اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2021/05/24 كيف يعرّف المسلمون أنفسهم عندما نسأل هذا السؤال، فإنما نريد أن نعود بالناس إلى المبادئ المعرفية الأولى، التي تكون قد طُمرت تحت ركام العادة وبفعل التوجيه الأيديولوجي أو الديماغوجي. ومن يتابع توجهات الشعوب عبر التاريخ، فإنه سيلاحظ من غير شك، أن العامة من الناس لا يملكون زمام أمرهم فيما يتعلق بما يكونون عليه؛ بل هم في الغالب نتاج لما يريده لهم كبراؤهم. وإلى هذه الحقيقة يُشير القرآن في قول الله تعالى عن صنف من أهل النار: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 97]، ويقول أيضا: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67]. والاستضعاف قد يكون بالمعنى الظاهر البسيط، كما قد يكون بالمعنى العقلي المركب؛ كما أن طاعة السادة قد تكون جلية مباشرة، وقد تكون غير مباشرة أو بطريقة خُلفية. ويدخل في المعنى العقلي ما يتعلق بالسياسات الحاكمة، والأيديولوجيات المنتشرة، والعقائد المتصورة؛ سواء أكانت ذات صبغة دينية، أم كانت ثقافية عامة. وعندما تكون الشعوب موجهة، فإنها تفقد خصوصيتها الشخصية، وتصير في نظر نفسها بالصورة التي أُوهِمت بها؛ عند غسل أدمغتها وإقناعها بما يُراد منها. وهذه العملية من مسخ الهوية، لا تشعر بها الجماهير دائما؛ بل قد تصير حامية لها من الانكشاف والانفضاح، إذا اشتد انفعالها للتوجيه. وشعوب على هذه الشاكلة، لا يُرجى منها أن تقوم لها نهضة في التاريخ، أو أن تتفوق لها حضارة... ولعل لسائل أن يسأل: فما محل الدين؟ وهو هنا الإسلام دين الحق؟ ألا يكون هذا الدين حافظا للناس من المسخ، وممكّنا لهم من تبيّن مختلف سبل الإضلال؟!... فنجيب: نعم، في الوضع الأصلي، هذا يكون صحيحا؛ لكن هل المسلمون على يقين من أنهم على التديُّن الصحيح؟ وأنه لم يُتلاعب بإدراكهم لتفاصيل الدين، عبر كل هذه الأزمنة؟... ألم يمر على الأمة أصحاب الأهواء، من جميع الأصناف؟ ويتركوا بصماتهم الفكرية المغرضة على الشعوب المسلمة؟... إن النظر إلى التاريخ الإسلامي، وكأنه لم يعرض له من تحريف المحرفين، ومن إضلال المضلين شيء، يجعل الناظر من جملة المغفلين والمتلاعَب بإدراكهم... هذا الصنف من الضلال عن معرفة النفس (بالمعنى الجمعي)، هو غياب لما نسميه معرفة الإثبات؛ والذي هو من الصنف البسيط المـُعتمَد في جل التعريفات. ورغم خطورة (أهمية) هذا الصنف، ووخامة آثار غيابه على مصير الأفراد والجماعات، فإنه سيبقى أهون مما سنذكره الآن من إناطة معرفة النفس بالغير، والتي هي فرع عن صنف المعرفة بالسلب. والشعوب إذا بلغت من فساد شؤونها أن تكون معرفتها بنفسها ناتجة عن الشعوب التي تراها نقيضة لها، تصبح في أحط دركات التخلف. وهذه الآفة تكاد تكون عامة، لا يسلم منها شعب من الشعوب؛ لكن عندما تقع تحت تأثيرها الشعوب المسلمة التي يُفترض أن تكون على الهدى، فإن الأمر يصير أفدح وأشد سوءا، وأدعى إلى إعادة النظر والتمحيص. وعندما تفقد الشعوب نور الفرقان، تلجأ إلى تحديد معالمها عن طريق