اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]() «السابقالتالي»
2025/09/14 رشيد بن كيران: لا رشد ولا فقه!...
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه؛ أما بعد:
طالعت على موقع "هوية بريس"، يوم 14 شتنبر 2025، مقالا للفقيه (ولا فقه) ابن كيران، تحت عنوان: "نقد عبارة: أخرجنا الله بمحمد من العدم إلى الوجود"؛ ونظرا لما ينطوي عليه المقال من ضلالات كبرى، جاءت على هوى فريق "هوية بريس"، مطموس البصيرة، فإنني سأبيّن بإذن الله تعالى، مآخذي على المقال في حدود ما أستطيع من وجازة، ما دام الكلام عن حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد لا يُطيقه الأنبياء عليهم السلام أنفسهم، فكيف بمن دونهم!... ولنبدأ بالعبارة التي تضمنها العنوان:
ا. معنى النقد: النقد في العلوم (والأصل فيه من نقد الذهب عند النظر في مدى نقاوته)، هو تقييم العبارات على ضوء علم حقّ يكون متضمّنا للخبرة اللازمة. وهذان معا: العلم الحق والخبرة، هما باصطلاح آخر الكشف والذّوق. وأما ابن كيران، فليس من أهل هذه المرتبة العلمية؛ ولكنّه غِرّ على عادة الفقهاء الذين تلقّوا "علمهم" عن فراعنة الأمة من فقهاء النفوس. وعلى كل حال، فلن نفيض في الدلالة على هذا الصنف الذي لم يأت منه على الأمة إلا الأضرار البليغة، ونحيل كل ذي عقل سليم إلى مجرّد الملاحظة. فليقلّب العبد نظره في مجتمعاتنا، ولْيَستقرِ ظاهرهم وباطنه (لا الباطن)، ليعلم بنفسه ما دللنا عليه بإجمال، بعبارة "فراعنة الأمة". وبهذا، يكون صاحبنا، غير مؤهّل لنقد ما رام نقده، كما سيَبين عن قريب... ب. أخرجَنا الله بمحمد من العدم إلى الوجود: هذه العبارة مما يجري على ألسنة أهل التحقّق الذين لا خبَر لابن كيران عنهم، لولا سوء نفسه الذي من شدّته، ما أطاق أن يبقى خافيا عن الأنظار. فأنا على يقين من أنه لا يعلم من معنى الوجود والعدم شيئا، وإنما هو على تصور شائه، يكفيه أن ندله على أنه لا يعلم من حقيقة الوجود إلا الموجوديّة التي هي صفة الموجود من المخلوقات. وأما الوجود الحق، فهو متضمّن لمعنى العدم الذي يغيب عنه أيضا؛ وذلك، لأنه لولا هذا التضمّن، ما كان لفظ العدم ليدلّ على شيء بما أن العدم صفة للمعدوم... وبما أن صاحبنا لا يعلم مدلول الوجود والعدم حقيقة، فبالتبع لن يعلم معنى إخراج الله للعباد من العدم إلى الوجود بمحمد؛ لأنه سيجهل جهلا تاما مرتبة الحقيقة المحمدية في هذه المعادلة الإلهية. وهو بهذا، يدل على أنه يتكلم بغير علم، ويتكلم فيما لا يعلم حقا. ونحن لسنا هنا بمعرض تعليمه ما لا يُعلّمه إلا الله القائل: {ٱلرَّحۡمَـٰنُ . عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ . خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ . عَلَّمَهُ ٱلۡبَیَانَ} [الرحمن: 1-4]. ومعنى البيان: أي بيان ما في القرآن. وبما أن الرحمن لم يعلّمك القرآن يا ابن كيران، ولا علمك البيان، فأنت لن تعلم ما تطاول عنقك إلى الكلام فيه. وسيأتي تكميل ردّنا على هذه المسألة لاحقا، عندما نصل إلى التفصيل في عقيدتك القاصرة، بل المنحرفة... وأما الإخراج من العدم إلى الوجود، فإنه بعيد عن نيل فهمك، ما دمت لا تعلم الحقائق؛ لأنك لو علمتها، لعلمت أنها "لا تنقلب". وهذا يعني أن المعدومات لم تصر وجودا كما تفهم أنت وأمثالك، وإن استندت إلى القدرة المطلقة؛ وإنما ظهرت على التحقيق بمرتبة الإمكان فحسب. وسيأتي مزيد تفصيل إن شاء الله في محلّه... 2. مشروعية تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وهو