اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2019/12/10 مصطلح التسامح ومشروعيته لقد كثُر الكلام عن التسامح الديني بين المسلمين وغير المسلمين، وإن كنا نرى أن المسلمين يُجرّون إلى استعمال المصطلح جرا، من قِبل النظام العالمي الدجّالي. وهذا يعني أن مصطلح "التسامح" مصطلح ماسوني، يبتغي به أصحابه إضلال أهل الديانات المختلفة، في المستويات الدنيا من التربية الدجالية العامة، ريثما يتخلى كل أهل دين عن دينهم، ويخلو الأمر لعُبّاد الشيطان. ويتضح من هذا المدلول، أن مصطلح التسامح مخالف لكل الأديان، مع تأكيدنا على عدم مشروعية كل الأديان، الكتابية وغير الكتابية الآن، باستثناء الإسلام المحمدي وحده. ولسنا بحمد الله نتكلم إلا عن علم، لا عن عصبية ولا عن تقليد. وإن من يعرفنا ويعرف خطابنا منذ بدأ، لا شك سيُفرّق بين مقتضيات "التسامح" التي نؤكّدها من وجهها، بل ونسبق غيرنا إليها؛ وبين المشروعية الإلهية التي لا يتمكن العباد -أيا يكونوا- من تخويل أنفسهم الحكم بها، بحسب أهوائهم وما يعنّ لهم. وحتى نبيّن مرادنا من كل كلامنا، فلا بد من تفصيل ما يلي: 1. إن مصطلح "التسامح الديني" (religious tolerance)، يعني في الحقيقة أن يحتمل كل طرف الطرف الآخر، وهذا عندنا غير التسامح لغة؛ لكن المسلمين والعرب يستهلكون ولا يُنتجون، حتى فيما يتصل بالمصطلحات. ومع ذلك فإننا سنتكلم عن التسامح كما ينبغي أن يكون، وبحسب ما يقصد أصحابه. في البداية لا بد أن نبيّن أنه لا يمكن أن يقول به، إلا من كان يرى الحكم للناس على الأمور لا لله؛ وليسوا إلا أصحاب "الأنسنة" الدجاليين. ونعني من هذا الكلام، أن أهل الكتاب أنفسهم، لم يكن لهم أن يقبلوا بهذا المصطلح، طالما أنهم يرجعون في نظر أنفسهم -على الأقل- إلى الوحي المنزل من عند الله. 2. لا يصح التسامح المفضي إلى قبول ما كان يسوغ رفضه بالمعنى الشرعي، إلا فيما يتعلّق بحقوق العباد على العباد. وهذا المعنى تصدُق عليه المسامحة والعفو والتنازل عن الحق، أكثر من التسامح الذي هو بصيغة التفاعل المقتضية للاشتراك في فعل "سامح". وهذا يعني، أن التسامح من جهتين فأكثر، إذا كان مؤديا إلى تعطيل حكم من أحكام الشريعة الإلهية، فهو من المغالطة والإضلال، لكونه تنازلا عن حق غير مملوك. وأما معنى العفو والصفح اللذين ورد بهما الوحي في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، والذي يريد بعض المحرِّفين جعله دليلا على تسامحهم، فهو متعلق بحقوق العباد، لا بحقوق الله؛ والتسامح الديني بالمعنى الدجالي، إنما يُراد منه التسوية بين التوحيد والشرك وبين الإيمان والكفر؛ وهذا لا يحق لأحد الدعوة إليه، بما أنه خارج دائرة تصرف كل العباد. وأما الإحسان الذي يُراد جعله هو أيضا من معاني التسامح، فإنه لا يتحقق إلا بعد تحقُّق العدل. يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]. وهذا يعني أن من أراد أن يُحسن إلى أحد الناس أو أحد الشعوب، فعليه أولا أن لا يكون معتديا عليه وآخذا لما هو له؛ ومن يفعل ذلك يكن كسارقٍ استولى على مال أحدهم، وبعد ذلك أخذ درهما منه يتصدق به عليه، ثم ينتظر أن يُحمد على فعله!... ولا يخفى ما في هذا الفعل من استهزاء بالدين وبالعقل معا. ولسنا هنا نناقش الفلاسفة المتحررين من الدين، ولا الأيديولوجيين عبيد أفكارهم، فيما يرونه من حق لهم في الحكم على الأشياء بما يرونه