انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني Translated
Sheikh's Books |
2021/03/18
الحوار الغائب (ج3) -22-
المرحلة المدنية (8) (تابع...) ثم يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]؛ يذكّر الله الكافرين بسوء حالهم، عند إنفاق المال من أجل محاربة أهل الحق. ولو أنهم كانوا يعلمون أنهم في الجانب الخاسر من المعركة، لأبقوا على أموالهم -على الأقل- ينتفعون بها وينتفع بها ذووهم؛ ولكنهم عندما عميت أبصارهم، صاروا يسعون في خراب بيوتهم بأيديهم. وفي العادة عندما يُنفق الناس الأموال، فمن أجل تحقيق مكاسب لم تكن؛ فإذا صارت تجلب المصائب والهزائم، فإن هذا يعود بالحسرة على أصحابها من غير شك، بعد انقشاع غبار الأحداث. وبعد خسارة الدنيا المتمثلة في الهزيمة اللاحقة بالكافرين، وفي خسارة الأموال من دون طائل، فإن عذاب الآخرة يكون في انتظارهم جزاء كفرهم، حتى يكمل الأمر. وهذا هو الخسران المبين!... ومن هنا يظهر أن جل الكافرين المعاندين للحق، والمحاربين لأهله، لا يكونون أبدا من العاقلين؛ لأنهم لو كانوا يعقلون، لاعتبروا ولو جانبا واحدا من الفوز، وحرصوا عليه. ولسنا نعني هنا بالاعتبار، ظنهم في الأمور ومختلف توهماتهم، ولا أحد من الناس يقصد إلى خراب بيته بنفسه على التمام؛ ولكن نعني مآل الأمور، بحسب ما يرتبها الله بحكمته، وما يطوي فيها من أسراره؛ والعبرة بالخواتيم. وفي نفي صفة العقل عن الكافرين قال الله تعالى آنفا: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]. ثم يقول الله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]؛ وهذه الآية يبيّن الله فيها الحكمة من إمداده لعباده الكافرين في كفرهم، حتى يكونوا منفقين ومقاتلين، وخاسرين في النهاية ومهزومين؛ وهي تمييزه سبحانه بين الخبيث والطيب. وليس الخبيث إلا الكفر، ولا الطيب إلا الإيمان!... ومع الاشتراك في الصفة، فإن الله يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه في جهنم؛ والرَّكْم: التكويم مع الإهمال. كل هذا، لتظهر ميزة المؤمنين المنعَّمين في الجنة، والمعتنَى بهم غاية العناية. ومن هنا يظهر أن الكافرين مخلوقون لأجل المؤمنين، لا لأنفسهم. فهم خدم بالحال للمؤمنين، في الدنيا والآخرة؛ وإن كان شطر منهم -بسبب جبروته في الدنيا- يتوهم أن المستضعفين من المؤمنين خدم لهم، بعكس الحقيقة. وما نقوله هنا، داخل في باب العدل الإلهي؛ من دون تسوية بين حزب الله وحزب الشيطان!... ولا بد لمن عقل عنا، أن يقرّ بأن العدل لا يقتضي التسوية دائما؛ كما يفهم ذلك القاصرون من أهل زماننا، الذين يدعون إلى ما لا يمكن تحققه في الواقع دنيا وآخرة!... ومن تتبع معنى الفوز والخسران في القرآن، فإنه سيجدهما منوطيْن في الغالب، بالآخرة دون الدنيا؛ لا لأن الدنيا تخلو منهما، ولكن لأنها لا اعتبار لها في الآخرة. وعمر الدنيا المحدود، مهما بلغ في الطول، فهو بالنظر إلى عمر الآخرة غير المتناهي يُقارب الصفر. وكل فوز أو خسران يكون دوامه مقاربا للصفر، فلا ينبغي أن يُعتبر. ولكن مبدأ النسبية، الحاكم على عقول الكافرين، يجعلهم يرون ذلك المقدار الضئيل عظيما في أعينهم، بسبب تغييبهم لاعتبار الآخرة عند نظرهم في الأمور المختلفة. وهو غلط منهم في الحسبان!... ثم يقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38]؛ والخطاب للخليفة الإلهي صلى الله عليه وآله وسلم، من باطنه. وهو، من رحمته بجميع المظاهر، ومن باب إقامة الحجة على العباد. والمعنى هو أن مَن كفر وعاند، وانتهى عن ذلك ورجع إلى الحق، ولو بعد إيذاء المؤمنين، فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه، ويُصبح بعد إسلامه طاهرا كيوم ولدته أمه. وهذا، لأن الكافر لو أُخبر بعدم مغفرة ذنوبه السابقة على إسلامه، فإن ذلك سيكون له كالحض على البقاء على الكفر، ما دامت المؤاخذة تطلبه. وحتى لا يُبقي الله عذرا للكافرين في إصرارهم على الكفر، فإنه برحمته حكم بمغفرة ذنوبهم الفارطة. وهذا يُظهر أن الكافر لا يبقى على كفره، إلا إن كان الكفر متأصلا في نفسه؛ مع تحققه بالخسران المبين. وهؤلاء هم أهل الكفر حقا، لا من كانت فيهم نازعة تنزع بهم إلى الخير، مهما صغرت أو خفيت. وأما المراد بالعائدين في عجُز الآية، فيُراد منهم على المدى القريب، من أصر على الكفر من بعد هزيمة بدر؛ فهؤلاء سينالهم ما نال نظراءهم من قتلى وأسرى بدر، في قابل الأيام. وأما على المدى البعيد، فالمراد أن المصرّ على الكفر، سيناله ما نال الكافرين من الأمم السابقة، الذين صاروا عبرة لمن جاء بعدهم من الأمم المتأخرة. وتحتمل الآية، أن العائدين يُقصد منهم من يُظهرون الإيمان طلبا للسلامة، فإذا بدا لهم أنهم قد أمِنوا على أنفسهم، عادوا لما كانوا عليه. وهؤلاء حكمهم حكم كل الكافرين، في الدنيا والآخرة؛ من دون اعتبار لإيمانهم العارض. وهذا -كما لا يخفى- حال المنافقين، الذين سنعرف نماذج منهم عن قريب في المدينة، بإذن الله... ثم يقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39]؛ أي وقاتلوا المصرّين على الكفر المعاندين للحق، والعاملين بما يملي عليهم كفرهم، في قابل الأيام، كما قاتلتموهم يوم بدر؛ لأن المبدأ المؤسس لقتالهم مبدأ ثابت سارٍ، لا يتخلف حكمه في زمن من الأزمان؛ وإن كان لمسألة القتال هذه شروط معتبرة في التشريع، أهمها الائتمار بأمر خليفة الزمان. وذلك لأن قتال الكافرين، هو من أجل إبعاد الفتنة عمن وجد من نفسه رغبة في الإيمان من قومهم، عند حمايته من قهرهم له على الكفر. وهذا أصل عظيم في حكم القتال في الإسلام، لم نر عناية