اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/11/11 ضرورات الحوار العالمي لقد تكلمنا سابقا، عن حوار الحضارات، بعكس من تكلموا عن صراعها (ص. هنتنجتون)؛ لأننا نعلم أنها تعود إلى أصل واحد، وإن لم يتبيّن ذلك الكثيرون. ولسنا هنا لندلل على صواب كلامنا، فذلك مجاله أوسع من هذه المقالات؛ ولكننا نقصد إلى تناول ما هو مباشر ومتصل بالأحداث التي يعرفها العالم، لعلنا نُسْهم في بناء الجسور الضرورية لذلك الحوار، بقدر ما... ولا شك أن الحوار، تتعدد وجوهه بتعدد المتحاورين؛ ومن هنا تنشأ خصوصية الضرورات. وبما أننا لن نتناول كل المتحاورين، بسبب كثرة عددهم؛ فقد ارتأينا أن نبدأ -مراعاة للظروف التي نمر بها وللجغرافيا التي نتواجد ضمنها- بما هو متعلق بالضفتيْن الشمالية والجنوبية، للبحر الأبيض المتوسط. ولذلك سنذكر باختصار، ما يتعلق بالأوروبيين من الضرورات المؤهلة للحوار؛ ثم نعقبه بما يتعلق بدول شمال إفريقيا، بعد ذلك. نفعل هذا، ونحن نعلم أن الإسقاطات، لا بد من أن تتعدى إلى العالم الغربي كله من جهة، وإلى العالم الإسلامي كله من جهة أخرى... ما يتعلق بضفة الشمال: 1. نحن نلاحظ أن الدول الأوروبية، بخضوعها للأحزاب السياسية المختلفة، في جل الأمور، قد نزلت فيما ترتضيه لنفسها، دون ما يُتيحه لها المجال الأكاديمي، الذي كان يجدر أن لا يُغيَّب إلى هذا الحد. والسياسيّ، ما كان ينبغي له أن يصير قائدا لأمم عريقة وحده؛ وكأن العقل الأوروبي -غير التكنولوجي- لم يعد له مكان في الحياة العامة. وأما من كانوا يظنون -من الأوروبيين- أن التقدم التكنولوجي، سيكون هو العامل الحاسم في الحوار الحضاري، فإننا نحيطهم علما، بأن الحضارات في أصلها لا تكون مادية إلا في أحد شقّيْها. وهذا يعني، أن الأوروبيين، سيكونون مؤهلين لشطر من الحوار، لا لكله. وهذا هو القصور، الذي ينبغي لهم أن يُدركوه، ليتداركوه فيما بعد، بما يرونه مناسبا لهم. 2. إن العقل الأوروبي النمطي -غير العالم- ما زال لم يتخلص من نظرة الاستعلاء، التي ينظر بها إلى شعوب الجنوب؛ وهذا عندنا، جهل من الأوروبيين بأنفسهم، قبل أن يكون جهلا بغيرهم. وذلك، لأن البشرية تعود إلى أصل واحد، ينبغي أن لا يغيب اعتباره عن الأذهان. والمسألة لا تتعلق هنا، بالتقدم التكنولوجي وحده، كما أسلفنا؛ ولا بالحضارة، كما هي متعارف عليها هناك؛ بل بمدى اعتبار الهامش التكميلي لكل ذلك، والذي قد يتسع أو قد يضيق. ونعني من هذا، أن الأوروبيين -كغيرهم- ينبغي أن يعتبروا أن الأشياء المـُدركة لهم، قد تكون بخلاف ما يُدركون؛ أو أن بعضها قد يكون غير مـُدرَك لهم من الأصل. وهذا يستوجب منهم التريّث، قبل إصدار الأحكام؛ ويستوجب أيضا تعلُّم الإنصات إلى المخالف، إنصاتا حقيقيا. ونحن نلاحظ، أن الخطاب السائد هناك، ما يزال سطحيا، ومتعجّلا؛ أي لا يعتبر إلا ما يدخل ضمن "السياسة"، والذي لا يتجاوز مداه بضع سنوات. وهذا يعني، أن الخطاب الحضاري بعيد المدى، سيبقى خارج التناول، وخارج الإدراك؛ وهو ما لا يؤهِّل للحوار المنشود. 