انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني Translated
Sheikh's Books |
2021/03/06
الحوار الغائب (ج3) -21-
المرحلة المدنية (7) (تابع...) يقول الله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 14]: وهذا خطاب للكافرين، يبكتهم الله بذوقهم لعذاب القتل والأسر في الدنيا؛ ويتوعد من مات منهم على الكفر بعذاب النار في الآخرة. وهذا لأن النفس لا تتصور عذاب الآخرة، إلا بالقياس إلى عذاب الدنيا. ومن علم هذه الحقيقة، فإنه سيعلم أهمية الدنيا ومعارفها وأذواقها، في السياق العام الأخروي... ثم يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]: وهذه الآية تُثبت حكما من أحكام القتال، وهو: تحريم التولي أمام العدو. ثم يقول سبحانه: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16]؛ أي ومن يولهم دبره، من غير أن يكون متحرفا لقتال، وهو أن يميل جانبا ليجد منهم ثغرة أو غرة؛ أو متحيّزا إلى فئة، وهو العودة إلى "مركز القيادة" ينضم إليه وليكون مع فئته؛ فقد باء بغضب من الله، ومأواه إن مات على ذلك جهنم. ولقد اتفق جمهور المفسرين على أن هذه الآية محكمة، وليست منسوخة؛ وعلى هذا، فإن حكمها يبقى عاما إلى يوم القيامة. ولقد توقفت الأمة عن العمل بأحكام القتال الشرعية، منذ أن انقسمت إلى دويلات، وصار بعضها يقاتل بعضا. لذلك فإن أوجب الواجبات بعد الانقسام، هو العودة إلى الوحدة. ومن لم يعمل على العودة إلى وحدة المسلمين، فإنه يكون أسوأ ممن ولّى دبره للعدو في المعركة؛ وبالتالي فإن الوعيد الذي ختم به الله الآية لا بد من أن يشمله، إلا أن يعفو الله. وإن ضعف الفقهاء في الأزمنة المتأخرة، واعتياد الناس على الفسوق، لا يغيّر من أحكام التشريع شيئا، لو كان الناس يعلمون... ثم يقول الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17]. ولقد سبق لنا الكلام في صدر الآية، فلن نعيده هنا؛ ويبقى قوله سبحانه: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. والمـُراد من البلاء الحسن، هو نصر الله عباده على الأعداء، ومجازاتهم على جهادهم بإثبات أجورهم؛ هذا لمن بقي منهم في الدنيا؛ وأما من انقلب إلى الآخرة بالشهادة، فإن جزاءه الجنة. وهكذا تكون النتيجة في حق المؤمنين حسنة في جميع أحوالهم. وفي أصل هذا المعنى، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ! وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ!: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ؛ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ.»[1]. وهذا يعني أن البلاء كله في حق المؤمن، هو من صنف البلاء الحسن، ما لم تكن المصيبة في دينه من غير توبة واستغفار؛ فإنه عندئذ ينقلب بلاؤه سيئا. وعلى كل حال، فإن اعتناء الفقه بتفاصيل البلاء الحسن والسيء بالنظر إلى المؤمنين قليل؛ وجل الأحكام التي يعمل بها الناس في هذا المضمار، تكون من قبيل العموميات. ونحن نعلم أن تنزيل الأحكام على الأحوال، يقتضي الإحاطة بالخصوصيات، ويقتضي التفريق بين الأفراد والفئات في ذلك... ثم يقول الله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18]؛ أي إن كل ما تقدم من تفصيل للأحكام، هو مع كون الله مُوَهِّنا (والتشديد قراءة) لكيد الكافرين؛ فلا يجد المؤمنون أمامهم إلا ضعافا ينتظرون قطفهم. وهذا يعني أن القتال من المؤمنين، إنما هو من باب الامتحان (البلاء) فحسب؛ لا من باب النديّة المطلقة. وكيف يقارن من يكون الله معه، بمن يكون في مواجهته!... هذا لا يكون أبدا!... ولو تصورنا أن رجلا واحدا، كان الله معه، في مواجهة العدد العديد من الناس، الذين يخذلهم الله؛ لحكمنا بنصر ذلك الواحد حتما. وهذا له تعلق بحال الواحد ومدى يقينه، فإن كان موقنا، فإنه ينتصر عليهم ظاهرا وباطنا؛ وأما إن كان مؤمنا فحسب، فإنه ينتصر عليهم باطنا، وإن قتلوه أو أسروه ظاهرا. وهكذا يبقى القتال، عملا من الأعمال، التي لا ينبغي أن يُخرجها النظر عن العادات؛ ما دام الله إلى جانب المؤمنين، يقتل ويرمي سبحانه بهم (في مظاهرهم). ثم يقول سبحانه: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]؛ وقد مررنا بهذه الآية، عند ذكر استفتاح أبي جهل. والاستفتاح الاستقضاء؛ وهو من المشركين، بسبب جهلهم بأن الله مع المؤمنين. ولذلك فإن هذه الآية تخاطب المشركين وحدهم، ردا من الله على استفتاحهم. ومعنى قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، هو: فقد جاءتكم الهزيمة والعذاب! وهو أسلوب في التبكيت. ويؤيده قوله تعالى كله في تمام الآية؛ خصوصا قوله سبحانه في ختامها {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}، الذي يؤسس لقاعدة ينبغي أن يعتبرها المؤمنون دائما. وإن كان الله مع المؤمنين، فلا يبقى لهم إلا عزمهم على مواجهة أعدائهم؛ لكن من دون إخلال بالشروط، كاجتناب الظلم والعدوان وغير ذلك. فإن الإخلال بالشروط، يجعل النصر يتخلف؛ لأن الله ليس مع المؤمنين بالإطلاق، وهذا لا يكون منه على هذا الوجه سبحانه أبدا؛ لسبب بسيط، وهو أن المؤمنين مكلفون في محاربتهم لأعدائهم، وليسوا مـُطلَقي الأيدي. والتكليف له مناطات ووجوه، فإذا وقع الإخلال بوجه من وجوهه، تخلف نصر الله؛ وإن تخلف نصر الله للمؤمنين، فقد يكون من نصيب الكافرين. ولا يكون نصر الله للكافرين على المؤمنين، إلا لأنهم (المشركين) عباده، وأنهم قد استحقوا منه النصر لسبب يجهلونه ويجهله معهم المؤمنون. وقد ذكرنا أن من هذه الأسباب الغيبية التي ينتصر بها الكافرون -بالإضافة إلى كونهم مظلومين أو غير ذلك- أن يكون إيمانهم بباطلهم، أقوى من إيمان المؤمنين بالحق الذي معهم؛ قال بهذا المعنى الشيخ الأكبر عليه السلام. ولقد كان لزاما على فقهاء الأحكام، أن يفصلوا القول في مسألة انتصار الكافرين على المؤمنين، حتى يكونوا ملمّين بجميع الأحوال التي يراعيها التشريع؛ وحتى يردوا على من تدخل عليه الحيرة من المسلمين في هذه المسألة؛ ولكنهم على عادتهم، قصّروا. فنرجو أن يقوم لسد هذه الخَلة من يصلح لها، فإنها من العلم النافع. ثم يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20]؛ أي، يا من تزعمون أنكم تصدقون الله ورسوله، لا تتولوا عنه، وتتركوه وحده؛ وأنتم تسمعون أمره ونهيه لكم، ضمن توجيهاته في المعركة. وإن اسم "الله ورسوله" يؤخذ هنا على أنه اسم مركّب، لذلك جاء بعده {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} بإفراد الضمير. وهذا يعني أن معاملة الله تكون في الخليفة داخل الوقت؛ وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمن الصحابة، أو هو النبي في مظهر نائبه أو خليفته الوارث، في الأزمنة التي تسبق زمانه، أو التي تأتي بعده. وهذا يجعل متأخري المؤمنين من هذه الأمة، على شبه بالأمم السابقة مع أنبيائها؛ لأن معاملة المؤمنين المتأخرين للنبي، تكون في مظهر ورثته، لا في مظهره الأصلي الذي عرفه الصحابة. ولقد أغفل الفقهاء هذه المسألة، بل لقد جهلوها، فانطمست بذلك الأحكام المتعلقة بها، ونقص بذلك الانطماس تديُّن الناس عند مخالفتهم لتلك الأحكام. ثم يقول الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]؛ والمقصود من السمع هنا، سمع ألفاظ الكلام، من غير فهم لمعناها. وهو هنا تشبيه لبعض المؤمنين بالكافرين، عندما كان هؤلاء يسمعون القرآن بآذانهم، ولا يفقهون معانيه. والمؤمن الذي لا يفقه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره، هو في الحقيقة غير سامع؛ والدليل هو أنه يُخالف الأمر بعمله. ولو كان سامعا، ما خالف!... وما يصح بالنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يصح باعتبار الورثة؛ من كونهم مبلغين في أزمنتهم لأمر الله ورسوله على وجه التفصيل. ومن لم يكن سامعا لأمر الله ورسوله، فإنه حتما يكون من شر الدواب... يقول الله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]؛ والمقصود من الدواب هنا: المكلفون من الخلق. فشر هؤلاء الخلق، الصم الذين لا يفقهون أمر الله ورسوله؛ البكم، الذين لا يُحسنون التبليغ عن الله ورسوله، ولو في آية؛ الذين هم في الحاليْن من الذين لا يعقلون؛ والعقل هنا بمعنى الإدراك. وهذا يعني أن خطاب الله ورسوله للعباد من المؤمنين، ينبغي أن يُفهم على وجهه؛ لا على ما يُعطيه ظاهر اللغة وحده، في نظر قوم مظلمة قلوبهم. ونعني من هذا، أن الأمر في إدراك معاني الوحي يكون بالنور، لا بالوسائل المعهودة للناس وحدها. ومن كان قلبه أعمى، كما أخبر الله في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، كيف يُنتظر منه أن يفهم عن الله ورسوله؟! وبالتالي: كيف يطابق في عمله حكم الشريعة؟!... ويدخل ضمن هؤلاء العمي العامة من المسلمين، وكثير من الفقهاء، بسبب فقدهم لنور البصائر. وأما من يظن أن كل المسلمين هم على نور كاف، أو يظن أن جميع علماء الدين هم فاقهون للخطاب الشرعي، فإنه يكون مجانبا للصواب من غير شك. وعندما ترسّخ لدى العامة، ولدى الفقهاء، هذا الفهم الخاطئ، أصبحوا جميعا يخرجون عن حكم الشريعة، وهم يظنون أنهم عليها. فهم في هذا، كمن قال الله عنهم: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]. وأما من يسأل: فكيف يكون العوام من المسلمين والفقهاء على الحق، مع غياب النور عنهم؟ فإننا نجيبه: إن الله لم يجعل العصمة للأمة فردية، وإنما جعلها جماعية؛ بحيث لن يضل منها واحد، إن سمع الأدنى في العلم لمن هو أعلى منه. فإن سأل السائل: ومن أعلى في العلم من علماء الدين؟ نجيبه: الأعلى منهم بغير شك، الربانيّون؛ الذين يكون علمهم بالله لا بأنفسهم. ولكن الفقهاء من المتأخرين على الخصوص، قد كسروا ترتيب الأمة الأصلي، وتقدموا من هم أعلى منهم رتبة، وأبوا أن ينصتوا إليهم، فنشأت الضلالات التي يحسب أصحابها أنهم على شيء فيها، وهم لا يتبعون إلا الشياطين التي توحي إليهم!... وما لم تعد الأمة إلى ترتيب طبقاتها، على النحو الذي أمر به الله ورسوله، فإنها ستبقى على هذا العجز الذي نراه، ويتعجب له كثير ممن لا فقه له فيما ذكرنا. وإنّ أخطر ما أصاب الأمة من الجهل، جعْل الدين أيديولوجيا، وترتيب النصر على الالتزام بها. فهؤلاء عندما ينهزمون أمام الكفار أو أمام الظلَمة، في الغالب يعودون إلى الشك في الدين، وقد يكفرون. وهذا هو ما أصاب جماعات "الإسلام السياسي" عند إخفاقهم في مختلف البلدان، فصار أتباعهم يخرجون إلى الإلحاد؛ ويقولون في أنفسهم جهلا: بما أن الله لم ينصرنا، فهذا يعني أن الدين الذي نحن عليه باطل!... وحكمهم من جهة المنطق العقلي صحيح، لكنه لا يصدُق إلا على كونهم كانوا جاهلين بأحكام الدين الأصلية، وأحلوا أحكاما باطلة محلها؛ فكان تخلف النصر في هذه الحال نتيجة حتمية، يعلمها العلماء من دونهم. ونحن كنا نخبر الجماعات الحركية بانهزامهم قبل وقوعه، عن علم لا عن رجم بالغيب؛ ولكنهم لغلبة شهوة الدنيا عليهم، كانوا لا يأبهون لكلامنا؛ وكانوا بسبب احتقارهم لنا -من جهة العدد- لا يلتفتون إلينا. ولكن النتيجة، لم تكن إلا كما أخبرناهم!... والمصيبة، هي أنهم باقون على حالهم، حتى بعد ظهور النتائج على خلاف ما كانوا ينتظرون!... فليس بعد هذا الجهل جهل!... ثم يقول الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]؛ ولقد ذكر الله هذا المعنى، ردا على كل من سيقول -بعد سماعه لما سبق من كلام في الآيات الفارطة- لو شاء الله لأسمع هؤلاء الذين لم يسمعوا، وعندئذ كانوا سيعملون وفق أحكامه سبحانه. وهذا الصنف من الأقوال، لا يصدر إلا عن الكفار والمنافقين، الذين يوجدون بين المؤمنين؛ وهو ما ذكره الله عنهم في موضع آخر في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]. ونعني أن قول المشركين حق، لكنهم يأتون به عن غير علم، وفي معرض الاعتذار عن شركهم، حيث لا عذر؛ وهذا لا يصح أبدا. وأما عدم الإسماع (الإفهام) الذي كنا بصدده، فإنه يكون بحسب ما يحكم به العلم القديم. فمن علِمه الله سامعا أسمعه، ومن علمه غير سامع لم يُسمعه، فلم يسمع. ولو أسمعهم الله، وهذا من باب الجدل، لتولوا عما سمعوا إلى ما كان ينبغي أن يكونوا عليه من إعراض، مما حكم به العلم. وهذه مسألة تناولها أهل الكلام، فقصُروا عنها؛ وكان لقصورهم تبعات على الأمة، أضعفت إيمانها، وأخرجت شطرا منها إلى التفلسف الذي لا يُجدي. وهي متعلقة بحكم المشيئة، الذي يُثبته العلم، ويكون مرادا لله بعد ذلك ومقدورا. وأما علمها، فينبغي أن يكون فيه صاحبه على علم بحكم المشيئة، وبكيفية نسبة الأفعال إلى الله وإلى العباد، وبوقت اعتبار وجه منها دون آخر. ومن لم يحز هذه الشروط، فلا ينبغي له الدخول فيها، لأنه سيضل حتما؛ كما ضل قبله كثيرون!... ثم يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]؛ ومعنى الاستجابة لله ورسوله هنا، هو طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو من غير فهم، وبحسب الظاهر. وذلك لأن هذه الطاعة، تورث النور، فيزداد معها القلب نورا. وإذا ازداد القلب نورا صار سميعا بصيرا، ففهم عن ربه مراده؛ وهذا هو معنى الحياة في الآية. وذلك لأن القلوب إذا حيِيَت سمعت وأبصرت، فحصل لها المراد. وكون الحياة مشروطة لسمع القلب وإبصاره وسائر صفاته، هو من كونها مشروطة في صفات الحق قبل ذلك. ونعني من هذا أن الحياة الإلهية، أصل صفات العلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر الإلهية. ومن رام الخروج عن سنة الله، في هذه الأحكام، فإنه سيضل ضلالا بعيدا... وأما قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، فالمقصود منه أن الحكم في قلوب العباد هو لله، قبل أن يكون لهم. لذلك من شاء الله له السمع أسمعه؛ ومن لم يشأ لم يُسمعه، وكان عدم الإسماع حؤولا من الله بين العبد وقلبه. ومن علم هذا، فإنه يعود فيما هو متعلق بقلبه إلى الله، كما يعود فيما هو متعلق ببدنه، سواء بسواء؛ فيسأل الله الهداية والإسماع