ما استهللت به مقالك، على عادتكم أنتم الكَذَبَة. ولعلّك بكلامك عن المشروعية تقصد إلى إفهام القارئ أنك تعلم ما تتكلّم فيه، وهو ما لا يثبت لك بحال: ا. لأن تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أوجبه الله على جميع عباده بمثل قوله تعالى: {لِّتُؤۡمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۚ وَتُسَبِّحُوهُ بُكۡرَةً وَأَصِیلًا} [الفتح: 9]. و"الله ورسوله" في هذه الآية وغيرها، اسم مركّب يدل على مظهر (مسمّى) واحد؛ وإن كنت أنت والجهلة من أمثالك لا تعلمون ذلك. فإن طالَبْتَنا بالدليل، قلنا لك هو: توحيد الضمير (ـهُ) المتصل بالأفعال: "تعزروا" و"توقروا" و"تُسبّحوا". والدليل إن كان من لفظ القرآن، فلا محيد لك عنه. ومعاني الآية أوسع من غير شك، مما ذكرنا لك، فلنكتف بما ذكرنا... ب. لأن التعظيم يكون على قدر العلم بالمـُعَظَّمِ، ولا يُنكر هذا المعنى إلا سفيه كليل. ومن فهم المعنى، فإنه سيفهم حتما أن كثيرا من تعظيم العوام المتعالمين، ينقلب تنقيصا في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه يكون مستندا إلى جهل لا إلى علم. وقل بحق الله عليك، ما الذي تعلمه أنت من خصوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى تطمع في الكلام عن حدود تعظيمه؟!... كيف ذلك، وأنتم من تأتمون في عقائدكم بجارية أقرّها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عقيدتها، على مبلغ علمها!... أيكون الحد الأدنى في الأمور عندكم حدا أعلى؟!... وهل ذلك، إلا لانتكاسكم وارتكاسكم!...
ا. قولك: "أن يكون وجود البشر مسبَّبا بذات محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن ذات محمد مصدر له.": فالدليل على أنك لم تفهم المراد، هو حصرك الكلام في "وجود البشر"، بينما الإخراج من العدم إلى الوجود (الإمكان)، هو منوط بكل المخلوقين بدءا من الملائكة عليهم السلام. ثم إن لفظ "ذات محمد" هو غير مـُدرَك لك، وأنت لا تتجاوز فيه معنى "شخص محمد"، صلى الله عليه وآله وسلم. ومن أخل بالمباني، فقد أخل بالمعاني؛ علم، أم لم يعلم؛ ولكنكم معشر الجهلاء، تعتبرون كل ورم شحما. ونعني من كل كلامنا، أنه يحسن بك أيها المتفيقه أن تضبط دلالات الألفاظ، قبل أن تتكلم؛ وإلا فقد تتفوّه بالعجائب!... وأما إن كنت تفرّ من كلمة "واسطة"، حتى لا يتصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها في توهّمك، فاعلم أن قصورك هو ما يمنعك. وهذا، لأن النبي من حيث حقيقته، هو الواسطة بين الحق وجميع الخلق؛ ومن نوره صلى الله عليه وآله وسلم، خلق الله الخلق. فإن أبيت إلا البقاء على العمه، فاعلم أنه لا بد لك عندئذ من القول بتعدّد الذوات بحسبك: ذات الله، وذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذوات المخلوقين الذين منهم البشر. وهذا هو الشرك في أجلى مجاليه، ولا ينفعك معه التوحيد النظري القاصر، الذي تتبعون فيه لشيطانكم ابن تيمية... وأما التوحيد بالمعنى الشرعي، فهو بعيد عن نيل أمثالك من العوام؛ فإن صدّقَتْ نفسك بأنك عالم، ثم صدَّقْتَها أنت، فاعلم أنك ممكور بك، وسائر في طريق الضلال!... ب. قولك: "أن يكون إيجاد الخلق تكريما لهذا الرسول، لا ابتلاء بالعبادة.": فاعلم أنك لا تعلم منه حقيقته، ونعني أنك لا تعلم معنى تكريم الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من جهة، كما لا تعلم معنى العبادة الوارد في قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ} [الذاريات: 56] من جهة أخرى. فأما