اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2023/02/01 شذرات مما يتعلق بموقعة صفين من أحكام وآيات (12) (تابع) 12. خاتمة: لقد حرصنا أن يكون هذا الكتاب شذرات، تشير إلى جوانب معركة صفين، وإلى ما نتج عنها وتولد، عبر كل التاريخ الإسلامي. ولقد تعمدنا ألّا نكثر من إيراد الروايات التاريخية، حتى لا نغرق فيها، ونفقد الخيط الناظم للأحداث. ولعل القارئ قد تيقن أننا لسنا نميل إلى جهة بعينها، وبالتالي لا نريد نصرة جهة على أخرى؛ لأننا لو فعلنا ذلك، لَكُنا مطيلين في عمر الفتنة الكبرى، التي لم تخرج منها ومن تبعاتها أمة المسلمين، إلى اليوم. وبما أن طرفَيْ الأمة المعتبرَيْن، ينطلقان فيما يُؤسّسان له من أيديولوجيا، من مقولات تاريخية ومرويات، قد تصح وقد لا تصح، فإننا نرى أنه لا بد من الكلام قليلا عن كيفية الأخذ بتلك المرويات، من باب ضبط المنهجية، قبل أي شيء آخر... ولنبدأ بما يقع فيه أهل السنة في هذا المضمار، حتى نبيّن ما ينبغي تبيينه مما يُبنى عليه فيما بعد. ولنكتف بهذا النموذج الآن: - عن عبد الله بن عباس عليهما السلام، قال: "كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمـُهَاجِرِينَ، مِنْهُمْ عبدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبيْنَما أَنَا في مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وهو عِنْدَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، في آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، إِذْ رَجَعَ إلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أتَى أَمِيرَ الْمـُؤْمِنِينَ اليَومَ، فَقَالَ: يا أَمِيرَ الْـمُؤْمِنِينَ، هلْ لَكَ فِي فُلَانٍ، يقولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا؟! فَوَاللَّهِ ما كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ. فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- لَقَائِمٌ العَشِيَّةَ فِي النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ.": عمر رضي الله عنه هنا، يريد أن يحذّر الناس ممن يتكلم في شؤون الخلافة، وكأنها أمور تعود إلى الأهواء الشخصية؛ بحيث كل واحد (أو كل جماعة)، يوطن نفسه على الانتصار لشخص بعينه، إن انقضت مدة الخليفة القائم؛ والذي كان عمر نفسه، في هذه الواقعة. "قَالَ عبدُ الرَّحْمَنِ: فَقُلتُ: يا أمِيرَ الْـمُؤْمِنِينَ، لا تَفْعَلْ؛ فإنَّ الْمـَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ؛ وَإنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ علَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ في النَّاسِ. وَأَنَا أَخْشَى أنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وأَنْ لا يَعُوهَا، وَأَنْ لا يَضَعُوهَا علَى مَوَاضِعِهَا. فأمْهِلْ حتَّى تَقْدَمَ الْـمَدِينَةَ، فإنَّهَا دَارُ الهِجْرَةِ والسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بأَهْلِ الفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ ما قُلْتَ مُتَمَكِّنًا؛ فَيَعِي أَهْلُ العِلْمِ مَقَالَتَكَ، ويَضَعُونَهَا علَى مَوَاضِعِهَا. فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ -إنْ شَاءَ اللَّهُ- لَأَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بالْمـَدِينَةِ.": يقوم ابن عوف هنا، مقام المستشار العليم، الذي يعلم كيفية تناول الحاكم للأمور العامة على الملأ، ويعلم زمانها المناسب لها. وهو رضي الله عنه، قد خشي أن يقول الخليفة عليه السلام مقالة، يأخذها عنه الغوغاء على ظاهرها، ويُذيعونها في أطراف بلاد المسلمين، حيث يندر وجود الخبراء بالسياسة الشرعية؛ فيفهم كلٌّ منهم ما يشاء أن يفهم، ويعمل وفق ما فهم فتحدث الفتنة. وسنرى أن ما خشيه ابن عوف، هو ما وقع، رغم الاحتياط. "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمـَدِينَةَ فِي عُقْبِ ذِي الحِجَّةِ، فَلَمَّا كانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ؛ حتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ جَالِسًا إِلَى رُكْنِ الْمـِنْبَرِ، فَجَلَسْتُ حَوْلَهُ تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلًا، قُلتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: لَيَقُولَنَّ العَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ! فَأَنْكَرَ عَلَيَّ وَقَالَ: ما عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ ما لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ؟!... فَجَلَسَ عُمَرُ علَى الْمـِنْبَرِ، فَلَمَّا سَكَتَ الْمُـؤَذِّنُونَ قَامَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِما هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فإنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أقُولَهَا، لا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي، فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ؛ وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لا يَعْقِلَهَا فَلا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ!: إنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا. رَجَمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَجَمْنَا بَعْدَهُ. فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ ما نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ في كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ. وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كانَ الحَبَلُ، أَوِ الِاعْتِرَافُ.": وقد وقع ما خشيه عمر على الأمة: فإن جلّ فقهاء المسلمين اليوم منكرون لحدّ الرجم. ويستدلون بما تمليه عقولهم القاصرة، من كون التشريع الإسلامي رحمة، ولا يُمكن أن يتضمّن الرجمَ لما فيه من قسوة؛ وهم ما علموا الرحمة المطوية في الرجم، ولا علموا العذاب المنطوي في تركه. كل هذا، يتخذه الخليفة عمر، تمهيدا لما سيتكلم عنه من شؤون الخلافة. ولكنّ العاقل لا بد أن يتبيّن الخيط الناظم للكلام، وهو العودة في كل الأحكام إلى الله ورسوله، لا إلى الآراء... ولا بد هنا من توضيح مسألة كون آية الرجم من القرآن الذي كان عمر وغيره يقرأونه. فإذا نظرنا اليوم إلى القرآن، فإننا نجده لا يتضمن الآية المذكورة. وهذا، ما جعل بعض المتربصين يقولون: إن هذا القرآن الذي بين أيدينا الآن، ليس هو القرآن المنزل كله. وبهذه الحجّة، يُريد كل ذي بدعة، زَعْم أن بدعته من القرآن الذي أُسقط. ولقد وقعت الشيعة في هذه الآفة، حتى أنكرت منهم طائفة كل القرآن المعلوم. ولقد عم أثر هذه الآفة الشيعة جُلّهم، إلى الحد الذي نجدهم معه لا يعتنون بقراءة القرآن ولا بدراسته. فهم يقرأون -مضطرين- الآيات على غير وجهها، لفظا وإعرابا، ولا يرون أن ذلك يُنقص من حجّتهم. وهذا خلل كبير ينبغي أن يتداركوه!... والحق في المسألة، هو أن القرآن المجموع في المـُصحف اليوم، هو القرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وتكفّل بحفظه. فإن كانت بعض الآيات مما يُقرأ ثم حُذفت، فهو من النسخ الذي يفعله الله ورسوله وحده، لحكمة يعلمها. وليس لأحد من الناس أن يزيد أو ينقص في القرآن من تلقاء نفسه، كائنا من كان. ولعل هذا الصنف من النسخ، هو النسخ الوحيد الذي نُقرّ به في القرآن؛ وأما غيره مما يذكره العلماء، فلا نقرّه؛ ونجد لكل آية من النواسخ والمنسوخات بحسبهم، وجها في التفسير يُخرجها عما زعموا. وعلى كل حال، فليس هنا مجال التفصيل في هذا؛ ولكنها إشارة رأيناها ضرورية، عند تناولنا لكلام عمر رضي الله عنه... الرغبة عن الآباء، هو إنكار النسب إليهم؛ وهذا كفر حقيقيّ، لأنه تغطية على النسبة، وجعلها في حكم العدم. وعلى هذا، فإن الانتساب إلى الآباء واجب، وينبغي أن يصدق فيه الناس، وإن كان آباؤهم ممن ينفر الناس من ذكرهم في العادة، لسوء فيهم، أو لغير ذلك... وقولنا في هذه الآية، هو قولنا في سابقتها؛ لا فرق. وليعلم من يظنون أنفسهم حريصين على المنهجية العلمية هنا، أن المنهجية لا تحكم على أصول الإيمان. ونعني أن ما ورد عن الله ورسوله، من قبلُ أو فيما بعدُ، لا يسع العبدَ فيه إلا التسليم؛ لا الدخول في التحقيق والتمحيص. وهذا، لأن الله يمتحن عباده في عقولهم، لينظر: هل العبد راجع في إيمانه بربه إلى عقله؟ أم هو عائد إلى ربه ذاته؟... وهذا مما لم يتفطن إليه الفقهاء، ولا ضمّنوه أصولا ولا فروعا من فقههم. ومن أجل هذا الصنف من الابتلاء، أنزل الله قوله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا یَجِدُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَیۡتَ وَیُسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمًا } [النساء: 65]. والمعنى الظاهر من الآية، منوط بالشجار الذي يكون فيما بين المؤمنين؛ حتى إذا عرضوا أمرهم على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وحكم حكمه، فينبغي أن يُسلِّموا تسليما لذلك الحكم؛ وإلا نُزعت عنهم صفة الإيمان. والذي لا يعلمه الناس هنا، هو الابتلاء الذي قد يقع تحته من كان على حق في دعواه (من جهة الظاهر)، فخرج الحكم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخالفا لظنّه. فهذا، ينبغي أن يُكذّب نفسه، وأن يقبل حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليكون مسلما تسليما، وليثبت له الإيمان. وليس لمعنى "التسليم تسليما" مناط غير هذا، فليُعتبر!... ونسخ بعض الآيات من قِبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة، مع إثباتها حكما، هو من سلطته المخوّلة له: فما أثبته ثبت، وما نسخه انتسخ. ومن بقي مع عقله، كمن يبقى مع قول عمر عليه السلام في الحديث الذي نحن بصدده، فهو رادّ لحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منسلخ عن الإيمان. ولا عذر له في انسلاخه، حتى يقول إنما هي آيات ذكرها عمر؛ وعمر قد سمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير شك. فكل هذا، لا يكون من التسليم التام، وإنما هو من عمل الشيطان!... وهنا لا بد من أن نذكر مسألة قد تعرض للعقول القاصرة، فيقول القائل: إن جمع القرآن قد فعله عثمان، وعثمان قد يُتصوّر منه إسقاط بعض الآيات؛ فلمَ توجبون الإيمان بالقرآن على صورة المصحف العثماني؟... فنقول: إن كل هذا، من عمل الشيطان، الذي يقع ضمن الابتلاء من الله لعبده في الإيمان. ونحن دائما نذكّر بقاعدة عظيمة في العلم، وهي أن كل ما ابتُلي فيه