انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني Translated
Sheikh's Books |
2020/10/17
الحوار الغائب (ج3) -10-
الباب الثالث : عصر النبوة المرحلة المكّيّة لا بد أن نذكر أولا، أن عصر النبوة يمتد من البعثة الشريفة، إلى قيام الساعة؛ لكن الناس بحكم العادة، يفرقون بين زمن تواجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بين الصحابة الكرام، والزمن الذي يلي وفاته. ونحن نؤكد أنه لا خلاف إلا من حيث الظاهر، لأن المدد النبوي سيستمر في الأمة بواسطة الخلفاء والوارثين؛ وإن جهل المسلمون بعد القرن الثالث مكانتهم، واختلط عليهم أمر الوراثة، كما سنرى. وبما أن عصر النبوة بالمعنى الضيّق، ينقسم إلى مرحلتيْن هما: المرحلة المكية التي دامت ثلاث عشرة سنة، والمرحلة المدنية التي دامت عشر سنين؛ فإننا سنبدأ الكلام عن المرحلة المكيّة، لنميّز منها ما يلي: 1. دعوة النبي إلى ربه بإذنه: لقد بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته بالأقارب، الذين آمن منهم خديجة أم المؤمنين عليها السلام، وعليّ عليه السلام؛ ثم أسلم زيد مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأسلمت بناته: زينب وأم كلثوم وفاطمة ورقية. وبعد إسلام أبي بكر، أقبل على الله عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن مظعون، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح، والأرقم بن أبي الأرقم، وخبّاب بن الأرتّ، وجعفر بن أبي طالب وزوجه أسماء بنت عُميس، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وزوجه أمينة بنت خلف، وأخوه عمرو بن سعيد بن العاص، وحاطب بن الحارث الجمحي وامرأته فاطمة بنت المجلّل، وأخوه الخطاب بن الحارث وامرأته فُكيْهة بنت يسار، وأخوه معمر بن الحارث، والمطّلب بن أزهر الزهري وامرأته رملة بنت أبي عوف، ونعيم بن عبد الله بن النحام العدوي؛ رضي الله عن الجميع. وهؤلاء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش. ومن السابقين الأولين إلى الإسلام من غير قريش: عبد الله بن مسعود الهذلي، ومسعود بن ربيعة القاري، وعبد الله بن جحش الأسدي وأخوه أبو أحمد بن جحش، وبلال بن رباح الحبشي، وصُهَيْب بن سِنان الرومي، وعمار بن ياسر العنسي، وأبوه ياسر، وأمه سمية، وعامر بن فُهيرة. وممن سبق إلى الإسلام من النساء غير من تقدم ذكرهن: أم أيمن بركة الحبشية، وأم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب، وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. هؤلاء معروفون بالسابقين الأولين، ويظهر بعد التتبع والاستقراء أن عدد الموصوفين بالسبق إلى الإسلام وصل إلى مائة وثلاثين رجلًا وامرأة؛ ولكن لا يعرف بالضبط أنهم كلهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة، أو تأخر إسلام بعضهم إلى الجهر بها. ثم أنزل الله قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ . وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ . وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ . وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ . وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ . وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7]؛ فكان هذا إعلانا ببدء الدعوة إلى الله. قال ابن إسحاق: [ثم دخل الناس في الإسلام أرسالًا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث الناس به. ثم إن الله عز وجل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي في الناس بأمره ويدعو إليه، وكان مدة ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستسر به إلى أن أمره الله بإظهاره ثلاث سنين فيما بلغني من بعثه؛ ثم قال الله له: {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]]. ولم تكن في هذه الفترة من عبادة للمؤمنين، إلا الصلاة؛ وكانت ركعتيْن في الصباح وركعتيْن في المساء. وذلك هو مدلول قول الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه، إذا حضرت الصلاة، ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم. واستمروا كذلك، حتى تنزل الوحي يكلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالنته قومه، ومجابهة باطلهم ومهاجمة أصنامهم. وكان أول ما نزل في ذلك: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ وهذه هي مرحلة الجهر بالدعوة، التي ستدوم عشر سنين. ثم يقول ابن إسحاق: [فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله، لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه؛ حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته صلى الله عليه وسلم إلا من عصم الله منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون.]. قلنا: إن الناس كانوا مقيمين على شرك؛ ومعنى الشرك، هو أن يُعبد الله، ومعه شيء. ونعني من هذا، أن كل من يعبد شيئا من المخلوقات، فإنه من حيث لا يشعر، يكون عابدا لله معه؛ ما دامت كل الأشياء لا تقوم إلا بالله. وكل من يزعم أنه لا يعبد الله، من الناس، فإنه يكون جاهلا بالأمر فحسب. وأما المعنى الذي يدل عليه مثل قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]، فالمراد منه، أنهم كانوا يحصرون عبادتهم في معبودهم؛ مع غفلتهم التامة عن الله، الذي يقوم به ذلك المعبود. هذا فحسب!... وهكذا، فإن المشركين، ما كانوا ينتظرون إلا من يدلهم على الله، الظاهر بالمظاهر؛ لا كما يظن الناس، على نبذها وعدم اعتبارها. وقد ترسخ هذا الفهم المنحرف، عندما عُلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد حطم الأصنام بيده فيما بعد، وأمر بإعدامها. وهذا لا يدل عندنا، إلا على التخلُّص من الصور التي اعتاد الناس عبادتها، لا غير. وذلك لأن الظاهر سيبقى ظاهرا بكل الصور التي عداها، فإن علم العابد أن الله هو وحده الظاهر بها، فإنه عندئذ يكون من أهل التوحيد. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]. وهذا يدل على أن عالم الصور، سواء أكانت هذه الصور شرقية، مما استعلن الله فيه، كصور الأنبياء والأولياء، أم كانت من الصور المغربية التي لا يُشار إلى الله فيها؛ هو وجه الله المتعرف به إلى عباده. وهذا يعني أن الدين ضرورة معرفية، وليس طريقا تعبديا من دون غاية. والمسلمون الأولون، قد عاشوا هذا الخروج من ضيق الشرك، إلى فُسحة الإسلام؛ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان لهم نورا يُذهب غشاوات بصائرهم، فيشهدون الحق فتغمرهم السعادة التي لا توصف. ولن نفصل القول هنا، في معنى الوجه منسوبا إلى الله، لأننا ما زلنا في بداية الدعوة؛ ونحن نبغي أن نسير في كتابنا بحسب مقتضيات المراحل. لذلك فلندع الكلام عن الوجه ومعنى تعدده، إلى موضع آخر بإذن الله... ولكن عبادة الله من جهة مشروعيتها، لا تكون إلا بما أذن فيه سبحانه، من صور شَعَرِيَّة؛ من شهادة وصلاة وصيام وزكاة وحج. لأن هذه الأعمال المشروعة، ستُصبح سُلّما يُعرج إلى الله منه، خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن نظر إلى شهادة أن "لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله"، فإنه سيجدها متضمنة لكل المعاني التي ذكرناها. ولسنا نعني إلا أنها من جهة شِقّ نفيها، لا تتعلق إلا بالصور الكونية؛ ومن جهة إثباتها فإنها متعلقة بالله الظاهر بجميع المظاهر؛ وأما من جهة الاقتداء، فهي محصورة باتباع الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحده. وإن ثمار التوحيد والمعرفة، التي دللنا عليها هنا، لا يعني ذكرها أنها ستكون بداية المسلم السالك إلى ربه؛ ولكن يعني أنها ينبغي أن تكون ما سيصل إليه. ولهذا، فإن الصور غير المأذون فيها؛ مما سوى الصورة النبوية الكاملة، ينبغي أن يصرف العبد عنها توجه قلبه، من أجل أن يصح له الاقتداء، ويصح له الاستمداد. وكل من يتخذ الغايات منطَلَقا في البداية، فإنه يكون من أهل الزيغ والضلال. ونعني من كل هذا الذي قلنا، أن الصواب ينبغي أن يكون عليه العبد في البداية من جهة الشريعة؛ ثم عندما ينكشف عن قلبه الحجاب، فإنه سينضاف إلى نوره نور صواب الحقيقة. ومن أراد البدء من الحقيقة، فإنه يكون مخالفا للشريعة نفسها، وبالتالي يكون -كما ذكرنا- من أهل الضلال. وإن أهم ما يجعل الناس يقعون في هذا الصنف من الضلال، هو حكمهم لأنفسهم بأهلية النظر العقلي في كل الأمور؛ وقد رأينا هذا -في الآونة الأخيرة- متجسدا في رجال الإعلام وفي رجال "العلم"؛ لأنهم يتناولون كل المسائل، من دون أن يشُكّوا لحظة، أن الأمر على غير ذلك. ولقد سمعنا من التلفيقات في زماننا، ما يترفع عنه الصبية. فأمثال هؤلاء، لا تنبغي لهم مجاوزة ظاهر الشريعة، إن أرادوا السلامة في الدين. وعلى العموم، فإننا نظن أننا قد توقفنا عند هذه المسألة بما يكفي، من أجل فهم ما كان يتعلق بالمشركين من أهل مكة، من تصويب للعمل وللتوجه معا؛ فلنمر إلى باقي الأحداث... [فدعا صلى الله عليه وآله وسلم بني هاشم فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، حتى تكاملوا خمسة وأربعين رجلاً، فبادره أبو لهب، وقال: "وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصُّباة؛ واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة؛ وأنّ أحق من أخذك، فحبسك بنو أبيك. وإن أقمت على ما أنت عليه، فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب؛ فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشَرّ مما جئت به.". فسكت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس. ثم دعاهم ثانية، وقال: «الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.» ثم قال: «إِنَّ الرَّائِدَ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُ! وَاللَّهِ لَوْ كَذَبْتُ النَّاسَ جَمِيعًا، مَا كَذَبْتُكُمْ؛ وَلَوْ غَرَرْتُ النَّاسَ، مَا غَرَرْتُكُمْ! وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً. وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلَتُجْزَوُنَّ بِالإِحْسَانِ إِحْسَانًا وَبِالسُّوءِ سُوءًا. وَإِنَّهَا لَلْجَنَّةُ أَبَدًا، وَالنَّارُ أَبَدًا؛ وَأَنْتُمْ لأَوَّلُ مَنْ أُنْذِر!»[1] فقال أبو طالب: "ما أحب إلينا معاونتك! وأقبلنا لنصيحتك! وأشد تصديقاً لحديثك! وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم؛ غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فأمض لما أُمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك؛ غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب". فقال أبو لهب: "هذه والله السوأة! خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم". فقال أبو طالب: "والله لنمنعه ما بقينا!".][2] إن إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقومه، كان بتنبيههم إلى الحقائق الكبرى التي يغفلون عنها، مع ثبوتها لديهم جميعا؛ وهي: ا. أن الرائد لقومه (المنذر المصلح)، لا يكذب مـُخاطَبيه: لأنه لو فعل ذلك، لم يكن رائدا. وهذا أول الأصول التي ينبني عليها الخطاب الدعوي، علم من علم وجهل من جهل. وأما من يُبقي على الصورة الظاهرة من الخطاب، من دون حفاظ على روحها، فإنه قد يُفسد أكثر مما يُصلح؛ بل إنه قد يصير فيما بعد، أسوأ قومه. وهذه حال جل من يُسمون أنفسهم دعاة في زماننا، الذين انفضح أمر بعضهم، وأمر البعض الآخر في طريق انفضاحه. ب. أن تناول المسائل ينبغي أن يكون من واقع الناس: فإثبات الموت كما هو النوم ثابت لهم ذوقا، يجعل السامعين مشدودين إلى أحوالهم التي لن يجدوا لها تفسيرا مع الشرك الذي هم عليه. ومجرد الربط بين الأمريْن، هو وضع لهم على أول الطريق، إن هم قبلوا الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحتى يعلم القارئ ما نقول، فليعلم أن أكثر المسلمين لا علم لهم بهذه المطابقة، مع إيمانهم بها، من وجه كونها واردة في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]. ونحن هنا نبغي إخراج الناس من ضيق الخطاب الفقهي العام، الذي يخلط بين الإيمان بما ورد في الوحي، والعلم به، الذي يكون من نتائج الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، اقتداء حقيقيا لا صوريا. وهذا -مرة أخرى- لأن الخطاب الفقهي، لا يعلم من الاقتداء، إلا شقه الصوري وحده!... ج. أن البعث من النوم، يؤكد البعث من الموت، بخلاف ما كان يظنه المشركون؛ وأن البعث يدل على الحساب، حتى يصير لحياة العباد في الدنيا معنى. يقول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ . فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116]. وليس المعنى الشرعي للحساب، هو وحده الكامن خلف البعث؛ ولكن هذا أحد الوجهيْن. وهو الأقرب إلى إدراك أصحاب البداية من أهل الدين. وقد نزّه الله سبحانه نفسه، عن خلق عباده وخلق أحوالهم، عن العبث؛ فليعمل المسلمون على اعتبار هذا الأصل في كل التفاصيل، لأنه نافع جدا. د. أن السامعين لخطاب النبوة، يكونون بحسب الاستعداد: فمن الاستعدادات، ما هو راد للنور، كأبي لهب؛ ومنها ما يكون قابلا له كأبي طالب. ولكن للعادة حكما على القلوب، إن لم يتفطن له العبد؛ فإنه سيبقى ضمن الحجاب، وإن أسلم في الظاهر. والعادة ثابتة هنا في قول أبي طالب: "غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب". وليس أمر العادة محصورا، فيما هو من أحوال المشركين، كما هو الشأن هنا؛ بل هو متعلِّق بكل ما يجد عليه العبد قومه، وإن كانوا على الإسلام. ولسنا نعني هنا إلا ما يكون من أمور المذاهب الفقهية أو المذاهب العقدية، التي يتوهم الناس معها أنهم سائرون على طريق الإسلام الأصيل، وهم لا يقلدون إلا أسلافهم. وكلامنا عن الإسلام