![]() انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني ![]() ![]() Translated
Sheikh's Books |
![]()
2021/02/27
الحوار الغائب (ج3) -20-
المرحلة المدنية (6) (تابع...) 9. نتائج غزوة بدر: ا. قتلى الفريقين: [انتهت المعركة بهزيمة ساحقة للمشركين، وبفتح مبين للمسلمين؛ وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة: قتل منهم سبعون، وأسر سبعون؛ وعامتهم القادة والزعماء والصناديد. ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال: «بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ!»[1]، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قُلُب بدر. وعن أبي طلحة: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ؛ فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ (الحفرة) فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ «يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟» قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ!»[2]؛ وفي رواية (عن ابن عمر رضي الله عنهما): «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ! وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ!»[3].][4]. وإن نحن نظرنا إلى نتيجة المعركة، فإننا سنجد خسائر صف المسلمين قليلة جدا بالنظر إلى عددهم وإلى عُدّتهم؛ وسنجد خسائر المشركين فادحة بالنظر إلى عددهم وعُدّتهم في المقابل؛ هذا ليُعلم أن النصر من عند الله، يؤتيه من يشاء. ومن ينظر إلى المسلمين في آخر الزمان، يجدهم عاملين بالمنطق الكفري، الذي يقضي في نظرهم بانتصار أهل العدد والعُدة. وهذا هو ما يجعل دولا إسلامية بكاملها، وشعوبا إسلامية على كثرة عددها، خاضعة لدول كافرة، لا لشيء إلا لأنها تملك الأسلحة النووية وما يُسمّى "أسلحة الدمار الشامل"؛ من دون اعتبار لنصر الله!... وهذا منهم، إنما يدل على ضعف الإيمان، وعلى سيادة منطق الكفران؛ وإن زعم الزاعمون أن ذلك من "الواقعية"، ومن الحزم والحكمة!... وهيهات!... وأما تكليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للموتى، فهو حق؛ لأنه -عليه السلام- لا يحجبه انتقالهم من الدنيا إلى البرزخ، كما يحجب من لا يزالون تحت حكم طبيعتهم، كعمر رضي الله عنه هنا. والعامة، يكادون -لفرط ضعف إيمانهم- يرون الموتى ملتحقين بالعدم؛ كما يرى ذلك الكفار. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13]. واليأس لا يكون، حتى يُقطع بانعدام الموتى بعد موتهم؛ وهو لا يصح؛ لأن الموت انتقال من الدنيا إلى البرزخ، الذي هو أول منازل الآخرة. فهم في البرزخ يسمعون ويُبصرون؛ يتنعمون أو يتعذبون... ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن أهل الدنيا (الصحابة من جهة الخطاب)، لم يكونوا بأسمع لكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم. والمؤمن عليه أن يؤمن بالإخبار النبوي، وإن لم يكن من أهل الكشف؛ لأن إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفيد اليقين لديه، إن كان على إيمان. وكل من يتوقف في مثل هذه الأخبار، من المسلمين، فعليه أن يعلم أنه على ضعفٍ إيماني شديد، تنبغي التوبة عليه منه عن قريب!... ب. تلقّي مكة لنبأ الهزيمة: [فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة؛ تبعثروا في الوديان والشعاب، واتجهوا صوب مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلا. قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم بمصاب قريش الحَيْسُمَان بن عبد الله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف، في رجال من الزعماء سماهم. فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحِجْر: والله إن يعقل هذا، فاسألوه عني! قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو ذا جالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا!... وقال أبو رافع (مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم): كنت غلاما للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمتُ؛ وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر؛ فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا. وكنت رجلا ضعيفا أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرَّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طُنُب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب: هلم إليَّ، فعندك لعمرى الخبر! قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه؛ فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا! وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لَقِينَا رجالا بيضا على خيل بُلْق بين السماء والأرض، والله ما تُلِيق شيئًا (لا يسلم منها شيء)، ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك عليّ يضربني، وكنت رجلا ضعيفا؛ فقامت أم الفضل إلى عمود من عُمُد الحجرة فأخذته، فضربته به ضربة فَلَعَتْ في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده! فقام موليا ذليلا. فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة [وهي قرحة تتشاءم بها العرب] فقتلته، فتركه بنوه، وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه؛ فلما خافوا السبة في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه... هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر، وقد أثر ذلك فيهم أثرا سيئا جدا، حتى منعوا النياحة على القتلى؛ لئلا يشمت بهم المسلمون. ومن الطرائف أن الأسود بن المطلب أصيب ثلاثة من أبنائه يوم بدر، وكان يحب أن يبكي عليهم، وكان ضرير البصر، فسمع ليلا صوت نائحة، فبعث غلامه، وقال: انظر هل أُحل النَّحْبُ؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة (ابنه) فإن جوفي قد احترق؛ فرجع الغلام وقال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فلم يتمالك الأسود نفسه وقال: أتبكي أن يضــل لها بعـــــــير ويمنعــــــها من النوم السهود فلا تـبكي على بكـــــر ولكن على بدر تقاصرت الجــــدود على بــدر سـراة بني هصيص ومخزوم ورهــــــط أبي الوليد وابكـــي إن بكـيت على عقيل وابكي حارثا أسد الأســــود وابكيهم ولا تسـمّي جميــــعا وما لأبي حــكيمة من نديـــد ألا قد ساد بعدهم رجـــال ولولا يـــــوم بدر لم يسودوا][5]. إن أهل مكة قد نزلت عليهم المصيبة الكبرى، التي تحيق بكل معاند لله من جميع الأزمنة. فقُتل أشرافهم، وهم فيما اعتادوه من كبر، ومن ركون إلى الأسباب؛ وجاءت هزيمتهم على أيدي المستضعفين الذين كانوا لا يرونهم أهلا لوقوع أبصارهم عليهم، عندما لجأوا بضعفهم وعجزهم إلى ربهم ذي القوة المتين. فكانت هذه النتيجة آية من آيات الله الكبرى، على أنه القاهر فوق عباده، الفعال لما يريد؛ حتى يهتدي متأخرو المؤمنين بأحوال السابقين من المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم. ولكن ما ندل عليه هنا، ليس ما اعتاده وُعاظ الفتنة من لوك بألسنتهم، في مجالس الترف والغفلة، التي جعلوها تجارة يقتنصون بها أموال من يظن أن المال يُنفق في مثل هذه الوجوه؛ وإنما هو ما كان عليه الصحابة المرضيون من اجتماع على النبوة الكبرى، وعلى المظهر الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم؛ بالصورة التي تكون متاحة في هذه الأزمنة. ولا يكون هذا، حتى يخرج المسلمون عن تحكم أئمة الغفلة، الداعين إلى الضلال بخير كلام البرية. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ؛ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ؛ لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ. فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.»[6]. ويقول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ!»[7]؛ لهذا، فمن أراد أن يعرف الحق وأهله، فعليه أن يعود إلى الصحابة يستهدي بأحوالهم، ويستقري أخبارهم؛ فإنهم الجماعة التي أسسها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عينه، وسقاها بعلمه، ولم يغادرهم إلا وهو راض عنهم. ولا يغتر أحد بأقوال من جاءوا بعدهم، إن كانوا على غير نهجهم؛ فإن أقوالهم بروق خُلَّب!... ج. وصول أنباء النصر إلى المدينة: [ولما تم الفتح للمسلمين، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرين إلى أهل المدينة، ليعجل لهم البشرى؛ أرسل عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية، وأرسل زيد بن حارثة بشيرا إلى أهل السافلة. وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة، حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم. ولما رأى أحد المنافقين زيد بن حارثة راكبا القَصْوَاء (ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فَلاّ!... فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلميـن، فَعَمَّت البهجـة والسـرور، واهتزت أرجاء المدينة تهليلا وتكبيرا. وتقدم رؤوس المسلمين -الذين كانوا بالمدينة- إلى طريق بدر، ليهنئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الفتح المبين. قال أسامة بن زيد: أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي كانت عند عثمان بن عفان؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان...][8]. سنلاحظ أن الوقت الذي يسبق وصول الخبر اليقين، تستغله قوى الشر في إشاعة ما يوافق أمنياتها وأهواءها؛ وكأنها تستعجل الأمر المنوط بالفِعال، بما لا تُحسن غيره من الأقوال. والمنافقون يكونون أسبق من الكافرين في الإفصاح عن مواقفهم، لأنهم يرون أنفسهم أقرب منهم إلى الهلاك، إن غلب المسلمون. وهذه آفة المنافقين، حيثما وُجدوا من الزمان ومن المكان؛ وهي عقوبة معجلة عليهم من الله ورسوله، حتى إذا نفثوا سمومهم، جاءت الأخبار بعكس ما أظهروا، فازدادوا حسرة وندامة، على ما بهم من نقمة وكراهة. وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيأبى القدر إلا أن يُعطيه بيمينه ليأخذ منه بشماله؛ وهكذا مع توارُد أخبار النصر، كانت المدينة تودع رقية بنت النبي عليها السلام. كل هذا، ليكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم معلما للمؤمنين، بالحال قبل المقال... ليعلِّمهم أن الدنيا لا يركن إليها إلا من لم يصح التعلق منه بربه؛ وأن من ينتظر أن يصفو له الأمر فيها، مع عدم صفوه لخير الخلق عليه الصلاة والسلام، فإنما يكون مغرورا ممكورا به. وعلى هذا، فإن المؤمن، منذ انخراطه في طريق الإيمان، عليه أن يوطّن نفسه على المكاره، وأن ينتظر جزاء ربه في الآخرة دون الدنيا. فإن فعل ذلك، فإنه يكون على السنة النبوية بباطنه، كما هو عليها بظاهره؛ وإلا فهو من ضعاف الإيمان الذين عليهم العمل على تقوية قلوبهم بصحبة الرجال... د. تحرك الجيش النبوي نحو المدينة: [أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر بعد انتهاء المعركة ثلاثة أيام، وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم، ولما اشتد هذا الخلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرد الجميع ما بأيديهم، ففعلوا؛ ثم نزل الوحي بحل هذه المشكلة. فعن عبادة بن الصامت قال: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ، فَلَقُوا الْعَدُوَّ؛ فَلَمَّا هَزَمَهُمُ اللَّهُ، تَبِعَتْهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُونَهُمْ؛ وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَاسْتَوْلَتْ طَائِفَةٌ بِالْعَسْكَرِ وَالنَّهْبِ. فَلَمَّا نَفَى اللَّهُ الْعَدُوَّ، وَرَجَعَ الَّذِينَ طَلَبُوهُمْ، قَالُوا: لَنَا النَّفْلُ! نَحْنُ طَلَبْنَا الْعَدُوَّ، وَبِنَا نَفَاهُمُ اللَّهُ وَهَزَمَهُمْ! وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا، بَلْ هُوَ لَنَا! نَحْنُ حَوَيْنَاهُ وَاسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فُوَاقٍ (بعد مهلة) بَيْنَهُمْ."[9] ولقد تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه، ومعه الأسارى من المشركين، واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل عليه عبد الله بن كعب. فلما خرج من مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بين المضيق وبين النَّازِيَة، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء، بعد أن أخذ منها الخمس. وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث -وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر، وكان من أكابر مجرمي قريش، ومن أشد الناس كيدا للإسلام وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم- فضرب عنقه علي بن أبي طالب. ولمـا وصل إلى عِرْق الظُّبْيَةِ، أمر بقتل عُقْبَة بن أبي مُعَيْط -وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي كان ألقى سَلا جَزُور على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله، لولا اعتراض أبي بكر رضي الله عنه- فلما أمر بقتله قال: من للصِّبْيَةِ يا محمد؟ قال: «النَّارُ!»