بعد وقعة بدر بيسير -وكان عمير من شياطين قريش ممن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة- وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر. فذكر أصحاب القَلِيب ومصابهم، فقال صفوان: والله إنْ (إن هنا نافية) في العيش بعدهم خير! قال له عمير: صدقت واللّه! أما واللّه لولا دَيْن علي، ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضَّيْعةَ بعدي، لركبتُ إلى محمد حتى أقتله؛ فإن لي قِبَلَهُمْ عِلَّةً: ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان وقال: عليَّ دينك، أنا أقضيه عنك؛ وعيالك مع عيالي؛ أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم. فقال له عمير: فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل. ثم أمر عمير بسيفه فشُحِذَ له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم به المدينة؛ فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب -وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمهم الله به يوم بدر- فقال عمر: هذا الكلب عدو الله عمير، ما جاء إلا لشر! ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحا سيفه، قال: «فَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ!»[5]، فأقبل إلى عمير فلَبَّبَهُ بحَمَالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون؛ ثم دخل به. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه- قال: «أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ! ادْنُ يَا عُمَيْرُ!»[6]. فدنا وقال: أنْعِمُوا صباحاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِتَحِيَّةٍ خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمَيْرُ! بِالسَّلامِ: تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ!»[7]. ثم قال: «مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْر؟» قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه. قال: «فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ؟» قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال: «اصْدُقْنِي، مَا الَّذِي جِئْتَ لَهُ؟» قال: ما جئت إلا لذلك. قال: «بَلَى، قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ؛ فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قُلْتَ: لَوْلا دَيْنٌ عَلَيَّ، وَعِيَالِي، لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدًا! فَتَحَمَّلَ لَكَ صَفْوَانُ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ؛ وَاللَّهُ حَائِلٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ!»[8]. قال عمير: أشهد أنك رسول الله! قد كنا يا رسول الله نكذّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان! فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله. فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق؛ ثم تشهد شهادة الحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ!»[9]. وأما صفوان فكان يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر. وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلامه، فحلف صفوان ألا يكلمه أبدا، ولا ينفعه بنفع أبدا. ورجع عمير إلى مكة وأقام بها يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه ناس كثير.][10]. وأما هذه الواقعة، فإنها تدل على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بما لا يتمكن الناس من دفعه. وقد عبّر عمير عن هذه المسألة، عندما أقر بأن المشركين كانوا يكذّبونه -عليه السلام- عندما كان يأتيهم بخبر السماء؛ وأما الخبر الآن، فهو متعلق بمعلوم له، هو على يقين من أنه لا يعلمه بعده إلا صاحبه. وهذا الأمر بالنظر إلى حال عمير، غير قابل للتكذيب. فجعل الله هذه الحادثة سببا في إيمان عمير رضي الله عنه. ونحن بهذا الخصوص، لا بد من أن نتبيّن ما يلي: 1. إن سبب إيمان الناس، لا يكون دائما باعتبار الأعلى من حيث المرتبة؛ وإنما باعتبار مكانة السبب في نظر الناظر. وهذا يعني أن عميْرا لو كان يعتبر الأعلى، فإنه كان يؤمن بخبر السماء وما يحويه من غيوب وحقائق؛ ولكنه لكونه من أهل العقل المعاشيّ في ذلك الوقت، فإنه لم يعتبر إلا ما كان ضمن الأسرار التي هي داخلة في دائرة علمه، من مرتبته فحسب؛ وهذا يقع من الناس في جميع الأزمنة. ولهذا السبب، قد نجد عالما من علماء الطبيعة، يؤمن لحقيقة علمية مثبتة في الوحي، يعلم يقينا أنه لا يُخبر بها إلا من خلق الخلق؛ وقد نجد الفيلسوف، لا ينفعل إلا لسمو المعاني، التي يجد فلسفته بالنظر إليها، كحال العقل المعاشي بالنظر إلى الفيلسوف؛ وقد نجد الشاعر العالم بصنوف البيان، ينفعل لصور المعاني القرآنية، والتي يعجز أفصح الناس عن مقاربتها. ولكل هذا، فلا ينبغي النظر إلى انفعال الناس للوحي على أنه مرتبة واحدة أو أنه صنف واحد؛ وبالتالي، فلا يُحكم بعلو مرتبة عقل ما، من جميع الوجوه، لمجرد إيمانه؛ وهذا لأن المؤمن العامي، وإن كان يُصنّف أعلى في المرتبة من العقل الفلسفي، سيبقى من جهة مُكنة التفكير وتعقّل المعاني الفلسفية أدنى، من غير شك. وأما لمَ اعتبرنا العقل المؤمن العامي، أعلى من العقل الفيلسوف، رغم هذا الثابت المذكور ختاما؛ فلأن الإيمان علم مـُجمل في نفسه. وهذا يعني أن إدراك المؤمن العامي أعلى من إدراك الفيلسوف، لكنه لا يتمكن من التعبير عنه. وعدم قدرة المؤمن العامي على