هم، لأن هذا يتطلب منهم رُشدا عقليا يفقدونه من البداية؛ ولكننا نريد النزول إلى ما هو أقرب من ذلك إلى الحقوق الطبيعية، التي لا يختلف عليها اثنان؛ فإن نحن أقررناها، انتقلنا منها إلى الحقوق الإلهية التي تسمو بالإنسان إلى حيث لا مزيد. وأما الله تعالى فقد بيّن حكمه على من اتخذ غير الإسلام دينا، فقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]؛ وحكم الله لا يُستحيا به ولا يُتحرّج منه؛ بل على كل من عَقَله أن يجهر به ويلزم دلالته. ولا بأس هنا من التذكير بأن الإسلام (العبرة هنا بالمعنى لا بالمصطلح)، هو دين جميع الأنبياء عليهم السلام؛ وإفهام الكفار أن لهم الحق في الكفر، وكأنه لا حساب عليهم في الآخرة؛ هو من تحريف الكَلِم عن مواضعه، ومن غش العباد المفضي بهم إلى الكفر. ومن دعا إلى كفر فقد كفر!... ويكفي أن نعلم أن كفر إبليس نفسه، ليس إلا من هذا الصنف، في شطر منه. وأما فهم قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، على المعنى الذي يُعطي العباد حق الكفر إن هم أرادوه، فهو جهل محض؛ لأن المنهي عنه في الكلام هو الإكراه على الدين فحسب. وإفهام العباد بأن لهم الحق في الكفر، لا يدخل في معنى عدم إكراههم على الإسلام؛ بل يدخل في هدم أحكام الدين من أساسها، بهذا الإبدال المعنوي. والعبد عندما ينطق بحكم الله العام، إنما هو مُسمِع مبلّغ، لا متحكِّم. ولقد يغلط كثيرون من جهلة المسلمين، ويصيرون طرفا في الموضوع؛ مما يؤدي بهم إلى الغضب ممن لم يُلبِّ دعوتهم. وهذا كله لديهم، من امتطائهم الحق بُغية الوصول إلى الباطل الذي هو التحكم في رقاب الناس بغير حق؛ وهو ذنب كبير قد يهلك صاحبه به هلاكا أبديا من غير أن يشعر. وذلك لأن هذا الصنف من الذنوب، دخول في الربوبية المحرمة تحريما مغلّظا. ومع الأسف، فإن كثيرا من الخطاب الإسلامي المعاصر، من هذا الصنف المقيت. 3. قد يتوهم القاصرون أننا بكلامنا عن عدم جواز إقرار الكفار على كفرهم، نقول بهدر حقوقهم أو السماح بالاعتداء عليهم؛ وهذا لا يقول به إلا جاهل بأحكام الإسلام نفسه. ولن نخوض في معنى الذّمة الذي يرفضه الكتابيون جهلا، ويأباه الديمقراطيون اختيارا منهم للذي هو أدنى لا للذي هو خير؛ ويكفينا هنا أن نشير إلى أن الإسلام يُلزم أهله بالحفاظ على الأنفس جميعا، كافرها ومؤمنها؛ ولا يُبيح قتال الكفّار إلا في حال تعدّيهم حدودَهم وإرادة منع الناس من أن يُسلِموا إن هم اختاروا الإسلام طواعية. وإن هذا المنع في زماننا، قد لا يكون صريحا ومباشرا؛ وقد يتم بالتضييق على أهل الإيمان بطرق ملتوية، بتنا نعلم جلّها يقينا. ورغم هذا التضييق، الذي يتحالف فيه الداخلي مع الخارجي، فإننا نخالف سفهاء الأمة، الداعين إلى قتل الكافرين بإطلاق، ونُعلن أن ذلك مخالف للعبودية وأخلاقها؛ خصوصا في زمان غياب الخليفة النبوي أو الوراثي. لهذا، صار المسلمون مُلزَمين الآن بمسالمة كل شعوب الأرض، إلا من اعتدى عليهم فاحتل بلادهم أو أخذ أموالهم. ذلك لأن العبد كما هو مأمور بعدم ظلم الغير، كذلك هو مأمور بعدم الإعانة على ظلم نفسه؛ من منطلق أن نفسه ونفوس الغير سواء في العبودية؛ أي في مملوكيتهم لله ربهم. ولقد أسس هذا المعنى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ!»[أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه]؛ ولقد سبقه القرآن بذلك في قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]؛ و"أتقاكم" هنا، بمعنى أعبدكم لله (للرب). وهذا الحكم وسط وإنصاف؛ كل من أتى بلوازمه وشهد الله له به، فهو الأكرم عنده سبحانه. وهذا يخالف ما عليه إخواننا اليهود من زعمٍ للخصوصية، فوق جميع صنوف البشر. ونحن نعلم من أين أُتوا، وهم من فضّلهم الله على جميع العباد في زمن ما... فنسوا أن مَن فضّلهم قادر على تجريدهم من ذلك التفضيل، وقادر على تفضيل غيرهم عليهم، لأنه ما يزال الحكم له دائما على عباده بما يشاء سبحانه. ونحن رغم أن الله يخاطبنا في كلامه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، فإننا مع تصديقنا له سبحانه، لا نحكم بذلك لأنفسنا؛ لأننا لا نعلم أننا من هذه الأمة يقينا (إلا إن علَّمنا)، ولا ننسى عبوديتنا الأصلية، التي تمنعنا من أن نترفع على أي عبد من سوانا؛ سواء أكان من بني ديننا أم كان كتابيا أم كان مشركا من الوثنيين؛ ببساطة لأننا نجهل الخواتيم: فقد يموت المسلم على الكفر، كما قد يموت الكافر على الإسلام. وفي النهاية، فإن الحكم لله لا لنا. وهذا الأمر يريح العباد لو كانوا يعلمون!... ولو أن اليهود وشطرا من المسلمين عملوا على هذا الأصل، لما تطورت الخلافات بينهم إلى هذا الحد الذي لا يسنده دين ولا عقل. 4. إن دين الإسلام، قد سبق دعاة "التسامح"؛ إلى إعطاء حق اختيار الكفر على الإيمان (وهو غير حق الكفر المزعوم) لكل من يريد ذلك، مع إيتاء الكافر كل حقوقه المدنية غير منقوصة؛ إلا ما يكون من الولاية الكبرى على الأمة، منعا لأن يصير الأمر حينئذ ناقضا للدين نفسه، وفاتحاً لباب الحكم بغير ما أنزل الله. ونعني من كلامنا هذا، أن حق اختيار الكفر حكم من عند الله، لا مِن تفضّل العباد بعضهم على بعض. وأين ما هو من عند الله، في القيمة، مما هو من عند الناس! ولو أن القائلين بمبدأ التسامح كانوا على علم بأحكام الشرع الإسلامي، لما اختاروا سواها بديلا!... وهذا يجعلنا نعلم أنهم، لا يرمون إلى الحفاظ على حقوق شطر من الناس في مقابل شطر آخر يُخشى أن يتسلّط بغير حق، كما قد يبدو؛ وإنما هم يأنفون من الاحتكام إلى الله من الأصل، ويتبعون إبليس في إعلان عصيانه وعناده. وهذا ينتهي بنا إلى القول بأن دعاة التسامح، ليسوا أعداء للمسلمين على وجه التخصيص؛ بل هم أعداء لأهل الكتاب أيضا، ما دام أهل الكتاب، لا يخرجون -على الأقل في زعمهم- عن أحكام شرائعهم المنصوص عليها في كتبهم. 5. إننا عندما نحكم بكفر أهل الكتاب، ونحافظ لهم على حقوقهم ونخشى الله فيهم، يكون ذلك خيرا لهم من أن نغشّهم بزعم الإيمان لهم أو بإعانة الدجاليين عليهم. ذلك لأن الدجاليين، لا يأبهون لمسلم ولا لكتابي إلا وقتيّا، وفي انتظار أن يعُمّ عمى البصائر بين الناس؛ وحينها لن يتورّعوا عن إبادة الجميع إن استطاعوا، ليبقى لهم الحكم في العالم خالصا كما يتمنَّون. 6. إن توقيرنا لدين اليهود ودين النصارى، ليس تفضُّلا منا، كما يرى ذلك بعض القاصرين؛ ولا هو خروج عن مبادئ ديننا لسبب من الأسباب، وإنما هو من توقيرنا لديننا نفسه. ذلك لأن الشريعة الموسوية والشريعة العيسوية، متضمَّنتان في شريعتنا حُكما، وإن غابت لدينا بعض تفاصيلهما. ونحن إن كفرنا بهما، فإننا سنكفر بديننا نفسه، من جهة كونه مكملا لهما، لا ناقضا. وإن الله عندما يقول سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فإنما يُخاطب الكتابيين