[10]. فقتله علي بن أبي طالب. وكان قتل هذين الطاغيتين واجبا نظرا إلى سوابقهما؛ فلم يكونا من الأسارى فحسب، بل كانا من مجرمي الحرب بالاصطلاح الحديث.][11]. إن اختلاف الصحابة على الغنائم، يدل على أنهم ما زالوا على اعتبار للدنيا، كما هو حال المؤمنين دائما. ولقد جعل الله هذا الاختلاف سببا للتشريع الذي سينزل به الوحي، والذي أرسته الآية الأولى من سورة الأنفال. وقد أرجع الله القسمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد خصم الخمس الذي جعله من نصيبه. وإن في إرجاع القسمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قطع لأسباب النزاع التي قد تنشأ فيما بين المؤمنين، عند نظر بعضهم إلى بعض. وهذا يعني أن الحسم في الأمور، لا بد من أن يكون من جهة علوية، وإلا توسع الاختلاف، وربما اتسع على الناس. وأما قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرؤوس الكفر، فهو لحكمة إلهية؛ وذلك لأنهم لن يعودوا عن غيّهم لو عوملوا معاملة الأسرى. والعفو عنهم في هذه الحال -وإن بدا من الرحمة بهم- ستكون فيه مضرة بالمؤمنين؛ والمؤمنون أولى بنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الله في أمثال هؤلاء: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، ويقول سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]. وأما قول الكاتب (المباركفوري): "وكان قتل هذين الطاغيتين واجبا نظرا إلى سوابقهما"، فيُحمل على أن الله أوجبه على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وأما إن كان المرء من أهل العلم بالجمع، وفهم أن الإيجاب هو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليُحمل على أنه من إيجابه على نفسه، كما هو لائق به من مرتبة تحققه بربه. والمعنيان لا يختلفان إلا من جهة الاعتبار فحسب. ه. وفود المهنئين: [ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى الرَّوْحَاء لقيه رؤوس المسلمين (الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة والاستقبال حين سمعوا بشارة الفتح من الرسوليْن) يهنئونه بالفتح. وحينئذ قال لهم سَلَمَة بن سلامة: ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله إن لَقِينا إلا عجائز صُلْعًا كالْبُدْن المعُقَّلَةِ، فنحرناها؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «لا يا ابْنَ أَخِي، أُولَئِكَ الْمَلَأُ!»[12]. "فَلَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْفَرَكَ وَأَقَرَّ عَيْنَكَ؛ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ تَخَلُّفِي عَنْ بَدْرٍ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّكَ تَلْقَى عَدُوًّا! وَلَكِنْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا الْعِيرُ؛ وَلَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ عَدُوٌّ مَا تَخَلَّفْتُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقْتَ!»[13]. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مظفرا منصورا، قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها؛ فأسلم بشر كثير من أهل المدينة. وحينئذ دخل عبد الله بن أبيّ وأصحابه في الإسلام ظاهرا... وقدم الأسارى بعد بلوغه المدينة بيوم، فقسمهم على أصحابه، وأوصى بهم خيرا. فكان الصحابة يأكلون التمر، ويقدمون لأسرائهم الخبز، عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.][14]. وفي هذا المقطع، تظهر الأخلاق الإلهية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو حين ينهى سلمة بن سلامة رضي الله عنه، عن تنقُّص المشركين من قريش، فإنه يُبين عن رجوعهم إليه من جهة الحقيقة، وبالتالي إلى الله. والله لا يحب لعباده، أن ينظروا إلى عباد غيرهم بعين التحقير. ثم عندما يوصي أصحابه بالأسرى، حتى يفضلوهم على أنفسهم في المـَطعم، فإنه يؤكد هذا المبدأ. ولن نكون كالجاهلين الذين يُقارنون أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أخلاق سواه من الناس، لأن ذلك لا يخلو من سوء أدب؛ (ولا بد من الإشارة هنا، إلى تعمُّد المنتصرين في العادة لإذلال أسراهم، تثبيتا في أعينهم لمعنى النصر)؛ ولكن نقول ما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. والله لا يُعظم إلا ما كان منه وله، سبحانه!... وأما تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأسيد بن الحضير رضي الله عنه (ولمن كان على مثل حاله)، فهو من اطلاعه على غيوب بواطنهم. وكم من متخلف عن القتال مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مشارك في الأجر لمن خرج. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الفئة (في مناسبة أخرى): «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ!»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟! قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ! حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ.»