والإفهام والتبصير والتنوير وغير ذلك... وهذا يعني أن العامة يغفلون عن أحوال قلوبهم، وبالتالي يغفلون عن الافتقار إلى الله فيها حقيقة. وعلى العموم، فلن يفقه علم القلوب، إلا من كان من مرتبة الإيمان في الحد الأدنى. وهو علم واسع، لم نر من أهله بعد شيخنا رضي الله عنه، إلا سيدي محمدا بن الطاهر رضي الله عنه. وهو علم عزيز، كلما كثر أهله في الأمة، كانت أقرب إلى القوة والمنعة... وأما الحشر إلى الله الذي خُتمت به الآية، فهو يدل السامعين الذين سمعوا والذين لم يسمعوا، على أن الحكم على شؤونهم ليس لهم؛ حتى يحكم كل فريق مجازفة بأنه على الحق دون غيره؛ لأن الله وحده العليم بمن هو على الحق في المسائل من العباد؛ وهو وحده مَن يُخبرهم بحكمه فيهم بعد أن يُحشروا إليه. والحشر عودة حسية، تحصل للناس يوم القيامة؛ تكون متضمنة للعودة العلمية، التي تكون للخواص في الدنيا قبل الآخرة؛ والتي منها يعلمون حكم الله في الأمور. ثم يقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]؛ والفتنة هنا هي مخالفة أمر الله ورسوله بتأويل، أو بظن السعة فيما لا سعة فيه. وهذا يعني أن الناس عليهم أن يعودوا في كل أمورهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما أقرهم عليه أمضوه، وما نهاهم عنه انتهوا. ولولا أن العقول تقصر من نفسها عن بلوغ أحكام الله، ما حذرها الله الفتنة. ثم إن على الناس حيال الفتنة بالإضافة إلى ما هو داخل ضمن التكليف الفردي، ما هو داخل ضمن التكليف الجماعي المشترك. ونعني من هذا، أن جماعة المسلمين عليها أن لا تسكت على مخالفة، حسبها أصحابها على غير حقيقتها، لأن أثرها مع السكوت سيعم المجتمع المسلم بأجمعه. وإن كان الواقعون في التأويلات الفاسدة ظالمين باكتفائهم بآرائهم، فإن الساكتين عليهم ظالمون بسكوتهم؛ خصوصا إن كان المتأولون في العادة من الأشراف وأهل الرأي. ولقد توعد الله الصنفيْن بشدة العقاب، لأن الأثر العام الموقع في الفتنة، هو من الأعمال التي توزن بميزان الشريعة. وما ثبتت مخالفته للشريعة، بصورة من الصور، فإن العقوبة تطلبه. فلا يغتر أحد بتسويغاته لنفسه، كما يحدث مع العامة عند تعللهم بعد الوقوع في المحاذير، بحسن نيتهم في أفعالهم. ولقد كنا نخبر مَن هذه حاله، بأن حسن النية ليس عذرا في الشريعة، إن بقي العبد على جهله بما لو طلبه لصار عالما به. وسبْق بعض الصحابة في زمانهم، إلى تحكيم الرأي قبل سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعدل عدم السؤال عما هو ثابت في العلم لدى المتأخرين؛ لأن الأمر في الحاليْن منوط بإصابة حكم الله. وإنّ إخطاء حكم الله مع بذل الوسع في طلبه، لا يستوي مع إخطائه عن استهانة واستخفاف أبدا!... والفتنة بالمعنى الشرعي، لا تكون فتنة، إلا عند التقصير في طلب الحكم الشرعي، أو عند مخالفته مع العلم به. وأما ما لا يبلغه العبد من تفاصيل الأحكام، إذا ما اجتهد في طلبه، فإنه لا يُحاسب عليه. وذلك كالأحكام التي تغيب في آخر الزمان عن علم العامة، لأن الفقهاء قد قصّروا في تناولها قبلهم؛ أو لأنها التبست عليهم لسبب من الأسباب. ففي هذه الحال يقع الإثم على الفقهاء المقصرين، لا على العامة المقلدين. ولقد حكمنا بإثم الفقهاء، لأنه ينبغي على العالم منهم الرجوع إلى الأعلم دائما؛ وهذا المعنى هو روح قول الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. ولو أنهم عملوا بهذه القاعدة، فإنهم سيحصلون العلم في الغالب، بجميع ما يطلبون، ولو في حده الأدنى؛ ولكنّهم يُقصّرون في طلب العلم، بعدم سؤالهم الأعلم. وما وجدنا من الفقهاء من يدل على هذا الأصل، مع شدة وضوحه!... ولقد وقع كثير منهم في هذه المخالفة، لظنهم أن النظر في كتب السابقين وحده، هو كسؤال الأعلم في الوقت؛ والأمر على غير هذا، ويتطلب منهم سؤال الأعلم من أهل زمانهم، وإن كانت نفوسهم تحتقره!... وهذه مسألة في منهجية العلم، يطول الكلام فيها، ونحن إنما قصدنا التنبيه فحسب... ثم يقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]؛ وتذكير الله لعباده المؤمنين بنعمه عليهم، هو من أجل أن يحرصوا على تبيُّن أحكامه، ومن أجل اجتناب الوقوع في الفتن التي حذرهم منها في الآية السابقة. والنعم التي يمتن الله بها على عباده، هي ما تفضل به على المؤمنين من المهاجرين الذين كانوا مستضعفين في أرضهم، والذين خرجوا منها خوفا على أنفسهم؛ فجعل الله لهم المدينة مأوى يأوون إليه، ويتحصنون فيه؛ ثم نصرهم في معركة بدر على عدوهم الذي كان يفوقهم عددا وعُدة؛ ورزقهم من الغنائم رزقا حلالا، لعلهم يشكرون. وشُكر النعم، لا يكون إلا بالزيادة