اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2023/01/24 شذرات مما يتعلق بموقعة صفين من أحكام وآيات (11) (تابع) 11. طريق العودة إلى الإسلام الأول: 1. إسقاط الصحبة عن معاوية: إن ما فعله معاوية بالدين، بعد أن دخل في مقاتلة خليفة رب العالمين، لا تبقى له معه صحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ خصوصا وأنه لم يكن إلا من الطلقاء بدءاً. وكل من يُرهبون الناس بدعوى أنه صحابي، له حرمة الصحابيّ، فهم ملبوس عليهم، إن لم يكونوا نواصب على نهج معاوية يسيرون، ولشره ذاته يُضمرون. ولو اعتبرنا صحبة معاوية على شناعة صنيعه، فلا ينقص إلا أن نعتبر صحبة عبد الله بن أُبيّ بن سلول؛ بل لو قارنا فعل ابن سلول لوجدناه أقل في السوء من فعل معاوية. ومن لم يكن يميّز الفرق بين الرجليْن، فليعلم أنه غير مخول بالدخول في هذه المسائل. فإن رغب راغب في البقاء على ما هي عليه فرقته، فليبق؛ ولكن عليه أن يعلم أنه مغامر بمصيره، لاعب بنرد قدره. وذلك لأن الدين يؤخذ عن الله ورسوله، لا عن أحد من العباد، مهما علا شأنه، أو روعي قدره. ونحن ما عرفنا علو مرتبة أبي بكر وعلي وأضرابهما، إلا من الله ورسوله، لا من أحد من أهل السنة، أو أحد من الشيعة... وحتى لا يرمينا أحد بالطعن في الصحابة، فنحن نعلن أن معاوية ليس صحابيا؛ بل هو عدو لله ورسوله، ظهر في زمان الفتنة التي دخلت على المسلمين. وأما الصحابة الذين راعوا حق صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أنفسهم، فنحن لا نرفع بصرنا إليهم بالنظر، فكيف بالنقد!... نعوذ بالله من غضب الله!... وهذا الموقف معروف عنا مع تلاميذنا، حتى إننا نقطع لهم دابر وسواسهم من أصله بقولنا: من أراد أن يُقارن نفسه بصحابيّ، فلينزل إلى مقارنة نفسه بالدابة التي كان يركبها الصحابيّ، وبعدَ نزوله ذاك، فنحن نخاف عليه بعدُ!... وهذا، لأننا -بحمد الله- نعلم قدر الصحابة، ونتقرب إلى الله بالتضاؤل بين أيديهم. ولكن تعظيم الصحابة يكون عن نور وعلى بيّنة من الله ورسوله، بحيث يعلم المرء في المقابل المنافق المندسّ، والعدوّ المترصِّد. ووالله إن معاوية لعدو للإسلام، يعرفه كل ذي نور كامل؛ وإن كان يُخطئه ناقص النور. نقول هذا، لأن العاميّ من المؤمنين ليس في مقدوره تمييز الرجال، ومعاييره لا تتعدى الظاهر من الأحوال؛ فهو إن وجد إمام حق، وجب عليه تقليده، وإن فقده وجب عليه كف لسانه ويده، إلى أن يأتيه من الله برهان!... وأما نحن، فلا يُقال لنا، كما قال أحدهم: كان البخاري إذا ذكر عليّا قال عليه السلام، وإذا ذكر معاوية، قال رضي الله عنه. ولقد كنا على هذا الديدن، ونحن في بيئة ظاهرها سنّيّ، وحقيقتها النصب الذي لا لبس فيه. والحمد لله، لم نكن من الفضوليّين الذين قصدوا إلى خوض غمار الدخول في الفتنة الكبرى، ولا كنا من المخذولين الذين يعمرون أوقاتهم بما لا ينفعهم دنيا وأخرى؛ بل وطّنّا نفسنا على ألّا نكون إلا في آخر صف من صفوف المسلمين، وأن نرى الجاهل قبل العالم منهم سيدا تُقبَّل يده وربما قدمه. والحمد لله قد فعلنا هذا مع كثيرين، حتى كانوا يتعجبون من حالنا. وهو حال بدَأَنا من أول ما بدأْنا نذكر الله بالذكر المأذون على يد شيخنا رضي الله عنه وجزاه خيرا. فكنت عندما أذهب إلى المسجد وأجلس في الصف الثاني أو الذي بعده، أنظر إلى أقدام أصحاب الصف الذي قبلي، وليس لي من رغبة إلا تقبيلها، تعظيما للإسلام. ووالله ما كان يمنعني من فعل ذلك على الملأ، إلا أن يُشار إليّ بالصلاح في بلدي، وأنا ما تزال قدماي في الجاهلية لم تزولا!... وليعلم حاكي حال البخاري، أننا لا نأخذ علمنا إلا عن الله ورسوله؛ وكل من سواه، فإننا ننظر فيه بما يؤتينا الله من نور فيه، فنظهره بعد