من فقهاء الظاهر به؛ مع أن الله جعله أول اعتبار له سبحانه في المسألة. ثم يأتي الاعتبار الثاني بعد اعتبار حق الإنسان في الإيمان، وهو إعادة الدين إلى أصله؛ ليكون هذا الدين لله كما كان عند أول جعله، لا كما تُصيّره الأهواء شيئا فشيئا، ومع مرور الزمان؛ وهذا المعنى يدخل ضمن التجديد الدينيّ العام، كما لا يخفى. وهذا يقتضي منا هنا، أن نبيّن أن للتجديد صورتيْن: الصورة الأولى، وهي التجديد مع نسخ الشرائع؛ وهو لا يكون إلا للرسل عليهم السلام. والصورة الثانية، وهي التجديد داخل الشريعة الواحدة؛ وهو يكون في الغالب على أيدي الأنبياء في الأمم السابقة، ويكون على أيدي الورثة، في أمتنا خصوصا. وهذا لأن أمتنا على شريعة خاتمة، وعلى نبوة مستمرة فيها مع الورثة. ونعني من هذا، أن معنى انقطاع النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، لا يصح، كما يتوهمه الغافلون؛ وإنما هو يدل على أن نبوته عليه السلام، باقية إلى قيام الساعة فحسب؛ وإن رحل شخصه الشريف عن الدنيا. وهذا المعنى من أدل الدلالات على ختمه صلى الله عليه وآله وسلم للنبوة؛ وعلى نيل ورثته لمرتبة التجديد الديني الخاص، ليكونوا نظراء من حيث المكانة للأنبياء من الأمم السابقة، تشريفا له صلى الله عليه وآله وسلم وتكريما. فمن انتهى ممن كان على الكفر من الناس، عن قهر المستضعفين بغية قطعهم عن الإيمان؛ وانتهى عن تحريف الدين بإدخال ما ليس منه فيه، ليكون مضلا لأهله وطالبيه عنه؛ فإن الله سيبقى رقيبا عليه في مدى التزامه بما التزم به؛ من كونه سبحانه بما يعملون بصيرا. والبصير هو من لا يغيب عن بصره شيء من المـُبصَرات، حتى وهي في حال عدمها؛ فكيف يغيب عنه جل وعلا، وهو مشاهَد لعباده في عالم الشهادة؟!... وإنّ أقرب مشاهِد للعمل من الخلق، صاحبه العامل له؛ والله أبصر من هذا العامل بعمله!... لذلك، فلا ينفع العباد إلا أن يأتوا ربهم تائبين حقيقة، لا متظاهرين؛ ومن ظن أنه سيخدع الله، فما يخدع إلا نفسه، وهو لا يشعر!... يقول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ . فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 9، 10]. ثم يقول الله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40]؛ أي وإن تولى هؤلاء المدعوّون إلى الإيمان بعد الكفر، وأعرضوا عن نفع أنفسهم في الدنيا والآخرة؛ فلا يضيركم أيها المؤمنون من حالهم شيء؛ واعلموا أن الله مولاكم، يكفيكموهم، ويصرف عنكم شرورهم وآثار سوئهم. فهو نعم المولى لكم، يمنعكم؛ ونعم النصير، يُظفركم عليهم بنصر من عنده، إن هم واجهوكم؛ وإن فاقوكم عددا وعُدة!... ثم يقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41]. وهذه الآية قد نزلت لحسم المنازعة التي وقعت بين الصحابة في شأن الغنائم، وجعلت لها أصلا لا يُخرَج عنه؛ بعد أن كانت خاضعة في حروب الجاهلية إلى استيلاء كل محارب على سَلَب قتيله تلقائيا، أو على ما تقع عليه يده بعد انتهاء الحرب. فأصبح توزيع الغنائم عائدا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد خصم الخمس الذي أولاه الله. ومعنى جعل الخمس لله ورسوله، هو مما يتعلق بخلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الله؛ وليس الأمر منوطا بخروج النبي بشخصه محاربا وحده (الضمير يعود على الخروج). وهذا يعني أن الجيش جيش الله ورسوله، وأن الجند جند الله ورسوله. ولو أن الله راعى النصر الذي من عنده وحده، لجعل كل الغنائم لله ورسوله؛ ولكنه سبحانه راعى جهاد المجاهدين، مع كون الجهاد مخلوقا له، كما أخبر سبحانه في قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]. والعلة في هذا الحكم من إشراك العباد في الغنائم، هو الاشتراك في حكم الحقائق، كما نقول دائما؛ رغم فقر العباد الأصلي، وإغنائه سبحانه لعباده من جوده وفضله؛ على ما بين الغنيمة والفيء، من اشتراك ومن افتراق؛ كما هو معلوم لدى أهله. وقد جاء في كيفية تقسيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للغنيمة، عن أبي العالية الرياحي التابعي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بالغنيمة، فيقسمها على خمسة: تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس، فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة، وهو سهم الله؛ ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم: فيكون سهم للرسول، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل."[1]. وقد غلط من قال من المفسرين أن الخمس ليس لله ورسوله منه شيء، وإنما كان النبي يأخذه ويجعله للكعبة ولقرابته عليه السلام، من دون أن يبقي لنفسه شيئا. والغلط هو من وجوه: الأول: قالوا لو أن الله جعل لنفسه نصيبا، لوجب أن يكون لذلك قسم سادس؛ وهو غلط بيّن، لأن الله يجمع بين قسمه وقسم رسوله ويجعلهما واحدا في الأصل، للمعنى الذي ذكرناه في الخلافة عن الله. وهو من معاني التوحيد الطافح بها القرآن والسنة. والثاني: هو أن لله أن يدخل في القسمة مع من يشاء من عباده، مراعاة لأحكام الحقائق، والتي قلنا عنها إنها "سنن الله" الوارد ذكرها في القرآن بهذا الاصطلاح الرباني. ومن باب هذا الصنف من القسمة أيضا، ما ورد من تقسيم الصلاة بين الله وعبده، كما جاء في الحديث القدسي: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ؛ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي؛ وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي؛ وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي؛ وَقَالَ: مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي؛ فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ؛ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ .} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.»[2]. وهذه القسمة في الأحكام بين الله وعبده، أو بين الله وسائر عباده، لهي مما يُعتبر عندنا في الحقائق على كل حال؛ وعلمها من أعجب العلوم. وهي معتبرة عند الله، ومما يرضى به الله سبحانه؛ إن كانت النسبة عن علم. وكيف لا يكون الأمر كذلك، والله أشد اعتبارا للحقائق عز وجل!... والعبد الرباني يأخذ قِسمته في المـَشاهد الناشئة عن هذا العلم، وهو يعلم أحقيته بها. وهذا الذي نذكره هنا، هو مما يدخل فيما سميناه عدة مرات "شرك الحقائق"؛ وهو علم وراء علم التوحيد الخاص، فلا ينبغي أن يَضلّ عنه العلماء عند تسميته شركا! والكلام مع أهله، لا مع غيرهم!... والوجه الثالث: وهو ما يقول فيه الناس إن لله الدنيا والآخرة، ظنا منهم أنهم يوفون الأدب مع الله حقه بذلك؛ وقد ذكره بعضهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والأصح، هو أن هذا القول يناسب العامة من المؤمنين في الأدب؛ وهو إن صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنما يكون موافقة لهم، لا غير. ونعني من هذا، أن هذا القول يكون صحيحا في مرتبته، لا على الإطلاق. وأما العمدة عند المتحققين، فهو ما ذكرناه من الشركة في المعاني؛ بعد مجاوزة علم الخواص في المسألة. وهذا يعني أن للمسألة من جهة التوحيد اعتبارات ثلاثة: ما هو من التوحيد العام، وما هو من التوحيد الخاص، وما هو من التوحيد الأخص. ومع كون الخمس الذي لله ورسوله، يعود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ثبت أنه عليه السلام ما كان يُبقي لنفسه شيئا من ذلك، مما يُجاوز الضرورة، من باب جوده وفضله؛ تخلقا بأخلاق الله ذي الجود والفضل. فليُعتبر هذا!... وأما قول الله في الآية: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فهو يدل على أن هذا الحكم يُلزم من كان مؤمنا بالله من وراء حجاب المظهر النبوي الأكبر؛ وأما أهل العلم والمشاهدة، فهم يعلمون من هو الله ورسوله حقيقة. وأما تعلق الحكم بيوم الفرقان، فالمقصود منه تجلي الفرقان، الذي تُقصد منه كل أيام الفرقان؛ أي جنس الفرقان. والفرقان الذي هو "الفرق"، هو خلاف القرآن الذي هو الجمع. وقد ظهر حكمه في قسمة الغنيمة بين الله ورسوله من جهة، وعباده من جهة أخرى. ولو بقي الحكم للجمع، لما نال العبادُ منه شيئا بصفتهم!... وهذا مما ينبغي أن يُعتبر!... والمقصود من قول الله: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، أي عند وقوع حكم الفرق على العباد أنفسهم، حتى كان منهم المؤمن والكافر. فكأنه يقول: إن الفرق يأتي بالفرق. وهذا الفرق بين المؤمنين والكافرين، يأتي في مقابل الجمع المشار إليه في مثل قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة: 213]؛ أي ليقع التفريق بعد أن كانوا مجموعين في الحكم. ولولا حكم الفرق، ما التقى الجمعان، ولا كانت الحرب بين الفريقيْن. فالقتال بين المؤمنين والكافرين، هو من أحكام الفرق التي أثبتتها الشريعة. وهذا الحكم، بهذه الصورة، لا يُرفع إلا في الآخرة، عند انفراد كل فريق بداره المخصوصة؛ وأما قبل ذلك فلا يُرفع أبدا. ولسنا نعني من كلامنا، إلا أن الفرقان في الدنيا يُعطي المواجهة والصراع بين الفريقيْن؛ وأما فرقان الآخرة، فهو فرقان فصل. وأما ذكر صفة القدرة الإلهية في ختام الآية، فهو للدلالة على أن الفرق في عين الجمع هو عائد إلى حكمها (القدرة)؛ وهو من عجائبها، التي لولاها ما ظهر لأحكام الفرق كلها أثر!... فلله القدير الحمد على ما أنعم وحكم، وقدّر وأحكم!... ثم يقول الله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]. والعدوة الدنيا التي كان بها جيش المؤمنين، هي شفير الوادي الذي من جهة المدينة؛ والعدوة القصوى، هي شفير الوادي الذي كان به جيش المشركين في الجهة المقابلة. والركب الذي هو أسفل منهم، هي العير التي كان فيها أبو سفيان ومن معه، من جهة البحر. وأما قول الله بعد ذلك: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا}، فهو لأن المسلمين والمشركين، لم يلتقوا عن قصد لذلك فيما بينهم؛ ولكن الأقدار ساقتهم، إلى حيث يريد الله سوْقا. وذلك: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}؛ أي ليموت في المعركة من يموت، بعد أن يعلم موضعه من الحق والباطل، وبعد معاينته لآية قتال الملائكة إلى جانب المؤمنين؛ وليحيى بعد معركة بدر من حيي، وهو على بيّنة من أمره، مفرق بين الحق والباطل أيضا؛ بعد أن يكون قد عاين نصر الله لعباده المؤمنين على قلتهم. وأما قوله سبحانه في ختام الآية: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فالمراد من السميع الإجابة لدعاء الحال ولدعاء المقال من المؤمنين؛ فلما سمع الله الدعاء منهم أجابهم؛ وهو عليم سبحانه بمن يستحق من عباده الإجابة منه، ممن لا يستحق. والإجابة لها صور مختلفة، ليس هذا أوان الدخول فيها... ثم يقول الله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43]؛ والمراد هو أن إراءة الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم عدوه في عالم الرؤيا قليلا، تعدت إلى نظر المؤمنين فتقالُّوهم عند ذلك، على الرغم من كثرتهم في الشهود العيني. وهذا يعني أن إدراك الأمور يكون نسبيا: ففي بعض الأحيان قد يرى الناس القريب بعيدا، والبعيد قريبا؛ أو يرون الكثير قليلا والقليل كثيرا؛ أو يرون الطويل في الزمان قصيرا والقصير طويلا، وهكذا... ولو تمعن الناس في مسألة اعتبار الدنيا، مع الغفلة عن الآخرة، لرأوا العجب من هذه النسبية؛ مع مخالفتها للواقع لدى الغافلين، بما لا شك فيه البتة عند المؤمنين. وهذا يعني -تتمة لما ذكرناه في الآية السابقة- أن الله إذا أراد من عباده شيئا، فإنه يجعل إدراكهم يبلغه على الهيئة التي تبعثهم على فعل ما يُراد منهم، لا على حقيقته دائما. ولو أن المؤمنين رأوا كثرة المشركين على حقيقتها، من دون تعديل رباني لإدراكهم، لغلب عليهم شهود الكثرة، ولانقسموا في الرأي، بسبب طلب شطر منهم للسلامة واجتناب القتال. والانقسام منهم فشل (ضعف) سواء أدَخلوا به المعركة أم لم يدخلوا؛ لأن له تبعات في الحاليْن، ستبقى آثارها بعده طويلا. وقول الله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}، معناه: ولكن الله سلمكم من شهود كثرة عدوكم بعقولكم، وإن شهدتها أبصاركم. وهذا من آيات الله، التي تقع للناس في أنفسهم، وتتكرر معهم في كثير من أوقات حياتهم؛ ولكن أغلبهم عنها غافلون. ولو كان الناس يعودون بعد وقوع الأمور، إلى تحليل أسبابها ونتائجها من جهة الحس والعقل، لرأوا عجبا من أنفسهم. وذلك، كما يحدث لأهل الله، عند مشاهدتهم للأفعال صادرة عن الله بقدرته وإرادته، من غير تعمل منهم في الحقيقة؛ وإن كان بين الشهوديْن بون، كما لا يخفى. وأما قوله سبحانه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، فهو متعلق بما أسلفنا، وهو أن الله عليم بما يصدر عنه من أفعال، فيُخرجها إلى الوجود بحسب ما علمها، لا بحسب ما يُعطيه إدراك العباد منها؛ سواء أوافق هذا الإدراك معلوم الله جزئيا، أم لم يوافقه. ومن علم هذا الأصل، فإنه لا يرى الأشياء صادرة إلا من الله حقيقة، لا مجازا؛ كما يظن ذلك العامة من المؤمنين بسبب قصورهم عن إدراك الحقيقة... ثم يقول الله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الأنفال: 44]؛ فبعد أن ذكر سبحانه ما تعلق بإدراك المؤمنين لحقيقة الوضع، عاد ليذكر ما يتعلق بالفريقيْن معا. فهو سبحانه كما قلل المشركين في نظر المؤمنين، قلل المؤمنين في أعين المشركين، ليقع الإقدام من الجهتيْن؛ ما دام القتال يتطلب فعلا من الجانبيْن. كل هذا، ليقضي الله أمرا كان مفعولا؛ أي كان معلوما أنه لا بد أن يظهر على الوجه الذي ظهر. وأما قوله سبحانه: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، فيعني أن الأمور الظاهرة في عالم الأفعال كلها، هي عائدة إلى الله لا إلى سواه؛ من جهة العلم ومن جهة الإرادة ومن جهة القدرة ومن جهة الحكمة. وليس للعباد من هذه الأمور، إلا النِّسب، التي تجعلها من قوم ضد آخرين، وفي مصلحة قوم، وعلى غير مصلحة آخرين. وهذا يعني أن العباد في الحقيقة سواء، بالنظر إلى مختلف الأمور؛ لولا أن لهذه الحقيقة نسبة إليهم من أحد الوجهيْن، تجعلها الحكمة ظاهرة للناظرين. وهذا الترتيب الذي تقتضيه الحكمة، يجعل كثيرا من الناس لا يُدركون الأشياء على حقيقتها من الاستواء الأول فيما بينها؛ خصوصا بالنظر إلى المشيئة التي هي الحاكمة عليها. وهذا يُشبه ما تناولناه سابقا، من استواء الأمم فيما بينها، قبل بعث الرسل... ثم يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]؛ وهذه قاعدة عمليّة، مُستخلصة من الحقائق المذكورة آنفا، يُبرزها الله برحمته لأعين المؤمنين ولبصائرهم؛ حتى يكون اعتمادهم إذا لقوا أعداءهم فيما يأتي من الزمان على الله الفعّال لما يريد؛ لا على ما تعطيه الأسباب في نظر عقولهم. فإن هم ميّزوا الأمريْن، ووقفوا مع الحق فيهما، فإن الثبات يظهر منهم؛ يمنحهم الله إياه بفضله، وإن تخلفت الأسباب. فالثبات نتيجة لذكر الله في الأمور، وإن تقدم الثبات عليه في الترتيب؛ لأن الأمر بذكر الله، أمر شرعي ظاهر، تترتب عليه النتائج المرجوة كلها، والتي عبر عنها الوحي بالفلاح. وهذا المنطق الذي تعود إليه الأمور، والذي يؤثر فيما يكون عنها في الشهادة، هو من جهة الحكم الشرعي منطق إيماني؛ لكنه ناتج عن منطق الحقائق التي ذكرنا سابقا عنها، أنها هي سنة الله عينها في الأمور. وإن اعتماد المسلمين على المنطق العقلي وحده، بمعزل عن جميع صنوف المنطق التي نشير إليها؛ خصوصا بالنظر إلى الفقهاء الذين يكونون معلمين لغيرهم، هو من غير شك انحراف عن سبيل المؤمنين وخروج عنه إلى سبيل العقلاء والفلاسفة. وهذا الفسوق النظري، في مقابل الفسوق العملي المعلوم للناس، هو من أكبر أسباب ضعف المسلمين؛ خصوصا في عصرنا، حيث يتوهم الناس أنهم على عقل، وأنهم أقدر من سابقيهم على روْز المسائل، والخروج منها بما ينفعهم؛ وهيهات!... ومن هذا الباب، كنا نحن ندل من يسمع منا، على العمل بمنطق الإيمان، الذي يظهر في أعين أصحاب العقل المجرد جنونا. وذكرنا أن العمل بهذا المنطق، أو بمنطق الحقائق، فيما يعود للأنبياء والورثة عليهم السلام، هو ما يجعل ضعفاء العقول ينسبونهم إلى الجنون، عند جهلهم بالمنطق الذي يعملون عليه. وهذا الذي نذكره، هو من الأسرار التي لا يُظهرها الله إلا لمن شاء من خواص عباده؛ لأنهم عند اطلاعهم عليها، يجدون كل حُكم من أهله صحيحا، من حيث نظر الناظر إليه، بصرف النظر عن موافقته للشريعة أو عن مخالفته؛ وعن كونه صحيحا من جهة الواقع أو كونه فاسدا. يقول الله في هذا المعنى ردا على القاصرين: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22]؛ أي كما تتوهمون. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ، حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ!»