في طاعة المـُنعِم؛ ومن طاعة المنعم الائتمار بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (المظهر الرباني)، والانتهاء بنهيه. ولقد كان الصحابة -بعد بدر- وهم ما يزالون في طور التربية، محتاجين إلى هذه التوجيهات من ربهم، لئلا يغتروا بالنعمة، فتظهر منهم الصفات النفسية المورثة للخذلان. وإذا كان الصحابة -وهم من هم- لا غنى لهم عن التسديد، فما الظن بعامة المسلمين، الذين لا صلة لهم بالتزكية، ولا اقتداء لهم بإمام رباني في زمانهم؟!... بل كيف يكون حال فقهاء يتوهمون أنهم قد حصلوا العلم بالدين، وأنهم أصبحوا بذلك مؤهَّلين لإمامة الناس فيه، وهم مستغنون عن إمامة الربانيّين؟!... أفلا يكون هؤلاء جميعا واقعين في الفتنة التي حذر الله منها؟!... ونحن نقول هذا، من باب عموم الآيات لكل الأمة، وإن نزلت منوطة بأحوال الصحابة المرضيّين. وإننا عندما نجد المفسرين للقرآن، يتناولون الآيات بحسب أسباب نزولها، من غير ربط لها بأحوال المسلمين في أزمنة التفسير -على الأقل- فإننا نلاحظ القطيعة العلمية التي أُسِّس لها -ولو عن غير قصد- للأمة مع شريعتها، والتي استفحلت مع مرور الزمان؛ حتى أصبح كثير من المسلمين لا يفهمون من بعض الآيات، إلا أنها تاريخية تتعلق بزمان نزولها. ولقد أدى الفراغ في إدراك التشريع، لدى العامة ولدى الفقهاء جميعا، إلى استلهام النظريات العالمية، والقوانين الوضعية؛ وهو ما جعل الجهَلة من العامة يجزمون بوجود فجوة بين التشريع ومستجدات العصور، وبالتالي يجزمون بضرورة الأخذ عن الكافرين ولو جزئيا. وهذا المبدأ مناف لأصل اكتمال الدين، ومعاكس لشمول التشريع جميع جوانب أحوال المتديّنين. وإن وقع الجهل من هؤلاء بما يستجيب لضروراتهم في الوقت، فالعيب فيهم لا في الدين؛ والإثم على فقهائهم الذين انقطعوا عن المدد النبوي بسوء حالهم، فانحجبوا عن التشريع وحجبوا غيرهم!... ثم يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]؛ ونحن سنتجاوز هنا ما قيل في أسباب نزول الآية، لأنها مما يعم. ولقد وجدنا التفريق الذي يعتمده المفسرون بين الله ورسوله، في مثل هذه المواضع، من القصور الذي ينشأ عن الشرك المخالط لإيمان العامة من العلماء. والذي ينبغي أن يؤخذ عليه المعنى، هو أن "الله والرسول" اسم مركّب يُطلق على الظاهر وعلى المظهر؛ وهذا المعنى هو الأساس الذي تقوم عليه الخلافة عن الله. وكل من لا يُدرك هذا المعنى، فلن يُدرك معنى الخلافة أبدا؛ وهو ما وقع فيه شطر من الصحابة والتابعين، وما استفحل لدى المتأخرين. وأما نهي الله المؤمنين عن خيانة الله ورسوله، فهو نهي عن عدم تحري الأحكام الشرعية؛ إما عن تقصير وإما عن استخفاف. وخيانة الله والرسول، هي ذاتها خيانة لأمانات أنفسهم؛ لأن العمل بالأحكام الشرعية، هو مما استأمن الله عليه عباده المكلّفين؛ فإن هم خالفوا فيه الأحكام الربانية، فقد خانوا أنفسهم. وهذا جلي، إن علمنا أن تبعات المخالفة، لا تنال إلا أصحابها، عند المحاسبة والمعاقبة. فمن أطاع الله والرسول، فقد أحسن إلى نفسه فحسب. يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. ثم يقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]؛ والفتنة التي هي الاختبار المفضي إلى الهداية أو إلى الضلال، منشأها العودة من العبد إلى نفسه. وذلك لأن مستنَد العبد وجودا وحُكما، ربه لا نفسه. والمقصود من العودة إلى الله هنا، الرجوع إلى أحكامه، بدل تحكيم الأهواء. وأما الأموال والأولاد، فهي من توابع النفس وملحقاتها. ونعني من هذا، أن من كفاه الله نفسه (وهو معنى الولاية)، فقد كُفي ضمنا كل ما يتصل بها بنسبة من النسب. وأما من بقي على حكم النفس، فإنه سيُبتلى بما يتصل بها، زيادة عليها. وهذا قد يجعل العبد يقع في مخالفة التشريع الإلهي، بسبب اعتباره لماله أو لأولاده؛ كأن يتغول من المال ما لا يحل له، حبا في جمع المال، أو خوفا على أولاده من الفقر. هذا، وإن المعاصي التي يُمكن للعباد الوقوع فيها بهذيْن السببيْن، لا حصر لها من جهة التفصيل؛ والمخرج منها كلها، هو إسباق اعتبار حكم الله، على حكم النفس. وإن معاصي أكثر العوام، من هذا الصنف؛ والمصيبة هي أنهم يظنون أن الله عاذرهم فيها؛ وكأن الأهواء معتبرة في الشريعة. بل الأدهى من هذا، هو أن تجد كثيرا من الفقهاء، على هذا المذهب من التسويغ للمخالفات، بدل أن يكونوا أعوانا لإخوانهم على تبيُّن أحكام الله. ولو تناولنا أحوال الفقهاء في هذا الباب، لتطلب الأمر أسفارا بكاملها؛ زيادة على تسببها للمتناوِل في النزول إلى السُّفل والسوء. وأما نحن فيكفينا تبيين أوجه الطاعة، والدلالة عليها، مع