نقيضها؛ وهذا يُشبه حال الأعمى الذي يُدرك وضع بدنه عن طريق تلمسه لمحيطه، وتحديد مكانه منه؛ بحيث لو فرضنا أن المحيط يُحذف، فإن ذلك سيعود عليه بنقص في معرفة وضعه المباينة للمحيط في حقيقتها. ونعني من هذا، أن الشعوب المسلمة عند طروء الغفلة عليها، قد نقصت معرفتها بنفسها المعرفة الثبوتية المنوطة بها وحدها؛ وصارت في أحيان كثيرة، لا تُدرك من نفسها إلا ما يُخالف الأمم الأخرى، وإن كانت هذه المعرفة ناقصة لديها هي الأخرى. ولولا أن معرفة المسلمين باليهود والنصارى كانت ناقصة، ما كانوا يتبعونهم في أحوالهم ومعاملاتهم، بعد أن هداهم الله. وهذا هو ما يُشير إليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ!»[متفق عليه، عن أبي سعيد الخدري]. وعندما صارت معرفة الشعوب المسلمة منوطة بغيرها، فإننا لو فرضنا غياب الأمم المخالفة عنها، فإن الحيرة ستدخل عليها بسبب فقد المحددات الخارجية المعتمدة لديها. ولو نظرنا في المرحلة التي نعيشها الآن، لوجدنا تديُّن الشعوب الإسلامية يقوم على عداوة اليهود والنصارى، أو على عداوة كل غير مسلم؛ ولو بنسب متفاوتة... وإن هذه الشعوب تتخذ لها مناسبات يتغذى عليها تدينها المحرف، كما يحدث عند نشوب المعارك المتعاقبة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ونحن هنا، لا نقصد إلى عكس الحقائق، أو إلى تبرئة المحتلين من جرائمهم؛ لأن ذلك ثابت ولا سبيل إلى نفيه؛ ولكن نأخذ على المسلمين شدة فقرهم الإيماني، إلى الحد الذي لو لم يوجد من يعاديهم، لضلوا عن أنفسهم. وشعوب لا تعرف نفسها إلا عن طريق أعدائها، لا يمكن لأحد أن يخلع عليها من الصفات المعتبرة في التاريخ. وعلى هذا، فإن وعي المسلمين بأنفسهم في هذا الزمان، هو وعي زائف؛ يموت إذا غاب عنه التأثير الأيديولوجي والديماغوجي. ومن هنا نعلم حاجة هذه الشعوب المريضة إيمانيا، إلى الحركات الإسلامية النافخة في رماد إيمانها؛ والتي تقتات على عداوة الأعداء، وعلى منافسة الحكام، وعلى غير ذلك من المهيجات النفسية. نقول "النفسية"، لأن الإيمان لا يُكتسب من هذه الطريق، ولا يُنمّى بها... وهذا أيضا من دلالات انحراف التديُّن عبر الأزمان، الذي ننبه إليه دائما. على المسلمين حتى يكون وعيهم بأنفسهم وعيا ثبوتيا، أن يكونوا على إيمان خالص. ومعنى الإيمان ليس هو ما يعلمه الناس منه في حال إجماله ضمن مرتبة الإسلام الدنيا؛ وإنما هو طريق تتأكد فيه الصلة بالله تأكدا يقينيا، تنبني عليه كل معاملات العبد فيما بعد، وبالتالي تُعاد صياغة نظرته إلى نفسه وإلى العالم من بعده. وهذا الأثر العلمي الخطير، هو من نتائج النور الذي يحل في قلب العبد إذا كان على الصراط المستقيم. عند بناء العبد لإيمانه بالاتباع المشروع، لا يتوقف الأمر لديه على الأعداء في تحديد معالم شخصيته؛ بل هو يأخذ هذا العلم الثبوتي من الله شيئا فشيئا. ولا يؤثر في نظرته إلى نفسه أن يوجد له أعداء، أو أن لا يوجدوا؛ بل هو عند دخوله في مواجهة الأعداء، يكون منطلقا من أرضية إيمانه؛ لا من دافع حقده أو كرهه، أو