علمنا له، إنْ كان يجوز إظهاره؛ أو نجعل نفعه مقصورا علينا للضرورة، إن رجحنا ذلك. والبخاري عالم من علماء الحديث، نسأل الله أن يجزيه عن عمله خيرا؛ ولكنه لا خبرة له بعلم المراتب، وبالتالي بالرجال. ولسنا نعني العلم بالرجال هنا، علم الجرح والتعديل، الذي عليه علماء الحديث؛ لأن هذا العلم مما لا يُجاوز به أهله كسائر الفقهاء في الغالب، مرتبة الإسلام؛ بل نعني ما يكون من اعتبار للإيمان والإحسان، ثم للوراثة النبوية. فنُلحِق كل واحد بالمرتبة التي يصدر عنها، من دون اعتبار لكلام الناس فيه بالتقديم أو بالتأخير. فليُفهم هذا، فإنه في باب المنهجية نفيس... وأما ما أورده بعضهم من كلام للإمام عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه، فهو كلام فقيه، لا كلام إمام. وهو أدرى بما يخوض فيه ومع من يخوض: ولنورده هنا بنصه: [وأما قتاله رضي الله عنه، لطلحة والزبير وعائشة ومعاوية رضي الله عنهم، فقد نص الإمام أحمد رحمه الله، على الإمساك عن ذلك؛ وجميع ما شجر بينهم من منازعة ومنافرة وخصومة؛ لأن الله تعالى يزيل ذلك من بينهم يوم القيامة، كما قال عز وجل: {وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَ ٰنًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِینَ} [الحجر: 47]؛ ولأن عليًّا -رضي الله عنه- كان على الحق في قتالهم؛ لأنه كان يعتقد صحة إمامته على ما بينّا من اتفاق أهل الحل والعقد من الصحابة على إمامته وخلافته. فمن خرج عن ذلك بعدُ وناصبه حربًا كان باغيًا، خارجًا على الإمام، فجاز قتاله. ومن قاتله من معاوية وطلحة والزبير، طلبوا ثأر عثمان بن عفان خليفة الحق المقتول ظلمًا؛ والذين قتلوه كانوا في عسكر عليّ رضي الله عنه، فكلٌّ ذهب إلى تأويل صحيح. فأحسن أحوالنا الإمساك في ذلك، وردهم إلى الله عز وجل، وهو أحكم الحاكمين وخير الفاصلين، والاشتغالُ بعيوب أنفسنا وتطهير قلوبنا من أمهات الذنوب، وظواهرنا من موبقات الأمور. وأما خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فثابتة صحيحة بعد موت عليّ رضي الله عنه، وبعد خلع الحسن بن علي رضي الله عنهما نفسه من الخلافة وتسليمها إلى معاوية، لرأي رآه الحسن ومصلحة عامة تحققت له، وهي حقن دماء المسلمين وتحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن رضي الله عنه: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المـُسْلِمِينَ.»[1]][2] : ولنفصل القول فيما مر الآن بإذن الله، غير منتقصين لقدر الجيلاني رضي الله عنه، وحاشاه: - فأما نقل الجيلاني رضي الله عنه عن أحمد، فإنه لا يجوز عندنا إلا في الفقه؛ وهو ما يؤكد حكمنا الأول. ولو كان لأحمد علم فوق مرتبة الإسلام، ما ضُرب على مسألة "خلق القرآن"، وهي من أيسر المسائل على مَن كان مِن أهل المراتب العليا. وأما اقتصار الجيلاني على تقليد أحمد في المسألة، فلأنه لم يُرد أن يخرج بها عما تطيقه العامة من جهة؛ ولأنه يعلم أن حلّها لا يكون في تلك القرون ولا التي بعدها من جهة أخرى. وهذا، لأن الفتنة كانت ما تزال ممتدة، والأولياء لا يُعارضون القدر أبدا... هذا مع ذكر اتباع الجيلاني لأحمد في الفقه من جهة الظاهر... - وأما استدلال أحمد بالآية من سورة الحجر، فلا مدخل له هنا؛ لأنه متعلق بمآل أولئك الخلق في الآخرة. ونحن لا نناقش ذلك منهم الآن، ولكن نناقش مسألة حكم شرعي، محله الدنيا، وهو مقاتلة عليّ مع أنه خليفة الله!... وأحمد لا علم له بالخلافة، حتى يعلم مقتضياتها وأحكامها؛ بل هو يحكم وكأن المتقاتلين من طبقة واحدة في الفضل، وهيهات!... - وأما جواز قتال عليّ لمن قاتله، وذكر أنه كان في ذلك على الحق، ففيه اضطراب؛ لأن عليا لم يكن يقاتلهم على الحكم، ولو تمكن منهم، لقتلهم بحكم الله الشرعي لا بهواه، سوى عائشة عليها السلام لمكانتها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ونعني أن عليّا عليه السلام، لم يكن إماما منصّبا من قِبل أهل الحل والعقد فحسب، وإن كان هذا ظاهر الأمر؛ وإنما كان خليفة الله الذي لا ينبغي أن يُنازَع. ونعني من هذا أيضا، أن قتاله للمنازعين، هو قتال الله تعالى نفسه لهم؛ كما أخبر سبحانه في مثل قوله: {هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ} [المنافقون: 4]. والمعنى يؤخذ هنا على ما يُعطيه ظاهر اللفظ، وإن كان المفسرون لا يعلمونه من مرتبتهم. وتنزيل معنى الآية في زمن عليّ، يكون على ما ذكرنا من مقاتلته للمناوئين له؛ وذلك لأنه مظهر الاسم "الله" الذي لا شبهة فيه!... وإلى هذا الأمر (أمر الخلافة عن الله) كان ينبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عند اشتراطه عدم المنازعة له أو لمن يخلفه عليهم من بعده في المرتبة. فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: "دَعانا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبايَعْناهُ، فقالَ فِيما أخَذَ عَلَيْنا: أَنْ بَايَعَنا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، في مَنْشَطِنا وَمَكْرَهِنا، وَعُسْرِنا وَيُسْرِنا، وأَثَرَةً عَلَيْنا؛ وَأَنْ لا نُنازِعَ الْأَمْرَ أهْلَهُ، إلَّا أنْ تَرَوْا كُفْرًا بُواحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهانٌ"[3]. وأما بيعة أهل الحل والعقد فليست هي مناط حكم حرمة مقاتلة الخليفة، لأنها ظاهر ما يثبت به فحسب. ونعني أن البيعة قد تكون لمـَلِك، كما قد تكون لخليفة. وبيعة المـَلك (كبيعة معاوية)، ليست في المرتبة كبيعة الخليفة؛ ولا حكمها كحكمها!... وقد جهل فقهاء الأمة هذا الفرق بين الحُكميْن على مرّ القرون، فنتج عن جهلهم كل ما نتج من الخلط والافتتان؛ {لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ} [الروم: 4]. ومناط الحكم في الخلافة، هو تولية الله لخليفته عنه، وهو القائل سبحانه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةً} [البقرة: 30]. ومن نازع الخليفة عندنا، فقد نازع ربه؛ فلينظر بعدُ أي وصف يليق به!... ويبقى حكم المـُلك، حكم الولاية التي يكون صاحبها تحت حكم الخليفة في زمانه؛ أي يبقى هو خليفة الخليفة، لا الخليفة!... وهذا الترتيب صحيح دائما، سواء ظهر الخليفة، أم بطن. لهذا، لا يُمكن التسوية بين عليّ والحسن في خلافتهما عليهما السلام، ومعاوية في ملكه أبدا؛ وإن كانت الصورة في نظر العاميّ واحدة!... ومتى كان الحكم في الأحكام للعوام؟!... - من أصول الفقه: أن لا اجتهاد مع النص، والخليفة في مرتبته له حكم النص. لذلك فكل من يقول بصحة اجتهاد معاوية، أو من كان متابعا له، فهو على غلط شنيع، وعلى مخالفة للشريعة ثابتة!... ولا ينبغي أن تحجبنا مرتبة المخالف عن تبيّن الحكم، كما هو الشأن بالنظر إلى الزبير وطلحة رضي الله عنهما، وهما المبشران بالجنة. وهذا، لأن دخول الجنة، لا يعني أن يكون الداخل على الحق في كل أموره في دنياه؛ وإنما يعني أن الله يغفر له كل ما اقترف، وأنه يُدخله الجنة. والجنة درجات!... يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضانَ؛ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ؛ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتي وُلِدَ فِيها! فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّها اللَّهُ لِلْمُجاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ. أُراهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، ومِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهارُ الْجَنَّةِ.»