الصحابة، يُبتلى فيه من جاء بعدهم، وإن اختلفت صورة الابتلاء. والابتلاء في النسخ الذي وقع فيه الصحابة، يقع فيه المتأخرون عندما يعرض لهم مثل قول عمر هذا، أو قول غيره مما هو معلوم للعلماء. فإن رجع العبد إلى ما هو مثبت في المصحف، فقد نجّاه الله؛ وإن حكم بما يُعطيه عقله فقد هلك... بقي أن نبيّن الآن، لم نعتبر مصحف عثمان، مع أن عثمان ليس هو من يُعتبر في النسخ؟... فنقول: هنا يأتي دور العلم بالخلافة في نفسها، إن لم يكن العبد على مثل إيمان العجائز، ليقول: سلّمت تسليما. ومن علم مرتبة الخليفة، فإنه سيعلم أنه مظهر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، في درجة أدنى من مظهره الشريف الأعلى الذي عاينه الصحابة إبّان حياته الدنيوية. وعلى هذا، فإن كل فعل أو كل حكم، يصدر عن أحد الخلفاء الاثنَيْ عشر، لا يكون إلا فعلا وحكما من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. لذلك، فالمصحف الذي جمعه عثمان، قد وقع فيه الجمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا من سواه. ولولا هذا الأصل، ما نحكم بوجوب قتل معاوية، عند مخالفته لعليّ عليه السلام!... فنحن لم نُثبت ذلك، إلا لعلمنا بأن عليّا هو مظهر رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم فحسب. وكفر معاوية، إنما كان برسول الله لا بعليّ كما يبدو لغير العالم. فليحترز المرء من السبق بالقول، وهو من العوام!... ولولا كل هذا الذي ذكرناه، ما صح أن نقول باستمرار البلاء في حق المؤمنين المتأخرين!... يقول الله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِی بَعَثَ فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ رَسُولًا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلٍ مُّبِینٍ وَءَاخَرِینَ مِنۡهُمۡ لَمَّا یَلۡحَقُوا۟ بِهِمۡۚ} [الجمعة: 2-3]. والاشتراك بين الأولين والآخرين في التزكية النبوية، يقتضي حتما الاشتراك في البلاء وفي صنوفه. فليُعتبر هذا الأصل، فإننا لم نر أحدا من السابقين أثبته، كما أثبتناه!... "أَلَا ثُمَّ إنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: لا تُطْرُونِي كَما أُطْرِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ.": ومعنى كلام عمر هنا، هو النهي عن عبادة رسول الله، من دون الله. وهذا، لأن الشيطان لم يترك قوما يعظّمون صالحا من بينهم، إلا تدرّج بهم إلى عبادته من دون الله في النهاية؛ لظنهم أن التعظيم للصالحين، لا يأتي إلا بخير. بينما الأمور تؤخذ بالعلم، لا بالأهواء والظنون. وإن لفظ "عبد الله ورسوله" يحفظ عوام المسلمين من الوقوع في آفة الشرك، ويجعلهم دائما على الجادة، مهما بالغوا في تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. كل هذا، وعمر ما زال يمهد لما هو صلب الكلام. وإنه بهذا يدل على ثوابت من الدين، بها يمكن التأسيس لما سيأتي، كما لا يخفى عن عليم حكيم مثله!... ومن رأى بلوغ كلام عمر إلى زماننا، ونفوذه إلى عقولنا، بحسب ما كان يقصد؛ فإنه سيعلم مكانته (خلافته)، التي دللنا عليها... "ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُم يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، بَايَعْتُ فُلَانًا! فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّما كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وتَمَّتْ؛ أَلَا وَإنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، ولَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا. وَلَيْسَ مِنْكُم مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ! مَن بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ، فَلا يُبَايَعْ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ؛ تَغِرَّةً أنْ يُقْتَلَا.": هنا يدخل الخليفة عمر عليه السلام في علم السياسة الشرعية، وأول ما يفعله: أن ينهى العامة عن الخوض في الشأن العام، قياسا على ما فعله الصحابة المرضيون بخصوص بيعة أبي بكر عليه السلام. ولقد غلط كثيرون من أهل العلم، عندما لم يأخذوا من كلام عمر إلا إقراره بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة؛ ليتوهموا أنه كان ينبغي أن يُبايع غيره بدله. وهذا مما أسس عليه الروافض نظريتهم السقيمة في المسألة. وعمر لم يعدُ أن كرّر كلمة الرجل الذي نُقل إليه كلامه، ولم يقل هو بالفلتة من عنده. وهذا حتى يبني على ما وصله، ويردّ عليه بما يُناسبه. ولنبرز ما ينبغي أن يُقرَّر هنا، من أجل رفع الالتباس الحاصل: أولا: إن المسألة في أصلها قدريّة، وما كان من القدر لا يتوهّمنّ أحد، أنه كان يمكن وقوع خلافه. يقول الله تعالى: {وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا یَفۡتَرُونَ} [الأنعام: 137]، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ...»