قبل غيرهم؛ لكون الإسلام المحمدي تكميلا للإسلام الموسوي وللإسلام العيسوي. ونحن هنا ندل مرة أخرى، على المسمى المعروف لدى الكتابيين، لا على الاسم العربي الذي قد يحجبهم عما لديهم، كما سبق أن نبّهنا. 7. نحن قد ذكرنا في بعض تسجيلاتنا المصورة، إمكان إقامة بعض الدول المسلمة، لعلاقات ديبلوماسية مع "إسرائيل" -مع كونها غاصبة لأرض فلسطين- وقلنا بأن ذلك لا يضيرها (الدول المسلمة) ولا يُنقص من قيمتها. ونحن بهذا القول، قد سبقنا دعاة التسامح من المسلمين؛ لا لأننا أكثر تجاوزا منهم لأحكام شريعتنا كما قد يُظن، بل لأننا نفرق بين موالاة العدو، ومحاورته التي قد تكون ضرورية. فموالاة العدو عندنا محرمة، لكن التواصل معه غير محرّم؛ وهو يُقدَّر بقدره، كما يقول الفقهاء. ونحن قبل أن نحكم بما حكمنا، اعتبرنا أولا "دور" الدول العربية على الخصوص، في نشأة إسرائيل وفي حمايتها؛ رغم ما تزعمه الأنظمة الحاكمة في ظاهر أمرها. وهذا يعني أننا نفضل علاقة علنية مع إسرائيل، تُحاسب عليها أنظمة الحكم لدينا، على تعاون سرّيّ لا يخدم عموم الأمة الإسلامية، ولا يخدم الفلسطينيين أنفسهم. ثم إننا عندما نعتبر دولة إسرائيل اليهودية، ونقبلها محاورا، فإننا نتفهم قيامها من جهة الواقع والحسّ، وإن كنا لا نوافق عليه لا عقلا ولا شرعا. وتفهّمنا، هو أولا من عدم مجاوزتنا لأصل الحق الذي لليهود من كونهم إخوانا لنا في العبودية، والذي بتجاوزه سنناقض ديننا نفسه ولو جزئيا؛ ثم هو ثانيا من أثر تفريقنا بين الدعوة الدجالية المرفوضة شكلا ومضمونا، والدين اليهودي الكتابي الذي نحترم أهله ولا "نسمح" لأنفسنا بالاعتداء عليهم بسببه، سواء أكان الاعتداء قوليا أم فعليا. ولا زلنا نذكر في مغربنا كيف كان الناس عندما يأتون على ذكر يهودي من الناس، يُضيفون إلى صفته قول "حاشاك" تأدّبا مع المخاطَب. ولم يكن هذا الأدب يبدر منهم إلا عند ذكر اليهود وذكر الحمير أو الكلاب من دون سائر الحيوانات. ونحن نرى هذا الفعل من قومنا عنصرية مرفوضة، حاطّةً من قدرهم، ومنتقصةً لتديُّنهم؛ وهم من أُمروا بتعظيم ما خلق الله من بني آدم ثم من الحيوانات. 8. والعبد الضعيف، من أعلم الناس بالظلم الذي طال اليهود في العالم، وفي المغرب والبلاد العربية على الخصوص؛ ومِن أشد الناس إنكارا له. ولو أنني حضرت الواقعة التي سأذكرها، لناصرتهم ووقفت إلى جانبهم بالنفس لا بالكلام وحده. وأما الواقعة التي أريد الإشارة إليها هنا، فهي قيام سكان مدينة جرادة -التي وُلدت بها وقضيت عقودا من عمري فيها، عندما سمعوا باحتلال اليهود لفلسطين عام 1948، وقد كان المغرب وقتها تحت الحماية الفرنسية- إلى جل يهود المدينة فقتلوهم شر قتلة؛ ذكورا وإناثا، كبارا وصغارا؛ وسرقوا أموالهم واستولوا على ممتلكاتهم. ولم يكن عدد اليهود ضئيلا هناك، بما أن المدينة كانت منجمية تستقطب العمال من مختلف مناطق البلاد. وقد كانوا في معظمهم إما تجارا أو من ذوي الحرف الخادمة للمجتمع الجرادي الصغير نسبيا. ولقد ظن الجاهلون من المسلمين بفعلتهم الشنعاء تلك، أنهم يثأرون لمسلمي فلسطين؛ والحق بحسب ديننا غير ذلك على التمام، لأن الله يُحرّم أن يُؤخذ عباد بجريرة آخرين. وقوله سبحانه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، الوارد بهذا اللفظ ذاته أو بقريب منه، في سوَر: الأنعام، والإسراء، وفاطر، والزمر، والنجم، صريح بهذا