التحذير من المخالفة في المقابل؛ حفاظا على مستوى الكلام. ويذكّر الله عباده في ختام الآية، بأن الأجر الذي يناله العبد بطاعة ربه، عند مخالفته دواعي نفسه، يكفي لأن يجعله يصرف نظره عن المخالفة لحكم ربه. وهذا من باب مخاطبة الناس على قدر عقولهم، وإلا فإن عقلاء العباد تكفيهم موافقة الحكم في نفسها؛ لأنها شرف ما بعده شرف!... ثم يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]؛ وبما أن الأمر قائم على التمييز بين حكم الله الحق، وحكم الأهواء، فإن الله يشترط على عباده المؤمنين أن يتقوه بالحرص على طاعته وطاعة رسوله، ليجعل لهم فرقانا يفرقون به بين الحق والباطل؛ حتى يهتدوا إلى الأحكام على وجهها الذي عند الله. ويزيدهم على ذلك، أن يكفّر عنهم سيئاتهم، التي هي النسبة النفسية منهم في أحوالهم وفي أعمالهم؛ أي يقطعها عنهم، لتكون النسبة منهم ربانية بفضله. ثم يزيدهم أن يغفر لهم؛ والمغفرة أعم من تكفير السيئات، لأنها شاملة لكل مراتب ذواتهم. وهذا الذي ينالونه من الله، هو الفضل العظيم، الذي لا فضل فوقه. والمقصود من "الله" هنا الاسم الجامع، الذي تكون كل الأسماء الأخرى وجوها له، ومراتب فيه. وهذا يعني أن من نال المغفرة والفضل من الله، لم يبق شيء من الخير لم ينله؛ إلا ما يكون من تفاوت فيما بين المؤمنين داخل هذا الفضل العام. ثم يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]؛ يذكر الله هنا مكر قريش بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما كان بمكة؛ حيث كانوا يريدون إما حبسه وسجنه، أو قتله للخلاص منه بصفة نهائية، أو إخراجه (طرده) ليصفو لهم الأمر في بلدهم. وقد كان هذا الفعل الأخير، هو ما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المسلمين إلى الهجرة، كما ذكرنا سالفا. وقد أخرج الطبري في "جامع البيان" عن المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه أَنَّ أَبَا طَالِبٍ، قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَأْتَمِرُ بِهِ قَوْمُكَ؟ قَالَ: «يُرِيدُونَ أَنْ يُسْحِرُونِي وَيَقْتُلُونِي وَيُخْرِجُونِي!»، فَقَالَ: مَنْ أَخْبَرَكَ هَذَا؟ قَالَ: «رَبِّي!»، قَالَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ، فَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَسْتَوْصِي بِهِ؟ بَلْ هُوَ يَسْتَوْصِي بِي خَيْرًا!»، فَنَزَلَتْ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} الآيَةَ. وهذا الذي أزمع عليه أهل مكة، هو مكرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو من مكر أسماء الجلال. وأما المكر الذي أحبط مكر المشركين، فهو مكر الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو من "الله" الذي له الحكم على جميع الأسماء؛ ولذلك كان المكر من الله، خير مكر على الإطلاق. ومن خيرية مكر الله لعبده المصطفى، أن يجعل مكر الماكرين صابا في النهاية، فيما ينفعه؛ من غير قصد منهم. وهو هنا خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، والذي كان بداية لتأسيس المجتمع المسلم (الدولة الأمة)؛ والذي سيكون بلوغا بالبشرية أوج رقيّها على طول تاريخها. علم هذا من علمه، وجهله من جهله!... ومرادنا من الكلام عن المكر الإلهي، هو أن الأعداء يصيرون به خادمين لغرض العبد المخصوص، من دون أن يشعروا؛ بحيث لو غاب هذا المكر، لانتفى كل الخير المترتب عليه وجودا. وهذا المكر مستمر بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع كل الورثة؛ فتجد من يريد بهم شرا، يسعى إلى نفعهم من حيث لا يدري. ومن أراد الوقوف على ما نقول، فليطلبه في كتب سِيَر الصالحين، فإنها طافحة به. ثم يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31]؛ ويذكر الله هنا موقف قريش من القرآن أولَ ما سمعوه، عندما قال منهم النضر بن الحارث (وكان رجلا تاجرا سمع من الأمم الأخرى ورأى): "قَدْ سَمِعْنَا، لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا! لِلَّذِي سَمِعَ مِنَ الْعِبَادِ. فَنَزَلَتْ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}"[2]. وأما المراد من الأساطير، فهو ما كان يتوارثه الأقدمون من كتبهم، التي تجمع من أخبار أسلافهم؛ لا الأسطورات كما يذهب إلى ذلك المتأخرون، عند تحريف مدلول اللفظ. وذلك لأن الأسطورة في الأصل، والأساطير، هي ما سُطر من الكتابة، لا ما كان يروى من الخرافات. وإن القول بعودة القرآن إلى الكتب القديمة، لم ينحصر في ماضي الزمان؛ وإنما هو مذهب في الكفر، يقول به كثير من المعاصرين الذين يرون أنفسهم دارسين