[1]. فمن كان يظن أنه كان يُمكن أن يبايَع أحد مكان أبي بكر عليه السلام، فليراجع إيمانه، فإنه مدخول!... ولن ندخل في تفاصيل هذه المسألة، لأنها مما يخرج عن غرض الكتاب... ثانيا: إن ما أقر عمر عليه السلام بأنه فلتة، هو ظاهر ما تُعطيه الصورة، لأن الصحابة لم يجتمعوا كلهم في سقيفة بني ساعدة؛ بل اجتمع شطرهم، وأمضوا ما هو من شأن الجميع. وهو ما لا ينبغي تكراره في الأجيال القادمة، أو أن يُجعل قاعدة يُعمل عليها؛ وهذا لأن العمل هنا استثناء. وما يجعل العمل بالاستثناء مستساغا من جهة الشريعة هنا، هو حضور أبي بكر وعمر عليهما السلام، وهما من كانا يُعتبران وزيرَيْ النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهو ما دل عليه عمر في كلامه، عندما ذكر مرتبة أبي بكر وغيّب ذكر نفسه أدبا. فذكر عمر بأن أبا بكر هو أفضل من تُقطع إليه الأعناق -أي من تُتجاوز في سبيل الوصول إليه جميع العراقيل المتصوّرة- هو الدليل على وجه الاستثناء؛ لكن مع إضافة حضوره هو نفسه، ومبايعته للخليفة الأول، عليهما السلام. ونحن نقول هذا، حتى تكمل الصورة من جهة العلم، في أذهان المشتغلين بهذه المسألة... ثالثا: تبيين عمر رضي الله عنه، لحكم الله في مسألة البيعة: وهو ألّا يُبايَع من سارع إليها من دون مشورة المسلمين، لا هو ولا من بايعه. فإن أصر المبايِع والمبايَع على ما يريدان، فإنهما يُقتلان درءا للفتنة. وهذا الحكم من عمر في المسألة، تنبيه منه -عليه السلام- على أن مبايعته لأبي بكر، ليست كمبايعة واحد من الناس من الجهتيْن: جهة المبايِع وجهة المبايَع. وقد غفل الناس عن هذه التفاصيل، مع أنها جلية... "وإنَّه قدْ كانَ مِن خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنَّ الأنْصَارَ خَالَفُونَا، واجْتَمَعُوا بأَسْرِهِمْ في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ والزُّبَيْرُ ومَنْ مَعَهُمَا، وَاجْتَمَعَ الْـمُهَاجِرُونَ إِلى أَبِي بَكْرٍ، فَقُلتُ لِأَبِي بَكْرٍ: يا أَبَا بَكْرٍ، اِنْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الأنْصَارِ! فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ، لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ، فَذَكَرَا ما تَمَالَأَ عَلَيْهِ القَوْمُ، فَقَالَا: أيْنَ تُرِيدُونَ يا مَعْشَرَ الْـمُهَاجِرِينَ؟ فَقُلْنَا: نُرِيدُ إخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الأنْصَارِ! فَقَالَا: لا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمْ! اِقْضُوا أمْرَكُمْ! فَقُلتُ: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ! فَانْطَلَقْنَا حتَّى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقالُوا: هَذَا سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، فَقُلتُ: ما لَهُ؟ قالوا: يُوعَكُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلًا تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ، فأثْنَى علَى اللَّهِ بِما هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَنَحْنُ أنْصَارُ اللَّهِ وكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ، وأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْـمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ، وقدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِن قَوْمِكُمْ. فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا، وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنَ الأمْرِ. فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أتَكَلَّمَ، وكُنْتُ قدْ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أنْ أُقَدِّمَهَا بيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وكُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ (الحدّة). فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ أبو بَكْرٍ: علَى رِسْلِكَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَكانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ. وَاللَّهِ ما تَرَكَ مِن كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي (أي في إعدادي الذهني)، إلَّا قَالَ فِي بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ مِنْها حَتَّى سَكَتَ؛ فَقَالَ: ما ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِن خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَلَنْ يُعْرَفَ هَذا الْأَمْرُ إِلَّا لِهَذا الْحَيِّ مِن قُرَيْشٍ؛ هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أيَّهُما شِئْتُمْ: فَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ، وَهُوَ جَالِسٌ بيْنَنَا؛ فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا. كانَ وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي، لا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ مِنْ إثْمٍ؛ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ؛ اَللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تُسَوِّلَ إِلَيَّ نَفْسِي عِنْدَ الْـمَوْتِ شَيْئًا لا أَجِدُهُ الْآنَ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْـمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْـمُرَجَّبُ؛ مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. فَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ، حَتَّى فَرِقْتُ (خِفْتُ) مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَقُلتُ: اُبْسُطْ يَدَكَ يا أبَا بَكْرٍ! فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ، وَبَايَعَهُ الْـمُهَاجِرُونَ ثُمَّ بَايَعَتْهُ الْأَنْصَارُ. وَنَزَوْنَا علَى سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ، فَقُلتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ. قَالَ عُمَرُ: وَإنَّا وَاللَّهِ ما وَجَدْنَا فِيما حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أبِي بَكْرٍ؛ خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ، أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنَا؛ فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ علَى ما لا نَرْضَى، وَإمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكونُ فَسَادٌ. فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ، فَلا يُتَابَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ؛ تَغِرَّةً أنْ يُقْتَلَا."[2]: وهنا ينبغي أن نستخلص أمورا في العلم، لا بد من إدراكها: ا. صدق لهجة عمر رضي الله عنه: فهو لأنه صدّيق، يتكلم بما يعلمه من نفسه أو من غيره مطابقا للواقع، لا يحسب حساب شيء في ذلك؛ وهو ما يليق به وبأمثاله من كبار هذه الأمة. ولقد شهد على نفسه أنه كان قد أعد كلاما في ذهنه يرى أنه يُجمل المبادئ التي ينبغي أن تحكم مسألة الخلافة، ولكنه عندما أراد الكلام أسكته أبو بكر عليه السلام، فأطاعه. فتكلم أبو بكر، فأقسم عمر أنه لم يغادر كلمة كان قد أعدها هو، إلا وقال مثلها أو أحسن منها. وهذه شهادة لله، لا يقولها إلا صدّيق كما أخبرنا. لكن عندما بادر أبو بكر إلى ترشيح عمر أو عبيدة بن الجراح، لم يطق عمر، وأقسم لأن تُضرب عنقه خير له من أن يتأمر على قوم فيهم أبو بكر. وهذا هو صدق الصدّيقين، الذين لا يعتبر الواحد فيهم نفسه، إن وُجد من يعلم أنه أفضل منه عند الله ورسوله. وعمر كان يعلم (ولو علما مُـجملا)!... ب. علم الصدّيق أبي بكر بخلافة نفسه: ذكرنا آنفا، أن الخليفة يعلم بخلافة نفسه عندما يولّيه الله. وأبو بكر كان قد ولاه الله الخلافة من جهة الغيب، ولم يُخبر بذلك عمر أو غيره؛ وإنما ترك الأمور تجري وفق الأقدار، فإنّ من ولاه غيبا، لا بد أن يوليه شهادة. وترشيح أبي بكر عليه السلام لعمر ولعبيدة، لم يكن مخادعة منه وحاشاه؛ ولكنه كان من أدب الظاهر، الذي لو لم يكن يعلم أنه الخليفة، لفعله. وإن هذا التفريق التام بين جهتيْ الغيب والشهادة، لا يفهمه إلا من كان له ذوق فيهما معا؛ وأما من كان من أهل الشهادة كجل الناس، فإنه لا يتصور انقسام الشخص الواحد من جهة العلم والعمل قسميْن. وهذا علم خاص جدا، لا يُسمح لعلماء الظاهر بإبداء الرأي فيه وهم يجهلونه. فعندما بايع عمر أبا بكر عليهما السلام، التقت الشهادة على ما كان معلوما من الغيب؛ لذلك لم يتردد أبو بكر، بل مر مباشرة إلى الأعمال التي تتلو البيعة، ليُثبّتها ويسهّلها على من لم يبايِع بعد. وحديث عمر يدل على أن الأنصار كان لهم رأي سطحي في المسألة، لم يكونوا فيه على علم تام؛ كما أن جل الحضور من عامة الصحابة، لم يكن له إلا ما كان يعلمه من شؤون الملك في الجاهلية، مع فرق قليل يمتاز به الإسلام. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن يُعِد الناس إعدادا فكريا -كما يتصور الجاهلون اليوم- بل كان يطهر قلوبهم من الأدناس، وكان يرقيهم في معاملة ربهم إلى حيث الإخلاص؛ ثم تركهم بعد وفاته -عليه وآله الصلاة والسلام- أمام امتحان، كان ينبغي عليهم أن يجتازوه بنجاح، فاجتازوه، ولله الحمد. اجتازه الأكبران بالعلم الصحيح من تحقق وكشف، واجتازه الآخرون بإيمانهم الذي جعلهم يعرفون الحق من الأئمة المتقدّمين في الصف. وهكذا وقى الله الأمة شر الانقسام، الذي كانت تخافه عليها الطبقة العليا من التلاميذ المحمديّين... وأما من يكتفون بالنظر إلى المسألة من حيث هي أحداث تاريخية، والنظر إلى الحاضرين وكأنهم طبقة واحدة من الناس؛ ثم ينسون أن المربِّي لهؤلاء كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنهم لن يخرجوا منها إلا بما يُبعدهم عن الحق، ويفتح عليهم أبواب الأمراض القلبية من عصبية للقوم، أو للصاحب؛ وهذا إثم كبير، لا يعلم قدر كبره إلا الله ورسوله. وأما الهالكون من الناس، فإنهم من لم يحضروا تلك الوقائع، ولا كانوا أكفاء لها، ثم يدخلون بجهلهم في إعادة اختيار السيناريو المفضل لهم، وكأنه لا وجود لقدَر، ولا لغيب؛ أو لعلم منوط بالشهادة والغيب، يضمنون أن يكونوا فيه على القدْر الضروري النافع... ولما كان إبليس -وهو عدو الأمة الذي لا شبهة فيه- يتحيّن الفرص للنيل من الإسلام والمسلمين، فإنه لن يُتصوَّر منه أن يسكت، لا في ذلك الزمان، ولا في الذي بعده، إلى قيام الساعة؛ لأن الاختلاف حول أمور البيعة مضمون له، وهو يقسم الأمة أقساما، يبلغ الأمر ببعض هذه الأقسام أن تقتتل فيما بينها بلا رحمة؛ بل وأن تتحالف مع الكافر البيّن الكفر، على الأخ في الإيمان، في ضرب عمليّ بكل الدين عرض الحائط، وما يدعو إليه من توابع الأخوة الإيمانية؛ وفي إحياء جليّ للجاهلية، كما أراد معاوية أن يفعل؛ وهيهات!... ج. ما لم يعد كل مسلم إلى هذه النقطة من التاريخ، يضبط فيها علمه وعمله، وكأن البيعة ما زالت طرية؛ فإنه سيبقى عرضة