التعبير، مع قدرة الفيلسوف عليه في مجاله، لا يعني أن هذا الأخير أعلى في المرتبة؛ بل يعني أنه أملك للغة وأضبط للمعاني الفلسفية فحسب. والمعاني الفلسفية، تبقى على كل حال، أعلى من المعاني التي يتعلّق بها الإيمان، بغض النظر عن اعتبار العبد المؤمن في نفسه. وإن هذه المسألة، هي مما لم نجد في الأولين من اعتنى بها وبيّنها إلا الشيخ الأكبر عليه السلام؛ لكنها مع ذلك بقيت عند علماء الدين مجهولة على مر القرون، وهو ما أدى إلى انهزامهم أمام الفلسفة، إلى الحد الذي صيّروها معه جزءا من تديّنهم. وهذه آفة، قد أضرت بالعلوم الدينية نفسها، وأضرت بالعلماء، ثم بعموم الأمة من بعدهم، من دون أن يشعروا (العلماء). ولعلنا -بعد كل هذه القرون- نكون أول من يسلط النور على هذه المسألة، بالقدر الذي يرفع فيها كل لبس... 2. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، علم ما جرى بين الرجليْن في مكة، من تحققه عليه السلام بعلم الله. وهذا التحقق بهذه الصفة، هو ما نسبه الله إليه في قوله عن الخضر عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]؛ والمعنى هو أن علم الله صار علما للعبد. وعندما يكون علم العبد بهذه المثابة، فإنه يكون معصوما عن الخطأ والغلط، منزها عن الجهل المداخل لعلم العلماء، ولو بقدر ما. وهذه الصفة التي يكون فيها علم العبد مطابقا لعلم الله، لا أحد من العباد يبلغ فيها قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن العباد (كالخضر) لا يأخذون علمهم اللدني، إلا من محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ علموا في الوقت، أم لم يعلموا. وقولنا "في الوقت"، هو للدلالة على أن كبار الأولياء من هذه الأمة، لا بد لهم من علم ما ذكرنا، ولو بعد حصول العلم في المسألة؛ لأن الله قد يحجب من العلم عن عباده في الوقت ما يشاء، لحكم هو يعلمها سبحانه. وأما مطابقة علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلم الله، فينبغي أن نميّز فيها بين الكمال والتمام والإحاطة. وقد ذكرنا هذا في كتابنا "النسبية العلمية"، وقلنا إن علم الله كامل تام محيط؛ بينما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا إحاطة له. ومعنى الإحاطة هنا هو الإطلاق الذي يكون للصفات عند نسبتها إلى الحق تعالى؛ وهذه الإحاطة لا يُمكن أن يتصف بها العبد، وإن كان في أعلى مرتبة، بسبب تقيّده في حقيقته، من جهة الصفات الوجودية (الإلهية)، لا من جهة صفة عبوديته. وهذا لأن عبودية نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مـُطلقة، في مقابل الإطلاق الإلهي؛ ومن هنا كان يُسمى عليه السلام بالعبد الذاتي؛ أي الذي تُقابل عبوديته ربوبية ربه في إطلاقها. وأما من جهة الصفات الإلهية التي ظهر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة خلافته، فلا بد أن يكون فيها مقيّدا؛ حتى تمتاز الخلافة عن الربوبية. ومن هذا الباب، قول الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]؛ وهذا، لأن عدم إحاطة علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يجعله طالبا للزيادة أبد الآبدين؛ ما دام العلم الإلهي لا نهاية له. 3. إن اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على الغيوب من علمه الكامل التام، يجعله عالما بالغيب من غير إحاطة؛ وهذا لأن العلم هنا واحد، وإن اختلفت نسبته إلى الله عن نسبته إلى العبد المطلق صلى الله عليه وآله وسلم. وقد غلط علماء الدين -وفي مقدمتهم المفسرون- عندما لم يُثبتوا علم الغيب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وظنوا أن ذلك مما هو من صفات الرب وحده. ولو أنهم علموا أن كل الصفات، هي بالأصالة لله، وليس للعبد منها شيء، لسهل عليهم إدراك المسألة؛ ولكنهم -على عادتهم- بقوا مع ما تعطيه الألفاظ، وما تعطيه عقولهم. وعلى هذا، فإن قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا . عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 25، 26]، فليس هو مما ينفي علم الغيب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما يتوهم المحجوبون؛ وإنما هو إحالة من ظاهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى باطنه فحسب؛ وهذا هو الفرق بين العلم النبويّ النسبي، والعلم النبوي الكامل. فمن جهة العلم النبوي الكامل، فهو يعلم بعلم الله ذاته، كل المعلومات الداخلة في العلم إلى ذلك الوقت؛ ولكن علمه الظاهر، لا يتمكن من شمول كل هذه المعلومات؛ لذلك فإن الله يُعلّمه في الوقت ما يشاء له أن يعلمه. وإذا شاء الله أن يُطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جزئية من الغيب، حتى يعلمها بعلمه النسبيّ، فهي تشهد له -كما هي الحال مع عمير- بأنه يأخذ علمه عن الله. وهذه الظاهرة، وإن كانت تُسمّى في الشرع معجزة، إلا أنها أوسع مما يعلمه عادة العلماء من مدلول المعجزة. والخلاصة، هي ما ذكرناه نحن فيها، وإن كنا نعلم أنه يمتنع عن تناول جُلّ العقول. 