[3]. والمعنى هو: أكثروا ذكر الله، حتى يكون عملكم وفق منطق الذكر؛ وحتى يحكم الغافلون عليكم بالجنون عند مجاوزتكم لمنطقهم (العقلي) في مرتبتهم. والمقصود من الكلام، هو أن للذكر برهانا يدل على تحققه، هو هذا المذكور. وكل ذاكر لله، لا يبلغ هذه المرتبة، فما عرف الذكر؛ ووصْف العامة للذاكر بالجنون، هو دليل على كونه على السُّنة؛ بعكس ما يقول فقهاء السوء. وعلى هذا، فإن مسألة عقلانية المؤمنين، تنبغي إعادة النظر فيها، وبالتالي تصحيح الأعمال على نور الوحي منها. ومن علم ما نقول، فإنه سيعلم سببا عظيما، من أسباب استعادة الأمة لقوتها، بعد ضعفها وهوانها... ثم يقول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]؛ وحتى يكون المؤمنون على سواء السبيل، ويتمكنوا من فعل ما أُمروا به من عند ربهم؛ بيّن الله لهم معيارا جامعا في كل ذلك، لا يتخلف أثره أبدا، ألا وهو طاعة الله ورسوله؛ بمعنى "الاسم المركب" كما نبهنا آنفا. وقد غلط أقوام، عندما فرقوا بين طاعة الله وطاعة رسوله في مثل هذه المواضع والمواطن؛ لأنهم بذلك التفريق قد عدلوا عن المعنى الصحيح الجامع. وعلى هذا، فإن فهم عوام الفقهاء دائما من طاعة الله ورسوله، العمل بالكتاب والسنة، لا يكون عاصما لهم من الوقوع في الزلل: أوّلا، لأن الفهم عن الله في الكتاب والسنة، لا يتحقق لكل أحد منهم؛ وهم في الغالب يأخذون عن عقولهم لا عن الله في ذلك. وثانيا لأنهم يفقدون المعيار الثابت، وهو الحكم الذي يسمعونه من فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أو من فم وارث للنبوة في الأزمنة المتأخرة. وهم بفقدهم لهذا المعيار، يكونون قد فقدوا العصمة من الفسوق والعصيان؛ وإن لم يشعروا بما وقعوا فيه، بسبب بعدهم عن نور النبوة. ومن ينظر إلى عاقبة عدم طاعة الله ورسوله، من فشل وذهاب ريح، فإنه سيعلم السبب الرئيس لما هي الأمة عليه اليوم من سوء الحال، رغم زعم المسلمين بألسنتهم أنهم على الصراط المستقيم. وأما قول الله بعد ذلك: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، فهو يحتمل وجهيْن: الأول: أن يصبر المؤمنون على طاعة الله ورسوله، إن هي بدت لهم على غير ما يرغبون، أو إن هي شقّت عليهم، أو إن هي خالفت النظر العقلي منهم. والثاني: هو صبرهم بعد مخالفة الله ورسوله، عند جريان القدر بها، على الفشل والافتراق، إلى حين عودتهم إلى الطريق الأصلي، عند إذن الله بذلك، وبعد تحقق التوبة والاستغفار منهم... ثم يقول الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47]؛ والمقصود بالذين يحذّر الله عباده من أن يكونوا مثلهم، هم أبو جهل ومن خرج معه، عندما بلغهم أن العير قد سلمت، فأبوا إلا أن يأتوا بدرا ويقيموا بها ثلاثا ينحرون وتعزف لهم القيان ويشربون الخمر، حتى تسمع بهم العرب. وهذا النهي الرباني يريد أن يؤسس لافتراق أحوال المؤمنين عن الكافرين منذ الآن؛ خصوصا وأن خصال المفاخرة كانت عامة في العرب، ولم يكن الصحابة قد بعدوا عنها كثيرا. والمعنى هو: أن طريق الإيمان طريق عبودية، بخلاف طريق الكفر الذي هو في الغالب طريق ربوبية؛ بسبب جهل أصحابها بربوبية الرب سبحانه. والعبودية تقتضي من المؤمنين أن لا يفعلوا شيئا، من قتال أو غيره، إلا بإذن الله ورغبة في مرضاته؛ لا انتقاما لأنفسهم، أو استصغارا لغيرهم. وقد بيّن الله في هذه الآية، أنه سبحانه قد خذل المشركين، لأنهم كانوا على صفات يُبغضها، من كونه محيطا بما يعملون. وإحاطة الله العلمية، لا يتصورها أحد من العباد، لأنها خارج التصور العقلي. وذلك لأن الإحاطة، لا يخرج عنها شيء من المعلومات البتة؛ وبسبب هذه الإحاطة لا يتمكن أحد من إنكار ما يُواجَه به مِن قِبل الله يوم القيامة؛ لأن العاقل يعلم أن الله يعلم منه، ما لا يعلمه هو من نفسه. ومن معاني الآية، تحذير الله للمؤمنين أن تكون عاقبتهم كعاقبة المشركين أيضا، إن هم تلبسوا بصفاتهم. فإن قيل: وكيف يكون المؤمنون على صفات المشركين، مع اختلاف السبيليْن؟ قلنا: يقع ذلك عند طروء الغفلة على المؤمنين، وقد وقع. فها نحن أولاء ننظر إلى انهزام المؤمنين أمام جميع صنوف الكافرين؛ لا لأن الله ينصر الكافرين، وهو سبحانه القائل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]؛ ولكن لأن المؤمنين صاروا على صفات المشركين، مجانبين لصفات العبودية. ولن ينتصروا، حتى يعودوا إلى طريقهم الأصلي، وإن طال بهم الزمن. وعلم العبودية، ليس هو علم العبادة الذي يشتغل به الفقهاء؛ بل هو مجهول للفقهاء، لا يعلمه إلا أهل طريق التزكية من الأولياء؛ والفقهاء في الغالب من أكثر الناس تلبُّسا بالصفات الممقوتة، بسبب جهلهم بالعبودية. ومصير الأمة، محدد بمدى قربها من أوليائها أو ابتعادها منهم؛ عرفت أم لم تعرف!... لا بكثرة فقهائها!... وقد كنت مرة في رفقة أحد الإسلاميّين المعجَبين بأحوالهم، فسألته: متى كان عدد علماء الدين أكبر؟ في ماضي الأمة أم في حاضرها؟ فأجاب: في حاضرها! فسألته: فلمَ كان الإيمان أكثر انتشارا في الزمن الأول مع قلة العلماء في الظاهر، دون الآخر، مع كثرتهم في الظاهر أيضا؟ فبهت!... ولم يحر جوابا... ثم يقول الله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48]. ويبيّن سبحانه هنا أن القائد لجيش المشركين كان الشيطان، الذي كان يوجّههم ويُنهضهم بجعلهم يتمسكون بصفات الربوبية المحرمة عليهم. وإن النفوس ميّالة بطبعها نحو الربوبية، لذلك هي تنساق خلف تزيين الشيطان، عندما ترى الرفعة التي يدعوها إليها، وعندما تسمع وعده الكاذب لها بأنه لا غالب لهم من الناس اليوم؛ مع أنه عندما رأى ما لم يروه من مؤازرة الملائكة للمؤمنين نكص على عقبيْه، متبرئا ممن كان إلى قريب يشد من أزرهم. وقال مقولته الشهيرة: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. ولسائل أن يسأل هنا: إن كان الشيطان على هذا العلم وهذا الخوف من الله، فلمَ يدخل في معارك خاسرة؟ فنقول: اللعين ليس بهذا الجهل أو بهذه الغرة، بحيث يعلم أنه سيخسر ثم يتمادى؛ ولكنه من علمه أيضا، يتمنى أن يكون المؤمنون على صفة يُبغضها الله، تجلب عليهم الهزيمة من حيث لا يعلمون؛ فيظهر في نظر حزبه وكأنه على حق، وأنه على علم بمآلات الأمور؛ حتى يزدادوا له طاعة ويزدادوا بإخباره يقينا. فهو يراهن على التباس الأمور، ليلبس على من لا نور لهم أكثر فأكثر، فيستحوذ عليهم بالاحتيال. هذا هو عمله!... وهو دائما بين أمانٍ وخيبات؛ وهي على كثرتها، لا ترده عن طريقه، لأنه لا طريق له غيره قهرا. فهو ملعون، والملعون لا يتمكن من مقاربة طريق النور والخير، المفضي إلى الجنة أبدا. ولو علم الناس ما نقول هنا، لعلموا أن إبليس لا يدوم فرحه إلا قليلا، ببعض الانتصارات الوقتية التي قد يُحققها على ضعفاء الإيمان؛ وأما الأقوياء، فلا يظفر منهم بشيء وإن أزلّهم الزلة والزلّتيْن، بسبب رجوعهم من قريب إلى ربهم. يقول الله تعالى عن هذا الصنف: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. أما الأولياء، فهو يفر منهم فرارا، لأنهم يقلبون عليه كل تلبيساته، فيعود ملبوسا عليه بعد أن كان لابسا. وهذا لأنهم على علم في شؤونه، لا يعلمه هو نفسه؛ ومن هذا الباب كان المصاحب للأولياء لا يتمكن الشيطان من إضلاله، إلا إن أغفله اللعين عن إمامه. وهذا الأصل ثابت لدى أهل التزكية، بالتجربة والذوق. وعلى كل حال، فإن معاملة الشيطان، لا يسلم منها إلا الربانيون، فلا يغتر أحد من علماء الدين بزعم النجاة لنفسه؛ فإنه يتلاعب بهم تلاعب الصبية بالكرة!... ولعلنا في كل مرة، سنكشف -بحسب السياق- ألعوبة من ألاعيب اللعين، ونبيّن من أين يستدرج الناس فيها، وكيف يكون الخلاص منه. وهذا العلم نفيس، لا تحويه الكتب ولا تبلغه العقول؛ فمن نال شيئا منه عن طريقنا، فليشكر ربه المتفضل به علينا جميعا. ثم يقول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]؛ قيل إن هذه الآية نزلت في جماعة من أهل مكة كانوا قد تكلموا بالإسلام، ولكن لم يكن قد استحكم في قلوبهم. فلما خرجوا مع قومهم للقاء المسلمين، ورأوا قلة عددهم، قالو: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}؛ وهذا الحكم منهم موافق لما تُعطيه العقول من جهة الظاهر. وهذا الخطاب، مستمر من المنافقين وضعفاء الإيمان، في كل الأزمان؛ وهم لا يرونه إلا عقلانية يُفاخرون بها. ولقد رأيناه نحن رأي العين في الناس مِن حولنا، عندما يجدوننا نصدع بكلمة الحق، أمام الجميع؛ فيحكمون علينا بأننا هالكون لا محالة، لسبب من الأسباب المعتبرة في نظرهم؛ ويجزمون أننا من الذين غرهم دينهم، حتى صاروا يطمعون في المـُحال. وعلى الرغم من أن الله يُخيّب رجاءهم في كل مرة، إلا أنهم لشدة ظلمة قلوبهم، لا يتمكنون من العودة عن سوء حالهم؛ توهُّما منهم أن ذلك كان فلتة ما تفتأ الوقائع التالية أن تؤكد عكسها. ولم يعلموا -لعدم خبرتهم بطريق الإيمان- أن التوكل على الله، يفعل الأعاجيب؛ علما بأن التوكل هو أول مقامات مرتبة الإيمان وأدناها فحسب!... وإن الله تعالى، عندما يختم الآية الكريمة بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، إنما يعني أن المتوكِّل عليه، يدخل بفضله في منعة العزة الإلهية؛ ومن دخل هذه المنعة، لا ينال منه أعداؤه شيئا، وإن قام عليه جميع العالم!... ولقد أذاقنا الله -بحمده- ذلك، منذ دخلنا مرتبة الإيمان مع شيخنا رضي الله عنه وجزاه خيرا؛ فكنا نرى انفعال الأكوان للعزة الإلهية، من دون أدنى تعمُّل منا؛ ومع يقيننا أننا أعجز من أن نرد أقل شيء من ذلك بنفسنا!... والحكمة المذكورة في الآية، هي التي تتولى ترتيب الأسباب، ترتيبا مخصوصا، مخالفا للمعهود، حتى يأمن المتوكل الشرور المحيطة به. ولم نر أعجب مما يُعطيه التوكل لأهله، بالمقارنة إلى ما تُدركه العقول من جهة العادة؛ حتى إذا وقع الأمر بإذن الله، على خلاف المعتاد، وشاهد المتوكلون بأعينهم قدرة الله على إنجائهم من وراء الأسباب، ازدادوا يقينا بربهم، وازدادوا توكلا عليه سبحانه؛ وهم يعلمون أن كل ذلك من فضله عليهم، فيزدادون شكرا... وإن حال التوكل الخالص، يخالف حال الاغترار بالله الذي يعرض للسالكين، والذي قد يلتبس أمره عليهم لبقية ظلمة فيهم. ولعلنا سنعرض له إن نحن مررنا بما يكون من بابه، فلنمض إلى ما نحن بصدده... ثم يقول الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50]. بعد وصف الله لما جرى في عالم الشهادة من اقتتال بين الفريقيْن، وأحوال كليْهما، ها هو يصف ما يجري في عالم الغيب، عند توفّي الملائكة المكلفين بقبض الأنفس للمشركين، الذين قضى عليهم سبحانه بالموت في بدر، فيُخبرنا بأن الملائكة كانت تضربهم على وجوههم وعلى أدبارهم. وهذا الضرب هو أول ما يعرض لهم من العذاب، وهو نتيجة لإعراضهم عن الله عندما دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه. فالضرب على الأوجه، لأنها أعرضت؛ والضرب على الأدبار، لأنها عند تولي الأوجه، صارت محلها. فالمخالفة من أحد الوجهيْن، هي مخالفة من الآخر، بسبب المقابلة التي بينهما. ومن هذا الباب قيل: "الجزاء من جنس العمل.". ومن يتأمل قول الله في ختام الآية: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}، يعلم أن المضروب به هو آلة من آلات النار، لذلك ينتج عنها الإحراق. وهذا العذاب، هو داخل ضمن عذاب البرزخ، الذي هو