![]() انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني ![]() ![]() Translated
Sheikh's Books |
![]()
2020/12/16
الحوار الغائب (ج3) -14-
المرحلة المكّيّة (5) (تابع...) جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبـــــــــــــدِ قالت أسماء: ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه، حتى خرج من أعلاها. قالت: فلما سمعنا قوله، عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة. د. وتبعهما في الطريق سُرَاقة بن مالك. قال سراقة: "جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ؛ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ! قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ؛ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا. ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ، فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي، فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ. فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ، فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ؛ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ تُقَرِّبُ بِي؛ حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ، حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا. فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ؛ فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ، فَوَقَفُوا. فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي، إِلَّا أَنْ قَالَ: «أَخْفِ عَنَّا!»، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ، فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ."[7] وفي رواية عن أبي بكر قال: ارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك بن جُعْشُم، على فرس له؛ فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله! فقال: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. (...) ورجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كُفيتم ما ها هنا. وكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما. ه. وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم بُريْدَة بن الحُصَيْب الأسلمي ومعه نحو ثمانين بيتا، فأسلم وأسلموا، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة فصلوا خلفه، وأقام بريدة بأرض قومه حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحُد. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَفَاءَلُ وَلا يَتَطَيَّرُ؛ فَرَكِبَ بُرَيْدَةُ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، فَلَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «مِمَّنْ أَنْتَ؟» قَالَ: مِنْ أَسْلَمَ! فَقَالَ لأَبِي بَكْرٍ: «سَلِمْنَا!» ثُمَّ قَالَ: «مِنْ بَنِي مَنْ؟» قَالَ: مِنْ بَنِي سَهْمٍ! قَالَ: «خَرَجَ سَهْمُكَ!»[8]. و. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أوْس تميم بن حَجَر أو بأبي تميم أوس بن حجر الأسلمى، بقحداوات بين الجُحْفَة وهَرْشَى -بالعرج- وكان قد أبطأ عليه بعض ظهره، فكان هو وأبو بكر على جمل واحد، فحمله أوس على فحل من إبله، وبعث معهما غلاما له اسمه مسعود، وقال: اسلك بهما حيث تعلم من محارم الطريق ولا تفارقهما، فسلك بهما الطريق حتى أدخلهما المدينة، ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسعودا إلى سيده، وأمره أن يأمر أوسا أن يسم إبله في أعناقها قيد الفرس، وهو حلقتان، ومد بينهما مدا؛ فهي سمتهم. ولما أتى المشركون يوم أحد أرسل أوس غلامه مسعود بن هُنَيْدَة من العَرْج على قدميه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بهم. ذكره ابن مَاكُولا عن الطبري. وقد أسلم بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يسكن العرج. ز. وفي الطريق -في بطن رِئْم- لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وهو في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام؛ فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بياضا. وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة -وهي السنة الأولى من الهجرة- الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء. قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحَرَّة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة. فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم، أَوْفَى رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح. وتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة. قيل: وسُمِعت الوَجْبَةُ والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]. قال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحيِّي -وفي نسخة: يجيء- أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يوما مشهودا، لم تشهد المدينة مثله في تاريخها. وقد رأى اليهود صدق بشارة حَبْقُوق النبي: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران."[9] ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خَيْثَمَة، والأول أثبت. ومكث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاثًا حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيا على قدميه حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهَدْم. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس (يوم الجمعة) ركب بأمر الله له، وأبو بكر رِدفه، وأرسل إلى بني النجار (أخواله) فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل.][10]. ولنستخرج بعض ما في هذا الجزء من أسرار: ا. إن ما حدث لشاة أم معبد، على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو من تصرفه -عليه السلام- بالعالم، من مرتبة الخلافة عن الله؛ فهو عليه السلام من هذه المرتبة يقول للشيء كن فيكون، من غير اعتبار للأسباب. وهذا، لأن الأسباب -بعكس ما يتوهم الناس من العادة- لا فعل لها؛ وإنما هي من الحكمة الساترة للقدرة فحسب. وقد قصُر المتكلمون من المسلمين، عند خوضهم في مسألة الأفعال، عندما ظنوا الأثر للأسباب، وعندما نفوه عنها، في كلا الأمريْن؛ لأن الفعل لله يكون من مرتبة الإرادة، من دون اعتبار للأسباب، في وجودها وعند انعدامها. يقول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]. ونعني من كلامنا هذا، أن الأشاعرة أيضا عند اعتبارهم للأسباب، قد جهلوا؛ لأنهم يُثبتونها وينفونها في الوقت ذاته، غير أن الفرق بين وجود الأسباب وعدمها، معتبر في الحكمة لا غير. ولسنا نعني أن الحكمة تقتضي دائما ظهور الأسباب، ولكن نعني أنها كما تقتضي في الغالب ظهور الأسباب، فإنها أحيانا تقتضي عدم ظهورها؛ كما هو الشأن هنا، وفي المعجزات عموما. فالمعجزات هي فعل الله المتجاوز للأسباب، المـُظهر للقدرة وحدها. والله سبحانه يؤيد بالمعجزات رُسُلَه، ليعلم المحجوبون أنهم صادقون في دعواهم الرسالة. وأما غير المحجوبين، فلا فرق عندهم بين وجود المعجزة وعدمها؛ لأنهم يرون الفعل من الله في جميع الأحوال. ب. إن إخبار الجنّي لأهل مكة بشأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يُشبه نشرة الأخبار في وسائل الإعلام الحديثة؛ ليتابعها المهتمون. وهو هنا اعتناء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي بعث الجني بالخبر، بالأقارب؛ حتى لا يبقوا عُرضة للهواجس. وهذا يعني أن الخليفة النبوي، لا يخرج شيء عن علمه وتدبيره. والقرب والبعد المعهودان في عالم الحس، حكمهما حكم عدمهما في حق الخليفة؛ ومن كان فعله بالله، فإن العالم ينفعل له انفعالا ذاتيا. وهذا الانفعال هو المـُعبّر عنه بـ "كن فيكون". ورغم أن الفاء في العبارة عند النحويين، هي للاستئناف؛ إلا أنها لا تخلو من معنى الفورية، المقتضي لسرعة الانفعال. لذلك فلا يُتصور زمان بين "كن" و"يكون"، وإن أُدرك التراتب بينهما من جهة العقل. ج. وأما لحوق سراقة بن مالك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بنية الفوز بالدية، مع صرفه لغيره؛ مما يبدو وكأنه استئثار منه بالجائزة؛ فهو من مكر الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم (أي من مكر غيب النبي). وإن عدم تمكنه من مواصلة سيره بفرسه، هو من منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وقهره إياه. وردّه صلى الله عليه وآله وسلم على أبي بكر عند إيقانه بإدراك العدو لهما، بقوله عليه السلام: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}، هو كقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه: 14]، من جهة التعريف. ونعني أن هذا، كان تعريفا لأبي بكر رضي الله عنه -الذي كانت هجرته سلوكا مكثّفا قطع فيه الطريق من الإيمان إلى المعاينة في أقرب مدة- بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الحقيقة هو الحق عينه؛ ليبلغ ببركة صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاية الإحسان قبل دخوله المدينة. وهذه ميزة لأبي بكر عليه السلام، ستؤهّله للخلافة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بعد. ولقد خرج سراقة أيضا فائزا من هذا