4. ولا بد هنا، ومن باب الإلحاق، أن نذكر أن الورثة من هذه الأمة، على صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كمال العلم، لا في تمامه؛ فهو عليه السلام، يفوقهم بالتمام في الكمال، حتى تمتاز مرتبة ختمية النبوة عن الوراثة؛ وهم يفوقون غيرهم من العلماء بحيازة كمال العلم. وهذه المسألة قد تكون من معضلات العلم لدى العلماء، بسبب قصورهم الناشئ عن دخول عدمهم عليهم (الظلمة)؛ ولكن إدراكها ضروري لمن كان يُريد إدراك معنى الكمال. وهذا يجعل من كُمّل الورثة، علماء بالغيب أيضا، لكن بدرجة أقل مما يعلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما السبب في ذكرنا لختمية النبوة في مقابل الوراثة، ولم نذكر النبوة؛ فذلك لأن النبوة تشمل جميع الأنبياء عليهم السلام، في حين أن الختمية هي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده. ونعني من هذا، أن الأنبياء من الأمم السابقة، هم طبقة في مقابل طبقة الورثة من هذه الأمة؛ غير أنهم -وبسبب سبقهم في الزمان على الشخص المحمدي- يُسمَّوْن نوابا لا ورثة. ومن علم ما نذكره هنا، فإنه سيعلم موازاة الورثة منا لأنبياء الأمم السابقة، من جهة الأخذ، لا من جهة المقام؛ لأن المقام هو بالأصالة للأنبياء عليهم السلام لا للأولياء. ولهذا السبب، كان من الأولياء من يُنسب إلى محمد (من جهة كونه نبيا أو ختما)، ومن يُنسب إلى إبراهيم أو عيسى أو موسى أو غيرهم، على الجميع السلام. وكما يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمه المقيّد، من علمه المطلق، فكذلك يعلم الوارث علمه المقيد من علمه المطلق. ومن هذا الوجه، كنا نقول بـ"العقل المطلق" في مقابل العقل الفلسفي، عندما نخاطب العقلاء. هذا، مع علمنا بأن إدراك معنى الإطلاق العقلي، هو مما يعسر على العقلاء؛ بل هو عندهم محال. وإخبارنا لهم بوجود هذا الصنف من العقول، هو مساوٍ عندهم لإخبارنا بالمحال. ولكن أعلاهم مرتبة في العقلانية، إن هم صدقونا، يحصل لهم من الانبهار فوق ما يحصل للعقل المعاشي بالمقولات الفلسفية!... وهذه مسألة، نرجو أن يتنبه لها عقلاء الأمة من الصنفيْن: من الفقهاء ومن المتفلسفة. - غزوة بني قينقاع: ذكرنا فيما قبل المعاهدة التي كانت بين المسلمين وأهل المدينة، وذكرنا بنودها واحدا واحدا؛ وقد التزم المسلمون بتلك المعاهدة التزاما تاما. ولكن اليهود بسبب انحرافهم عن الدين الأصلي، وبسبب الظلمة التي دخلت عليهم عند الانحراف، لم يتمكنوا من كف شرهم عن المسلمين. وهم عند انفعالهم للشر الذي في بواطنهم، قد برهنوا على نقص عقولهم؛ لأنهم لو كانوا عقلاء، لكانوا يحسبون حساب الخواتيم، ولا يكتفون بالاستجابة لشرهم. لكن ضعيف العقل قد يفعل ما يكون فيه هلاكه، وهو يرجو أن يبلغ به مراده!... ومما وقع من كيد اليهود للمسلمين ما ذكره ابن إسحاق في قوله: [مر شاس بن قيس -وكان شيخاً يهودياً قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه؛ فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام؛ بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية؛ فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَةَ بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار! فأمر فتى شاباً من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعَاث وما كان من قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار؛ ففعل. فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جَذَعَة (يعني استعادة الحرب الأهلية التي كانت بينهم) وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا! موعدكم الظاهرة (والظاهرة: الحَرَّة) السلاح السلاح! فخرجوا إليها [وكادت تنشب الحرب]. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهَ اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللَّهُ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا؟»[11]. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.][12]. وإن إشعال الفتن، مع معرفة أسبابها، لهو مما يُتقنه اليهود؛ وتفاصيل المسألة عديدة، لا تكاد تحصر. غير أنه ينبغي أن نذكر شيئا ذا بال، من فاته، فقد فاته الخير الكثير؛ وهو أن مسألة الكيد للمسلمين، لم تعد محصورة في اليهود اليوم، كما يظن الكثيرون؛ وذلك لأن شطرا كبيرا من المسلمين، هم على صفات اليهود. ولولا أن المسلمين سيقعون فيما وقعت فيه بنو إسرائيل، ما كان الله ليُخبرنا عن أحوالهم في قرآننا. وقد قلنا سابقا، لمن أثار المسألة أمامنا: إن الله بذكره لأحوال بني إسرائيل في القرآن، هو يعظ الأمة المحمدية ويُعلمهم أنهم سيقعون في مثل ما وقعوا فيه. ولكنه سبحانه آثر أسلوب الاستعارة المكنية، من باب: "إياك أعني، واسمعي يا جارة!"؛ إكراما لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى لا يجد في نفسه من ذلك. وهذا المعنى نفسه، هو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ! قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ!»[13]. وأسباب الفرقة التي ينال بها الشيطان من المؤمنين كثيرة ومتعددة، والعقول الضعيفة لا تتفطن لعواقبها، عند اعتبار العصبيات وما يطغى على نظر الناظرين عند نظرهم. لهذا، فإن الربانية وحدها من نبوة ووراثة، هي الكاشفة للمكائد القائمة عليها. وكل جماعة تغيب فيها الربانية، فهي لعبة بين يدي الشيطان، عرفت أم لم تعرف. ومن ينظر إلى حال المسلمين اليوم، يجد ما نذكره عيانا. وكل من يظن أن إطفاء الفتن، يكون عن طريق الإقناع العقلي، فما عرف شيئا مما نشير إليه بعدُ!... [وقد كانت لهم خطط شتى في هذا السبيل: فكانوا يبثون الدعايات الكاذبة، ويؤمنون وجه النهار، ثم يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك في قلوب الضعفاء. وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن، إن كان لهم به ارتباط ماليّ: فإن كان لهم عليه يتقاضونه صباح مساء، وإن كان له عليهم، يأكلونـه بالباطل، ويمتنعون عن