[4]. وهذا يؤكد ما ذكرناه قبلاً من عدم جواز التسوية بين أهل الجنة في النظر، إن كان المرء على نور؛ وإلا فالكفّ لفاقد النور أولى، كما نقول دائما... - وأما الحسن عليه السلام، فلم يتنازل لمعاوية إلا عن المـُلك الذي هو ظاهر الخلافة، لا عن الخلافة (الغيبية)؛ لأن الخلافة ليس في مستطاع الخليفة التنازل عنها، والله هو مولّيه فيها. هذه قاعدة في المسألة، لمن كان يعقل... وعلماء الدين لم يتبيّنوا هذا التفصيل، فالتبس عليهم الأمر، حتى ظنوا بسيدنا الحسن عليه السلام الظنون، وهو الطاهر الْمـُبَرَّأُ من كل الظنون!... وقد اغتنم معاوية تنازل الحسن، فسمى العام "عام الجماعة"!... أفتكون جماعة كسابقاتها، وقد انفصل فيها حكم الغيب عن حكم الشهادة لأول مرة في تاريخ الأمة؟!... لا والله لا سواء!... - وأما الحديث الوارد في تنازل الحسن عليه السلام، فإنما يُثبت سيادته على الأمة جمعاء بمن فيها معاوية وأتباعه (من جهة الظاهر على الأقل، لأن المنافق غير معدود من الأمة من جهة الباطن)؛ وجاء ليدل على علة حكم التنازل في نظر الحسن، ألا وهي الإصلاح بين المسلمين، وحقن دمائهم. ولم يأت ذلك التنازل لمنح معاوية خلافة هو أحق بها، كما يفهم المنكوسون؛ لأن الخلافة ستبقى رغم كل شيء غيبية مع الحسن، شاء من شاء وأبى من أبى. ومعاوية لا خلافة له بالمعنى الذي كنا بصدده. وإن من يخلط بين كل هذه الأحكام، لا يكون مؤهلا لتعليم الناس، وهو لا يعلم. وأما الأدب الذي دل عليه أحمد في البداية بقوله: "فأحسن أحوالنا الإمساك في ذلك، وردهم إلى الله عز وجل، وهو أحكم الحاكمين وخير الفاصلين، والاشتغالُ بعيوب أنفسنا وتطهير قلوبنا من أمهات الذنوب، وظواهرنا من موبقات الأمور."، فهو من أدب العوام اللائق بهم عند فقدهم لأهلية النظر في الأحكام الشرعية وعللها. ونزول أحمد إلى هذا الأدب، لا يدل إلا على جهله بما ذكرناه نحن آنفا من وجوه المسألة. ومن جهل، فلا يلزم جهله إلا نفسه، ومن ارتأى تقليده. أما العالم، فلا بد له بعد تبيُّن الأحكام من تبيينها لا الدلالة على الآداب العامة التي ستحول دون ذلك؛ لأن هذه الآداب العامة تُذكر لمنع العامة من الخوض فيما لا يُحسنون، لا للدلالة عن منع العلماء من الكلام في المسائل. فإن هذا يخالف منطق التشريع، والله تعالى يقول: {وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ لَتُبَیِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡا۟ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِیلًاۖ فَبِئۡسَ مَا یَشۡتَرُونَ} [آل عمران: 187]. ونحن قد بيّنّا أن الكلام في الفتنة الكبرى لم يكن قد حان وقته بعد، لذلك حجب الله عنه عقول العلماء. وأما الآن، فقد علَّمنا الله مناطات كل الأحكام المتعلقة بالفتنة الكبرى، فلم نجد بُدّا من إبرازها للناس؛ عسى أن يعودوا بها إلى الحق الأول الذي ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمة عليه. ولو كان ما يردده الناس من مقولات موروثة معتبرا عند الله، لكان سببا إلى جمع الأمة على الإسلام في كل الأزمنة الماضية، بدل هذه التفرقة المتزايدة مع مرور الزمان!... وهذا أيضا من اعتبار المآلات في الأحكام، والذي هو مقصد للتشريع؛ لأنه من دون موافقة المآلات لمقاصد التشريع، فإن الأحكام قد يُعاد فيها النظر من البداية، من أجل العثور على ما يوصل إلى مقصد التشريع من سبُل. وهذا كله، لأن الشريعة منظومة محكمة، لا يُخالف بعضها بعضا، بل يُعضّد بعضها بعضا. فما شذ فيها عن التجانس الكلي، مما هو متوصَّل إليه بالاجتهاد، لا يُعتمد، ويُعاد النظر فيه كما قلنا... وفي ختام هذا التفصيل نقول: إن إسقاط صفة الصحبة عن معاوية واجب، وإثباتها له بعد كل