الابتلاء، بتصديقه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبنيله لصك الأمان النبوي، الذي سيجد أثره في الدنيا والآخرة. د. إن بعث بريدة لغلامه مسعود مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليسلك به الطرق المأمونة، إلى أن يبلغ به المدينة، بعد إسلام قومه؛ هو من الإسعاد، ومن النُّصرة الإلهييْن. ولم يشأ الله سبحانه أن يدخل نبيّه المدينة كدخول الناس؛ بل جعل دخوله -عليه السلام- منتظرا ومرتقبا لأيام، كما يليق بمرتبته المنيفة، لينتفع بمَقدمه المستقبلون من أول وهلة؛ وهو من كرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما اختلاط أمره عليه السلام، على الناس، حتى ظنوه أبا بكر؛ فهو من دهشة اللقاء، ومن هيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فنوره صلى الله عليه وآله وسلم باهر، لا تُدركه الأبصار إلا إن أمدها الله بقوة من عنده. والنفوس في بادئ أمرها، تأنس إلى نظرائها، ولا تطيق النور الفائق. وأما عندما نظروا خدمة أبي بكر لصاحبه صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم علموا من هو بالقرينة. وهذا أدنى ما يكون من العلم، لمن لا قدم له في الباطن. ولقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة في يوم الجمعة بعد الصلاة، في ساعة الاستجابة، ليكون ذلك إعلانا بالجمع الإلهي المطابق لمرتبة الحقيقة المحمدية، في عالم السفل، بعد تحقُّقه في عالم الجبروت قبل خلق الخلق. وإن هذا الأمر، هو ما خُلقت من أجله السماوات والأرض، وخُلق من أجله آدم. لذلك، فهو أعظم حدث في تاريخ البشرية بأسره. ولقد وفّق الله عمر بن الخطاب الخليفة الرباني، إلى جعله مبدأ التأريخ لدى المسلمين، للسر الذي ذكرناه. ونعني من هذا، أن المرحلة المدنية هي تنزُّلٌ إلى واحدية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أحدية مكة. ولهذا كان "الكوثر" الذي بُشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 - 3]، إيذانا بدخول المرحلة المدنية من التجلّي. ورغم أن مِن المفسرين مَن جعل سورة الكوثر مكية، فنحن نوافق ابن كثير على أنها مدنية، من جهة مدلولها. وإن كانت قد نزلت بمكة، فإنها تكون قريبة من الانقلاب إلى المدينة ولا بد. وسنعود -إن شاء الله- إلى تجلي مكة والمدينة فيما بعد، لنكمل الكلام فيه. 28. دخول المدينة: [ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة حتى دخل المدينة -ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصرا- وكان يوما مشهودا أغر؛ فقد ارتجت البيوت والسكك بأصوات الحمد والتسبيح، وتغنت بنات الأنصار بغاية الفرح والسرور: طـلـع الــبـدر عـلـــــــــــــــــــينا مـن ثـنيـــــــــــــات الـوداع والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة، إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عليه. فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلُمَّ إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة! فكان يقول لهم: «خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ!»[11]، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت؛ ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها؛ وذلك في بني النجار -أخواله صلى الله عليه وسلم- وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله، يكرمهم بذلك. فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحـله، فأدخله بيته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ!»، وجـاء أسعد بن زرارة فأخـذ بزمام راحلته، فكانت عنــده. وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟» فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله، هذه داري! وهذا بابي! قال: «فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا!»، قال: قوما على بركة الله. وبعد أيام وصلت إليه زوجته سَوْدَة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن؛ وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة. وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكّنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر. قالت عائشة: "وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ؛ قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا تَعْنِي مَاءً آجِنًا."[12]. وقالت: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ." قَالَتْ: "فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِه وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَـــــةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيــــــــلُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ.»"