جهلك لمعنى التكريم، فهو تابع لجهلك بمرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه. ولو علمت منه القليل، لكنت بعلمك ذاك من أهل القرآن الذي أنت لست من أهله الآن. وأما جهلك بالعبادة من ألفاظ الآية السالفة، فلأنك لا تفهم من العبادة إلا المعنى الشرعي جزئيّا، بينما المعنى الذي دلّت عليه الآية هو منوط بجميع الخلق، لا بالمطيعين من المؤمنين وحدهم كما تفهم أنت وأضرابك. وهذا يعني، أن كل مخلوق، مكلفا كان أم غير مكلّف، مطيعا كان أم عاصيا، هو عابد لله العبادة القهرية التي يكون معناها الظهور بمعاني الأسماء الإلهية. فالنَّسب الإلهي بين الأسماء الإلهية ومظاهرها، هو مستَند العبادة العامة، لا ما تفهم أنت بقصورك البيّن. وبعد هذا الكلام، وإن أصررت على ما أنت عليه من مـُعوجّ الفهم، فإني أبشّرك بأنك ممن قال الله فيهم: {وَإِن تَدۡعُوهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ لَا یَسۡمَعُوا۟ۖ وَتَرَىٰهُمۡ یَنظُرُونَ إِلَیۡكَ وَهُمۡ لَا یُبۡصِرُونَ} [الأعراف: 198]، وقال فيهم سبحانه: {بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ} [الجمعة: 5]... ج. قولك: "أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلّم صفة الخلق أو المشاركة فيه.": هذا الاستنتاج منك، يدل على أنك لا تبلغ صفة المفكّر المجرّد، فكيف بالعالم المؤمن؛ وذلك لأنك انطلقت من مسألة خلق الله للمخلوقين من العدم، بواسطة الحقيقة المحمديّة المشار إليها في القرآن باسم "الفاتحة"؛ لتصل إلى أن المعنى هو القول بأن محمدا هو الذي خلق الخلق، وهذا لم تفهمه إلا أنت بسبب ظلمتك التي لا تشهد بصيرتك غير سوادها. وبدل أن تخشى من أن يصف الناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بغير ما يحقّ له، خَفْ على نفسك أيها المسكين من أن ترفع طرفك إلى ما قُطعت دونه الرؤوس. فأنت لا تدرك لا معنى الوجود ولا معنى العدم، فكيف ستُدرك معنى الخلق؟!... وحتى توقن أنك من أئمة الضلال في زماننا، فعليك أن تعلم أن كل خليفة لله (ومنهم آدم بنص القرآن، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأحروية)، لا تصحّ له هذه الخلافة حتى يكون متصفا بجميع الأسماء الإلهية. فإن لم تكن تُدرك هذا المعنى، الذي على أساسه تقوم الخلافة عن الله، فكيف تتكلم في معنى الاسم الخالق؟!... وخذها صريحة: الخليفة لا يكون خليفة حتى يكون خالقا محييا مميتا باعثا إلى غير ذلك من الأسماء الإلهية. فآمن، أو اكفر؛ ووالله ليس أمامك ثالثة!... د. أما قولك: "وكل هذه المعاني باطلة، لأنها تمس أصل التوحيد في الربوبية والخالقية، وفي التفرد بالمشيئة والإرادة الكونية، وفي إخلاص الألوهية وتحقيق العبودية الذي قرره القرآن الكريم.": فهو الباطل، لأنك لست من أهل التوحيد الخالص، ولولا أنّا نعلم أن عموم المسلمين على شرك مصاحب لمرتبتهم، نحرص على عدم تكفيرهم به، لقلنا بكفرك؛ وهذا، لأنك تفارقهم، من وجه عدم خوضهم في العقائد؛ ومع هذا، فإننا نترك الحكم فيك لله ورسوله تأدّبا. وأما اغترارك بما تعلّمته من نفايات ابن تيمية، ولوكُك لاصطلاحات تجهل مدلولاتها جزما، كالربوبية، و"التفرّد" و"المشيئة"، و"الألوهية"، فمثلك فيه كمثل تلميذ رأيته خلال تجربتي في التعليم، عند أحد الزملاء؛ كان هذا التلميذ يكتب كلمات النص الإملائي كلمات غير التي يسمع من معلمه، محافظا على عددها وعلى جرس يوحي بأنها هي. كان النص الإملائي: ذهبت خديجة مع أسرتها إلى النزهة؛ وكان النص الذي كتبه التلميذ: يَقِقَ قِجَدٌ سَلَقاً شَلَواً فِي شيرَةٍ. فقل بالله عليك، أليست هذه جملة عربية؟... فاعلم الآن أن كلامك السابق، يُشبهها من وجه أنه شبيه بكلام الناس، ومن وجه أنه لا صلة له به من جهة المعاني. فاعتبر، فإني قد قرّبت إليك الأمر!... ثم قد استدللت لكلامك بآيات قرآنية، تبغي من وراء الإتيان بها، إيهام العامة بأنك على الحق؛ وهذه الآيات هي: - قول الله تعالى: {إِذَا قَضَىٰۤ أَمۡرًا فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ} [مريم: 35]، ومعنى الآية غير ما كنّا بصدده من عدم ووجود وخلق، من الطريق المباشر؛ وإنما هو متعلّق بمعنى الإرادة التي تجهل حتما. ومع ذلك، فإننا نزيدك بأنك جاهل بمعنى قول الله للأشياء: "كن" "فتكون": وسؤالنا لك: هل هذا القول من الله للمعدومات، أم للموجودات؟... فإن قلت هو للمعدومات: قلنا لك: المعدوم لا سمع له، حتى يسمع عن الله. وإن قلت: الكلام للموجودات: قلنا لك: إن الموجود لا يقبل الوجود مرة ثانية. ولْنُخبرك قبل أن يذهب بك شيطانك بعيدا، بأننا على علم بالجواب، ولكننا نريد أن نبرهن لك ولغيرك على جهلك، إن كنت ممن يستمعون... - قوله سبحانه: {إِنَّكَ مَیِّتٌ وَإِنَّهُم مَّیِّتُونَ . ثُمَّ إِنَّكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ عِندَ رَبِّكُمۡ تَخۡتَصِمُونَ} [الزمر: 30-31]، وسؤالنا لك: ما وجه دلالة الآية على كل ما سبق من عدم ووجود وخلق ووساطة محمدية في الإيجاد؟... فإن لم تجد جوابا، فاعلم أنك لا تفهم القرآن، ولا تعلم وجوه الاستدلال به. وأما الموت الذي يعظم في عيْنك، فإنك تريد من وراء الإتيان بذكره، أن تدل على موت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، ثم تريد أن تخلص إلى الخبث الذي يسكن باطنك، وهو: لأن النبي قد جرى عليه الموت، فهو نظير لك في المرتبة، ولأمثالك من الأموات؛ وبهذا لن يستحق من الله أن يخلق الخلق إكراما له. سُحقا لك، ثم سُحقا؛ أتعلم عن موت النبي شيئا حتى تشير إليه؟... وها أنا أقولها لك: أنت لن تبلغ وأنت حيّ حياتك البهيمية الآن، حياتي التي أكون عليها أنا عند موتي؛ وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الذي هو فوق مرتبتي ومرتبتك، فلا يحق لك بأي معنى من المعاني أن تتناوله!... فإن لم تفهم عنّا بعد كل هذا البيان، فاعلم أنك من الصم البكم العمي الذين لا يعقلون!... - وأما قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فإننا قد وطّأنا له بكلام ضمن الفقرات السابقة، ونزيد هنا بأنك أنت وأمثالك على خطر: = لأنكم تنكرون العبادة القهرية، وهي تشملكم؛ وإنكم بإنكاركم لها، تُعرّضون أنفسكم، لئلاّ يعتبرها الله في حقكم جزاء وفاقا على إنكاركم؛ وحينئذ لن يبقى أمامكم إلا العذاب الأليم... = لأنكم بحصركم للعبادة في المعنى الشرعي الظاهر وحده، تكونون قد فسقتم عن باطن الشريعة. وأما إن لم تكونوا تقرون للشريعة بباطن، فتلك طامة أخرى، لا نرى من باب الاختصار، أن ندلّك عليه هنا... هـ. وأما الخلاصة التي أثبتتها بعد استدلالك الذي ليس له من الاستدلال إلا الاسم، والتي جاء فيها قولك: "يؤكد ذلك أن الوظيفة النبوية في ضوء النصوص القرآن والسنة يبينان بجلاء أن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم تتمثل في التبليغ عن الله، والبيان والهداية إلى الصراط المستقيم؛ هداية إرشاد وتوجيه لا هداية توفيق، فهي بيد الله سبحانه ومتفرد بها. ومن الآيات الجامعة في هذا الباب قوله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ شَـٰهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِیرا وَدَاعِیًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجا مُّنِیرا} [الأحزاب:45-46]. أما الخلق والإيجاد والغاية لأجلها خلق البشر، فذلك من خصائص الربوبية والألوهية التي لا يشارك اللهَ فيها أحد، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب.": فنقول ردّا عليها: أولا: ركاكة تعابيرك غير خافية على من له أدنى دراية باللغة العربية وأساليبها... ثانيا: أنت لم تستدلّ حقيقة، حتى تستخلص؛ وإنما تلفّق لتُضلّ!... ثالثا: إن وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي نقرك عليها من جهة الإطلاق، والتي هي التبليغ والهداية إلى الصراط المستقيم، فهي فعلان بحسب ما ذكرت. والأفعال تستند في وجودها في مرتبتها إلى مرتبة الصفات، والصفات تستند في وجودها في مرتبتها إلى الذات؛ وسؤالنا لك، بعد أن صدّقنا شطر كلامك: ما هي الصفات النبوية التي يستند إليها فعل التبليغ وفعل الهداية؟... ثم: ما هي الذات التي تستند إليها الصفات النبوية نفسها؟... ونحن نجزم أنك لن تجيب، وإن أجبت فإنك ستتوغّل أكثر فأكثر في شركك. وأما الجواب التام، فسنُضرب عنه نحن هنا، ومن كان يطلب العلم فليطلبه من مظانّه... وأما الآية التي جئت بها في خلاصتك، فإنك تجهل منها حقيقة مدلول "النبيّ"، و"الإرسال"، و"البشارة"، و"النذارة"، و"الدعوة إلى الله"، و"الإذن في ذلك"، و"كونه صلى الله عليه وآله وسلم سراجا"، و"كونه منيرا". ومرة أخرى تُبين للناظرين بأنك أنت ومن على شاكلتك، لا تعقلون ألفاظ القرآن، وبالتالي فإنكم تستدلون بالآيات على غير وجهها في كثير من الأحيان. وكأنه يكفي للعبد أن يستدل بالقرآن (كما يرى هو)، ليكون كل ما يقوله حقا؛ وهذا مخالف لصريح القرآن والسنة. فمخالفته للقرآن، هي كإخبار الله تعالى عن أقوام بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِیقًا یَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَـٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ} [آلاعمران: 78]، فإن قلت: ذلك مخصوص بأهل الكتاب، قلنا: ما عقلتَ!... لأن الله ما ذكر شيئا من صفات أهل الكتاب في القرآن، إلا وفي أمتنا من هم على مثل صفتهم تلك. فإن أصررت على إنكار المعنى، بشرناك بكونك قد دخلت في الكفر بالقرآن، بعد أن كنت ممن لا يفهمونه... وأما الدليل على مخالفتك للسنة، فهو كما يُخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنكم في قوله: «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمانِ قَوْمٌ أَحْداثُ الْأَسْنانِ سُفَهاءُ الْأَحْلامِ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لا يُجاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ؛ يَقولونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقونَ مِنَ الدِّينِ كَما يَمرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.» [أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]. ولنتتبع صفاتك يا ابن كيران من الحديث الشريف: = فأول صفة لك ولأمثالك، هي أنكم من أهل آخر الزمان؛ وهذا لا يُجادل فيه أحد. وهذا يعني أن الأسلاف الصالحين، كانوا على خلاف ما يخرج من أفواهكم في زمانكم هذا... = وثاني صفة، هي أنكم حدثاء الأسنان، وهذا رغم أن شطرا منكم قد صاروا شيوخا، وأنت منهم. وهذا يعني أنكم قد دخلتم إلى طريق الضلال منذ حداثتكم، والآن أنتم شيوخ فيه فحسب؛ ولا يعني أنكم بشيخوختكم قد خرجتم من مطابقة صفة الضلال