مقدمة لعذاب الآخرة؛ وليس من عذاب النار الذي يكون بعد دخولها، كما قد يفهم قوم؛ إلا أن يكون الكلام متعلقا بالآخرة، من جهة التبشير به. وقد يلتبس كلام الله على كثيرين، عندما يجدونه يخبر عن الآتي، بصيغة الماضي أو بصيغة الحاضر؛ وكل ذلك واقع من القرآن الكريم. وما علموا أن إخبار الله عن الأمور، قد يكون من داخل الزمان، فيوافق ما عليه الناس من أحكام في ذلك؛ وقد يكون من خارجه، فتستوي فيه الأزمنة الثلاثة، من جهة الدلالة. ولا ندري (أو لا يحضرنا الآن) هل تكلم علماء الظاهر في هذه المسألة عند كلامهم عن القرآن وأوجه تفسيره؛ أم أغفلوها؟... وإن هم ذكروها، كيف ذكروها؟... وعلى كل حال، فنحن هنا لا نقصد إلى الخوض فيها؛ لكيلا نخرج عن الغرض. ثم يقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51]؛ والخطاب هنا للمشركين المضروبين من قِبل الملائكة عند موتهم؛ والمعنى هو أن الله لم يُسلط عليهم ملائكته بالإيذاء إلا بما يوافق أعمالهم وكسبهم. وذلك لأنه تعالى، ليس من صفته ظلم عبيده؛ وهو العدل سبحانه. وهذا يحسم القول فيما ينشأ من تصورات خاطئة لمسألة العذاب، حتى يقول بعض الجهلة: بما أن الأعمال مقدرة، فلمَ يُعاقَب على سيّئها أصحابها؟ وكأنهم قد علموا معنى القدر حتى يتكلموا فيه؛ وإنما هو الشيطان، يجعلهم يتمسكون بالحجج الواهية، ليزدادوا معصية لربهم، فيحق عليهم العذاب. ولو أنهم تفطنوا إلى كونهم رغم ظاهر اعتراضهم، لا يتمكنون من الرجوع عما هم عليه من حال، لعرفوا أن الأمر أكبر مما يُدركون، وأعز من أن تناله عقولهم. ولقد جاء الله بصيغة المبالغة "ظلاّم" المتضمنة لمعنى المفاضلة، في معرض إنكاره سبحانه، لا ليبقى احتمال الظلم قائما، عند انتفاء الظلم الأشد؛ ولكن للمناسبة التي بين سوء ظن عباده به وذلك الأشد؛ بحيث لو صدق قولهم (تعالى الله) لكان سبحانه ظلاما، لا ظالما فحسب. وهذا الوصف يعود على القائلين، ليجعلهم يفطنون إلى سوء حالهم؛ إن كان الله يريد أن يتوب عليهم. وعلى كل حال، فإن فقهاء البيان لا يغيب عن إدراكهم ما نقول بمجرد السماع؛ وهذا هو ما أخضع العرب للقرآن، من أول وهلة!... ثم يقول الله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52]. وذكر الله عباده عموما فيما يتعلق بالعذاب المنوط بالعباد في طور حياتهم وبعد مماتهم، بما هو معلوم لأهل الكتاب من حال أهل فرعون ومَن قَبلهم من الأمم؛ عندما كفروا بآيات الله، فأخذهم جزاء إعراضهم. فآل فرعون متوسطون في البعد الزماني، بين مشركي قريش الذين هم أقرب المعرضين، والأمم الأولى التي يقص الله علينا أخبارها على سبيل الإجمال في الغالب. وهذا كله، ليدلنا سبحانه على أن سننه في خلقه لا تتبدل ولا تتغير. يقول الله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]. ومعنى كون الله قويا، هو أنه سبحانه قادر على أخذ المذنبين، فإذا أخذهم لا يُفلتهم. وهذا، حتى لا يتوهم الجبابرة من العباد، الذين كانوا يجدون القوة من أنفسهم في حال حياتهم، أنهم سيبقون على بعض ذلك بعد مماتهم، أو أن جبروتهم سيمنعهم شيئا من العذاب. ومعنى "شديد العقاب"، هو أن العقاب الإلهي إذا تعلق بالعبد فإنه يبلغ منه إيذاءه إيذاء شديدا، بحسب حاله؛ لا أن العذاب واحد في شدته من جهة الحقيقة، بحيث ينال من الأضعف ما لا ينال من الأقوى؛ أو يبلغ من المتصبر أقل مما يبلغ من قليل الصبر. كل هذا، حتى لا يقيس السامع لكلام الله الأمرَ، على ما يعلمه من أحوال الناس في الدنيا؛ هذا مع أن الدنيا متضمنة للمعاني التي يدل عليها القرآن. ولكن الاختلاط الذي هو شأن الدنيا، قد يجعل المعاني تخفى عن العقول القاصرة، فيُذكّرها الله بأصل ما هي عليه، لتعود إلى تبيُّنها. وهذا الذي نقوله هنا، يدل على أن من فهم عن الله في كلامه، فإنه سيزداد فهما لأحوال أهل الدنيا من غير شك، بما يُناسب مقدار فهمه ذاك. وهذا الباب من العلم، هو من الأبواب التي يغلب الجهل بها؛ إلا لمن اعتنى الله بهم من الخواص. وهو باب واسع جدا، يتضمن كل الشؤون الجامعة بين الدنيا والآخرة، وإن اختلفت المظاهر من الجهتيْن، بالمقدار الفارق بين ما هو مقيّد وما هو مـُطلق، مع ما بينهما من الدرجات التي لا يحيط بها إلا الله!... ثم يقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53]. وهذا يعني أن الله يسبق بالإنعام على عباده، من باب جوده وفضله؛ ولا يبدأهم بالعذاب أبدا. فإن هم غيّروا ما ينبغي أن ينشأ في أنفسهم من شكر للمـُنعِم، حتى ظهر منهم كفرانا؛ فإنه سبحانه يُغير عندئذ ما بهم من نعمة، جزاء كفرانهم. وأما إن هم شكروا، فإن الله يواصل ما بهم من نعمة، حتى تتواصل عليهم نعم الدنيا بنعم الآخرة. ولقد ذكر الله في ختام الآية صفتيْ السمع والعلم منه سبحانه، ليجعل عباده يعلمون أنه سميع للسان أحوالهم (بواطنهم) وأقوالهم (ظواهرهم)، بحيث يستوي أمر الظاهر والباطن منهم عنده؛ حتى لا يقول أحد إنه كان شاكرا لأنعم الله، والله هو من غيّر ما به من نعمة ابتداءً. فهذا محال على الله، وليس من أخلاقه سبحانه؛ وهو الممهل لعباده، والغافر لكثير من ذنوبهم... والسمع الإلهي عائد إلى مطلق العلم، الذي كان محيطا بأحوال الكافرين قبل كفرهم وجحدهم للنعم. فكأنه سبحانه يجعل أحوال الكافرين محاطة من جهة الأمام ومن جهة الخلف: فمن جهة الأمام (ما يلي العباد) بالسمع الذي هو علم منوط بالأحوال والأقوال، ومن جهة الخلف بالعلم الذي هو محيط بكل المعلومات. فهم محاصرون من الجهتيْن، بحيث لا يتمكنون من إنكار ذنوبهم حيثما توجهوا. ولو تمعن الناظرون في كلام الله، لوجدوا كثيرا من الأقوال التي ينسبها