[15]. وهذه المسألة من باب علم النيات، وهو باب واسع ونافع جدا. و. قضية الأسرى: [ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة استشار أصحابه في الأسارى، "فقال أبو بكر: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ وَالْإِخْوَانِ؛ فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ، فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرَى يَابْنَ الْخَطَّابِ؟» قال: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ (قَرِيبًا لِعُمَرَ) فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ أَخِيهِ فُلَانٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ؛ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ؛ هَؤُلَاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ! فَهَوِيَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ؛ فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ عُمَرُ: غَدَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنَ الْفِدَاءِ! لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ! (لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ) وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا، إِلَى قَوْلِهِ: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ ثُمَّ أَحَلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، عُرِّفُوا بِمَا صَنَعُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَفَرَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، بِأَخْذِكُمُ الْفِدَاءَ."[16]. والكتاب الذي سبق من الله قيل: هو قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد: 4]. ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسارى؛ ولذلك لم يعذبوا؛ وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض. وقيل: بل الآية المذكورة نزلت فيما بعد، وإنما الكتاب الذي سبق من الله هو ما كان في علم الله من إحلال الغنائم لهذه الأمة، أو من المغفرة والرحمة لأهل بدر. وحيث إن الأمر كان قد استقر على رأي الصديق، فقد أخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم، إلى ثلاثة آلاف درهم، إلى ألف درهم. وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون؛ فمن لم يكن عنده فداء، دُفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء. ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدة من الأسارى فأطلقهم بغير فداء، منهم: المطلب ابن حَنْطَب، وصَيْفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجُمَحِي، وهو الذي قتله أسيرا في أحد، وسيأتي. ومنّ على خَتَنِه أبي العاص بشرط أن يخلي سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوا. واشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيل زينب، فخلاها فهاجرت؛ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار، فقال: «كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ، فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا!»[17]، فخرجا حتى رجعا بها. وقصة هجرتها طويلة ومؤلمة جدا. وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيبا مِصْقَعًا، فقال عمر: يا رسول الله، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يَدْلَعْ لسَانُه، فلا يقوم خطيبا عليك في موطن أبدا! بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض هذا الطلب؛ احترازا عن المـُثْلَةِ، وعن بطش الله يوم القيامة. وخرج سعد بن النعمان معتمرا فحبسه أبو سفيان، وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في الأسرى، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.][18]. فأما مسألة الأسرى، فإن الله قد وافق فيها رأي سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي مررنا به آنفا؛ وذلك هو معنى الإثخان في الأرض، الذي ينبغي أن يسبق الأسر. وهي أيضا مما وافق رأي عمر رضي الله عنه، الذي سيُنطقه الله بحُكمه في مواطن أخرى سنعرفها في حينها. وأما توعُّد الله عباده بالعذاب، فهو ما أصابهم في أحد مما هو معلوم، ومما كان جزاء على مخالفتهم لأمر الله في بدر. والمخالفة لله، إنما تمت من وجه، قُصدت منه الرحمة بالمشركين، وطُمع به في إسلامهم نتيجة لها. فلم يقبل الله العدول عن حكمه الصريح، إلى ما يُعطيه الرأي في العادة؛ ومن هنا كان إعمال الرأي مع ثبوت النص، مرفوضا في الدين؛ حتى قيل: "لا اجتهاد مع النص!". وسنعود إلى وجوه هذه المسألة في حينه إن شاء الله؛ لأنه ينبغي