[13].وقد استجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فأري في المنام أن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت بالمِهْيَعَة، وهي الجحفة؛ وبذلك استراح المهاجرون عما كانوا يعانونه من شدة مناخ المدينة.][14]. ولقد كان دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فتْحاً من الله، قبل فتح مكة، وهو صنوه؛ وإن لم يُصطلح عليه بالفتح. وكان نزوله صلى الله عليه وآله وسلم على الأنصار، استبدالا لمحيط الموالاة والموافقة بمحيط العداء والمنافرة. وهذا إيذان من الله، بتحول جلال مكة المناسب لمرتبة الحق المشار إليها ببيت الله، إلى جمال المدينة، التي بها الإشارة إلى مرتبة الواحدية أو الحقيقة المحمدية. وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بدخوله المدينة، سيكون في بيته الذي به يقر قراره، والذي يناسب مرتبته من الحق. ومن هذه المرتبة، ستظهر تفاصيل الحقائق التي تضمنتها حقيقته عليه السلام، في العالم على مر الأزمان؛ وسيكون لأصحابه وراثة مقامات الأنبياء السابقين، كما سنرى في حينه؛ تشريفا لأمته على سائر الأمم. وأما الحمى التي أصابت الصحابة رضي الله عنهم، فكانت طهورا لهم، يُشبه الطهور الذي يسبق الصلاة من جهة الحس؛ حتى يتم إيمانهم، ويترقوا بفضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى حيث يجدون ثمرات اليقين العلمية والأخلاقية عن قريب. ولولا هذا الترقي، ما كانوا -رضي الله عنهم- ليطيقوا التكاليف التي تنتظرهم بحسب مرتبتهم، التي يكونون منها أئمة لكل من يأتي بعدهم من المؤمنين. ونعني من هذا، أن الله اختارهم ليكونوا قدوة في السلوك لكل من سيأتي بعدهم من المؤمنين إلى قيام الساعة؛ وإن لم يعلم هذا، إلا من سار كما ساروا. لذلك كنا دائما نقول: إن السالك الذي لا يجد أحد الصحابة أمامه في سلوكه، لا يَعدُّ نفسه من أهل الطريق بالمعنى الخاص. وأما دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وهو إرادته- بتحول الحمى إلى الجحفة، فهو ليفوز الصحابة بالنور والأجر، مع مفارقة البلاء لهم عند انتهاء زمان ذوقه لديهم. وهذا يعني أن البلاء المسلط على المؤمنين، لا يكون إلا على قدر الوقت الضروري لاستخراج الكمالات القلبية، فضلا من الله؛ فإن دام، فإنه يكون لرفع الدرجات إلى حيث قُسم للعبد الوصول، وإلى حيث لا يبلغ به العمل. وأما البلاء الصرف، الذي هو صنف من العذاب المعجّل، فلا يكون إلا لأهل الشقاء، كما هو عذاب الآخرة. لكن تمييزه لا يكون إلا كشفا، بسبب اشتراك الناس في أحوال الدنيا، وبسبب انقلاب البلاء حَسَناً، في حق من شاء الله له الهداية بعده. وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، سينتهي زمن تجلٍّ مخصوص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه الشريفة؛ كان الله يهيئه به لتولّي الخلافة عنه بالفعل، بعد أن كانت فيه بالقوة؛ وإن كانت خلافته -عليه السلام- الفعلية قد بدأت بمكة. والتفريق منّا هنا، هو للإشارة إلى أصل التجليّات فحسب، لا إنكارا منّا لما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خلافة لله بمكة قبل المدينة، عياذا بالله. وعلى العموم، فإن أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يتكلم فيها كل أحد؛ لأنها من شؤون الحق ذاته. ومن لا يعلم هذه النسبة الحقّيّة في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مِن قبل أن يُخلق، فالسكوت أفضل له. وعلى كل حال، فنحن بكلامنا، نعني أن المرحلة المكية في عمومها، ومن جهة التغليب، كانت سلوكا خاصا، للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحق. ومن هنا سيختلف القرآن المكي عن القرآن المدنيّ في الدلالة، كما سنرى عند تناولنا لتجليات القرآن بعد فراغنا -بإذن الله- من المرحلة المدنيّة، التي هي الفصل المقبل من فصول هذا الجزء... [1] . الرحيق المختوم للمباركفوري. [2] . الفتوحات المكية: باب الحضرة الموسوية. [3] . المنتظم في تاريخ الأمم، لابن الجوزي. [4] . مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري: باب مناقب أبي بكر رضي الله عنه. [5] . الرحيق المختوم للمباركفوري. [6] . أخرجه الحاكم في المستدرك، عن هشام بن حبيش رضي الله عنه. [7] . أخرجه البخاري، عن عائشة عليها السلام. [8] . أسد الغابة، لابن الأثير. [9] . حبقوق: 3: 3-6. [10] . الرحيق المختوم للمباركفوري. [11] . دلائل النبوة للبيهقي. [12] . أخرجه البخاري. [13] . أخرجه البخاري. [14] . الرحيق المختوم للمباركفوري. |