للمتأدلجين من الجانبيْن، يتنازعانه إلى أن يظفر به أحدهما، فينخرط في التديّن السقيم المقسوم، الذي يرى أن أفضل أيامه هو يوم يقضي على إخوانه الذين وقع لهم ما وقع له، من التعرض للديماغوجيا والشحن النفسي. فإن هو عاد إلى أموره يُعيد فيها النظر لله، ويمحصها على نور القرآن والسنة، فإنه يُرجى له أن يعود إلى الدين المحمدي الكامل؛ وإن لم يُوفّق لما ذكرنا، فإنه يحسن به السكوت، حتى يقلل من ذنوبه وسيئاته. فهذا أفضل على كل حال، من الدخول في المعارك الداخلية بين المسلمين، وقد نهى الله عنها ورسوله بما هو نصوص واضحة صريحة لا تقبل الشك. يقول الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِینَ فَتَنُوا۟ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمۡ یَتُوبُوا۟ فَلَهُمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمۡ عَذَابُ ٱلۡحَرِیقِ} [البروج: 10]، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.»[3]. والعاقل لا يُغامر بمصيره الأبدي، ليوافق بعض الأقوام، ساعة من نهار الدنيا؛ لينقلب إلى ما لا نهاية له من الجزاء على عمله السيء!... فمسألة الابتلاء مستمرة، كما أسلفنا الذكر؛ فلينظر المرء أين موضعه من كل بلاء، ولينظر مع أي فريق هو، إن استقر على رأي؛ ليعلم من حال المتقدّمين ومن حكم الله فيه، حالَ نفسه ومآل أمره؛ لو وجد الشجاعة من نفسه على ذلك، ووجد الإنصاف... أما الآن فلنعرج على بعض أصول متأخري الشيعة المعتمدة لديهم، لنفحصها، ونستخرج ما فيها من فوائد: وحتى النص والشورى، يمكن الجمع بينهما في الفهم الصحيح التام، لمسألة الخلافة، كما هي عند الله: ونعني أن يكون النص معناه التنصيب الإلهي للخليفة غيبا، لا النص الذي هو الكلام المتجدد في المسألة، والذي أصبح متعذّرا. وأما الشورى فهي التنصيب البشري للخليفة المنصب إلهيا، وهذا يعني أن الخليفة مزدوج التنصيب، تشهد فيه الشهادة للغيب. فكان ينبغي على الشيعة، زيادة التنصيب البشري إلى ما يعلمونه جزئيا؛ وكان ينبغي على أهل السنة زيادة التنصيب الإلهي إلى ما يعلمون، حتى لا يعود المذهبان السنّيّ والشيعي فكرا سياسيّا خارج منظومة الدين. ولو يوفق الله الجانبيْن معا لضبط مصطلحاتهما معا أوّلا، ثم لتكميلها بما ينقصها ثانيا؛ لبلغنا -بوصفنا أمة إسلامية واحدة- الحق الذي غاب عن إدراك كل الأجيال السابقة، ممن يليق أن يوصفوا بنصف العلم في هذه المسألة، لا بالعلم التام!... وهكذا، فإن نحن عدنا إلى مقولة أحد الشيعة الإمامية المعاصرين، فإننا نجده يقول: "إن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى… وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس؛ فليس لهم إذا شاءوا أن ينصبوا أحدًا نصبوه، وإذا شاءوا أن يعيّنوا إمامًا لهم عينوه."[5]. وكلامه في نصفه صحيح، ويغيب عنه النصف الآخر؛ مع وجوب التفريق بين الخلافة والإمامة من جهة الاصطلاح، كما ذكرنا مرارا!... ثم إنه يوجد أمر جدير بالاهتمام، إذا لم يتنبه إليه الرواة من الجهتيْن، ربما انحرف بهم الفهم وهم لا يشعرون؛ ألا وهو معرفة زمن قول الخليفة أو الإمام لما يرويه الرواة عنه. وهذا لأن لزمن التلفّظ مدخلا في الجزم بقبول الرواية أو بعدم قبولها، إلا كما يُقبل سائر كلام الناس، من خارج المرتبتيْن المذكورتيْن. وسنبيّن مقصودنا بضرب أمثلة، حتى يتضح في الأذهان: ا. من مبادئ أهل السنة المعلومة، أنهم (أو بعضهم على الأصح) يحتجون بقول الصحابي؛ لكنهم لا يبيّنون: فـ-مثلا- إن تكلم أبو بكر بكلام في زمن النبوة، فهل يُعمل به؟ لا! إلا إن كان في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيُدرج ضمن تقريرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا ضمن كلام أبي بكر عليه السلام. أما في أثناء خلافة أبي بكر، فكلام أبي بكر هو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن من درجة ثانية، كما بيّنّا؛ لأن المتكلم من مظهر الخليفة هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا غيره. والآن، لينظر المكذب بما قاله أبو بكر في خلافته، بمن هو تكذيبه؟ بأبي بكر (واحد من المسلمين)؟ أم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؟... ولولا أن المكذّب قد يكون من عوام المؤمنين، بحيث لا يعلم الصلة بين أبي بكر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أثناء خلافة أبي بكر، لحكمنا بكفره، من دون تردد. فلينظر الناس فيم يُقحمون أنفسهم، والله قد جعل لهم فسحة في أمورهم، لو اعتبروها!... وما ذكرناه عن أبي بكر مع النبيّ، يؤخذ عن عمر مع أبي بكر. فكلام عمر، لا يؤخذ بالجزم، إلا زمن خلافته، عند تلفظه بالمعنى النبوي. ثم هكذا يُنظر إلى كلام عثمان مع كلام عمر إلى آخر العدد من الخلفاء... وهذا يعني أن كل خليفة مقدم على من جاء بعده، إن لم يكن الكلام من الرجليْن قد صدر عنهما زمن خلافتهما، لا في الوقت ذاته أو في الزمن المعدود خارج خلافتهما. ولو شئنا أن نضرب مثلا على مخالفة الحق من عمر لأبي بكر رضي الله عنهما، فإننا سننظر إلى رأي عمر في مسألة قتال مانعي الزكاة، وإلى إصرار الخليفة أبي بكر على القتال. فكلام عمر هنا، لا يُعتبر؛ لأن المعتبر قبله كلام خليفة زمانه الذي هو أبو بكر. وحكم أبي بكر هنا، هو