غير ذلك من الصفات النفسية. ولقد فهم كثير من أهل الدين معنى العداوة المطالب بها المؤمن في القرآن، على غير وجهها؛ لذلك فلا بد من التوقف عندها بحسب ما يسمح به الوقت. فعندما يقول الله تعالى مخاطبا عباده: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، فإن المؤمنين ليسوا مطالبين بتتبع اللعين وبمطاردته، كما يُطارد العدو في العادة؛ لأن هذا يتطلب علما خاصا، ويستلزم وقتا وجهدا؛ وقد لا يتوافر ذلك لكل أحد؛ وهكذا سيضيع من الناس معنى هذا الصنف من المعاداة. وأما إذا تغافل المؤمن عن الشيطان، وشغل نفسه بطاعة الله ورسوله؛ فإن ذلك يحقق له هذه المعاداة بالتبع، لا بالأصالة؛ وهذا هو المعنى الذي ينبغي أن تُفهم عليه الآية التي انطلقنا منها. وعليه فلتُقس سائر العداوات الشرعية. فمعاداة أهل الكتاب المحاربين للإسلام، لا تكون عن طريق مقارعتهم إلا فيما ندر؛ بل تكون عن طريق مخالفة طريقهم. وهذا هو الأصل الذي دلت عليه السنة من مبدأ المخالفة المعلوم، لو كان الناس يعلمون. ولقد وردت نصوص من القرآن والسنة بوجوب مخالفة أهل الكتاب، قطعا لكل صلة بهم؛ وهو ما يجعل الارتباط التعريفي الذي تكلمنا عنه مشمولا فيها... وأما القتال المعهود، فيكون عند الضرورة لا دائما؛ ويكون بشروطه التي على رأسها الائتمار بأمر رباني. ونعني من هذا أن من يتصور أن دين الإسلام يقوم على صورة القتال المطلقة وحدها، فما علم الجهاد ولا علم بواعثه، ولا فقه مقصده وغايته. وحتى يُفهم عنا ما نرمي إليه، فينبغي أن نعلم حال القلوب المؤمنة: فهي عندما تبدأ في التنوُّر، تبدأ الصفات النفسية الظلمانية في الانحلال عنها. فإذا كمل تنورها، لم تعد تعامل في الوجود إلا الله، وتمتلئ حبا له تعالى. وإذا امتلأ القلب من محبة الله، فلا يجد محلا لبغض أحد ولا للاشتغال بمعاداته من حيث الأصل. ومع ذلك فإن هذا الصنف ممن كمل إيمانهم، يُشاركون في القتال المشروع إذا وجب، كما كان يُشارك الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن علينا أن نعلم أن قتالهم، لن يكون كقتال ضعفاء الإيمان، أو كمن غلب عليهم طبعهم وصفاتهم النفسية. فهم يُقاتلون بالله ولله، بحيث لا يرون فعلهم من أنفسهم، فيكونون في أعين أنفسهم أسبابا من جملة الأسباب. والأسباب لا مفاضلة فيها من وجه سببيتها، بل تكون المفاضلة عند نظر الغافلين إليها ونسبة التأثير إليها. وهو ما فر منه أهل العقائد العقلية، عند نظرهم في التوحيد، كما هو معلوم. وأما طبقة كاملي الإيمان التي تكلمنا عنها، فهي المرادة بقول الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17]. وعلى السائل أن يسأل الآن: هذا القتل الذي نفاه الله، هل نفاه حقيقة أم مجازا؟ وهنا ينبغي أن ننبه العباد إلى وجوب تصديق كلام الله، من غير إعمال للعقل القاصر؛ وهذا يعني أن النفي حقيقي ظاهرا وباطنا، وليس للصحابة من هذا القتل إلا النسبة. ومعنى هذا، أن الله عندما يكون هو القاتل لأعدائه في مظاهر أوليائه، فإن القتال يكون في مستوى الأسماء الإلهية؛ والعباد العاملون بالشريعة في القتال عن أمر إلهي، لا يُسألون عما فعلوا؛ بل يُؤجرون على كونهم مظاهر لنصرة الله (الله هنا هو الاسم الجامع). هذا فيما يتعلق بأعلى طبقة من المؤمنين، وهم الكمل؛ وأما من هم دونهم في المكانة، فيقول الله عنهم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14، 15]. والمعنى هو أن عوام المؤمنين، هم من كانوا يجدون الغيظ من الأعداء، حتى صارت قلوبهم كالمريضة من تلك العداوة؛ فجعل الله القتال الذي هو في الأصل تعذيب من الله لأعدائه بأيدي المؤمنين، شفاء لهؤلاء المؤمنين عند قصورهم عن الغياب عن شهود المغايرة. ولكل مقام مقال، كما يُقال... لكن الأهم هنا، هو أن لا تُجعل مرتبة العوام حجة على الخواص، كما يفعل ذلك كثير من الجاهلين. وهذا يُشبه الرخصة في الأحكام الفقهية: فهل تُعمّى الأحكام الأصلية (العزائم)، عند العلم بالرخص؟ هذا لا يقول به أحد من أهل العلم!... لذلك، فنحن ندل مسلمي زماننا، الذين تقتات قلوبهم العليلة على الحقد والكراهية، على نقص حالهم واختلاط نورهم، إن بقي لهم من نور. وندلهم بدل هذه الظلمة على طريق النور، الذي يجعل قلوبهم بعد تغذيها عليه، طاهرة نقية، لا تضمر شرا لأحد. فإن رأى بعضهم أنهم لا قِبل لهم بما ندلهم عليه، فليعلموا أنهم من عامة أهل الدين؛ وهذا يجعلهم ملزمين شرعا بالتأخر عن الصف الأول. وذلك لأن الأمة قد شهدت اضطرابا في صفوفها وفي ترتيب مراتبها، منذ القرن الأول؛ حتى ظن الجهلاء أن الأصل هو هذا الاضطراب. ونحن نقول -إدراكا منا للمرحلة الزمانية التي نعيش- لقد حان الوقت لإعادة النظام إلى صفوف الأمة، وإلى تقدم الربانيّين للصفوف، تَهَيُّؤا منا جميعا لاستقبال الخلافة الخاتمة، التي ستكون على منهاج النبوة في العلم وفي العمل. وعلى المسلمين -وفي مقدمتهم العلماء والحركيون- أن يتوبوا عما هم فيه من المخالفة للشريعة المتيقنة عندنا، وأن يستهدوا بهدي خلفاء النبوة في زمانهم، لعلهم يظفرون بما ظفر به الرعيل الأول من فضل. أما إن استمروا على هذا السوء، ظانين أن كرههم لليهود والنصارى سينفعهم عند الله، أو سيكون لهم عوضا عن إيمان فرطوا في تنميته بوسائله المشروعة، فإنهم سيكونون واهمين جدا؛ وسيُفيقون عند الموت على ما يسوءهم ويجعلهم يتحسرون أشد الحسرة على ما فاتهم. وما نريد أن نقوله بأوضح عبارة، هو أن الأمة الإسلامية ما زالت مطالبة بالنظر في صلاح نفسها، قبل الدخول في الصراعات مع غيرها؛ لأنها الآن عدوة نفسها. ومن كان عدوا لنفسه، فلا معنى لمعاداته لغيره!... تطبيقات فيما يتعلق بالمواجهة الفلسطينية الإسرائيلية: 1. لقد أخطأ الإسرائيليون باقتحامهم لحرم المسجد الأقصى، وهم يظنون أن ذلك الفعل سيمر بسلام. ولقد كان عليهم أن يعلموا أن النساء (والأطفال) في فلسطين، يسبقن الرجال في الحؤول دون تدنيس الحرم، ولو كان الثمن حياتهن جمعاوات. 2. إن إسرائيل أدركت مغامرة حماس بالشعب الفلسطيني، الذي لو ردت عليه بصواريخها لمات منهم العدد العديد. وهذا كان سيجعلها في نظر المجتمع الدولي شبيهة لهتلر في زمانه، وهو من تكرهه أشد الكره. 