وباحثين. والسبب هو أن الكافر عند نظره في القرآن، لا يرى نوره؛ ولكن يرى الألفاظ، وينتقل منها إلى دلالاتها في العالم ماضيا وحاضرا؛ وهو جانبها الإمكاني من جهة عدمها، فلا يخرج إلا بما يناسب حاله من الظلمة وعدم اليقين. وفي هذا المعنى يقول الله عن كلامه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ . الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26، 27]، ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. ومعنى عمى: ظلمة وعدم إدراك. والنداء من المكان البعيد، هو الإسماع من مرتبة الإمكان، من وجه عدمها؛ لا من وجه وجودها. ونعني من هذا، أن المسموع، يُنتج للسامع ما يناسبه؛ فإن كان المسموع عدما أنتج في عقل السامع الظلمة، وإن كان المسموع وجودا (نورا)، أنتج في عقل السامع العلم (النور). وبما أن السامعين للقرآن من المشركين، لا يعلمون تفاصيل السمع وما يتعلق به؛ فإنهم يأخذون النتيجة التي يولدها لهم في عقولهم، وكأنها فهم صحيح، نجوا به من التصديق بما هو بشريّ وغير يقيني؛ وهيهات!... فلقد فاتهم الكنز الذي لا يُقدر بثمن، ولا تُعلم له نهاية!... فسبحان من أضل وهدى، بالحق؛ لا بغيره!... وإن من يرى القرآن بشريا، لا بد من أن يحكم توهما، بإمكان الإتيان بمثله؛ لأنه لا يُدرك المعاني منه، حتى يكون حكمه معتبرا؛ وإنما هو يفترض ويستنتج تبعا لافتراضه فحسب. وإن هذا الضلال شائع في الناس، مع عدم شعورهم بما يعتمل فيهم عند سماع الحق؛ فيكون حكم الضالين، على ما أنتجه القرآن في عقولهم من ظلمة، لا عليه حقيقة!... وهذا لأن العقل لا حكم له على القرآن في الحقيقة، بل هو منفعل له إما بالضلالة وإما بالهداية. هذا فقط!... ثم إن في نسبة الأساطير إلى الأولين، انحجابا بالزمان وبمعنى التاريخية (التاريخانية). وذلك لأن العقول لا تعلم الأشياء إلا مُرتَّبة في الزمان، وهي عند إدراكها لها، تجعل الفضل للأولين على الآخرين في الغالب؛ ما دام الأمر تسلسلا وتراتبا. ونحن نعني هنا معنى "الأصل" في الأشياء، لا معنى "التطور" الذي قد يُشوش عليه. وأما في الحقيقة، فإن الإدراك من أهل الحق للحق بالحق، يكون خارج الزمان؛ لذلك يوجد من الفهوم لدى المتأخرين، ما لم يظفر به المتقدمون. وهذه المسألة من أصعب ما يعرض للعقول!... وإن عيب الدارسين الأكاديميين للعلوم اليوم، هو سقوطهم في الاعتبار التاريخي لها دائما؛ مع عدم اعتبار احتمال خلاف ذلك!... وهذا الذي نقوله، يُمكن أن يُصنّف ضمن المراجعات المنهجية أيضا، ضمن المراجعات التي نشير إليها الكرة بعد الأخرى... ثم يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]؛ وهذا القول تابع لقولهم السابق. ونعني أن من يرى أن القرآن جمع لأساطير الأولين، سيحكم ببطلانه؛ وإذا حكم ببطلانه، فإنه يجزم أن الحق لا بد أن يكون غيره. وإذا كان الحق غيره، وجد مِن نفسه القوة على التحدي إلى أقصى مدى، وهو طلب الهلاك من الله (الذي يؤمنون به من وراء ظلمتهم) إن كان القرآن هو الحق!... ونسبة المشركين للحق إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قولهم: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ}، هو عمل منهم -بحسب نظرهم- على قطع نسبته إلى الله، وإبقائها في النسبة البشرية؛ على غرار ما يفعل المتأخرون من هذا الصنف. ثم إنّ طلبهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، لم يكن من علمهم بأنه المظهر الإلهي؛ بل من استبعادهم لذلك. وهذا منهم، صنف من أصناف التنزيه، وإن لم يعلموا. وما لم يعلموه، هو أن الله أنطقهم بالحق من غير أن يريهم إياه حقا، كما يفعل سبحانه بكل الناطقين بالضلالات. وذلك لأن الله لا يُنطق عباده إلا بالحق، كما أخبر سبحانه في قوله: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]. وإنطاق كل شيء، يشمل الضالين والمهتدين. فأما المهتدون فإنهم ينطقون بما هو حق في ظاهره وفي باطنه، وأما الضالون فإنهم ينطقون بالحق الظاهر في صور الباطل. وعلم الحق من مقولات المبطلين، هو علم غريب؛ لا يكاد يشعر به الناس لغرابته. ولكنه علم صحيح، وفيه من الكنوز ما لا يُعد ولا يُحصى. وعندما نطق الضالون من المشركين بتحديهم، أجابهم الله من المظهر النبوي الأعلى. فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]؛ ومعنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}، هو أن الله لا ينزل عذابه على الأشقياء، والمظهر النبوي موجود بينهم؛ لأن العذاب إذا نزل من عند الله عمّ، والله لا يريد عذاب نبيّه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا، أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ؛ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ.»