حكم الله ورسوله، من حيث لم يكن يعلم عمر في ذلك الوقت؛ وإن كنا لا نشك في علمه به فيما بعد. وهكذا ينبغي النظر إلى كل خليفة، وينبغي تمييز كلامه إبّان خلافته من كلامه في غيرها. وهذا الباب وحده، كفيل بأن يُعيد ترتيب أقوال الصحابة من جديد... ب. وأما من جهة الأئمة، فالقاعدة المعمول بها هي نفسها: فكلام عليّ هو المعتبر منذ إعلان إمامته يوم الغدير، ولا يُعتبر معه في ذلك الزمان من الدرجة ذاتها: كلام الحسن أو الحسين أو غيرهما، على الجميع السلام. فزمن إمامة الإمام، يجعل كلامه مقدما على غيره، ممن لم تتحقق إمامته بعد، أو ممن هو دون مرتبة الإمامة. وهذا أيضا، كفيل بأن يرتب كثيرا من مرويات الشيعة عن الأئمة عليهم السلام. وأما الحجة على الخلق، فتكون للإمام، كما تكون للخليفة؛ لأن الخليفة لا يخلو من إمامة كما قلنا ذات مرة. وحتى لا يرى القارئ هذا القول منا تناقضا، إن هو نظر إلى زمن خلافة أبي بكر والذي هو عينه جزء من زمن إمامة عليّ، عليهما السلام، فليتصور إمامة لأبي بكر مع خلافته، وليتصور في المقابل إمامة عليّ المقطوع بها. والآن عليه أن يرى إمامة أبي بكر داخلة في إمامة عليّ (ختميته)، وأن يرى عليّا واقعا تحت حكم الخليفة من جهة الظاهر، بما أنه لم ينل الخلافة بمعناها الاصطلاحي بعدُ. ومن هذا الباب، كان واجبا على عليّ مبايعة أبي بكر؛ وقد فعل بمجرد الفراغ لذلك. فمن تتبع خيوط المعاني، فإن ذلك سيُعينه على فهم كل المعاني التي تناولناها في هذا الكتاب؛ ومن خلط فيما بينها، معتمدا على المعنى العام الذي يشملها كلها، فإنه لن يتمكن نظرُه من الخروج منها بطائل!... بل إن الحيرة هي مآله، ما لم يستنجد بإمام عصره!... وبعد أن فصّلنا القول في ترتيب المرويات والأحاديث المنسوبة إلى الخلفاء أو إلى الأئمة، لا بد الآن من ترتيب كلام من يكون دون مرتبتيْ الخلافة والإمامة، من علماء الدين من الشيعة ومن أهل السنة. وهذا مما لم نجد منبِّها إليه، ولا عاملا عليه؛ إلا من كان من أكابر أهل الكشف من هذه الأمة. وربما هم أيضا، لم يُفصّلوا القول في ذلك، بحيث يقعّدون في ذلك القواعد؛ مع الجزم بإحاطتهم بما سنذكر!... ولسنا نعني إلا اعتبار مراتب الدين المعلومة، والتي هي الإسلام والإيمان والإحسان. وهذه المراتب لا تعدّ من الوراثة إلا مجازا، وأما اصطلاحا، فالوراثة النبوية تكون للخلفاء وللأئمة. ونعني بالأئمة الكبار المعلومين، كما نعني أئمة الزمان، الذين لا يخلو منهم زمان؛ والذين هم المجددون أيضا الذين دل عليهم قول النبي صلى الله عليه وآله سلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ، مَنْ يُجَدِّدُ لَها دِينَها.»[6]. فهؤلاء المجددون، كلهم أئمة؛ لكن إمامتهم دون الإمامة الكبرى التي للاثنيْ عشر المعلومين. فمن وُجد من هؤلاء المجددين في الزمان، فهو لا شك وارث حقيقة؛ لأن وراثته عنها يأخذ أهل زمانه الذين يُجدد لهم دينهم. وهنا ينبغي أن نذكر أمرا لا بد من ذكره، وهو: أن الدين الحق، كان معروفا في كل زمان، وفي كل قرن من القرون، لمن كان يأخذ علمه عن مجدد زمانه (إمام الزمان). وهذا يعني: أن دين معاوية المحرّف، لم يكن سائدا إلا في الدوائر الثانوية، التي يكون من أهلها عوام علماء الدين، وعوام المسلمين من بعدهم. فإذا عرفنا ترتيب الوراثة، فلنعد إلى ترتيب الدين، والذي يُعطي الإسلام والإيمان والإحسان. ولعل القارئ قد بدأ يستشف مرادنا من الكلام: فنحن بعد نزولنا عن مرتبة التجديد، نريد أن نصنّف علماء الدين الذين صاروا في نظر طلبة العلم قبل غيرهم، كتلة واحدة، يستوي فيها العالم بالأعلم، والجاهل بالأجهل. وهذا خلل بيّن في القواعد المعمول بها، وبالتالي خلل في النتائج الناشئة عن هذا الصنف من النظر... ولنأخذ بعض النماذج للدلالة على هذا الخلط: ب. من الفقهاء من قد يظنهم الناس من أهل أعلى درجة مرتبة الإسلام، عند عدم فهمهم عنا، كالأئمة الأربعة لأهل السنة، أو كالجويني وابن حجر العسقلاني وابن حجر الهيثمي والسيوطي وغيرهم... وهم يكونون على أقل تقدير من أهل مرتبة الإيمان؛ أي قد يبلغ بعضهم مرتبة الإحسان، وإن كان علمه محصورا في مرتبة الإسلام. وهذا كله، لأن مرتبة الإيمان لا تُنال من طريق العلم المعتاد؛ ولكن تُنال بخوض غمار سلوك الطريق إلى الله على يد شيخ مربٍّ، أو -خصوصا في زمن التابعين- بالعمل بالعلم. وذلك لأن العامل بالعلم، إن صح عمله، فإنه يترقّى إلى مرتبة الإيمان؛ مع أنه من جهة العلم لم يزدد علما إلا بما يتعلق بأعمال القلب خاصة. وهذا العلم، لم يتكلم فيه إلا أصحاب فقه السلوك؛ فظنه عموم الفقهاء والناس أنه مما يخص الصوفية، وهو من العلوم الدينية الأساس. ج. أما مرتبة الإحسان فهي لأهل الشهود والعيان. وهؤلاء بعد الخلفاء والأئمة يكونون من أمثال الجنيد والشبلي والجيلاني والدسوقي وابن بشيش والشاذلي وغيرهم... هذا إن لم يكن بعضهم من أهل الخلافة الغيبية، أو من أهل إمامة الزمان (الختمية)، والناس لا يدرون؛ لأن الخلافة الغيبية تبقى غيبية علما وعملا، ولأن الإمامة لا يتكلم أهلها غالبا إلا فيما يسألهم الناس عنه؛ فيبقى ما اختصهم الله به من علم خارج الإحاطة، وخارج تضمين كتبهم رضي الله عنهم؛ إلا ما كان على غرار كتب الشيخ الأكبر والجيلي ومن نحا نحوهما، فإن علمه