اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]() «السابقالتالي»
2025/12/04 حكم الشرع في مهنتَيِ المحاماة والصِّحافة
لقد سمعنا كثيرا من اللغط في بلادنا المغرب، في المدة التي أعقبت التسريبات الفاضحة للجنة التأديبية للصحافة؛ وحدث في البداية ما يُشبه التنابز بالألقاب بين فئة الصحافيّين وفئة المحامين. ولكن لا أحد من العقلاء سأل نفسه الأسئلة الأَوّلية التي ينبغي أن نكون عارفين بإجاباتها، خصوصا من الجهة التأصيليّة الشرعية، من كوننا بلدا مسلما، يُفترض فيه ألا يُصادم بقوانينه أصول التشريع الإسلامي الحكيم... وإن أول ما كان ينبغي التوقف عنده، هو: - ما قول الشريعة في مهنتَيِ المحاماة والصِّحافة من حيث الأصل؟... والجواب ينبغي أن نؤسِّس له بقولنا: إن المهنتيْن المذكورتيْن، هما من الأمور التي أخذناها عن المستعمر؛ وكشأن جلّ ما هو استعماري الأصل عندنا، لم يكلّف فقهاؤنا تمحيص حكمهما في الشريعة؛ بل لقد أخذ المنطق الكفري الفقهاء في تياراته المختلفة، حتى ما عادوا يُدركون من الفقه إلا ما يتعلق بالعبادات، في صورها العابرة للأزمنة. وأما ما كان يتأثر بالأزمنة المختلفة، أو يتعلق في جانب من جوانبه بها، فإنه بقي باهتا متردّدا، أطمعَ المـُغرضين معه باعتبار الدين كله مجاوَزا؛ وهو قول باطل إجمالا وتفصيلا. وذلك يُشبه في الصورة ما تقبّله الفقيه علال الفاسي ونظراؤه، من عمل بمبدأ التحزّب السياسي، الذي يُخالف أصول التشريع الإسلامي بما لا شبهة فيه قطعا؛ ومع جلاء المبدأ، فإن من نظر إلى أعمال الفقهاء، يتوهّم بأن ما عملوا عليه "لا بد أن يكون أصيلا في الدين". لم يتصوّر أحد من عوام الناس، أن الفقهاء يأخذونهم في سبل الضلال أخذا؛ ولكن النتائج المتوصَّل إليها، لا بد من أن تُسائل كل عقل يأبى أن يدفن نفسه حيّا... عندما صرنا نسمع عوام الصحافيّين ببلدنا، يقولون إن الصحافة سلطة رابعة في المجتمع الديمقراطي، عليها أن تراقب عمل الحكومة وأحوال المجتمع؛ ثم عليها بعد ذلك أن تبلغ عموم الناس بحقائق الأمور؛ وجدنا أنفسنا أمام سؤال كبير: من أين جيءَ بهذه الأحكام؟... فبان لنا أنها أحكام ديمقراطية، أساسها الكفر المحض. وبالتأسيس للعمل الصحافي على مبادئ كفرية، فإن المجتمع يكون داخلا في الإخلال بحقوق المجتمع نفسه، خصوصا عندما يُفهمونه بأنه ملزم بالخروج للدفاع عن الصِّحافة، من باب الدفاع عن حقوقه عينها. فتبادرت إلى الذهن أسئلة تأصيليّة سنذكر بعضها، مع ما يتصل بها:
ا. ستر عورات الناس: يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ.» [متفق عليه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما]. والسؤال: هل ديدن الصحافيّين الستر أم الهتك؟... ب. سلامة الناس: يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اَلْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ...» [متفق عليه، عن عبد الله بن عمرو]. وليسأل الصحافيّون أنفسهم هنا: هل سلم المسلمون من ألسنتهم وأقلامهم، أم إنهم قد تسبّبوا في هلاك كثير من المسلمين بها؟... ج. محبة الخير للناس: يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.» [متفق عليه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه]. والسؤال الذي ينبغي أن يسأله كل صحافيّ لنفسه: هل هو يحبّ الخير للناس كما يُحبه لنفسه؟ أم هو لا يهتم إلا لمصالحه العاجلة، وللسبق الصحافي، وإن تسبّب في عظيم الشّرور لغيره؟... وإن اكتفينا بالأصول التي ذكرنا، فإن الصحافيّ سيجد إسلامه وإيمانه مهدّديْن في وجودهما بعمله الذي يظنّه جهلا من المباحات الشرعية؛ بل الذي قد يتوهّمه من الواجبات!... فأين الصحافيون في بلاد الإسلام، من هذه الأصول؟!... ولكن في المقابل، ينبغي أن نسأل: هل كل عمل الصِّحافيّ حرام؟ أم إن من عمله ما يكون مستحبّا، أو يكون واجبا؟... فنجيب: لا شك أن من أعمال الصحافيّين ما سيكون مستحبّا، إن كان عملهم يُمكن أن يُعتبَر من باب: تعليم الجاهل ما ينفعه في دنياه وفي آخرته، أو تحبيب الناس في الخير الذي يأتي الدين الحق على رأسه. وقد يكون ذلك العمل واجبا، إن كان من باب: تحذير الناس من شرّ سيلحق بهم، في دينهم أولا ثم في دنياهم بعد ذلك. ولكنّ الشر هنا (كالخير) ينبغي أن يُرجع فيه إلى المعايير الشرعية، لا إلى ما يعدّه الجاهلون من الفكر الإنساني، وهو لا يعدو أن يكون من وحي الشياطين الذي جاء فيه عن الله تعالى قوله: {وَإِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ لَیُوحُونَ إِلَىٰۤ أَوۡلِیَاۤىِٕهِمۡ لِیُجَـٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ} [الأنعام: 121]، وقوله سبحانه: {وَكَذَ ٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِیٍّ عَدُوًّا شَیَـٰطِینَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ یُوحِی بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورًاۚ} [الأنعام: 112]، وهذا يدلّ من جهة على أن مِن الصحافيّين مَن هم أعداء لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ويدل من جهة أخرى على ثبوت حركة الوحي الشيطاني بين شياطين الجن وشياطين الإنس. ومن ثبتت له صفة الشيطنة من أحد من الناس، صحافيا كان أم غيره، فليعلم أنه من الأشقياء المخلَّدين في جهنّم؛ وأن عمله فاسد لا يصح أن يُقال عنه إنه من أجل الخير يراد. وهنا ينبغي أن نعود إلى الفقهاء مرة أخرى، لنسأل: - لمَ لا يكون الفقهاء أطرافا في التكوين الصحافي بداية من المعاهد المتخصّصة؟... وإن غياب الفقه، قياسا على ما ذكرنا، من جميع المعاهد، يعدّ إخلالا بالتديّن الصحيح لأهل ذلك التخصص نفسه. وكل من يتوهّم أن المجال الفقهي متخلف بالمعنى الحضاري، ولا يليق به أن يكون طرفا في المعاهد الحديثة، فإنه يكون على غلط بيّن. ولكن في المقابل، علينا أن نفرّق بين الفقه والفقهاء؛ وهذا لأن الفقهاء في غالبيتهم متخلّفون حضاريا، وجامدون عقليا، ولا يصح إدخالهم في أي أمر ذي بال. ولكن في مقابل توصيف أحوالهم، لا ينبغي أن يُعمل على التخلّص من الفقه؛ بل ينبغي العمل على الرقيّ به إلى المستوى الذي يصير به مؤهلا لأن ينظر حقّا في مستحدثات الأمور، وهو ما لم يقع إلى الآن...