أدائه؛ وكانوا يقولون: إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك، فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل. كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر، على رغم المعاهدة التي عقدوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصاً على رشدهم، وعلى بسط الأمن والسلام في المنطقة.][14]. من ينظر إلى ما يفعله المسلمون بعضهم ببعض اليوم، يجده شبيها بما كان يفعله بهم اليهود بالأمس؛ فلا يغترّ أحد بزعم الإسلام، وهو يؤذي المسلمين. بل إن إناطة كل التهم اليوم باليهود، هو من باب صرف النظر عن الأذى الداخليّ بين المسلمين. وهذا أمر ينبغي التفطن إليه، إن كان المسلمون يرغبون في دفع الأضرار عن أنفسهم. وحتى يزداد الأمر وضوحا، فلينظر المرء إلى طريقة عمل أجهزة بعض الدول المسلمة، وكيف تسعى إلى تفريق شعوبها بدل جمعها؛ وكيف تُضيّق على من تراه منها، لا يوافقها على آثامها، بشتى الطرق والوسائل؛ من غير مراعاة حل أو حرمة. وما لم نقرّ بمخالفاتنا لشرع ربنا، فلا ينفع أن نُلصق التهم بغيرنا، وإن كانوا غير برآء منها، بوجه من الوجوه!... [لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة وهيبة في قلوب القاصي والداني. تميزت قدر غيظهم، وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذى. وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الأشرف (وسيأتي ذكره) كما أن شر طائفة من طوائفهم الثلاث يهود بني قينقاع. كانوا يسكنون داخل المدينة في حي باسمهم، وكانوا صاغة وحدادين وصناعا للظروف والأواني؛ ولأجل هذه الحرف، كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود. فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين، حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم. وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدي، وحـذرهم مغـبة البغـي والـعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم. روى أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع. فقال: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا!». قالوا:يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً، لا يعرفون القتال! إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا! فأنزل الله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران 12، 13]. كان في معنى ما أجاب به بنو قينقاع الإعلان السافر عن الحرب، ولكن كظم النبي صلى الله عليه وسلم غيظه، وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليالي والأيام. وازداد اليهود من بني قينقاع جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة. روى ابن هشام عن أبي عون: أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي غافلة، فلما قامت، انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت؛ فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله (وكان يهودياً) فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.][15]. لقد ذكرنا فيما سبق، السبب الذي لن يترك اليهود يسكتون على نماء الإسلام بينهم؛ وعرفنا أنه زعمهم البقاء على دين، مع أنهم لا يعيشون في زمن موسى، ولا في زمن عزير المجدد. وعندما كان أسلافهم يعيشون في تلك الأزمنة، لم يكونوا منقادين لرسلهم ولأنبيائهم بالصورة التي يوهمون بها غيرهم اليوم؛ بل إنهم في الحقيقة لا صلة لهم بموسى أو بدينه، وإنما سهلت عليهم الدعوى عند غيابه عنهم وبُعد الزمان بينه وبينهم. وهذا عينه يتكرر مع شطر من المسلمين، عندما يتعصبون تعصبا زائدا للدين في مواطن مخصوصة؛ بينما هم في الحقيقة مقطوعون عن نبيهم. بل إن منهم من يكون عدوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه لا يُظهر ذلك بين المسلمين!... ولقد ذكرنا سابقا أيضا، أن الدين الحق والحي، ينبغي أن يكون فيه العبد تابعا اتباعا حقيقيا لرسول زمانه فيه؛ ولا فرق بين أن يكون تابعا لموسى في الزمن الأول، ولعيسى في الزمن الثاني، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الزمان؛ كما لا ينفع زعم اتباع رسول الزمن الأول في آخر الزمان؛ لأن كل ذلك هو اتباع للأهواء في الحقيقة، لا للحق. واليهود -على عادة المبطلين- يعلمون أن حالهم من تكذيب موسى عليه السلام، سينكشف بتكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذلك هم يُبادرون إلى محاربته، متمنين أن ينالوا منه قبل بدوّ الحق لجميع الناظرين. وهم هنا يحرصون على الخصوص، أن لا يتنبه عوام اليهود، الذين يوهَمون أنهم على الحق. ونعني من كلامنا هذا، أن معاداة اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين، لم تكن عن شر كامن في نفوسهم وحده؛ وإنما كانت عن وعي بحقيقة الوضع، وكانت عن استشراف لما سيكون عليه المستقبل؛ وبالتالي فقد كان عملهم عن تخطيط استراتيجي، من غير شك!... وقد ظهر منهم هذا التصميم، بعد سماعهم لموعظة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهم قد أبانوا عن استعدادهم للقتال، مع أن الأمر كان ما يزال بعيدا من جهة الأسباب الداعية إلى ذلك. وقد أعمى الله بصائر اليهود، كما يُعمي بصائر كل المتكبرين المغرورين، فرأوا في صبر المسلمين عليهم انهزاما وجُبنا؛ فبلغ بهم الأمر إلى ما فعلوه بالمرأة داخل السوق، فوصلت الحال إلى الاقتتال من غير أن يكون للمسلمين خيار بديل. [وحينئذ عِيلَ صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخلف على المدينة أبا لُبَابة بن عبد المنذر، وأعطى لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وسار بجنود الله إلى بني قينقاع، ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2 هـ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب (فهو إذا أرادوا خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم) فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا. وحينئذ قام عبد الله بن أبيّ بن سلول بدور نفاقه، فألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم العفو، فقال: يا محمد، أحسن فـي مواليّ (وكـان بنـو قينـقاع حلفـاء الخزرج) فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرر ابن أبيّ مقالته، فأعرض عنه؛ فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَرْسِلْنِي!»، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً، ثم قال: «وَيْحَكَ أَرْسِلْنِي!»[16]؛ ولكن المنافق مضى على إصراره وقال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي: أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع؛ قد منعوني من الأحمر والأسود؛ تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنافق -الذي لم يكن مضى على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب- بالحسنى. فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام، فقلَّ أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قِسِي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخُمس غنائمهم، وكان الذي تولّى جمع الغنائم محمد بن مسلمة رضي الله عنه.][17]. يظهر من هذا المقطع، خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو المعتبر لكل الحقائق ولكل المراتب؛ لا يبلغ أحد من المخلوقين في ذلك شأوه!... فنجده صلى الله عليه وآله وسلم، يصبر على ابن أبيّ، لا لشيء إلا لأنه قد أظهر إسلامه؛ وإن لم يكن يخف عن علم النبيّ نفاقه!... بل ونجده يعفو عن يهود بني قينقاع، فيُبقي على أنفسهم مع اشتراط خروجهم من المدينة. ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم كريما معهم، لأنهم بنقضهم المعاهدة، كانوا يستوجبون القتل؛ وهو ما حاق بهم رغم خروجهم، جزاء سوء أدبهم مع الخليفة الإلهي الأكبر، صلى الله عليه وآله وسلم. ولسنا نعني من هذا، إلا أن النبي عفا عنهم بظاهره، ولكنه لم يعف بباطنه الشريف؛ فكان الحكم الموت في الفيافي، وإن لم يكن بالسيوف!... فلا يغتر أحد من رباني بظاهره وحده، لأن الرباني قد يُبطن ما يتنازل عنه في الظاهر؛ فتُسارع الأسباب الخفية إلى خدمة حكمه، فيقع الأمر على ما هو. وما يقع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقع مع وارثيه؛ وقد رأينا هذا نحن عيانا، فعلمنا ذوقا كيف يتحول الحكم من الظاهر إلى الباطن، من غير أن يعلم به المعنيّون به. بل لقد رأيناهم يستبشرون ويأنسون لما يُعطيه الظاهر، والهلاك ينتظرهم بُعيد قليل. وهذا يدخل أيضا في مكر الله، بالماكرين؛ عندما يتوهمون أنهم قد انطلت حيلهم على الرباني، وأنهم قد حصلوا منه غرضهم؛ وهيهات!... فما ينفع مع الربانيّين إلا الصدق وحده!... وأما الكيد والمكر، فإنه يجر على أصحابه كيد الله ومكره؛ ولا أحد من المخلوقين يقوم لكيد الله ومكره أبدا!... ولكن مع هذا النصح، فإن الناس لا بد واقعون فيما هم ميسرون له من قدر؛ لذلك يظهر منهم، من وراء الحجاب، أنهم عالمون بما ينفعهم، وضامنون لمآلات الأمور!... وهيهات!... - غزوة السَّوِيق: [بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراتهم وعملياتهم، كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغارم ظاهر الأثر، يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه، ويبرز ما لديهم من قوة. وكان قد نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب ليبِرَّ يمينه، حتى نزل بصدْر قَناة إلى جبل يقال له: ثَيبٌ، من المدينة على بَرِيد أو نحوه؛ ولكنه لم يجرؤ على مهاجمة المدينة جهاراً، فقام بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة، فإنه دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفياً تحت جنح الظلام، فأتى حيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبى وخاف؛ فانصرف إلى سَلاَّم بن مِشْكَم سيد بنِي النضير، وصاحب كنزهم إذ ذاك، فاستأذن عليه فأذن، فَقَرَاه وسقاه الخمر، وبَطَن له من خبر الناس، ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتى أصحابه. فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها: "العُرَيض"، فقطعوا وأحرقوا هناك أصْوَارًا من النخل (صغارها)، ووجدوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة. وبلغ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الخبر، فسارع لمطاردة أبي سفيان وأصحابه، ولكنهم فروا ببالغ السرعة، وطرحوا سويقاً كثيراً من أزوادهم وتمويناتهم، يتخففون به، فتمكنوا من الإفلات؛ وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قَرْقَرَةِ الكُدْر، ثم انصرف راجعاً. وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذه المناوشة بغزوة السويق. وقد وقعت في ذي الحجة سنة 2 هـ بعد بدر بشهرين، واستعمل على المدينة في هذه الغزوة أبا لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه.][18]. ونستنتج هنا: - أن قريشا كانت تبحث عن تسكين ما بها من