الأصيل، يقتضي أن يكون العبد على اقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيق؛ وهذا يُشترط له أن يبدأ العبد سلوكه من البداية، كما بدأه الصحابة الكرام؛ وهذا هو ما تمكن تسميته "البناء على أساس". وأما من يكون على تقليد لأئمته، فإنه لن يُجاوز مرتبة الإسلام، إن سلِمت له. ويبقى جاهلا بما يُعطيه الدين في مرتبة الإيمان ومرتبة الإحسان العليا. وعندما نتكلم عن مرتبة الإسلام، فإننا نعني أن العبد ما يزال على شرك (خفي)؛ ما دام عليها. لذلك، فلن تُفتح له أبواب الترقي في الدين، إلا أن يشاء الله!... ه. ولا شك أن القارئ قد علم الآن قيمة الدال على الله، الذي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة؛ وهو الوارث له، من كل زمان بالتَّبع؛ لأنه من غير إمام، سيبقى العبد على المـُعتاد من الدين؛ من دون أن يلامس قلبَه الإيمانُ الخالص الذي يُؤخذ عن صاحبه صلى الله عليه وآله وسلم. وإن كثيرا من المسلمين، بعد القرون الخيِّرة، قد سقطوا في "الإيمان النظري" (إن صح الاصطلاح)، وتوهموا أنه الإيمان الذي كان عليه الصحابة؛ وشتان!... ولسنا نعني أن اختلاف أحد الإيمانيْن عن صاحبه، هو اختلاف قوة، كما قد يُفهم؛ وإنما هو اختلاف جنس. ومن لم يذق طعم الإيمان الأصلي، فإنه يصعب عليه التمييز بين الصنفيْن، بسبب غلبة المنطق العقلي على أهل الدين. و. ولا بد هنا أن نشير إلى معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً»؛ لأن الناس في العادة، عندما يُكلمون غيرهم، لا ينطلقون من ذكر ما هو متعلِّق بهم. ونحن قد سبق لنا أن بيّنّا -في غير هذا الموضع- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مكلّف بالإيمان بنفسه، قبل أن يدعو غيره إلى الإيمان به؛ وهو -عليه السلام- عندما يقسم للناس على أنه رسول الله إليهم، وإلى كل من يأتون بعدهم، فإنه يؤدي إليهم أمانة الشهادة لنفسه. وهذا هو معنى قول الله تعالى، من جهة الباطن: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]؛ حكاية عن موسى عليه السلام، بعد إفاقته من الصعق. وعلى هذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو أول مؤمن برسالته؛ ثم بعد ذلك هو يدعو إليها بإذن ربه، كما أخبر الله سبحانه عنه في قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]. وهذا لأن النبي -أي نبي- يحرم عليه أن يدعو إلى الله من نفسه؛ لأن ذلك يُخرجه عن العبودية، وهو ينبغي أن يدعو إليها. وهنا لا بأس من الكلام عن معنى الدعوة في دين الإسلام، لأننا نرى الفقهاء في عمومهم لا يعلمون منها إلا ما يُناسب مرتبتهم. وحتى يتبيّن، فإننا نقسم الدعوة بحسب المراتب إلى ثلاثة أصناف: - الأول: وهو الدعوة إلى مرتبة الإسلام؛ وهذه فيها الإذن العام من الله ورسوله، الوارد في القرآن والسنة. وفي هذه المرتبة، يُدعى إلى ظاهر الطريق (الشريعة). - الثاني: وهو الدعوة إلى مرتبة الإيمان: وهي خاصة، لا ينبغي أن يقوم بها كل أحد. وذلك لأنها تتعلق بالقلوب وعللها وعلاجاتها. وما كل أحد يُحسن طب القلوب، حتى يتصدر لها. وكل أولئك الذين يظنون أن الكلام العام ينفع فيها، فإنهم سيسعون إلى هلاك الناس وإلى هلاك أنفسهم معهم. وهذه الدعوة، تتطلب إذنا من الله، يأتي في الغالب من رجل رباني، إمام قائم لله في زمانه. وأغلب شيوخ التصوف، من هذه المرتبة، ونعني بكلامنا الداعين لا الآذنين. - الثالث: وهو الدعوة إلى الله: وهذه تحتاج إذنا من الله ورسوله، وإلا كان صاحبها من شهداء الزور، الذين يُضلون الناس ولا يهدونهم. وأغلب المتصدرين للتشيُّخ في الأزمنة المتأخرة، من هذا الصنف. والداعي إلى الله، لاحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جميع وجوه الدعوة. ونعني من هذا، أنه ينبغي أن يكون وجها إلهيا جامعا؛ وأن يكون علمه ذوقيّا تحقُّقيّا؛ وأن يكون له التصرف بالأسماء في فريقيْ المصدقين والمكذِّبين وراثة نبوية. وكل من لا يكون على الصفة التي ذكرنا، فلا ينبغي له أن يتجاوز الدعوة إلى الشريعة، أو الدعوة إلى صلاح القلوب. وإن الإخلال بهذه الأصول، من ناحية العلم والعمل معا، قد أضر بالأمة كثيرا، وأدخلها في التخبط، مع أنها يُفترض أن تكون على المحجة البيضاء، الباعثة على الاطمئنان. [وبعدما تأكد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تعهُّد أبي طالب بحمايته، وهو يبلِّغ عن ربه؛ قام يوماً على الصفا فصرخ: يا صباحاه. فاجتمع إليه بطون قريش، فدعاهم إلى التوحيد والإيمان برسالته واليوم الآخر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}، صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ! يَا بَنِي عَدِيٍّ! لِبُطُونِ قُرَيْشٍ؛ حَتَّى اجْتَمَعُوا. فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ، أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ؟ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ! مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا! قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ! أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}."][3]. ونفهم من هذه الرواية ما يلي: ا. أن أبا طالب، كان مظهرا لاسم الله "الولي"؛ لذلك فلا يظنّنّ أحد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يعتمد على نُصرة المظهر؛ بل هو صلى الله عليه وآله وسلم، كان مع الظاهر. ولا يليق به صلى الله عليه وآله وسلم، إلا هذا. لذلك، فليكفّ أهل الإسلام، عن النظر إلى السيرة، وكأنها موافقة لمراتبهم في أصلها؛ ولينظروا إليها باستشراف وتطلع ورجاء، لعل الله أن يكشف لهم بعض كنوزها. ونحن لا نقول هذا، إلا لعلمنا بأن السيرة المـُطهرة، تفسير عملي للقرآن ذاته!... فلا يجهلنّ أحد قيمتها!... ب. أن الصدق في المخاطِب، لا يتجزّأ؛ فمن جرت العادة بكذبه في الشؤون المعتادة للناس، لا يُؤتمن على الكلام في الدين. وهذا هو ما أسس له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفعل قبل القول، منذ طفولته الأولى. وفي هذه المرحلة، أوذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وضُرب؛ حتى قام مرة أبو بكر رضي الله عنه يدافع عنه قائلا: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!"