ولا شك أن الصحافة اليوم قد تبدّلت معالمها كثيرا، عندما أصبحت تتواجد على مواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن الجرائد والقنوات التلفزيونية المعهودة. وهذا قد وسّع كثيرا من قاعدتها، من دون أن يعمل على المحافظة على معالمها بضبطها. ودخل في ممارسة الإخبار من لا خبر له، وفي التحليل والتعليق من لا أهلية له؛ مما زاد من انبهام تعريف الصِّحافي والصحافة. وإن استمر الأمر على الحال التي هو عليها، فإن ما يُسمّى صحافة قد يصير وسيلة تدمير للمجتمعات على جميع الواجهات؛ وهو ما لا تقبله الشريعة بحال من الأحوال... وبعد هذا التبيين المختصر لعمل الصحافيّين من مختلف جوانبه، فلنمرّ الآن إلى مهنة المحاماة التي تُشبه الصحافة في كونها مستحدثة في المجتمع المسلم، فنقول:
ا. إن القضاء المعتبر، هو ما يقوم على أحكام الشريعة الإلهية، لا ما يكون من قوانين وضعية، أنتجها العقل الكافر. ومع أن هذا الأساس لا خفاء به بين المسلمين قاطبة، إلا أنه قد صار مستغربا، وصار كلّ مذكّر بالتزام الشريعة في القضاء، يُعدّ متطرّفا بحسب الاصطلاح المعاصر. وهذا من ثبوت كفر من يبتغي بديلا لحكم الله، بالاستناد إلى قول الله تعالى: {أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ یَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمًا لِّقَوۡمٍ یُوقِنُونَ} [المائدة: 50]؛ وحكم الجاهلية، هو كل حكم غير حكم الله الشرعي. وقد ثبّت الله هذا الأصل أيضا في قوله تعالى: {وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ} [المائدة: 44]، وهذا من المنطق الجليّ في القرآن الكريم؛ إذ من كان يؤمن بما أنزل الله من أحكام، فلا شك أنه سيحكم بها في نفسه، وفي غيره إن كان من القضاة أو من الفقهاء القائمين مقام القضاة في بعض الأمور التي تكون من شؤون المجتمعات والأسر. وإن نحن اعتبرنا كل ما سبق، فإن المحاماة إن كانت قائمة على القوانين الوضعية، مع اعتقاد جواز ذلك، فإنها تلحق بالقضاء كله القائم عليها، ويكون الحكم عليها بالإلغاء وجوبا... ب. إن كان القضاء يقوم على الأحكام الشرعية، فإنه يُمكن أن تُقبل المحاماة في دائرة القيام بتبيين أمور الموكِّل أمام القاضي الشرعي؛ وهذا لأن الشارع يقصد إلى تحرّي موافقة حكم القاضي للحق، بجميع الوسائل المتاحة، والتي تكون المحاماة إحداها؛ والحديث النبوي السابق يدل على ذلك بجميع عباراته: = فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّما أَنا بَشَرٌ»: يدل على النسبية الداعية إلى التحرّي مبلغ الوسع... = وقوله عليه وآله الصلاة والسلام: «وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ»: أي ولعل بعضكم يُحسن عرض مسألته وتبيين حجّته، فأكون ملزما بالقضاء له؛ وهذا، ليس لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهل حقيقة القضية المعروضة عليه، كما قد يفهم الجاهلون؛ ولكن لأنه عليه السلام مـُلزم بأن يحكم بالظاهر. وأما الباطن، فإن أصغر أتباعه من الأولياء يعلمه!... فليحترز القارئ من الوقوع في الضلال المـُبين، إن هو اعتبر ظاهر اللفظ وحده!... وهنا يجوز للمتقاضي، أن يوكّل محاميا عنه، يتولّى عنه تبيين وجوه القضية، وتبيين حجج موكِّله. وقد جاء في مسألة الحكم بالظاهر، قول مأثور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو: «إنما أقضي بالظاهر، والله يتولى السرائر.»، وهو أقرب إلى الحديث النبوي الفارط من جهة المعنى... = وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّما أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ.»: فهو الدليل على وجوب الاجتهاد مبلغ الوسع، في سبيل بلوغ الحكم المحقّ للحق والمزهِق للباطل. وهذا، لأن القضاء في الإسلام، لا يُقصد منه إقطاع النار للمسلمين، الذي هو مخالَفة لكل روح الدين وروح التشريع. فدلّ هذا، على وجوب تجنيب الناس زلات القضاء، بكل الوسائل، والتي منها ما يدخل في التقنيات الحديثة الموصلة إلى اليقين في اعتبار الجزئيات: كشأن ما يتعلّق بمطابقة البصمات، أو الأحماض النووية، أو التسجيلات عبر الكاميرات العمومية والخصوصية، وغير ذلك. ولا أعظم من التخويف بالنار، في الحض على تحرّي الحقّ كما أسلفنا...