غيظ، ولو بأقل الأعمال أثرا. - أن أبا سفيان لم يكن ليصيب ما أصاب من المسلمين غدرا، إلا بإعانة اليهود. وهكذا يظهر أن عدو الخارج دائما، يبحث عمن يواليه من أعداء الداخل؛ وما لم يضرب المسلمون على أيدي أعداء الداخل، فإن الأذى سيبقى مستمرا. - أن أبا سفيان ومن معه، عادوا فارّين؛ بدليل تخفّفهم من جميع الأثقال. - أن هذا العمل، مؤشر على ما ستؤول إليه الأمور مع قريش خصوصا؛ إما اليوم أو غدا. - أن الكافرين لا يحوزون أخلاق الحرب، ما داموا يُلحقون الأذى بالنباتات؛ وليس لهم أعداء إلا من نظرائهم من بني آدم. - غزوة ذي أمر: [وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معركة أحد؛ قادها في المحرم سنة 3 هـ. وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة؛ فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له: جُبَار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال، وصار دليلاً لجيش المسلمين إلى أرض العدو. وتفرق الأعداء في رؤوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمى بـ "ذي أمر"؛ فأقام هناك صَفراً كله (من سنة 3 هـ) أو قريباً من ذلك؛ ليُشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجع إلى المدينة.][19]. وهذه الحملة، تُنذر بقرب التلاقي بين المسلمين وأعدائهم؛ وكأنها كانت إعدادا لهم من جهة الباطن قبل الظاهر، لكيلا يركنوا إلى الدعة وعيش المدينة. - قتل كعب بن الأشرف: [كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حنقاً على الإسلام والمسلمين، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرا بالدعـوة إلى حربه. كان من قبيلة طيئ (من بني نَبْهان) وأمه من بني النضير؛ وكان غنياً مترفاً، معروفاً بجماله في العرب، شاعراً من شعرائها. وكان حصنه في شرق جنوب المدينة خلف ديار بني النضير. ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال: أحق هذا؟ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس! والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لَبطن الأرض خير من ظهرها! ولما تأكد لديه الخبر، انبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويمدح عدوهم ويحرضهم عليهم. ولم يرض بهذا القدر، حتى ركب إلى قريش، فنزل على المطلب بن أبي وَدَاعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار، يبكي فيها على أصحاب القَلِيب من قتلى المشركين؛ يثير بذلك حفائظهم، ويذكي حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعوهم إلى حربه. وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلا وأفضل! وفي ذلك أنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51]][20] . يظهر من قصة كعب بن الأشرف مع قريش، أن الكفر في النهاية ملة واحدة. ولو كان الكتابيّون على غير الكفر كما يزعمون، لما أطاقوا موالاة المشركين من الوثنيّين. وأما الدين الحق، فيبقى في مقابل كل صنوف الكفر، مباينا لها بنوره. ونعني من هذا، أن الأديان على اختلافها، تكون إما إيمانا حقا، وإما كفرا. والكفر واحد، وإن اختلف بعضه عن بعض؛ منه الأديان الوثنية على اختلافها، ومنه أديان أهل الكتاب بعد عودة أصحابها إلى الظلمة، ومنه دين من يتوهمون أنهم لا دين لهم. [ثم رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء. وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ!»[21]، فانتدب له محمد بن مسلمة، وعَبَّاد بن بشر، وأبو نائلة (واسمه سِلْكَان بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاعة) والحارث بن أوس، وأبو عَبْس بن جبر، وكان قائد هذه المفرزة محمد بن مسلمة. وتفيد الروايات في قتل كعب بن الأشرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال مقالته، قام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: «نَعَمْ.» قال: فائذن لي أن أقول شيئاً. قال: «قُلْ!». فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: إن هذا الرجل (يتكلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم) قد سألنا صدقة، وإنه قد عَنَّانا. قال كعب: والله لَتَمَلُّنَّهُ. قال محمد بن مسلمة: فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه؟ وقد أردنا أن تسلفنا وَسْقـًا أو وَسْقَين. قال كعب: نعم، أرهنوني. قال ابن مسلمة: أي شيء تريد ؟ قال: أرهنوني نساءكم. قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! قال: فترهنوني أبناءكم. قال: كيف نرهنك أبناءنا فيُسَبُّ أحَدُهم فيقال: رُهِن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا! ولكنا نرهنك الَّلأْمَة! (يعني السلاح). فواعده أن يأتيه. وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء كعباً فتناشد معه أطراف الأشعار سويعة، ثم قال له: ويحك يا بن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني. قال كعب: أفعل. قال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل (يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم) علينا بلاء، عادتْنا العرب، ورمتنا عن قَوْسٍ واحدة، وقطعتْ عنا السبل، حتى ضاع العيال، وجُهِدَت الأنفس، وأصبحنا قد جُهِدْنا وجُهِد عيالنا. ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة. وقال أبو نائلة أثناء حديثه: إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك. وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قُصد، فإن كعباً لن ينكر معهما السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار... وفي ليلة مُقْمِرَة -ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة 3 هـ- اجتمعت هذه المفرزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشيعهم إلى بَقِيع الغَرْقَد، ثم وجههم قائلاً: «انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ!»، وقال: «اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ!»[22]، ثم رجع إلى بيته، وطفق يصلي ويناجي ربه. وانتهت المفرزة إلى حصن كعب بن الأشرف، فهتف به أبو نائلة، فقام لينزل إليهم، فقالت له امرأته (وكان حديث العهد بها): أين تخرج هذه الساعة؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم! قال كعب: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة! إن الكريم لو دعي إلى طعنة أجاب! ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفح رأسه. وقد كان أبو نائلة قال لأصحـابـه: إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة، ثم قال أبو نائلة: هل لك يا بن الأشرف أن نتماشى إلى شِعْب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا؟ قال: إن شئتم! فخرجوا يتماشون. فقال أبو نائلة وهو في الطريق: ما رأيت كالليلة طيباً أعطر، وزُهي كعب بما سمع، فقال: عندي أعطر نساء العرب، قال أبو نائلة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم! فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه. ثم مشى ساعـة ثم قال: أعود؟ قال كعب: نعم! فعاد لمثلها، حتى اطمأن. ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال: نعم! فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال: دونكم عدو الله، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغن شيئاً، فأخذ محمد بن مسلمة مِغْوَلاً فوضعه في ثُنَّتِهِ، ثم تحامل عليه حتى بلغ عانته، فوقع عدو الله قتيلاً. وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله، فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران.][23]. ونستخلص من تمام القصة ما يلي: - أنه يجوز الكذب في مثل هذه المواطن، من أجل بلوغ الغاية التي هي القضاء على أعداء الله ورسوله. غير أن العمل بهذا المبدأ، يكون عن بيّنة، كما هو الشأن هنا. فابن مسلمة، لم يفعل ذلك، إلا بعد استئذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في التصرف من عند نفسه؛ وهو ما سماه رضي الله عنه، قولا. - أن الغيب عندما يصبح على وشك الخروج إلى الشهادة، يشعر به الناس ويُخبرون عنه، ولكنهم لا يلتفتون إلى ما يقولون بسبب غلبة الحس على عقولهم. فامرأة كعب بن الأشرف، قد أخبرت أنها تسمع صوتا يقطر دما؛ وعندما أرادت أن تثبط زوجها أخبرها أن الكريم يُجيب ولو إلى طعنة. وكل هذا حدث، وكأنهما كانا يُخبران عن شهود!... ومن كان له علم بما ذكرنا، فإنه يعلم كثيرا من الغيوب قبل ظهورها، من إخبار الألسنة بها؛ لكن من دون علم الناطقين، بما ينطقون، كما بيّنّا. وقد تكون للعبد المصطفى علامات تدل على أن المـُخبَر به حق!... - أن أكثر هلاك الناس، يأتي من إعجابهم بأنفسهم. والمـُعجب بنفسه، يصبح كأنه أعمى أصم؛ لأن الله يكله عند إعجابه إلى نفسه، ونفسه عدم. فيبقى عاريا من كل صفات الوجود، التي قد تمنع من يروم إهلاكه من بلوغ غايته. - أن هذا الصنف من العمل، لا يُعدّ غدرا؛ لأن مؤذي الله ورسوله يكون قد نزع عن نفسه كل وجوه المراعاة. وهذا من العلم الذي تتحد فيه الصور وتختلف الحقائق؛ وهو علم عجيب، لا يسلم من الخطأ فيه إلا من كان يُبصر بالله. ومن هذا الباب يكون التلبيس بجميع صنوفه؛ وهو من العلم الذي للشيطان فيه مدخل، كما لا يخفى. لكن الشيطان لا يعلم من هذا العلم إلا ظاهره، لذلك يلتبس عليه الأمر -هو نفسه- في كثير من الأحيان... [ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذُبَاب بعض سيوف أصحابه، فجرح ونزف الدم، فلما بلغت المفرزة حَرَّة العُرَيْض رأت أن الحارث ليس معهم، فوقفت ساعة حتى أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه؛ حتى إذا بلغوا بَقِيع الغَرْقَد كبروا، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر؛ فلما انتهوا إليه قال: «أَفْلَحَتِ الْوُجُوهُ!»[24]، قالوا: ووجهك يا رسول الله! ورموا برأس الطاغية بين يديه؛ فحمد الله على قتله، وتفل على جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده. ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم العنيدة، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يرى أن النصح لا يجدي نفعاً لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات وعدم احترام المواثيق، فلم يحركوا ساكناً لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها. وهكذا تفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم -إلى حين- لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها من خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها، ويشمون رائحتها بين آونة وأخرى.][25]. عندما رجعت المفرزة، وقد أفلحت في مهمتها؛ بشرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفلاحها عند ربها. وهي شهادة لهم، يجدون آثارها في الدنيا والآخرة. وكما جاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الأشخاص بهذه الشهادة العُظمى، لم يُرد أن ينغص جرح الحارث بن أوس عليهم فرحتهم، فتفل عليه صلى الله