إرجاعها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة الظاهر ومن جهة الباطن. وهو علم لم نر من يدل عليه صراحة. ومِن توعد الله المؤمنين على مخالفتهم أمره سبحانه، يظهر أن العمل في الدين لا يكون إلا بأمر إلهي؛ لأنه سبحانه رب الدين ورب الناس؛ وهو أعلم بما يُصلحهم في العاجل وفي الآجل. وسنرى في المعارك الأخرى، كيف ستختلف الأحكام باختلاف الظروف؛ ليظهر أن علم الله في الأمور -وبالتالي حكمه- ليس على وجه واحد، يُلتزم بكيفية آلية؛ ولكنه علم مركب، يُطلع الله نبيه منه على ما شاء من الوجوه، ليتبع فيها حكمة الله. وهذا من العلم المتحرك، الذي ذكرناه في كتابنا "النسبية العلمية". ونعني من هذا، أن الله سيزيد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، في كل مرة، علما بمراده؛ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم سيُفيض من ذلك العلم على صحابته، ثم على مَن بعدهم؛ ليكتمل بنيان الأحكام في المسائل، في أبهى صورة وأتمها. وستبقى هذه الصورة العلمية التشريعية، إعجازا نبويا، على مر القرون، وإلى قيام الساعة؛ وإن كان المسلمون المتأخرون (الفقهاء) لا يبلغون كنهها، ويقصرون عنها. ولقد كان من نتائج معركة بدر، استلحاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابنته زينب الطاهرة به؛ وهذا مما يسُرّ النبي ويقلل من همومه الشخصية، من غير شك. ز. ما نزل من القرآن في معركة بدر: [وحول موضوع هذه المعركة نزلت سورة الأنفال (...) إن الله تعالى لفت أنظار المسلمين -أولًا- إلى بعض التقصيرات الأخلاقية التي كانت قد بقيت فيهم، وصدر بعضها منهم؛ ليسعَوْا في تحلية نفوسهم بأرفع مراتب الكمال، وفي تزكيتها عن هذه التقصيرات. ثم ثَنَّى بما كان في هذا الفتح من تأييد الله وعونه ونصره بالغيب للمسلمين. ذكر لهم ذلك لئلا يغتروا بشجاعتهم وبسالتهم، فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبرياء، بل ليتوكلوا على الله، ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصلاة والسلام. ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض الرسول صلى الله عليه وسلم لأجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودلهم على الصفات والأخلاق التي تتسبب في الفتوح في المعارك. ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة، ووعظهم موعظة بليغة، تهديهم إلى الاستسلام للحق والالتزام به. ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم، وقنن لهم مبادئ وأسس هذه المسألة. ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية، ويتفوق المسلمون في الأخلاق والقيم والمثل، ويتأكد للدنيا أن الإسلام ليس مجرد وجهة نظر، بل هو دين يثقف أهله عمليا على الأسس والمبادئ التي يدعو إليها. ثم قرر بنودا من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها، والذين يسكنون خارجها. وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وبُيّنت أنصبة الزكاة الأخرى، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الأخرى تخفيفا لكثير من الأوزار التي كان يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللاجئين الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضربا في الأرض. ومن أحسن المواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو العيد الذي وقع في شوال سنة 2 هـ، إثر الفتح المبين الذي حصل لهم في غزوة بدر. فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء به الله بعد أن تَوَّجَ هامتهم بتاج الفتح والعز، وما أروق منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى الله، وحنينا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم به من النعم، وأيدهم به من النصر، وقد ذكرهم بذلك قائلًا: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]][19]. يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]: وإن كانت الأنفال لله والرسول، فلم يبق لمؤمن ما تتعلق به نفسه، إلا الله ورسوله. وهكذا يبقى نيل الأنفال من توابع المعركة، لا من غاياتها التي تشوش على صفاء التوجه. وإصلاح ذات البيْن لدى الصحابة والمؤمنين، أسبق في الاعتبار؛ لأنه غاية دينية كبرى، تحافظ على تماسك الأمة. وكل ما ينال من الغايات الكبرى، ينبغي أن يُجتنب إن كان العبد حريصا على طاعة الله ورسوله، وإن كان ممن يرجون أن يُكتبوا عند الله من المؤمنين. وهذا الحكم لا يتعلق بالسابقين الأولين وحدهم، بل هو سار في الأمة منذئذ وإلى قيام الساعة؛ وما أقل اهتمام المتأخرين به!... وما ذلك إلا للغفلة الطارئة، والتي صار معها المؤمن يعادي المؤمن ويقاتله، ثم بعد ذلك لا يخامره شك في صحة إيمانه، وفي صحة طاعته لله ورسوله. بل إن كثيرا من المؤمنين، لا يرى نفسه معنيّا بسورة الأنفال؛ ويراها (كسواها من السور والآيات) منوطة بأسباب نزولها؛ وكأن الصحابة المرضيّين، هم وحدهم المخاطَبون بما نزل فيها. وقد يعتني الناس بتفسير القرآن تفسيرا مجردا، ويتوهمون أنهم يزدادون به قربا من الله؛ وينسون أن أول تفسير له هو التفسير العملي، الذي تُطبّق فيه أحكامه، وتُستنزل رحماته... ثم يقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]: يبيّن الله هنا صفات المؤمنين، حتى يعدّل السامعون مساراتهم باطنا وظاهرا، بحسبها؛ لأن كثيرا من الناس يريدون أن يجعلوا الإيمان كما يهوَوْن هم، لا كما يأمر الله. ولقد خص الله المؤمنين بصفة أساس هي الوجل القلبي، حتى يخرج من هذا التعريف الخوف الطبيعي الذي يكون عن أسباب معتادة. فوجل القلب، هو الخوف من الله، الذي يكون عن تعظيم لمرتبة ربوبيته سبحانه. يقول الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، والخوف الناتج عن التعظيم، هو الذي يتصف به المؤمنون إذا سمعوا ذكر الله. وهذه الصفة قد أصبحت قليلة في المسلمين، بسبب غفلة القلوب وانصراف نظرها إلى الدنيا، مع بقائهم على الإسلام. والمعنى هو أن المخاطبين بالتكاليف من الوحي، هم أولا المؤمنون، الذين يستقبلون الخطاب الإلهي بالتعظيم والوجل. وهذا الصنف من المسلمين، هم من تبتني عليهم الأمة، وهم من تُحفظ بهم المراتب والمقامات، وهم من يستمر بهم الدين في الناس. وإذا تليت آيات الله على هذا الصنف المؤمن، فإنها تزيدهم إيمانا بسبب كمال استعداداتهم. ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم، يسمعون الآيات في أوانها، وبموافقة الظروف الظاهرة والباطنة لها؛ فكان القرآن يجد منهم عناية خاصة، لا يتمكنون معها من صرف قلوبهم عن فحوى خطابه. ولا يذوق هذا المعنى بالنظر إلى القرآن، ممن جاء بعد الصحابة في الأزمنة المتأخرة، إلا السالكون حقا على نهجهم (بالمعنى الصوفي)، والذين تتنزل معاني القرآن منجمة على قلوبهم بحسب الأحوال. وأما غير السالكين، فهم يسمعون قرآنا محكيا لا تكليما إلهيا. والفرق بين الأمريْن، هو أن الثاني لا تأثير له في البواطن؛ والأول لا يتمكن الباطن من تجاهله. والمؤمنون (من السابقين ومن اللاحقين) عندما يستمعون القرآن بقلوب حاضرة، يزدادون إيمانا؛ لأنه يؤيد بعضه بعضا، في اتساق عام، لا نظير له من كل خطابات المخلوقين؛ وفي تضافر منطقي بحسب مرتبة الكلام. والمنطق القرآني يجمع جميع صنوف المنطق، بخلاف ما تعتقده العامة: فهو متضمن للمنطق العقلي المعلوم لأهله، ومتضمن للمنطق الإيماني، الذي ذكرناه مرارا، والذي لا يعرفه إلا أهل مرتبة الإيمان؛ كما يتضمن منطق الحقائق العليا، الذي لا يعرفه إلا العلماء بالحقائق. والحقائق، هي ما سماه الله في كلامه سبحانه "سنة الله"، كما في قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38]. وكون السنن ماضية في الذين خلوا من قبل، يفيد بأنها مستمرة في الذين يتعاقبون بعدهم على الأرض. يقول الله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]. وهذا الاستمرار، هو ما سميناه نحن منطقا؛ فليُعتبر!... وأما قول الله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، فهو اشتراط لصحة أول مقام من مقامات الإيمان، والذي هو التوكل، في صحة المرتبة التي هي: الإيمان. وأصحاب التوكل ميزتهم، أنهم لا يعتبرون الأسباب في النظر القلبي، بل يتوكلون على ربها ويعتمدون عليه دونها. وهذا المقام، لا يُشهد به لصاحبه حتى يُنظر حاله عند فقد الأسباب؛ وهو ما دل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عوف بن الحارث رضي الله عنه، عندما سأله عما يُضحك الرب من عبده (أي ما يسره منه)، فأجابه عليه السلام: «غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا!»