ويدخل ضمن دائرة التحريم التي ذكرنا، ما يُسمّى أيضا بـ "جمعيات المجتمع المدني"، التي يُراد لها من قِبل الدجّاليّين أن تكون مصدرا للتشريع في تفاصيل الكفريات، بعد أن دخل الكفر من الأبواب الواسعة عبر البرلمانات، عندما خلف من قومنا خلف لا صلة لهم بالآدمية غير ما يكونون عليه من صورة ظاهرة، سرعان ما ينقلبون عنها في البرزخ إلى صورهم المعنوية. وإلى هذا الانقلاب، يُشير قول الله تعالى: {قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَ ٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَیۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِیرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ} [المائدة: 60]. وهذا المعنى، لا يقتصر على بعض اليهود كما يُعجب كثيرا من فقهائنا أن يقولوا؛ بل هو ينطبق على بعض المسلمين أيضا. ولولا هذا، ما كانت الحكمة داعية إلى ذكر الله تعالى ذلك في القرآن الذي أُنزل عليهم؟!... والسؤال الكبير هنا: هو أين الفقهاء من التشريع البرلماني، الذي أصبح وكأنه سنّة من السنن الثابتة في شريعتنا!... فعلى الأقل، كان ينبغي أن تُعيّن لجنة فقهية في البرلمان، تكون مهمتها تمحيص القوانين، والتحقق من عدم مصادمتها لأصول الشريعة. فلا هم طالبوا بتمكينهم من أداء هذا الواجب المنوط بهم، ولا هم ذكّروا الناس بأن القول بحق التشريع للبرلمانات، هو دخول في الكفر من أوسع الأبواب. وأما نحن، فنذكّر الناس بأصول الأمور، لعلهم يرجعون إلى الصواب؛ وإلا فالأقدار كفيلة بالرد عليهم في القريب العاجل. {وَسَیَعۡلَمُ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤا۟ أَیَّ مُنقَلَبٍ یَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]... وفي الختام، فإننا نحذّر الصحافيّين والمحامين مما هم عليه مما يُخالف أحكام الشريعة، وليعلموا أن ما يدرسونه في المعاهد المختصّة لا ينفعهم في شيء إن هم قدموا على ربهم، يُحاسبهم على أعمالهم التي قدموها في دنياهم. يقول الله فيمن كان مخالفا لأحكام الشريعة الإلهية: {وَقَدِمۡنَاۤ إِلَىٰ مَا عَمِلُوا۟ مِنۡ عَمَلٍ فَجَعَلۡنَـٰهُ هَبَاۤءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]، ويقول سبحانه فيمن كان مخالفا ويظنّ أنه يُحسن العمل: {قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِینَ أَعۡمَـٰلًا . ٱلَّذِینَ ضَلَّ سَعۡیُهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ یَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ یُحۡسِنُونَ صُنۡعًا} [الكهف: 103-104]... والحمد لله رب العالمين... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.