المبثوث في كتبه يدل على إمامته من غير شك. والشيخ الأكبر في هذه الإمامة على الختمية الكبرى (ختم الأختام)، كما أسلفنا؛ فليُراع هذا الترتيب، فإنه نافع جدا... وطائفة المحسنين هي أعلى مرتبة بعد الوراثة للخلافة وللإمامة التي بدأنا بها أولا؛ ونعني أنها أعلى مراتب الدين. وهذا لأننا نميز بين مرتبة الوراثة، ومراتب الدين؛ لنسهّل على الناس تبيّن ما نتكلم فيه، في كل مرة... ولقد ذكرنا من هذه المراتب الدينية أسماء علماء ينتمون ظاهريا إلى طائفة أهل السنة، لعلمنا بهم من مجتمعاتنا ومن أئمتنا وعلمائنا. وهذا لا يعني أن الشيعة يفقدون هذا الصنف من الرجال، أو هم يقلّون عندهم. ولكن المسألة عند الشيعة تتطلب تفصيلا، بسبب غلبة أيديولوجيا الرفض على المجتمع؛ لذلك نحن نقول: ا. أهل الرفض لا يكونون إلا من أدنى درجة في مرتبة الإسلام، كحال النواصب عند أهل السنة. لذلك، فمن كان معروفا بالنصب، فلا يغتر به أحد من إخواننا الشيعة، وإن عُدّ من العلماء التاريخيّين لأهل السنة؛ والعكس صحيح: فمن كان من أهل الرفض في الجانب الشيعي، فلا يُعتد به هو أيضا. ب. قد يكون أصحاب المراتب العليا في الدين، متخفّين في المجتمع الشيعي؛ إن كانوا يخافون على أنفسهم. كما كانت الحال عند بلوغ التشيع الصفوي ذروته، أو كما هي الحال مع ولاية الفقيه في عصرنا. وهذا لأن المذهب الديني إذا تلبس بالسلطة صار قاهرا لمخالفيه. ونحن لا نستبعد أن يكون من بين علماء الشيعة المضطهدين، من يكونون من أهل مرتبة الإيمان أو الإحسان مثلا... ولن نطيل بالتعريج على بعض المذاهب العرفانية التي وسمت حقبا من التشيّع، على علو قدر أصحابها في التفلسف حصرا، لأن ذلك يخرج بنا عن غرض الكتاب؛ ولعل هذه الإشارة هنا تكفي المتطلع... وفي الختام، فلعل القارئ قد أيقن أننا لا نتكلم من داخل مذهب من المذاهب، وبالتالي فنحن لسنا ضد أي مذهب من المذاهب؛ وإنما نبغي بكلامنا التأسيس لعلم فوق المذاهب، إليه يرجع الجميع، وإليه يحتكم الجميع؛ لكن عندما تبرز أصوله وقواعد عمله، فيطمئن العائد إليه ويعلم أنه سيزداد بعودته علما ويقينا؛ على عكس التجريح المتبادل الذي قد أضر بالأمة جمعاء، وترك ندوبا في وجدان المسلمين، تصعب مجاوزتها في أغلب الأحيان. فإذا ظهرت نيتنا، وما عليه عزمنا، فإننا نعلن انتظارنا لعلماء من أهل السنة ومن الشيعة، أن ينضموا إلينا؛ ونقصد إلى منهج عملنا؛ كلا في مجتمعه وفي بيئته: ا. أولا، لإعادة تأسيس العلوم الدينية على صحيح القواعد وسليم النظر. ب. ثانيا، لنشر العلوم المتجددة في مجتمعاتنا، لأن ما هي عليه الآن، لا يمت بصلة إلى "العلم"، إلا قليلا... ج. لنعمل جميعا على إماطة الأذى عن صورة الإسلام في العالم: فنحن جميعا نرى ما وصلت إليه الأمة من انحطاط، حتى ما عادت تُنسب إلا إلى الإرهاب (بالمعنى الإعلامي لا الشرعي). وكم من وجه لديننا الرباني قد صار مـُعمّى: كالوجه الحضاري بجميع روافده الفنية والثقافية، والوجه المنوط بالعصرنة وما يلحق به من تقانة ورقمنة، والوجه الإنساني (ما ينفع غير المسلمين في عدم طغيان حيوانيتهم عليهم)، وما يتصل به من تربية وتعليم وإعلام... إن هذا الكتاب، لا يعدو أن يكون "شذرات"، كما يدل عليه عنوانه؛ قد رُمنا أن نحيط بجميعها ذكرا وفتحا لأبوابها، من دون أن نزعم أننا قد أحطنا بتفاصيلها وما يتصل بها. وهذا، لأن هذا الوقت، لم يسمح لنا بغير ما كتبنا؛ على أن تبقى هذه الشذرات قابلة للشرح في مناسبات خاصة أو عامة، وقابلة لزيادة التوضيح والتوسيع بحسب الحاجة إلى ذلك كله. واللهَ نسأل، أن يغفر لنا خدش قلوب المسلمين، ممن تناولنا عقائدهم أو آراءهم بالنقد؛ وحسبنا أننا لم نفعل ذلك إلا ونحن متسلحون بأصل من الأصول، أو بقاعدة من القواعد، لا انطلاقا من هوى نفسنا؛ عياذا بالله... فاللهم انفعنا بمن جرى ذكر أسمائهم الطاهرة، من خلفاء ومن أئمة، ومن علماء معتبرين لا نرى نفسنا إلا دونهم في المرتبة. اللهم يا من اجتمعت على اسمه الجامع القصود والحاجات، ويا من شرع لعباده التوحّد على إقامة دينه، وجعله فرضا به تتحقق للفرد وللجماعة (جماعة المسلمين) الكمالات؛ إنا نسألك بمقام نبيك عندك، وبمقام كل خليفة عنه وكل إمام؛ اللهم إنا نسألك بالدماء الطاهرة التي سُفكت لوجهك، وبالأذى الطائل لكل مناصر للحق من عبادك؛ أن تغفر لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مغفرة عامة، وأن ترحم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة عامة. وأن تجمع شتات المسلمين في المشارق وفي المغارب، وأن تجعلنا من أتباع المهديّين في زماننا، ومن خدمهم بالقلوب والقوالب؛ وأن تجعل محبتنا لهم من محبة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، كما جعلت محبة نبينا من محبتك يا عظيم يا مُعظَّم. وصلى الله وسلم على من به افتُتِحت الغيوب، وأُذن لكل مـُحِب بالنظر إلى كل محبوب، محمدٍ الرؤوف الرحيم المحمود، وعلى آله ما ولد والد وكان لكل أم مولود، وصحابته أشرف من رافقه وتملى إليه بالنظر، وقام بين يديه خادما وشمَّ ريحه العطِر. والحمد لله رب العالمين. وفُرغ منه بسلا، سحر يوم السبت 21 جمادى الآخر، من عام 1444ه. [1] . أخرجه أبو داود عن فاطمة عليها السلام. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.