لكم... = وثالث صفة هي سفاهة أحلامكم، والحلم هو العقل؛ وهذا يعني أن عقولكم ضعيفة، ونحن قد برهنّا على ذلك في كثير من كتاباتنا. غير أن من تبعات سفاهة الحلم -وهو ما لا تتفطنون إليه من أنفسكم- ضعف الهمّة؛ والهمّة هي محل مطمح القلوب المشدودة إليها أنظارها. فأما أصحاب الهمم من الرجال، فلا تتعلق هممهم في الدنيا والآخرة إلا بالله وحده؛ ويأتي بعدهم أهل الإيمان الذين تتعلق هممهم بالآخرة؛ ثم يأتي أمثالكم من الضالين في المرتبة الثالثة، والذين تتعلق هممهم بالدنيا (ومن هذا الباب كنا نحن نقول بأن مذهب المتسلّفة مذهب مادّي في الدين). فحتى الآخرة التي تتعلق بها همم المؤمنين، تقصر همتكم أنتم عن التعلّق بها، ودليلنا هو أنه إذا ذُكرت لكم الآخرة وحدها مجرّدة عن كل الحظوظ الدنيوية، فإنكم لا تقبلونها، وتحتالون على أنفسكم وعلى من يسمع منكم بمثل قول الله تعالى: {وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ} [القصص: 77]، بينما الآية لا تخاطب بعدم نسيان النصيب من الدنيا، إلا من تحقق بابتغاء الآخرة في كل شؤونه المعبّر عنها بـ "فيما آتاك الله"، من كل نعمة أنعمها الله على عباده، ظاهرة وباطنة؛ وهذا لا ينطبق عليكم البتّة. وكل تدليسكم في هذه المسألة، هو من باب تشعّب ضلالكم، ولتصيروا أئمة فيه فحسب... = ورابع صفة هي أنكم تقرأون القرآن، ربما أكثر من كثير من المؤمنين الصادقين؛ ولكنه لا يُجاوز تراقيكم (الترقوة هي عظمة مشرفة في أعلى الصدر بين ثغرة النحر والعاتق)، والمعنى هو أن القرآن الذي تقرأون لا يُجاوز ألسنتكم إلى صدوركم؛ لكي تبقوا ممنوعين من فهم معانيه الفهم الصحيح الذي محلّه الصدور، مصداقا لقول الله تعالى: {لَّا یَمَسُّهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]. فصحت لكم ولأشباهكم، صفة النجاسة والدنس من جهة قلوبكم. ومن أصر منكم على إكمال طريقه، فإنه سيعلم -إن أذن الله له- أنه سيكون من أهل النار لا ريب في ذلك... = وخامس صفة لكم: هي أنكم إلى جانب قراءتكم للقرآن وزعم استدلالكم به، أنتم تستدلون أيضا بالأحاديث النبوية الشريفة، ولكن لا على وجهها؛ وذلك لأنكم كما أنتم محجوبون عن القرآن بسبب رجسكم، فكذلك أنتم ممنوعون من إدراك معاني الألفاظ النبوية التي هي نور من نور القرآن ذاته، كما أوضحنا في كتابنا "الإنسان القرآن"... = وسادس صفة لكم، وهي تمام الشهادة لكم بالشقاوة، هي أنكم لستم عند الله من أهل الدّين؛ وإن كنتم تجهدون أن تظهروا في أعين الجاهلين على أنكم من خواصّه، ومن الأئمة فيه؛ وهيهات هيهات أن يكون للخبيثين حظ في الطيّبات!... وإننا ببلوغنا هذا المبلغ من الكلام في الرد عليك يا ابن كيران، نرى أنه لا ضرورة لنا في الرد على الشطر المتبقّي من كلامك والذي جعلته منوطا باللغة؛ لأن فيما سبق لنا ذكره لك، دليلا مباشرا وغير مباشر، على جهلك باللغة من كونها وعاء للوحي. ومن كان لا يسمع حقيقةً (لا يفهم)، فلن ينفعه أن يسمع الأصوات، أو أن يرى بعينه الترابية أشكال الحروف... وليعلم القارئ في ختام ردّنا هذا، أننا ما احتددنا في العبارة على هذا الجاهل وأمثاله، إلا بعد تدرّجنا معهم في الخطاب؛ وبعد أن اتضح لنا بعد سنين عديدة من النُّصح لهم، أنهم يلحقون بأبي جهل وحزبه اللعين... وصلى الله وسلم على شفيع الخلق أجمعين، وسيّد رسل رب العالمين، حبيب الرحمن الرحيم سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطيبين وصحابته الأكرمين. والحمد لله رب العالمين. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.