[3]. ومعنى «أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ»: أي، عم الصالح والطالح. ثم يُبعثون على ما كان من أعمالهم: أي، يُبعث الصالح صالحا، والطالح طالحا. وعموم العذاب للقوم، هو من أثر الحكمة الإلهية، لا من أثر علمه في عباده. فليُميّز هذا!... وأما معنى قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، فهو متعلق دائما بالمشركين؛ واستغفار المشركين، ليس من الوجه الذي يعلمه المؤمنون، وإلا خرجوا به عن الشرك؛ وإنما هو من وجه خفي باطني، متعلق بالحق الذي ينطقون به في باطلهم، وعندما يُحسنون العبارة عنه بتوفيق من الله خفيّ. فإذا كانوا على هذه الحال، فإن الله لا يُعذبهم؛ ولكن يُعذبهم إن شاء، بجعلهم يخرجون من العبارات المتضمنة للحق، إلى مبارزته سبحانه وتحديه في الظاهر. وإن الله تعالى، قد يعتبر تحدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحديا له، بحسب التجلي؛ فيهلك المعاندين من هذا الباب عن قريب. وقد يفرق سبحانه بين تحديه وتحدي نبيه، بحسب التجلي أيضا، فيمهل المعاندين إلى وقت، إما يتوب عليهم فيه، أو يهلكهم. وهذه المعاملات، لا ينفع فيها العلم بالأحكام الشرعية وحدها، أو معرفة الحق منها وحدها. وهذا من العلم الواسع، الذي يكون عليه العلماء بالله وحدهم، دون سواهم. ثم يقول الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]؛ والمراد بالمـُعَذَّبين، هم أهل مكة أنفسهم؛ لكن بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم. وهذا العذاب، هو ما نالهم يوم بدر بالسيف، قبل طلب عذاب الآخرة لمن مات منهم على الشرك. ويربط الله تعذيبهم بسببه الذي هو صدّهم للمؤمنين عن المسجد الحرام، عند ظنهم أنهم أهله حقيقة، عندما اعتبروا العادة والتاريخ؛ بينما الأولى بالمسجد الحرام عند الله ربه، هم المؤمنون. وهذا المشهد، يختزل كثيرا من الصراعات الدينية، عندما يكون أحد الطرفين على تدين تاريخي ورسمي، ويكون الطرف المقابل على تديّن حقيقي. ونعني من هذا، أن كل طرف يرى نفسه أولى من الآخر بالدين وبالأماكن المقدسة في البداية. وعند اشتداد الصراع، يؤيد الله المؤمنين الأحقاء، بما يجعل الناظر يعرف المـُحق من المـُبطل. وهي شهادة معجلة، من الله للمؤمنين بالإيمان؛ قد لا يُتنبَّه لها!... وإن هذا الصراع الذي يكون في البداية بين مشركين وموحدين، وبين أهل شريعة منسوخة وأخرى ناسخة، لا يلبث أن يصير صراعا بين تديُّن جامد تقليدي، وآخر طري متجدد. وكل هذا العذاب المذكور في الآيات، هو من عذاب الدنيا؛ ويبقى عذاب الآخرة خالصا في انتظار مَن يموت على الكفر من العباد، كما أسلفنا. ومعنى قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، هو أن المشركين الذين حكموا لأنفسهم بالأحقية في المسجد الحرام، لم يفعلوا ذلك وهم يعلمون أصول المسألة؛ وإنما هم اكتفوا بما وجدوا أنفسهم عليه من عادة. ومن يمعن النظر، يجد العادة في كثير من الأحيان، حاجبة لأصحابها عن الحق؛ سواء أكانت العادة كما هي هنا حاجبة عن الدين نفسه، أم كانت حاجبة عن حقيقة الدين، إذا كان الخلاف بين أهل الدين الواحد... ثم يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال: 35]؛ يفضح الله بهذه الآية، حقيقة تديُّن أهل مكة الذين كانوا يزعمون لأنفسهم الأولوية بالمسجد الحرام. ويذكر سبحانه أهم ركن في الدين الذي هو الصلاة، والذي ينبغي أن يكون فيه العبد على صلة بربه حقيقة، كيف صيّره أهل الشرك أفعالا جوفاء لا أصل لها من الدين؛ والمقصود هنا بالمكاء: الصفير، وبالتصدية: التصفيق. وهذان الفعلان في الأحوال العادية لا يكونان من خصال ذوي المروءة؛ فكيف يصيران من الشعائر الدينية ومن العبادة بعدُ!... ولكن الشيطان هذه حاله مع الناس، يخرجهم شيئا فشيئا، وبشتى الوسائل، من العبادة الحق إلى ما يختلقه لهم، مما هو حاط من قيمتهم وطاعن في مروءتهم؛ وكأنه -من دون قصد- ينتقم منهم انتقاما أوليا بسبب اتباعهم له، قبل حلول الانتقام الإلهي؛ بل إن فعله بهم، هو من الانتقام الإلهي السابق لهم في الدنيا من غير شك. ولقد سمى الله العبادة التي يُنشئها الناس بوحي من الشيطان كفرا، وجعل هذا الكفر سببا في ذوق الكافرين للعذاب، في الدنيا قبل الآخرة. ويلحق بهذا الأصل من الكفر، كل بدعة استُحدثت في الإسلام، بعد حلول قرون الغفلة، فصارت مزاحمة للشريعة الأصلية. وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ!...»[4]. (يُتبع...) [1] . أخرجه مسلم عن صهيب رضي الله عنه. |