... ولقد كان على رأس المؤذين، عمه أبو لهب وزوجه، اللذان أنزل الله فيهما ما أنزل. وقد توسع الأذى ليشمل الأصحاب الكرام، فضُرب أبو بكر رضي الله عنه على وجهه، ووُضع التراب على رأسه؛ وعُذِّب بلال بن رباح رضي الله عنه، من قِبل سيّده عذابا شديدا. وإن هذا الأذى الذي يُصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكانته من الله، ويُصيب أصحابه على مكانتهم منه، مخالف لمنطق العقول البسيطة، التي تحكم بعدم جواز ذلك؛ فإن وقع، فإنها تحكم بعدم صدق الرسول (أو الوارث) فيما يقول. وعوام الناس يقولون في مثل هذه الأحوال: لو كان هذا، بالمكانة التي يدّعيها عند الله، لمنعه الله من تسلُّط الأعداء عليه، ومن نيلهم منه. وهم يقيسون هنا بما يرونه في العادة من الملوك وأهل السطوة من الناس، الذين يكون تابعهم في حماية منهم؛ بها يُميّز عن سواه ممن لا سيّد له. وهذا المنطق صحيح من جهة إجماله، غير صحيح من جهة التفصيل. ونعني من هذا، أن الصراع الدائر بين حزب الله قيادة وأتباعا، وبين حزب الشيطان، هو أولا من أحكام الأسماء الإلهية المتقابلة؛ إذاً فلا رافع له!... وأما من جهة النِّسبة، فإنه محال أن يستوي عدو لله متمكن وقتيا، بولي لله مبتلى في الحال، وصائر إلى رضوان؛ لأن الأمر يؤخذ هنا بالنظر إلى العاقبة. والعاقبة، منها ما هو دنيويّ، ومنها ما هو أخرويّ؛ وكم من نبي (كيحيى عليه السلام) قُتل على يد أسفه السفهاء. فهل يُنقص ذلك من قدره شيئا؟... لا والله!... ولقد رأينا كثيرا من الناس، انحجبوا عن أوليائهم، عندما رأوهم مغلوبين في بعض المواقف، من قِبل أهل الدنيا؛ فتوهموا أن ذلك دليل على كذبهم وعدم أهليتهم. ولو التزم هؤلاء المسلمون الحكم بما أنزل الله، لقاسوا على من ذكرهم الله من الأنبياء والأولياء في كلامه؛ ولأبقوا على احتمال أن يكون المـُدّعي صادقا، ما لم يعرض عارض آخر غير الذي كنا بصدده. وعلى كل حال، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أفضل الخلق أجمعين، قد أوذي؛ وأوذي أصحابه معه. وإن كان من نفع من جهة العلم يؤخذ من هذا، فإنه التأكيد على أن كل من كان على السنة الجامعة (ظاهرا وباطنا)، فإنه لا بد من أن يُؤذى؛ حتى يتحقق له الاستنان بالحال. ونعني من هذا، أن غير هذا الصنف، هو من يُشك في أمره، لكونه مخالفا لحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن يطالع سير الأولياء من هذه الأمة، فإنه سيعلم علم يقين، ما نقول. والعلم يقتضي منا هنا، التمييز بين أحوال المبتدئين، وأحوال الواصلين؛ لأن علماء الدين -قبل غيرهم- يخلطون خلطا كبيرا في هذه المسألة، وينجر عن خلطهم ضرر كبير على تديّن العامة من المسلمين. ج. أن "أبا لهب" مقام، قبل أن يكون شخصا: ونعني من هذا، أن كل وليّ لله، يظهر في الأمة بدعوة العباد إلى الحق، لا بد له من شخص من أقاربه، يكون أشد عداء له من غيره. والحقيقة التي تجعل هذا المخلوق على هذه الحال، هي القرابة الشديدة مع الاحتقار. وذلك لأن القريب إن كان أبا أو عما أو أخا أكبر للوليّ، وكان مع ذلك أغنى أو أعلم (من جهة الظاهر)، فإنه يكون تحت حجب كثيرة، تمنعه من إدراك حقيقة قريبه. وإن حُكم الظاهر لديه، الذي تُزكيه العادة والعرف، سيحول بينه وبين رؤية الحق الذي مع قريبه. والشيطان، لا يترك هذا الصنف، من غير تحريض له على العبد الوليّ؛ ويأتيه بكل الأدلة العقلية التي تجعله يرى نفسه على صواب في كل أمره. ولكن الله قد بين حكمه في هذا الصنف من الناس، عند تبيين حكمه في أبي لهب بدخول النار، في الدنيا، وقبل تبيُّن غيره من الأعداء مآلهم. وهو إخبار معجّل، يُراد منه أولئك الذين هم على شاكلته من جميع الأزمنة. وهذه المكانة من أسوأ ما يحصل للعباد عند ربهم، لو كانوا يعلمون. وقد كان لنا من قرابتنا "أبو لهب" الخاص بنا، في مرحلة استخلاصنا بحمد الله؛ فذقنا بعضا من أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من هذا الوجه، كما ذُقنا من غيره من الوجوه... 2. سعي قريش إلى التعايش (بين الإيمان والكفر): يقول ابن إسحاق: [وحدَبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب، ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهراً له لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدَبَ عليه، وقام دونه، ولم يسلمه لهم؛ مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه؛ فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردّا جميلاً، فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يُظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرَى (تفاقَم) الأمر بينه وبينهم، حتى تباعد الرجال وتضاغنوا؛ وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا عليه، وحض بعضهم بعضًا عليه.]. ولا بد هنا من أن نبيّن ما يلي: ا. إن بعض الناس، ينحجبون عن دعوة الحق، عندما يرونها تفرق الناس بعد أن كانوا موحَّدين؛ خصوصا إن كان التفريق بين المرء وأبيه، والمرء وابنه، والمرء وزوجه؛ ويتوهمون أن الفُرقة أمر مذموم في جميع الأحوال. ويبلغ ببعضهم الحال أن يقول: لو كان هذا يدعو إلى خير، لحافظ أولا على جماعة الناس، وعلى وحدة أُسرهم؛ بدل أن يُصيّر بعضهم أعداء بعض. وهذا -كما لا يخفى- من تحكم العقل، في غير مجاله. وأما لو عدنا إلى الله ورسوله، فإننا سنجد القرآن يقول: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. ومعنى الآية، أن الأمة لن تعود موحدة بعد ظهور الرسل. فالمصدقون لن يكونوا حتما أسرا بعينها وجماعات بعينها؛ وكذلك المكذبون. فإن تفرق المصدقون والمكذبون بين الأسر والجماعات، فإنها الفُرقة إذاً!... وهذا يدل على أن الله لا يريد من الناس أن يكونوا أمة واحدة موحَّدة؛ ولكن يريدهم أن ينقسموا شطريْن: شطر مجيب له سبحانه، وشطر معاند؛ ليكون لأسماء الجلال مظاهرها، ويكون لأسماء الجمال مظاهرها. فالمعنيّ الأول بحكم الانقسام، هي الأسماء الإلهية، لا الناس. ومن أجل هذه الغاية، بعث الله النبيين، الذين سيكونون السبب المباشر في هذا الانقسام. ومن يعدْ إلى الجزء الأول من هذا الكتاب، فإنه سيجد أدلة عديدة، على تفريق موسى بين بني إسرائيل؛ وسيجد عيسى أيضا عاملا على النهج ذاته. وإن كل من يزعم اليوم أن الدين ينبغي أن يجمع الناس كلهم، فإنه يكون على دعوة دجالية شيطانية؛ مخالفة للدعوة الربانية الأصلية. وإن كانت العقول الضعيفة، تحكم بأن الوحدة والاجتماع مطلقا، هما من الغايات المعتبرة؛ فذلك لقصورها فحسب. وذلك لأن الوحدة لا تُعتبر إلا بعد النظر إلى المـُجتمَع عليه: فإن كان ما يجمع الناس طاعة الله ورسوله، فعندئذ يكون الاجتماع محمودا (وهذا يعني أن العاصين قد صاروا خارج الجماعة)؛ وأما إن كان الاجتماع على معنى "إنسانية" مبهم، أو على ديمقراطية مـُعلاة عن جهل، أو على "قانون دولي" مشبوه؛ فإنه لا يكون معتبرا أبدا. ب. أن ذم ما هو أهل للذم، هو من صُلب الدين والشريعة؛ خلافا لما يعتقده العامة، من أن الأخلاق الحسنة، تقتضي الانمحاء والالتغاء؛ وتقتضي احترام جميع الآلهة، كما يدل على ذلك فقهاء الزمان، وكما يفعل أتباعهم ممن فقدوا الإيمان. ج. أن التباعد بين مجتمع الإيمان ومجتمع الكفر، هو دليل على صحة الإيمان لدى أهله؛ وكل ما عدا ذلك، فإنه يكون من التخلق بأخلاق الكفار، ومن سلوك طريق النفاق. وعلى هذا، فإن الدعوة إلى بناء ما يُسمى في زماننا "مجتمعا مدنيا"، دعوة باطلة، هي مقدمة إلى الكفر الأكبر في مرحلة أخرى. يقول