3. وهذا يعني أن المقاومة الفلسطينية لم تنتصر على إسرائيل، لسببيْن: الأول، لأن العدو لم يبطش بطشا غير محسوب العواقب؛ والثاني، لأن الفصائل المقاومة ليست على إيمان أصلي يرفعها عند الله؛ بل هي على أيديولوجيا إسلامية، غير معتبرة عنده سبحانه؛ بل هي -علم أصحابها أم لم يعلموا- انحراف عن صحيح التديُّن. 4. والواجب على المسلمين الآن، بدل إعلان السرور في غير محله، أن يعودوا إلى أنفسهم، من أجل تصحيح تديُّنهم؛ لأن المـُضِيّ على ما هم عليه، سيكون دليلا على إعراضهم عن الحق وعلى اتباع هواهم صراحة. والمناسبة جيدة، لاتخاذها مدخلا إلى هذا العمل الرشيد، إن كنا جميعا نتغيّى مرضاة ربنا. 5. نورد هنا فهما للشيخ الأكبر رضي الله عنه في مسألة نُصرة الله للمؤمنين، انطلاقا من قول الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، أي حقا أوجبناه على نفسنا. لكن الشيخ الأكبر يقول: الإيمان المذكور في الآية مطلق غير مقيد. وبما أن كلا الفريقيْن المتحاربيْن (في المثل السابق) لهما إيمان يخصهما، فإن التفريق يكون بالنظر إلى المتعلقات، لا إلى المعنى العام. وقد بيّن الله لعباده في كتابه، أن الإيمان كما يكون بالله، فكذلك يكون بالطاغوت (الطاغوت هو ما طغى على عين البصيرة حتى عاد حاجبا لها عن ربها). وقد ذكر الله صنف الإيمان المعتبر عنده تعالى، في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]. وأما الصنف الآخر المعتبر في الترجيح عند إرادة النصرة، فهو الكفر بالله والإيمان بالطاغوت. وليلاحظ القارئ هنا، أننا لا نتكلم عن السعادة الأخروية، ولا عن الحكم بالجنة أو بالنار؛ وإنما نحصر الكلام في نصر صنف من الإيمان على صنف آخر، عند المواجهة بينهما في الدنيا. ففي هذه الظروف، ينظر الله إلى أقوى الفريقيْن إيمانا، لا إلى أصحهما إيمانا. وعلى هذا، فإن كان الكافرون بالله المؤمنون بالطاغوت أقوى إيمانا، من إيمان المؤمنين بالله الكافرين بالطاغوت، عند طروء الضعف على هذا الصنف الأخير، كما هي الحال في زمن الفتنة الذي نعيشه؛ فإن النصر من عند الله سيكون حليف الكافرين. وهذا مما لا يعقله علماء الدين، بسبب توهمهم انقطاع الكافرين انقطاعا من جميع الوجوه عن الله؛ وهو ما لا يصح. ودليل ما نقول من القرآن هو قول الله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]. وتثنية لفظ "هؤلاء" هو للدلالة على حزب الله، وعلى حزب الشيطان. والحزبان معا يستمدان من الله. ومعنى قول الله: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}، هو أن الأمر لا يكون موافقا لرأي القاصرين من علماء المؤمنين المتوهمين بأن الله يُهمل عباده الكافرين إهمالا تاما ومن كل وجه؛ وهو سبحانه يُصحح لهم فهمهم حتى يوافقوا الحق. والخلاصة، هي أن أقوى الفريقيْن إيمانا بما يؤمن به، هو من يكون حقا على الله نُصرته؛ وإن كان كافرا. وبما أن هذا الأصل مجهول لدى علماء المؤمنين، فإنهم إذا تحقق النصر للكفار عليهم، تدخل عليهم الحيرة، ويتساءلون: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ وكان الأجدر أن يسألوا: من أقوى الفريقيْن إيمانا بما يؤمن به؟ ولو تتبعوا الجواب، لعثروا على مكمن الاستنصار. وعندما كان "الإخوان المسلمون" في مصر، يربون أتباعهم تربية أيديولوجية ديماغوجية، فهم عندما انهزموا، شكوا في دينهم، وألحد كثير منهم، من الشباب على الخصوص. ولم نر أحدا من علماء الدين، يعمل على استجلاء هذه المسألة، من باب الحفاظ على إيمان المؤمنين؛ بل رأيناهم يُهملونها، ويقعون باللائمة على الشباب المساكين الذين احترقت قلوبهم بنار الحيرة التي زادها تنكر القادة إلهابا، فأتت على ما تبقى من إيمان لدى الشباب. ولقد كان يجدر بالعلماء أن يتناولوا المسألة، من باب العلم بالآية من سورة الروم؛ حتى لا يُكذِّب الناس ربهم، عند جهلهم بالتفاصيل الضرورية التي نبهنا إليها في هذا المقال. 6. وحتى نفهم أسباب هزائم المسلمين السابقة على أيدي الإسرائيليين، فعلينا أن نعلم أن إيمان المسلمين بالحق، كان أضعف من إيمان اليهود بالباطل، فاستحق بذلك اليهود النصرة. وكل من لا يتنبه إلى ضرورة المقارنة بين الصنفيْن من الإيمان في الدنيا، فإنه سيبقى على حيرة في دينه. وهذه الحيرة تزيد من ضعف إيمانه، إلى ما لا يعلمه إلا الله من دركات، قد يبلغها الناس باتباعهم طريق الجهل، وبتقليدهم للجهلاء الذين يخلعون عليهم صفة العلم تحكما. 7. نحن ما زلنا نرى إيمان المسلمين ضعيفا، وما زلنا نرى الجماعات الحركية المقاتلة على أيديولوجيا في معظم أمرها، لا على إيمان؛ لذلك، فنحن لا نقول بانتصار أحد على الإسرائيليين في هذه الأيام؛ رغم مسارعة الجهلاء إلى إثبات ما لا يلبث أن يزول. والذي ننصح به إخواننا في الدين، إن كانوا يريدون إمالة الكفة إلى صالحهم، هو أن يعودوا إلى سبيل الإيمان، بعد نبذهم للأيديولوجيا الإسلامية، التي قد أضرت بالأمة ضررا بالغا. وليتأملوا قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، وليفهموا أن اتباع غير سبيل المؤمنين لا يكون دائما الكفر التام؛ وإنما قد يكون إحلالا للفكر محل الوحي عن جهل، أو اعتمادا على الرأي بدل النور عن عدم ذوق، كما هو شأن الجماعات الحركية، أو رفعا لقول أحد الأئمة على قول الله ورسوله جهلا، أما إن كان عمدا فهو كفر. وعلى هذا فلتُقس كثير من أقوال الفرق والجماعات الإسلامية، عند العرض على القرآن والسنة بشرط النور. أما إن كان الناظر في القرآن والسنة لا نور له، فإنه سيعود من ظلمة إلى أخرى؛ وسينتقل من ضلالة إلى أخرى فحسب. ولن ينفعه أنه منطلق في فعله من الوحي، كما يتوهم المتوهمون!... ونحن نظن أننا قد سلحنا المسلمين في عصرنا، جماعات أو أفرادا، بما يُخرجهم من ضعف الإيمان ومن الحيرة المنجرة عنه؛ وبما يُخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الفهم. فمن عمل بما دللناه عليه، ووجد خير ذلك، فليحمد الله، وليعمل على إشاعة الخير في محيطه الإسلامي، حتى يُكتب عند الله من الشاكرين لأنعُمه. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.