3. إن أوروبا -بخلاف فرنسا- ما زالت في معظمها نصرانية؛ وهو ما يجعل رجال الدين لديها معنيّين بالحوار. ونعني برجال الدين هنا، علماء اللاهوت على الخصوص، لا كل "محترف" للدين. وبما أن الفاتيكان، يوجد ضمن الجغرافيا الأوروبية، فإن عليه أن يقوم بما عليه من التنسيق داخل أوروبا، من أجل تنشيط الحوار الشمالي-الجنوبي، من هذا الوجه. ويُمكن أن ينضاف إلى رجال الدين المؤهلين، الفلاسفة الأوروبيون المعنيّون أيضا؛ ضمن جبهة واحدة، متكاملة، وإن لم تكن متجانسة. نقول هذا، لأن استقلال العقل عن الدين في أوروبا منذ قرون، قد كانت له تبعات جمّة، طبعت السياسة والاجتماع الأوروبيَّيْن. وقد لاحظنا نتيجة لذلك عند الفرد الأوروبي، ضعفا في الجانبيْن؛ فلا هو أدرك كمال العقل، ولا هو بقي على تديّن صحيح. ولا شك أن مجاوزة الأوروبيين في النظر، لهذه الأصول، ستكون منهم هروبا من أنفسهم: من واقعهم ومن ماضيهم ... ولا شك أن الأمر يتطلب جدية أكبر منهم، ويتطلب حسما؛ قد يكونان مفيدَيْن في الحاضر وفي المستقبل... 4. نحن نلاحظ أن الأوروبيين في معاملتهم لدول الجنوب، لا يتجاوزون في اعتباراتهم المصالح الاقتصادية والهيمنة السياسية (الاستتباع). وهذا أمر، لا يليق بمن يظن لنفسه الأهلية للحوار الحضاري العولمي، الذي صار حتمية لا مفر منها. وإن هذا العَرَج في المعاملة، لن يكون في مصلحة الأوروبيين على المدى البعيد؛ لأن أحوال الجيران، لا بد أن تنعكس سلبا أو إيجابا عليهم، عاجلا أم آجلا. وهم في هذا، كجار يُسيء معاملة جاره، ويخرب حديقته، إلى غير ذلك مما هو معلوم من علاقات الجيران... لكن الزمن يسير؛ ومن كان ضعيفا بالأمس، قد يُصبح قويا في الغد؛ ومن كان فاقدا للنصير، قد يجده؛ وقد تنعكس الأمور ويُصبح المسيء مساءً إليه، إن جوزي بمثل معاملته. ومن ظن أن العلاقات الدولية، تختلف كثيرا عن المعاملات بين الأفراد، فلا يعدّ نفسه مؤهلا للخوض في علم السياسة أبدا!... وإن أوروبا، لم تكتف باستعمار دول الجنوب فيما مضى؛ بل هي مصرة إلى الآن على تدبير شؤونها بطريقة غير مباشرة، وكأن شعوب الجنوب لا رأي لها في المسألة!... لا يُمكن أن نقبل من السياسيين الأوروبيين اعتبارهم لشعوبهم (نسبيا)، مع عدم اعتبار الشعوب الأخرى في الوقت ذاته؛ لأن هذا ببساطة غش للنفس، واحتيال على الآخرين. ولا يسلك سبيل الاحتيال إلا من يكون ناقص العقل، عديم الأخلاق. والحوار في أصله، مُنْبَنٍ على الأخلاق، قبل أي شيء آخر!... ما يتعلق بضفة الجنوب: 1. إن طغيان اعتبار الدولة القطرية، على وحدة الأمة (العربية على الخصوص)؛ إلى الحد الذي يبلغ إعلان العداوة بين دولتيْن، من دون سند معتبر؛ تاريخي أو ديني أو عرقي؛ ليس إلا دليل تخلف من جهة، ودليل تبعية للخارج من جهة أخرى. وكل دولة تكون تابعة للخارج، فهي عدوة لنفسها، قبل أن