ابن إسحاق: [وخلال هذه الأيام أهم قريشاً أمر آخر، وهو أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج؛ وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لا بد من كلمة يقولونها للعرب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يكون لدعوته أثر وصدى في نفوس العرب. فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في أمر تلك الكلمة فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيُكذِّب بعضكم بعضاً. قالوا: أنت فقل! قال: بل أنتم فقولوا، أسمع. قالوا: نقول كاهن! قال: لا، والله ما هو بكاهن! لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا فنقول: مجنون! قال: ما هو بمجنون! لقد رأينا الجنون وعرفناه؛ ما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر! قال: ما هو بشاعر! لقد عرفنا الشعر كله؛ رجزه، وهجزه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه؛ فما هو بالشعر! قالوا فنقول: ساحر! قال: ما هو بساحر! لقد رأينا السحار وسحرهم؛ فما هو بنفثهم، ولا عقدهم. قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وأن أصله لعذق، وإن فرعه لجنة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل؛ وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك.]. وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له، قالوا: أرنا رأياً لا غضاضة فيه! فقال لهم: أمهلوني حتى أفكر في ذلك. فظلّ الوليد يفكر ويفكر؛ حتى أبدى لهم رأيه الذي ذُكر آنفاً، فأنزل الله فيه ست عشرة آية من سورة المدثر، منها قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [المدثر: 18- 28]. ونحن إن عدنا إلى قريش، وحالها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عرفنا أنه عليه السلام لم يكن مكذَّبا عندها، ولا كان -وحاشاه- من سفهائها؛ بل كانت له الحُظوة المعلومة، والمكانة المشهودة، والتوقير الوفير؛ ولكن للناس حسابات ثانوية، يُسبقونها -لشقاوتهم- على اعتبار الحق؛ منها الخوف على مكانتهم الشخصية، وعلى نظامهم الاجتماعي. وهذا الصنف، منه عدد غير قليل، في كل زمان، يواصلون محاربة الحق بالنيابة عن كل أعداء الله. ولقد كان خليقا بالعباد، من حيث هم عباد فقراء إلى ربهم، أن لا يعتبروا في الأمور إلا الحق: فما رأوه حقا أقروا به، وعملوا به إن استطاعوا؛ وما كان باطلا أنكروه، وطمسوه إن استطاعوا. ولا يختلف فيما نذكر، من يكون على أصل الإيمان عمن يكون على أصل الكفر؛ وقد توهم قوم أنهم بإسلامهم الصوري الأصلي، يمكنهم مناصرة كل باطل، ومع ذلك لا يخشون على أنفسهم عند الله؛ حتى صار أعداء الدين من المسلمين أشد عليه من غيرهم. وهذا لا يصح أبدا!... بل إن كثيرا ممن هم على ما ذكرنا، يخرجون من الدين بأسرع مما يظنون، ويُكتبون من أعداء الله، وإن صلّوا وصاموا في الظاهر. وإلى هذا المعنى يُشير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ؛ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْراً لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.»[4]. ومن ينظر إلى حال المتديّنين من أهل زماننا، فإنه يجد الصفة الغالبة عليهم ما ذُكر؛ وذلك لأنهم نسوا أن الدين دين قلوب خاشعة، ولربها خاضعة؛ ترعى حُرمته في صغار الأمور قبل كبارها، وتطلب جواره عند أهله من الرجال والنساء، الصالحين والصالحات!... وبعد اتفاق الرأي من قريش، على هذا القرار أخذوا في تنفيذه؛ فجلسوا بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد، إلا حذّروه إياه، وذكروا لهم أمره. وتولى أبو لهب كِبر ذلك، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبع الناس إذا وافى الموسم، في منازلهم، وفي عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، يدعوهم إلى الله؛ وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه، فإنه صابئ كذاب (الصابئ: التارك لدينه، وكأن الأصل في الدين الشرك)!... إلا أن أعداء الله باءوا بالخسران، وصدرت العرب من ذلك الموسم، بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها... يقول بعض أهل الله: "إذا أراد الله إظهار الحق، جعل له من يعانده!". والمعنى هو أن الله ينصر الدين من طريقيْن: طريق مباشر، وهو طريق أوليائه، الموافقين لأحكامه، ولسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ وطريق غير مباشر، وهو طريق الأعداء. ونعني من قولنا هذا، أن أعداء الله المحاربين لدينه ولأوليائه، هم مـُظهرون بعداوتهم تلك للحق؛ ومنبهون لكثير من الغافلين إليه. ويدخل في عداد هؤلاء الأعداء الشيطان نفسه، الذي يتوهم أنه سينال بإضلاله من حزب الله. ولو تفكر أعداء الله في الأمر قليلا، وأمهلهم غيظهم من الحق أن يتجاهلوا أمره، لكانت حربهم على أهله أشد. وذلك لأن التغافل عن الشيء، أبلغ في مواجهته. ولكن هيهات!... لأن أمر حزب الشيطان (مظاهر الجلال)، وأمر حزب الله (مظاهر الجمال) كله إلى الخليفة الإلهي، يتصرف فيهما كما يشاء. وعلى هذا، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو من كان يُحرك أبا جهل وأبا لهب وغيرهما؛ وهو من كان يُحرك المناصرين له -عليه السلام- من جهتيْ الظاهر والباطن. وكل من يظن غير هذا، فما علم قدر الخلافة عن الله. وإلى هذا المعنى يُشير قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]. والآية مـُعلمة بقدر الخليفة الآدمي، الذي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة؛ فهو من يُجهل الله فيه، رغم تصرفه في السماوات والأرض. وأما الله من جهة ألوهيته، فلا أحد يُنكر قدره، سبحانه؛ حتى المشركون في شركهم. ألم يقل الله عن المشركين في عبادتهم لأصنامهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 3]. ومن تأمل في أحوال العباد، فلا أحد (إلا من كان من أجهل الجاهلين) يُنكر قدر الله في تعاليه وتنزُّهه؛ ولكن الإشكال عندهم في الخليفة الآدمي الذي يكون اسمه من جهة الحقائق "الله" (أو على الأصح عبد الله)!... ولهذا المعنى قالت الصوفية: "معرفة العارف أصعب من معرفة الله!". فقيل لهم في ذلك، فأجابوا: "إن الناس كلهم مقرون لله بصفات كماله، ولكن أين من يعرفه في مظاهر الافتقار؟!... وإلى هذا المعنى يُشير مثل قول الله تعالى، في معرض الإنكار على من كفر بالنبوة: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا . أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا . انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان: 7 - 9]. فكأن الله تعالى يقول: ما لكم لا تعرفونني في صورة عبدي الكامل، وتُحجبون بمظاهر افتقاره إلي. وبعد ضلالهم عن حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يُخاطب الله رسوله قائلا:{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}؛ أي انظر