؛ فهذا لا يعني إلا الدخول في المعركة مع التخلي عن الأسباب، حتى لا يكون للعبد مستند إلا إيمانه بربه!... ولقد نبهنا إلى أن أحكام القلوب، مما يجهله الفقهاء؛ لذلك فلا ينبغي أن يُلتفت إلى أقوالهم فيها. وأما شيوخ التربية، فإنهم يكونون على السنة، وقد يدلون العبد في وقت ما على ترك السبب، تحقيقا منهم لتوكله على ربه. وبعد تحقُّق المقام، يستوي عند العبد الأخذ بالأسباب وتركها؛ بل يُسن له الأخذ بها، لأن قلبه صار لا يلتفت إليها. وأهل بدر كلهم، لو لم يكونوا على توكل، ما تمكنوا من الدخول في المعركة؛ لأن القياس العقلي الظاهري، والمعتبِر للأسباب، كان سيدلهم على الإحجام كما يدل غيرهم من الناس، في مثل هذه المواطن. ولكنهم رضي الله عنهم، اتبعوا ما يمليه عليهم إيمانهم بالله ورسوله، وكانوا في صورة من يُقدم على التهلُكة. فكان جزاؤهم عند ربهم أن ينصرهم على أعدائهم الذين يفوقونهم عددا وعتادا، وأن يحفظهم حتى لا يموت منهم إلا قلة قليلة انقلبت إلى الجنة بفضل الله. ثم يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال: 3]؛ والمعنى هو أن المؤمنين، هم من يُقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة. وهذا لأن الصلاة لم تكمل في صورتها إلا بعد الهجرة، وإن فُرضت قبلها. وقد جاء عن عائشة عليها السلام أنها قالت: "فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأُولَى."[20]. وإقامة الصلاة، هي الإتيان بها على هيئتها وفي وقتها، كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُصلّي؛ من جهة الظاهر أولا. وأما ذكر الزكاة هنا، فلأنها فرضت في السنة الثانية للهجرة. والصلاة والزكاة تأتيان مقترنتيْن في كثير من الآيات، للدلالة على كون الزكاة (بمعنى الفرض والتطوع) كالتقدمة بين يدي مناجاة العبد لربه. وهذا المعنى، هو ما يُشير إليه قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12]. وما يثبت لمقام الخلافة هنا، فهو أثبت عند مناجاة الرب سبحانه في الصلاة. وهذا المعنى في التشريع، معروف لدى الأمم السابقة، كبني إسرائيل الذين كان يُطلب منهم تقريب القربان قبل الدعاء (الصلاة). فينبغي أن يُعتبر هذا المعنى، وأن يُجعل جسرا بين مختلف الشرائع؛ وهو -على كل حال- مما يتقوى به إيمان المؤمنين. ثم يقول سبحانه: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4]؛ إن الذين يجمعون كل الشروط السابقة، يكونون مؤمنين حقا. والمقصود أنهم يكونون من أهل مرتبة الإيمان، لا من أهل مرتبة الإسلام وحدها. وهذا نظير قول الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. فالله يُثبت المرتبة للمؤمنين وينفيها عمن يدعيها من الأعراب. وقد أغفل متأخرو المسلمين هذا التفريق، بين الإيمان والإسلام، فبقي مـُعظمهم على إسلام، دون الإيمان. وهذا الإيمان الذي يُثبته الله للمؤمنين، لا يكون على درجة واحدة؛ والدرجة هنا، هي ما اصطلح عليه أهل الطريق بـ "المقام". ولقد فصلنا نحن القول في مقامات الإيمان، في كتاب "مراتب العقل والدين"، فلتُطلب منه. واختلاف درجات المؤمنين، يجعلهم على معاملات مختلفة لربهم ولنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم. فمعاملة المتوكل، تختلف عن معاملة الراضي؛ وهكذا... وتختلف درجات المؤمنين تبعا لاختلاف درجات إيمانهم، في الجنة بعد دخولها. وهذا كله من حكمة الله، المراعية للمقامات والدرجات، في الدنيا والآخرة. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في تفاوت درجات أهل الجنة: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ فِي الْغُرْفَةِ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الشَّرْقِيَّ أَوِ الْكَوْكَبَ الْغَرْبِيَّ الْغَارِبَ فِي الْأُفُقِ وَالطَّالِعَ فِي تَفَاضُلِ الدَّرَجَاتِ!»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ؟ قَالَ: «بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ وَأَقْوَامٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ!»[21]. وأما المغفرة المذكورة في الآية، فلأن المؤمن لا يدخل الجنة حتى يغفر الله له سيئاته؛ إما بتقبله سبحانه لحسناته فتغلب الحسنات السيئات من جهة العدد، وإما بمغفرتها على التعيين بمحض الفضل؛ حتى يكون العبد كأنه لم يعملها. وهذه المغفرة بصنفيْها، هي ما يؤهل العبد لدخول الجنة، ثم لنيل درجاتها بعد الدخول، بحسب أعماله. وأما الرزق الكريم، فهو الأجر على الحسنات، الذي يكون قابلا للزيادة، بحسب ما يحكم الله لعبده من الأضعاف. وهذا من فضل الله العاقب، الذي يُصيب المؤمن بعد فضل التوفيق وفضل الإقدار على العمل وفضل القبول. ومن حقق النظر، فإنه يجد العمل كله من بدايته إلى نهايته لله؛ ولكن الله عند نسبته له إلى العبد، يتفضل عليه بالجزاء كما تفضل أولا عليه بالعمل. فهو فضل في فضل، وفضل على فضل؛ ولا يكون الأمر إلا هكذا!... وأما الآيات، من الخامسة إلى الثالثة عشرة، فقد ذكرناها ضمن أحداث بدر؛ فلنذكر الآن ما بعدها... (يُتبع...) [1] . ذكره الطبري في تاريخه، عن ابن إسحاق. |