تعادي غيرها؛ لأنها تلغي وجودها الفعلي الخاص، بعكس ما تعمل له جميع دول العالم. وإن اجتماع دول شمال إفريقيا، تحت سقف الإسلام، يحتم عليها أن تُسبقه في الاعتبار على كل ما يُمكن أن يفرق بينها، كالعرق والثقافة وغير ذلك. وعلى هذا، فإن الدعوات التمزيغية (لا الأمازيغية)، ليست اليوم إلا دعوات معاكسة لخط التاريخ، ومجافية لحتمية الجغرافيا. وهي إن استُجيب لها، لن تصب إلا في مصلحة الأعداء. ولعل لسائل أن يسأل: كيف تتكلمون عن الحوار، وفي الآن ذاته توردون مصطلحات منافية كـ "العداء" و"الاستتباع" وغيرهما؟ فنقول: نحن عندما ندعو إلى الحوار، لا نفعل ذلك ونحن نعيش في عالم الخيال؛ فيكون حوارنا منفصلا عن الواقع المـَعيش؛ بل نحن ننظر إلى الواقع بسلبياته وبإيجابياته، لنُطوِّعها خدمة للحوار. وهذا -لا شك- يتطلب إدراكا خاصا لمـُختلِف الأمور، ويتطلب علما بمآلاتها. نقول هذا، حتى لا نقع في استنساخ صور الحوار المـُعتمدة قبل الآن، من قِبل جميع الأفرقاء؛ والتي لم يكن الحوار فيها إلا شكليا وصوريا، تُبيِّت أطرافه، لِما لا يمكن أن يكون أساسا له بوجه من الوجوه!... 2. إن عناية الأنظمة الحاكمة لدول الجنوب، بشيء واحد: هو استمرارها فقط؛ من دون اعتبار للشعوب من الناحية المادية (العدالة الاجتماعية)، ومن الناحية المعنوية (الوجدان والطموح)؛ لا تجعلها تُحسب على شعوبها إلا مجازا. وذلك، لأنها تقوم بوظيفة الوكيل والمدير، لا بوظيفة الراعي والمربي (بالمعنى الواسع). وهي بهذه الصفة، سائرة إلى نهايتها، أدركَت أم لم تُدرِك. ولو أنها كانت تعتني بالاستراتيجيا، لجعلت من أولوياتها، العمل لما هو مستمر في الزمان؛ بدل العمل على المـُنقطع!... وإن توهُّم الأنظمة، بأن الأمر سيستمر على الشاكلة ذاتها، إلى الأزل؛ في نظرة مخالفة للعقل وللدين؛ لا يجعلنا نستبشر خيرا على المدى المتوسط قبل البعيد. وذلك لأن الشعوب المستغفلة اليوم، قد تفيق من غفلتها غدا؛ ومن كان مهيض الجانب اليوم، قد يُصبح في عزة ومنعة مستقبلا... والأيام دُوَل!... وكل نظام، لا ينصهر في شعبه، بحيث يكون معبرا في كل شؤونه عن خصوصيات الشعب حقيقة، فليترقب زواله عن قريب!... 3. وبما أن الدين السائد في الضفة الجنوبية، هو الإسلام؛ فلا شك أن الكلام سيجرنا حتما إلى الفقهاء الرسميين، الذين ما عادوا يُشبهون إلا "رجال الكنيسة" الأوروبيين، في مساندتهم للإقطاع زمنَ عصور التخلف العام. وهو الشيء الذي سارع بإقصائهم من الحياة العامة، من غير ظلم لهم. ونعني بكلامنا، أن فقهاءنا، الذين يزعمون أنهم يدلون الناس على الدين، لا بد أن ينتهي بهم الأمر، إلى ما انتهى بنظرائهم هناك، إن استمر الوضع على ما هو عليه؛ من جمودهم على مقولات دينية متجاوزة، ومن غياب لهم عن الواقع المعاصر بكل تفاصيله المعقّدة والمركّبة. وقد يتعجّل أحدهم في مخالفتنا، وهو يُشير إلى فلان أو آخر من فقهاء العصر؛ يبغي دحض مقولاتنا، فنجيب: نحن