كيف ذهبوا بعيدا عني فيك؛ فبهذه الطريقة لن يصلوا إلي أبدا. ثم يُكمل الله تعالى قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان: 10]؛ أي تبارك الله فيك، الذي إن شاء (بمعنى لو شاء) جعل لك خيرا مما يستعظمونه في أعينهم، مما هو لائق بمكانتك عنده: يجعل لك جنات في الدنيا قبل الآخرة؛ على صفة الآخرة، لا على صفة الدنيا. ولكنه سبحانه لحكمته، لم يشأ ذلك؛ حتى يبقى الامتحان قائما، يفوز به أقوام عند إيمانهم بما ضُمّنته صورتك من الأسرار؛ ويخسر به أقوام لم يروا فيك إلا بشريتهم. وإلى هذا الصنف الأخير، يُشير الله تعالى بقوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]؛ والمعنى هو أن الدعوة الربانية دعوتان: دعوة سمعية، ينبغي تصديق إخبارها عن الله؛ ودعوة بصرية، تنبغي مشاهدة الله بمقتضاها في الداعي الذي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكل من يتوهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خُلق لشيء غير هذا بالقصد الأول، فعليه أن يُعيد النظر في إيمانه وعقيدته. ونحن هنا نخاطب المسلمين قبل غيرهم!... واستمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، يدعو إلى الله في كل مكان ووقت لا يفتر أبداً؛ وقريش تفكر في أمره مرة وأخرى، حتى تلخصت أساليبهم لقمع هذه الدعوة فيما يلي: ا. السخرية والتحقير والاستهزاء والتكذيب: يقصدون بذلك تخذيل المسلمين، وتوهينهم؛ فرموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بتهم ساقطة، وشتائم سفيهة؛ فكانوا ينادونه بالجنون: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]؛ ويصمونه بالسحر والكذب: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4]؛ وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهبة ناقمة، وعواطف هائجة: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51]؛ وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزؤوا بهم وقالوا: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟} [الأنعام: 53]، فقال تعالى جواباً عنهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟!} [الأنعام: 53]. وينبغي هنا أن نبرز المعنى الذي يسميه المكذِّبون جنونا؛ وهو أمر متكرر في الأزمان، ومتعلِّق بمخالفة المنطق العقلي السائد؛ بغض النظر عن صنف العقل السائد ومرتبته. ونعني من هذا، أن العاقل عند الناس، يكون هو الموافق لهم؛ وأن المجنون هو الشاذ عنهم. واتهام الشاذين عن المجتمع بالجنون، هو من الإرهاب النفسي، الذي قد يُؤتي نتيجته مع ضعاف النفوس؛ وأما من كان متوكلا على الله في أمره، فإن الإرهاب لن يُغيّر منه شيئا، بل سيزيده إصرارا على الحق. وذلك لأن إرهاب الناس وتخويفهم، سيؤكد لديه السّنّة، التي يُعامل الله بها عباده، فيزداد يقينا. يقول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. وهذا من أعجب ما يقع لأهل الإيمان، عندما يُتهمون ويُشتمون؛ وهو مما يزيد من استغراب قومهم من أحوالهم، فلا يجدون صفة أقرب إليهم من الجنون. كل هذا الذي نقوله، هو من صفات المؤمنين من الأتباع؛ وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو فوق هذا، يعامل ربه في كل شيء، بما يُناسب علمه به تعالى؛ وهذه مرتبة مجهولة، لكافة الناس. نقول هذا، حتى لا يقيس المسلمون أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإدراكه للأمور، على ما يعلمونه من أنفسهم، أو من أمثالهم. ومع الأسف، لقد وجدنا جل الفقهاء على هذا الديدن، وهم يحسبون أنهم على شيء. ولذلك يبقى إيمانهم في حده الأدنى، وإن أمضوا أعمارهم في التعليم والتعلُّم. ب. تشويه تعاليمه وإثارة الشبهات حولها: وبث الدعاوى الكاذبة، ونشر الإيرادات الواهية عنها، وحول شخصه الشريف؛ والإكثار من كل ذلك بحيث لا يبقى للعامة مجال لتدبر دعوته، والتفكر فيها. فكانوا يقولون عن القرآن: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]؛ وكانوا يقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]؛ وكانوا يقولون عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا . أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 7، 8]. فيجيب الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان: 9]. وقد تكلمنا عن فحوى الآيات فيما تقدم... ج. معارضة القرآن بأساطير الأولين وباللهو: فقد ذهب النضر إلى الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وأسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مجلساً للتذكير بالله والتحذير من نقمته؛ خلفه النضر يقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً مني؟ وتفيد رواية ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قينتيْن (مغنيتيْن)، فكان لا يسمع برجل مالَ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا سلط عليه واحدة منهما تطعمه وتسقيه، وتغني له حتى لا يبقى له ميل إلى الإسلام. وفيه نزل قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]. د. المساومات: حاولوا بها أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، فعرضوا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدون إلهه سنة؛ فأنزل الله سورة "الكافرون". فلما لم تنفع كل هذه الوسائل أجمعت قريش أمرها واجتمعت وكونت لها ما يسمى بلغة العصر "لجنة المشاورات"؛ أعضاؤها خمسة وعشرون رجلاً من سادات قريش: رئيسها أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وبعد تشاور هذه اللجنة خرجت بقرار وهو أن لا يألوا جهداً في محاربة الإسلام، وإيذاء رسوله وتعذيب الداخلين فيه والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام. فأما فيما يعود إلى المسلمين، لا سيما المستضعفين منهم، فكان ذلك يسيرا جداً؛ وأما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه كان رجلاً شهماً وقوراً ذا شخصية فذة تتعاظمه نفوس الأعداء والأوِدّاء، بحيث لا يقابل مثله إلا بالإجلال والتشريف قهرا، ولا يجترئ على اقتراف هذه الدنايا والرذائل في حقه إلا أرذال الناس وسفهاؤهم، الذين لا مكانة لهم في قومهم أنفسهم. وهو -عليه السلام-مع ذلك كان في منعة أبي طالب (من جهة الظاهر)، وأبو طالب من رجال مكة المعدودين، عظيماً في حسبه وأصله، ومعظماً بين الناس؛ فما يجسر أحد على إخفار ذمته. ولذلك فقد أقلق هذا الوضع قريشاً قلقاً كبيراً. وبدأت مرحلة أخرى في العداء، وهي مرحلة الاعتداء الظاهر والتآمر الخفي، ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى رأس القوم أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي. فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي؛ وهو صلى الله عليه وآله وسلم، يقول لهم: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَيُّ جِوَارٍ هَذَا؟» ثم يلقيه بعيدا... ووضع عقبة بن أبي معيط، سلا الجزور على ظهره، وهو ساجد؛ فدعا عليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يسلم منهم أحد يوم بدر (جزاء سوء صنيعهم). وكلما ازداد أعداء الله إيذاءً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وللمسلمين؛ زاد تمسكهم أكثر بمنهجهم وعقيدتهم... وهنا ينبغي أن نذكر الحكمة من تسليط الأعداء، على أولياء الله الذين مرتبتهم فوق مرتبة المؤمنين؛ وذلك حتى نتبيّن الحكم من هناك. فالابتلاء بالنظر إلى الأولياء، يستخرج الله به منهم عبوديتهم. وهي عندهم في المكانة أفضل من ظهورهم بصفات الربوبية؛ وإن كان الظهور عن إذن، إلا في مواطنها. فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حين رأى أبا دجانة يتبختر (أمام الجيش)، أنه قال: «إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ، إِلا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ!»