عليه وآله وسلم فبرأ. وهذا من المدد الشفائي الذي يُمد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يشاء من العباد، ليُذهب أسقامهم. ومن هذا المدد الرباني المحمدي، كان عيسى يُبرئ الأكمه ويشفي المرضى؛ حتى قيل إن معجزته -عليه السلام- كانت في الطب، بسبب شيوعه في قومه ذلك الزمان!... وهذا المدد الشفائي، كغيره من الأمداد، يرث منه الورثة على قدرهم؛ فتجدهم في القرون التي جاءت بعد انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يفعلون مما يناسبها مثل ما فعل النبي، مع الإبقاء على الفرق بين الإمام والمأموم ثابتا في الأذهان؛ حتى لا تختلط المراتب، وينشأ الضلال. وبسبب هذه الوراثة النبوية، التي يجهل جل المسلمين وجودها في الأمة، بعد طروء الغفلة واشتدادها، كان أولياء هذه الأمة يُحيون الموتى (نظير ما فعل عيسى) ويشفون الأمراض... ونحن نلاحظ هنا، أن اليهود قد ارتدعوا بعد مقتل كعب بن الأشرف، وصاروا يعلمون أن لكل عمل منهم نتيجة تعود عليهم. وهم رغم عدائهم للمسلمين، سيبدأون في انتهاج سياسة المداهنة وكظم ما يعتمل في صدورهم. وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم، يقصد إلى هذا، ليتفرغ للأعداء من خارج المدينة؛ فمكنه الله مما أراد. _ غزوة بُحْران: [وهي دورية قتال كبيرة، قوامها ثلاثمائة مقاتل، قادها الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر سنة 3 هـ إلى أرض يقال لها: بحران (وهي مَعْدِن بالحجاز من ناحية الفُرْع)، فأقام بها شهر ربيع الآخر ثم جمادى الأولى من السنة الثالثة من الهجرة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حرباً.][26]. يبدو أن خروج جيش المسلمين في هذه الغزوة التي لم يكن فيها قتال، كان استعراضيا، وكان يدخل ضمن إرهاب الأعداء، إذا هم سمعوا به. وهذا، كما أمر الله سبحانه في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]. - سرية زيد بن حارثة: [وهي آخر وأنجح دورية للقتال قام بها المسلمون قبل أحد، وقعت في جمادي الآخرة سنة 3 هـ؛ وتفصيلها: أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف، واقترب موسم رحلتها إلى الشام، فأخذها هَمٌّ آخر. قال صفوان بن أمية لقريش (وهو الذي نخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام): إن محمداً وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء. ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق (وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل) فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فُرَات بن حَيَّان (من بني بكر بن وائل) دليلاً له، ويكون رائده في هذه الرحلة. وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباء هذه القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة. وذلك أن سَلِيط بن النعمان (وكان قد أسلم) اجتمع في مجلس شرب (وذلك قبل تحريم الخمر) مع نعيم بن مسعود الأشجعي (ولم يكن أسلم إذ ذاك)، فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عن قضية العير وخطة سيرها، فأسرع سليط إلى النبي صلى الله عليه وسلم يروي له القصة. وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب في قيادة زيد بن حارثة الكلبي، وأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة، وهي تنزل على ماء في أرض نجد يقال له: قَرْدَة، فاستولى عليها كلها، ولم يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إلا الفرار بدون أي مقاومة. وأسر المسلمون دليل القافلة فرات بن حيان، (وقيل: ورجلين غيره) وحملوا غنيمة كبيرة من الأواني والفضة كانت تحملها القافلة، قدرت قيمتها بمائة ألف؛ وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، وأسلم فرات بن حيان على يديه صلى الله عليه وسلم. وكانت مأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشاً بعد بدر، اشتد لها قلق قريش وزادتها هما وحزناً. ولم يبق أمامها إلا طريقان: إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها، وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين؛ أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد، وعزها القديم، وتقضي على قوات المسلمين بحيث لا يبقى لهم سيطرة على هذا ولا ذاك. وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فازداد إصرارها على المطالبة بالثأر، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميمها على الغزو في ديارهم، فكان ذلك وما سبق، من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد.] . وقبل المضي في الكلام، لا بأس من أن نذكّر بأن الغزوة، هي ما خرج فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الجيش، سواء أوقع قتال أم لم يقع؛ والسرية، هي ما أمّر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد الصحابة على الجيش، من دون أن يخرج بنفسه الشريفة. وهكذا، فإن سرية زيد بن حارثة، تكون قد حدثت من دون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأس الجيش؛ وإنما بتكليف زيد بن حارثة رضي الله عنه بقيادة الجيش بالنيابة. ويتضح من مجريات الأحداث، أن اعتراض قافلة قريش التجارية، وهي متنكبة عن الطريق المعتاد لها، كان ضربة موجعة جدا للمشركين، وكان طعنة مباشرة في كبريائهم. لذلك فإن هذا الحدث الاستراتيجي، كان السبب المباشر في غزوة أحد، التي لم يبق لنا إلا الدخول في تفاصيلها... (يُتبع...) [1] . الرحيق المختوم. |