لم نر فقيها من أهل عصرنا، جديرا بهذه الصفة إلى الآن!... وإن كان الناس يرون أن من يستحضِر أمامهم النصوص الدينية، أو أقوال الأئمة السابقين فقيها، فنحن لا نراه كذلك؛ ونرى الناس مخطئين في التعريف. وهم يخلطون من غير شك، بين صنفيْن من المنتسبين إلى العلم، لا بد للناس من إحسان التمييز بينهما، وهما: الفقهاء بالمعنى الأصلي الشرعي، والحاملون للفقه. وجل من يظنهم الناس فقهاء في زماننا، هم حاملو فقه، لا فقهاء. ولقد شبه القرآن الحملة بالحمير، في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]؛ ليدل على أن العلم المحمول يبقى منفصلا عن عقول الحاملين؛ كما يبقى الكتاب كتابا في نفسه، والحمار حمارا. ومن توهّم أن صفة "حمير العلم"، محصورة في أحبار اليهود، فليعلم أنه لا يفقه الخطاب القرآني؛ وليعلم أن الصفة مستمرة في كل أمة من الأمم الكتابية. وأما التكذيب بالآيات المذكور في الآية، فهو عدم مطابقة العمل لحقيقة العلم؛ لا التكذيب العام الذي يكون صفة للكافرين. وهذا يعني أن الفقهاء الحمَلَة، يكونون مكذبين لكثير مما يحملون؛ عن علم أو عن غيره. ولا نُخفي هنا، أن جل ما تعاني منه أمتنا في عصرنا من مصائب متنوعة، هو من وراء الفقه السقيم، الذي يلوكه الحملة، من غير أن يردعهم رادع. ولسنا نعني بالرادع هنا، إلا الحكام، الذين كان ينبغي أن لا يستثمروا جهل الفقهاء وجشعهم، من أجل تثبيت حكمهم الذي لن يطول، مستهينين في الآن ذاته بمصير شعوب بأكملها، قد فقدت البوصلة دنيويا ودينيا من أثر ذلك كله!... وهذا يعني أن الأزمة لدى شعوب الجنوب مركّبة: تتعلق في شطرها بنظام الحكم، وتتعلق في الشطر الآخر بالفقه المعتمد. وكل تجاهل لأحد الوجهيْن، هو إخلال بالتناول؛ لدى المتناوِلين. ومن لم يُصلح ما به، لا يُمكن أن يكون مؤهَّلا لمحاورة غيره؛ وإن بدا له الأمر على خلاف ما نقول، لوقت قصير!... وإن كان التجديد الديني (وهو أوسع من التجديد الفقهي) ركنا من أركان ديننا (على الناس أن يُميّزوا هنا بين أركان مرتبة الإسلام، وأركان الإسلام بما هو دين)، فإننا نراه في زماننا محارَباً، وكأنه من البدع المتيقَّنة؛ لا لشيء، إلا لأنه يُخالف مصالح النُّخب السياسية والدينية، المستثمرة لتخلُّف الشعوب. ونحن على علم -بحمد الله- بضرورة هذا التصدي للتجديد من جهة القدر، الذي يحكم على الأمة بأن يعود فيها الدين غريبا كما بدأ؛ ولكن كلامنا هنا، هو من جهة التأصيل العلمي، والتأسيس لعودة التجديد من جديد؛ وليس هو من جهة تقييم الواقع. لن نسلك في سبيل الدلالة على ضرورة التجديد، مسلك الوعظ، وهو غير مجد مع القلوب الغافلة؛ ولن نُلزم أحدا بذلك، ونحن من طبقة المحكومين لا من الحاكمين؛ ولكن في مقدورنا أن نَذكُر لفقهاء الزمان النتيجة غير البعيدة، والتي لا تخرج عن احتماليْن: فإما أن يعودوا إلى الجادة، بعد إعلان التوبة عما هم فيه، ليصل إلى العامة نبأ توبتهم، فيتوبوا بتوبتهم؛ وإما سيصيرون أول أعداء للشعوب، عند استفاقتها مما هي فيه من جهل ومن تخلّف. وعندئذ، لا نضمن ما سيعانيه الفقهاء من سوء المـُنقلَب، والذي سيكون -من غير شك- أكبر بكثير، مما يحذرون من حكامهم الآن!... ولا يفوتنا هنا، أن نميِّز بين ما ندعو إليه من تجديد حقيقي، وما صار إليه بعض الضالّين من أبنائنا؛ الذين يطعنون في السنة النبوية المطهرة، وفي أئمة الهدى المتعاقبين في الأمة. بل نحن نرى أن هذا التيّار الهدام، ما ظهر في الأمة إلا نتيجة للفقه الضّار. ونحن بكلامنا النقدي، لا يتصوَّرْ أحد أننا نقبل الطعن في الثوابت؛ لأن غاية ما نرومه، هو تجديد الفقه في القرآن والسنة، مع تأكيد الالتزام بهما التزاما تاما. فليُعتبر هذا، من قِبل جميع الناظرين في كلامنا!... 4. وأما الشعوب لدينا، فهي بعكس الشعوب الأوروبية، التي لا تنتظر إلا من يقودها؛ عليها أن تعود إلى نفسها، من أجل استعادة آدميتها المسلوبة منها عبر القرون. وعليها أن تتعلم كيف تُجبر القائمين عليها، بالتزام خدمتها، بدل أن تكون هي الخادمة!... أمامها، دون بلوغ تحقيق ما نقول، مسار طويل وشاق؛ إن لم تكن من العقل بحيث تسلك هي من نفسها سبيل الكرامة، فإن المصائب المتتالية عليها، والتي ستذهب بدنياها، وفي شطر منها بدينها؛ كفيلة بأن تجعلها تطلب الآخرة مـُضطرة؛ حتى لا تخسر الأمريْن معا، ودائما... وأول ما على الشعوب أن تفعله، هو الانعتاق من الفقهاء الذين لا يختلفون عن تجار النخاسة في الأزمنة الماضية، في كثير مما هم عليه؛ من دون أن تتخلى عن الدين، في الوقت ذاته. بل على العكس من ذلك، عليها أن تجِدَّ في استعادته في صورته السليمة الأصلية. ولا نشك نحن، مع ما ذكرناه عن الفقهاء المترسمين، من وجود فقهاء مخلصين، يقومون بوظيفة الدلالة على الطريق، دلالة صحيحة، وخالصة لوجه الله. فعلى الشعوب أن تتحراهم بين الناس، وأن تُقدِّمهم بعد أن أخَّرهم أئمة الفتنة، لمدة قرون... وبعد أن تتحقق الشروط -ولو نسبيا- لشعوب الشمال والجنوب جميعا، يمكن عندئذ الكلام عن حوار للحضارتيْن، بجدية. وأما الآن فلا زال الفريقان -وبالأخص الشمالي- يتلمسان خصوصيات الوضع، بالمقارنة إلى المراحل الزمانية الماضية. وهنا لا بد من القول: إن المرحلة الزمانية التي نعيش، لا تشبه أي مرحلة ماضية على وجه الشمول، وإن شابهت في بعض الجزئيات. وهذا ينبغي أن يجعل الناظرين الآن، يمرون بعد عملية التشخيص، إلى "الإبداع" مباشرة؛ وإلا فإنهم سيعيدون إنتاج الأزمة مرة أخرى، في صور أخرى فحسب... إن ما نقوله هاهنا، هو من أبجديات العولمة، التي يُكثر الناس عنها الكلام من الضّفتيْن، من غير أن يُدركوها على حقيقتها. وليأخذ عنا الناس في هذه الخاتمة المكثَّفة، عبارات مفتاحية موجزة، نرجو أن تجد منهم من يعتني بها: - الإقصاء، فعل عائق للمُقصِي عن حوار الحضارات، لا للمـُقصَى وحده. ... والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.