هذا التفصيل إثم ثابت، يخاف العبد أن يُلحقه الله في الحكم به (بمعاوية)، فيكون من الخاسرين. ويدخل في هذا القول أيضا: التسوية بين معاوية وعليّ عليه السلام، وبينه والحسن والحسيْن عليهما السلام، من أي وجه من الوجوه، إلا ظاهر البشرية. وهذا يترتب عليه القول بعدم جواز الترضي عن معاوية وعن عمرو بن العاص؛ مع التسليم لله في الحكم عليهما بما يشاء سبحانه؛ فهو الذي يرجع إليه الأمر كله، لا إلى عقولنا. يقول الله تعالى: {قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ لَا یَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعًا وَلَا ضَرًّاۚ قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِی ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ جَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَاۤءَ خَلَقُوا۟ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَـٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَیۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلِّ شَیۡءٍ وَهُوَ ٱلۡوَ ٰحِدُ ٱلۡقَهَّـٰرُ} [الرعد: 16]؛ أي ما دام هو سبحانه خالق كل شيء، فإليه يرجع أمر كل شيء!... وأما لعن معاوية، فلا يكون من أعمال المؤمنين؛ لأن شغلنا بالله ورسوله، ينبغي أن يأخذنا عن الدخول في الأمور النفسية، التي تنبني على الأحقاد والانتقام، من مرتبة العوام. فهل كُلِّف المؤمنون -مثلا- أن يجلسوا لله جلسات يمسكون فيها السبح فرادى وجماعات، يلعنون إبليس وهو ألد أعدائهم؟!... كلا!... ولو فعلوا ذلك، لأرضوا إبليس عند اشتغالهم به. فليعمل العبد في أموره بالمنطق الإيماني الشرعي، لا بما يُعطيه المرض القلبيّ، أو النظر العقلي المجرد عن الإيمان... 2. التيقُّظ للنواصب في المجتمعات السنيّة: وهذا، لأنهم نواب معاوية في هدم الدين، من كل الأزمنة التي جاءت بعده. وهم وإن أظهروا التنسك والإخبات، فإنهم على نفاق كلي أو جزئي؛ لا بد من ذلك. وهذا، لأن المناسبة بين أحوال البواطن، هي التي تُعطي التلاقي على الآراء؛ فلا يخدعنّ أحد نفسه!... ولهذا السبب، كان العوام من أهل السنة، الذين هم على إيمان نقي، يجدون من أنفسهم انصرافا عن الخوض في المسألة، ما دام علمهم لا يخوّلهم الدخول فيها. أما المجترئون على الدخول، فهم لا يدخلون إلا لمناسبة باطنية كما ذكرنا، تقتضي أن يلحقوا بمن هم على مثل حاله. وعلامات النواصب كثيرة، نذكر منها هنا ما يحضرنا: ا. أول ما يُميّز النواصب بغضهم لعليّ، عندما وجدوا أن بغضهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يُنبئ عن حقيقة حالهم، حتى يعرفهم العامة من المسلمين. وحتى عليّ، فإنهم لن يُظهروا بُغضا له سافرا، وإنما يُفهم ذلك عندما يسوّونه بمن لا يليق أن يكون خادما له، كمعاوية وأبيه وغيرهما... ب. والعلامة الثانية للنصب مباشرة، هي عدم اعتبار مكانة السيدة فاطمة عليها السلام؛ وهي من أخبر عنها أبوها صلى الله عليه وآله وسلم أنها سيدة نساء أهل الجنة. فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: "سَأَلَتْنِي أُمِّي: مَتَى عَهْدُكَ؟ تَعْنِي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ مَالِي بِهِ عَهْدٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا! فَنَالَتْ مِنِّي، فَقُلْتُ لَها: دَعِينِي آتِي النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُصَلِّيَ مَعَهُ الْمَغْرِبَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي وَلَكِ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ، فَصَلَّى حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فتَبِعْتُهُ، فَسَمِعَ صَوْتِي، فقالَ: «مَنْ هَذَا، حُذَيْفَةُ؟» قُلْتُ: نعَم! قالَ: «مَا حَاجَتُكَ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلِأُمِّكَ؟» قَالَ: «إِنَّ هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلِ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ اللَّيْلَةِ، اِسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ، وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجنَّةِ، وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.»