الله إلى عباده في كلامه، أقوال أحوال، لا أقوال ألسن؛ مما يعني أن الصنفيْن من الأقوال عند الله سواء، بخلاف العباد الذين لا يُدركون إلا أقوال الألسن وحدها... ثم يقول الله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال: 54]؛ يُذكّر الله السامعين، بأن مشركي أهل بدر، الذين بدلوا نعمة الله كفرا، فحاق بهم العذاب؛ لم يكونوا مخالفين في حقيقتهم لآل فرعون المتوسطين في المسافة الزمانية، ولا لمن قبلهم من الأمم القديمة والأبعد منهم زمانا؛ لأنهم جميعا اختاروا تكذيب الرسل، فاستدعى تكذيبهم من الله، الهلاك لهم والعذاب. فهم بهذه الصفة ظالمون لأنفسهم، وليسوا مظلومين، كما يخطر في أذهان بعض الجاهلين، الذين يقيسون الأمور بحسب وجدانهم. ولقد وجدنا من المتأخرين، من يحسب أنه على إيمان، ومع ذلك يحكم بأن الله -بحسب ما يستحق في نظرهم- ينبغي أن يكون راحما لجميع عباده لا معذبا. ولقد أمعنوا في هذا الطريق، حتى صاروا يقولون بفناء النار، وبعدم نيل العذاب لكثير من الكافرين الذين يجدون لهم أعذارا بحسبهم. والحقيقة هي أن هذا الصنف من القائلين، لا علم لهم بالرحمة العامة، والتي تشمل رحمة العذاب أيضا. ونعني من هذا، أن الله لو لم يُعذب بعض عباده بعذابات مخصوصة، لما كان العذاب مشمولا بالرحمة؛ وتبعا لذلك، لما كانت الرحمة بالنار (ولها) تامة. لهذا، فمن أراد الكلام في الرحمة، فعليه أن لا يعتبر رحمة ما، من دون أن يعتبر الرحمة المقابلة لها؛ والتي تنتفي عند الاقتصار على الأولى وحدها. ولقد كان جديرا بمن يزعم أنه على إيمان، أن يقول بعد سماعه لكلام الله "صدق الله"، بدل أن يدخل في قياسات عقلية، لا يعلم منها إلا ما يُناسب عقله القاصر. ولو أتاح الله لنا الخوض في دلالة من يظنون أنفسهم عقلاء من بين المؤمنين، قبل الكافرين؛ على مواطن قصورهم، بما لا يتمكنون من رده؛ لاستحيوا من سوء حالهم، ولسكتوا عن حماقاتهم؛ ولكن الأمر أوسع من أن نحيط به نحن في المـُدد القصيرة. لذلك، فنحن ندل على ما يُؤذَن لنا فيه في الوقت، ولا نتعداه؛ وسبحان العليم المحيط!... ثم يقول الله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55]؛ ومعنى شر الدواب، هو أن الكافرين من بني آدم ينزلون في المرتبة عن الأنعام؛ لذلك كانوا شر صنوف كل ما يدب على الأرض. وهذا هو ما ذكره الله تعالى في قوله صراحة: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وفي قوله أيضا: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. وهذا المعنى يُخالف أيضا، ما عليه ضُلّال آخر الزمان، الذين يظنون أن كل بني آدم هم أفضل من الحيوانات؛ لا لشيء إلا لأنهم من جنس "الإنسان". ونسوا أن الإنسان لا يكون تام الإنسانية، إلا بحيازته لمعرفة ربه، التي يكون الإيمان به سبحانه أول الطريق إليها. وعلى هذا، فإن كل التنظيرات المترتبة على مدلول الإنسان لدى الكافرين، ومن ذلك ما يُسمى "حقوق الإنسان" في زماننا، هي من الأغلاط البيّنة التي يقع فيها أهل الظلمة فحسب؛ وهي من الرجم بالغيب، لا من العلم الصحيح. وإنْ كان الناس اليوم يجهلون هذه الحقائق -ونخص المسلمين الذين ينساقون خلف المقولات الكفرية من غير تبصُّر- فكيف يزعمون بعد ذلك أنهم مدركون لطريق نجاتهم وخلاصهم؟! هذا لا يكون!... ومن هذا الباب كنا نقول نحن: إن أُولى درجات العقل لدى الآدميين هي الإيمان؛ لأن العقل المجرد لا يبلغ بصاحبه ما يكون عليه الحيوان والنبات والجماد من معرفة بربهم!... وبعد هذا، ألا يستحق الكافرون ما ينزل بهم من عذاب في الآخرة، وهم من نزلوا عن إنسانيتهم إلى الحضيض؟!... هذا، مع كون العذاب يستبطن حكمة فيه، ليس هذا أوان الخوض فيها... ثم يقول الله تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 56]؛ قيل إن الآية نزلت في بني قريظة، عند نقضهم للمعاهدة التي كانت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق؛ ونحن نرى أنها تشمل كل الناقضين، بدءا من مشركي قريش، الذين كان يُبشرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمن والنجاة من العذاب، إن هم آمنوا؛ ثم كانوا يختارون التكذيب بعد ذلك. وهذا الذي نقوله يوافق سياق الآيات السابقة المتناوِلة لأحوال أهل بدر، مع اتساعها لغيرهم، ممن يشاركهم المعنى. والمعتبر في كل المـُعاهَدين، هو العهد لهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من زمن النبوة إلى قيام الساعة؛ بما في ذلك ما يكون من صور الخلفاء والورثة، في الأزمنة المتأخرة كلها. وإن نحن عدنا إلى أهل التفسير، ثم إلى فقهاء الدين، فإننا سنجدهم يفهمون المعاهدة فهما تاريخيا، يُقصي كثيرا مما يدخل فيها عند الله ورسوله. وهذا قصور بالغ في تنزيل أحكام القرآن، نرى أنه لا بد من إعادة النظر فيه، لمن أراد من المسلمين أن يُجدد علمه وإيمانه... والمقصود من قول الله تعالى {فِي كُلِّ مَرَّةٍ}، يصدُق على وجهيْن: الأول، وهو تكرار النقض من الناقض نفسه، المـُصِرّ على المخالفة؛ والثاني، هو تكرار النقض من الأقوام المختلفين، المتعاقبين في الزمان، والمشتركين في الصفة. وهذا، هو المعنى الذي دللنا عليه نحن من الآية، والذي يغيب عن المفسرين. وأما قوله سبحانه عن كل الناقضين {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ}، فيعني أنهم لا يتقون العذاب بفعلهم ذاك؛ ولو كانوا حريصين على نفع أنفسهم، لميّزوا بين ما يضرهم وما ينفعهم. ومن هنا كان هؤلاء الأقوام، ظالمين لأنفسهم، بقحمها في العذاب، وكأنهم غير آبهين بما سيحلّ بهم!... (يُتبع...) [1] . تفسير "جامع البيان في تفسير القرآن" للطبري. |