[5]. وذلك لأن العبد الخالص، يتطلع إلى خدمة سيده، لا أن يظهر بنسبته إليه في الناس. وكل خواص المؤمنين، على ما نقول، مع تفاوتهم فيه؛ بعكس ما تظنه العامة، أو ما يزعمه مدّعو الخصوصية. ومن أراد أن يعرف الخواص، فليتتبع صفة العبودية عندهم، ولينظر مقدار فرحهم بها؛ فإن وجد الأمر كما ذكرنا، فأولئك هم؛ وإن وجد غير ذلك، فليحذر على نفسه. وإن عبد الله المـُخلَص، عندما يُسلِّط الله عليه بعض أشقياء عباده بالإيذاء، فإنه لا يُعامل مظاهر العباد؛ ولكن يُعامل الأسماء الإلهية التي هي الحاكمة عليهم. وإنه يجد لهذه المعاملة لذة، تتصاغر عندها، كل اللذات المعلومة للناس. ولقد وجدنا نحن بعض ذلك في أثناء سلوكنا، فكنا نجزم أن الناس لو اطلعوا على القلب منا، لعجبوا أشد العجب من معاكسته لظاهرنا. فقد كنا تحت البلاء الشديد المتنوع، الذي لم يترك منا قلبا ولا بدنا؛ ومع ذلك فإننا كنا على حال جدنا إبراهيم عليه السلام عندما ألقي في النار. قيل عندما خمدت النار، وظهر عليه السلام سليما وسطها، يجلس على مكان به خضار، قال: "ما رأيت أياما أطيب من هذه التي مرت عليّ وأنا في جوف النار!". ووالله إن هذه الأحوال، لا سبيل إليها من جهة العقل، وإن كان السامع من أهل التصديق؛ ولا نجد عنها منبئا إلا قول الله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]؛ ووالله لقد ذقنا هذا ذوقا، لا نشك أنه من فُضلة ذوق أُسوتنا العظمى صلى الله عليه وآله وسلم. فلله الحمد على ما أنعم وعلى ما أفضل، وله الشكر كما ينبغي له سبحانه، فوق ما نعلم. ويقول ابن إسحاق: [ثم إن قريشا مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سِنّاً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا؛ وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يملك أحد الفريقين. فعظم على أبي طالب قومه وعداوتهم، ولم يطب نفساً بالإسلام ولا بخذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أن أبا طالب لما قالت له قريش هذه المقالة، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأَبْقِ عليّ وعلى نفسك، ولا تحُمِلّني من الأمر ما لا أطيق؛ فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه في بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: «يَا عَمُّ، وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ؛ مَا تَرَكْتُهُ!»، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قام. فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه، فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدًا!...]. إن الضغط الذي يقع على أهل الحق، لا يكون دائما من جهة الكارهين للحق من أقاربهم؛ ولكن قد يكون أيضا من جهة محبّيهم إن كانوا على جهل. وذلك لأنهم يقيسون الأمور بما تعطيه العادة والأعراف، بينما "عبد الله" لا خيار له في ذلك. فهو يتبع الأمر الإلهي، وإن كان فيه حتفه. وهذا الحال لا يعلمه أحد، حتى يفتح الله له بابا منه إلى عبوديته. وإن سيد العبيد، وأحرصهم على أمر الله، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو قد أجاب عمه، بما لديه، من غير زيادة أو نقصان. لا فرق لديه -عليه السلام- بين أن يوافقه عمه، أو أن يخالفه؛ أو أن يعيش أو يموت. ولا يكون على هذه الحال من استرخاص النفس، إلا من كان على الحق المبين؛ لأن غيره، وإن كان مقداما، فإنه يضن بالنفس في النهاية. ثم يقول ابن إسحاق: [ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم؛ مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش وأجمله؛ فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً؛ وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله؛ فإنما هو رجل كرجل! قال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبداً! فقال المطعم بن عدي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه؛ فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً! فقال له أبو طالب: والله ما أنصفوني! ولكنك قد أجمعت خذلاني، ومظاهرة القوم علي؛ فاصنع ما بدا لك. فحقب الأمر، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضًا.]. يتبيّن من هذه الفقرة، أن أهل الجهل والجاهلية، لا يقيسون الأمور، إلا بما يُعطيه إدراكهم الحسّيّ وحده؛ لذلك فهم لا يرون الفرق بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعمارة بن الوليد. ولو علموا -كما لا يعلم جل المسلمين- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفضل الخلق أجمعين، لكفّوا عما يَنشدون. وهذا لا يعني أن أبا طالب كان على علم بفضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو؛ ولكن هو يعلم بعض ظاهر من ذلك، خالطته عاطفة الأبوة لديه، وخالطته العصبية للدم. وكل هذا، لا يعدل في ميزان الحق شيئا، عند تعريف الله من يشاء من عباده، بقدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا هو ما سنرى أثره، عند الصحابة الأخيار، رضي الله عنهم، مع مرور الزمان في صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. 3. الاجتماع في دار الأرقم: [كانت هذه الدار في أصل الصفا، بعيدة عن أعين الطغاة ومجالسهم، فاختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجتمع فيها بالمسلمين سرّاً، فيتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ وليؤدي المسلمون عبادتهم وأعمالهم، ويتلقوا ما أنزل الله على رسوله وهم في أمن وسلام، وليدخل من يدخل في الإسلام ولا يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة. ومما لم يكن يُشك فيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اجتمع بالمسلمين علنا لحاول المشركون بكل ما عندهم من القسوة والغلظة أن يحولوا بينه وبين ما يريد؛ وربما أفضى ذلك إلى مصادمة الفريقين، بل قد وقع ذلك فعلًا. فقد ذكر ابن إسحاق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلّون فيها سرّاً، فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلًا فسال دمه، وكان أول دم هرق في الإسلام.][6]. ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت، لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم، فكان من الحكمة السريةُ والاختفاء. فكان عامة الصحابة يُخْفُون إسلامهم وعبادتهم واجتماعهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شيء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرا؛ اعتبارا لصالحهم وصالح الإسلام، وشفقة عليهم. إن العبد الرباني لا يخاف إلا ربه، وهو لا ينظر إلى الأسباب إلا على أنها أسباب؛ بخلاف العامة من أهل الإيمان، الذين يكونون على شرك في ذلك. ولا ينبغي أن يُنكَر ما نقول، لأهل العلم، إن كانوا يريدون تبيُّن الأحكام بحسب المقامات؛ وأما من يشهد لنفسه، بما لم يجربها فيه، فإنما هو جاهل لا يُلتفت إلى أقواله. ويُستفاد من هذه الفقرة، أن الشيخ لا يسوس أتباعه بما يعلم هو؛ ولكن يسوسهم بما يُطيقون. وعلى هذا، فلا يجوز لأحد الحكم على الشيوخ، من توجيههم لتلاميذهم؛ لأنهم قد يوجهونهم بما لا يعملون به في أنفسهم. والمسألة -كما لا نفتأ ننبه- تتعلق دائما بالمراتب والمقامات. ومن علم هذا، فإنه سيعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد تنزل بما لا يكاد يُحصر، في معاملته لصحابته، وفي معاملته لأمته عموما. وهذه نعمة من الله على الناس، تستوجب منهم عظيم الشكر عند العلم بها. 4. الهجرة إلى الحبشة: كانت الهجرة إلى أرض الحبشة مرتين، فكان عدد المهاجرين في المرة الأولى اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، ثم رجعوا عندما بلغهم عن المشركين سجودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قراءة سورة والنجم (وكان الخبر كذبا، ولعله من الحرب الإعلامية القرشية)، فلقوا من المشركين أشد مما عهدوا. فهاجروا ثانية، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلاً (إن كان فيهم عمار ففيه خلاف بين أهل النقل)، وثماني عشرة امرأة: إحدى عشرة قرشيات، وسبعاً غريبات. وبعثت قريش في شأنهم إلى النجاشي مرتين: الأولى عند هجرتهم، والثانية: عقيب وقعة بدر (فيما بعد)، وكان عمرو بن العاص رسولا في المرتين، ومعه في إحداهما عمارة بن الوليد، وفي الأخرى عبد الله بن أبي ربيعة المخزوميان. ا. الهجرة الأولى: وعن الزهري، عن عروة، قال: [فلما كثر المسلمون وظهر الإيمان، أقبل كفار قريش على من آمن من قبائلهم يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم، قال: فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن آمن به: «تَفَرَّقُوا فِي الأَرْضِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَجْمَعُكُمْ»، قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: «إِلَى هَاهُنَا! (وأشار بيده إلى أرض الحبشة.)»[7]. فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه؛ حتى قدموا أرض الحبشة. وكان ذلك، في السنة الخامسة من البعثة. فكان أول من خرج عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن أول من هاجر إلى أرض الحبشة حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، أخو سهيل بن عمرو، وقيل: هو سليط بن عمرو، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة هارباً عن أبيه بدينه، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل، مسلمةً مراغمة لأبيها، فارة عنه بدينها؛ فولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة. وهاجر أيضا مصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب، ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة بن غانم العدوية، وأبو سبرة بن أبي رهم العامري، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو (ولم يذكرها ابن إسحاق فهي خامسة لهن)، وسهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة الفهري، وعبد الله بن مسعود الهذلي. فخرجوا متسللين سرا حتى انتهوا إلى وادي الشعيبة، منهم الراكب ومنهم الماشي؛ فوفق الله لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار؛ وكان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة من النبوة. فخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر من حيث ركبوا، فلم يجدوا أحدًا منهم.]. ب. الهجرة الثانية: [واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، وعلى نطاق أوسع؛ ولكن كانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها. فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يُدركوا. وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلا (إن كان فيهم عمار فإنه يشك فيه)، وثماني عشرة أو تسع عشرة امرأة. عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة -قبل أن يسلما- وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته. وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يُطارد بها أولئك المسلمون؛ وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم؛ حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا ثم كلماه فقالا له: "أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك؛ وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت. وقد بعثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه. وقالت البطارقة: صَدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.][8]. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما بعث المهاجرين إلى الحبشة، كان على علم بحقيقة إيمان النجاشي؛ وأنه كان من المسيحيّين الأحقاء. وكان -عليه السلام- يعلم بعدله في الناس، فرجا أن يعامل الصحابة بما هم أهل له من الكرامة. ولكن المشركين من القرشيّين، أرادوا اعتراض الهجرة، بما يرون من حقوق الأقوام والأمم، بعضها على بعض، فيما يُشبه العلاقات الدولية اليوم. فأرادوا أن يُثنوا النجاشي عن استقبال المهاجرين في بلده، حفاظا على حسن الصلة بينه وبين العرب؛ ولكن إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من النجاشي كانت حاكمة (من جهة الغيب)؛ وكان النجاشي أحكم مما ظنته قريش... (يُتبع...) [1] . أخرجه البلاذري في "أنساب الأشراف"، عن جعفر بن عبد الله بن الحكم، مرسلا. [2] . الرحيق المختوم للمباركفوري. [3] . أخرجه البخاري. [4] . متفق عليه، عن عليّ عليه السلام. [5] . أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، عن معاوية بن معبد بن كعب بن مالك. [6] . الرحيق المختوم، للمباركفوري. [7] . الدرر في اختصار المغازي والسير"، لابن عبد البر. [8] . الرحيق المختوم، للمباركفوري. |