الخصوص، لا يحتمل التأويل. وهذه الواقعة وأمثالها، مما وقع في بلاد المسلمين خصوصا، تجعلنا نتفهم سعي اليهود إلى إقامة دولة لهم؛ وإن كنا نخالفهم المبدأ بسبب ارتكابهم للظلم من جهة، وقد كان الأولى بهم النأي عنه بسبب تجربتهم لظلم الناس لهم؛ ومن جهة أخرى، لأنهم يخالفون أمر الله لهم، وهو قد حكم عليهم سبحانه بالشتات عدلا منه. وهذا الحكم معلوم لطوائف اليهود المعادية لقيام "إسرائيل"، ولجماعاتٍ منهم كحركة "ناطوري كارتا" التي تُعلن ذلك في العالم من باب تبرئة الذمة. ونحن عندما نقول هذا كله، نسلّم لله (ربنا جميعا) الذي جعلهم يقيمون هذه الدولة ولو بالمخالفة. وهذا يعني أن اعتبارها ومعاملتها بما لا يخالف شرعنا، هو من تمام الفقه الذي ندعو فقهاءنا إليه؛ كما ندعو حكامنا إلى حُسن إدراكه والعمل به سياسيا بعدهم. بل إن تحالف المسلمين اليوم، مع اليهود والنصارى لمواجهة النظام الدجالي العالمي، قد أصبح ضرورة ملحة، لا يغفلها إلا جاهل بالدين وجاهل بالسياسة، أو مستهتر يُغامر بمصير الأرض كلها. 9. إننا ندعو حكماء اليهود وحكماء النصارى، إلى الالتقاء معنا على الأسس التوحيدية للدين الواحد (ديننا جميعا)؛ وندعوهم إلى فتح حوار معرفي مشترك، يُثبت الحق الذي لديهم، ويُقرّ الحق الذي نزيد به عليهم؛ إذ إن إنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا يخدمهم في شيء الآن (ولو من باب الواقعية)؛ كما لا يتسق والانفتاح المعرفي العالمي الذي أسقط كثيرا من الحواجز التي كانت إلى وقت قريب فاصلة بين الشعوب والأقوام. وإن هذا، لن يتأتّى مِن قِبل الجميع -ونخص قومنا بالذكر قبل الغير- إلا بنبذ العصبيّة المقيتة، وبالاحتكام إلى العقل المنصف وحده. ونحن على استعداد للعمل من أجل هذه الغاية، بكل ما أوتينا من قوة؛ رغم غربتنا في بلدنا وبين قومنا. ولا بد هنا، من أن نؤكد على عدم جدوى الحوار الثلاثي القائم إلى الآن، لأنه يتأسس على النفاق والسطحية، أو على الضغوط الفوقية التي تُمارس على كل الشركاء أو بعضهم؛ وبالتالي فإنه لن يلامس القلوب من عموم الشعوب، وسيبقى كلاما نُخبويا لا قيمة له في الواقع المحسوس. ولا شك أن القارئ يعلم عن تجربة، أن ما تقره الأنظمة بعيدا عن الشعوب، لا يمكن أن يُعتدّ به؛ بل قد ينقلب إلى عكسه، عندما يتبدّى ظاهرا أن الأنظمة تخدم مصالح غير مصالح شعوبها. لهذا السبب، نحن نحذّر من هذا الخطاب "المتسامح" الذي لا أصل له، ونحذّر من نتائجه التي قد تكون اقتتالا أشد من كلّ ما عرفه التاريخ قبلاً. وبعد كل ما مر، فنحن لا نستسيغ الدعوة إلى تسامح ينتقص من قيمة "الآخر"، عندما يجعله يقبَل تصدُّقاً (عليه)، بحق الوجود أولا، ثم بحق اختياره لطريقة عيشه بعد ذلك؛ وإنما ندعو إلى أخوة في الإنسانية، تتأسس على الاحترام المتبادل (وهو غير التسامح) وإلى التراحم والتعاون على ما فيه خير المخلوقات جمعاء، وعلى رأسها هذا الآدمي المخلوق على الصورة الإلهية... نرجو في النهاية أن يُحسن أعداؤنا وأصدقاؤنا فهمنا على الوجه الذي أردناه، وأن لا يُحمّلوا كلامنا أكثر مما يحتمل بسبب الحساسيات المستقرة بينهم؛ فإننا بحمد الله نتكلم من فوق ذلك كله ونترفع عنه؛ وندعو إلى ما يصلُح للجميع، في مجتمع عولمي، هو أقرب ما يكون إلى التحقق (ثم التخلق) بالعبودية لله، لو أن الناس كانوا يعقلون!... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.