[5]. وهؤلاء هم خلاصة أهل البيت عليهم السلام، لا يُحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق. ولقد فاضل بعض الأشقياء بين فاطمة وبعض النساء، مستندين إلى شبهات من روايات مـُغرضة، لا يعتمدها إلا سقيم قلب من الناس؛ وإلا فكيف تعدل امرأةٌ ريحانة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كان يُحب إذا رآها أن يناديها: بـ «أُمّ أَبِيها!». ولقد رأيت لبعض علماء السنة فهوما في هذه الكنية السامية، فوجدتها مما تحزن له القلوب، وتسودّ له الوجوه. ووالله لو علم الناس ما الذي قصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الكنية، لعبد الجاهلون منهم فاطمة عليها السلام من دون الله، كما عبدت النصارى مريم عليها السلام أو أشد عبادة. ولقد عزمت بعون الله، إن أذن الله للعبد الحقير، ثم أذنت فاطمة عليها السلام، أن أكتب كتابا في التعريف بمكانتها عليها السلام، وأن أسميه: "أم أبيها". والرجاء كل الرجاء، أن يمنّ الله، بما أُقدِّمه بين يديها إذا قدمت عليها... ج. والعلامة الثالثة على النصب من غير شك: بغض الحسن والحسيْن، وهما سيدا شباب الجنة، للحديث السابق. وعلى هذا، فإن قياس أحد من الناس على الحسن والحسيْن، هو من علامات النفاق التي لا تتخلف. أما تفضيل أحد عليهما، كما تفعل النواصب عندما يزعمون بأن الحسيْن قُتل شرعا، بسبب خروجه على يزيد بن معاوية، فإنه النفاق الأكبر الذي ينطوي على الكفر بالله ورسوله، وإن قيل في صاحبه ما قيل. وإن النواصب من المالكية (حاشا مالكا)، ما يعظّمون فقيههم ابن العربي المعافري، إلا لحُكمه المتطرّف في المسألة، بما يُرضي شقاوتهم؛ بحيث أصبح إماما لهم فيها، وبئستِ الإمامة!... ولقد أحزننا كثيرا في المدة الأخيرة، احتفاء وزارة الأوقاف المغربية وبعض "فقهاء المغرب" بالفقيه المذكور من دون سواه ممن كانوا على نور في فقههم وعلى بيّنة؛ وما أكثرهم!... وقد تفرع عن النصب في بلداننا، أن غُيّب ذكر أهل البيت في الجوامع وعلى المنابر؛ حتى إن من لا حظّ له من مطالعة العلوم الدينية، سيراهم أجانب عن هذه الأمة. نعم، إلى هذا الحد!... بل لقد أصبح متأخرو النواصب (وقد يكونون من مقلدة الجهلة الممكور بهم)، يحسبون كل من يذكر أهل البيت في مجتمعاتنا، من الشيعة؛ على أن الشيعة متهَمون عندهم بالكفر الذي لا شُبهة فيه... وكل هذا من آثار النصب، وإن لم يشعر به أصحابه... د. الاحتفال بمقتل (استشهاد) الحسيْن عليه السلام يوم عاشوراء، وتمويهه بأنه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى من فرعون... وعلى أرجح الأقوال، فإن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كان قد أمر بصيام يوم عاشوراء بعد مقدمه المدينة، وعلمه بصيام اليهود له؛ ولكن لما فُرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، لم يأمر بعاشوراء ولم ينه عنه. فأُخذ على أنه مستحبّ، من جملة المستحبات، خصوصا إن قُرن بنيةٍ معتبرة. وعندما يحل يوم استشهاد الحسيْن عليه السلام في اليوم ذاته الذي كانت تعظمه اليهود، فلا شك أنه سينسخه؛ لأن النظر إلى ما هو من شؤون أمتنا أولى. والحسيْن ليس من غمار الناس، حتى يُصرف عنه النظر وحاشاه؛ فبقي أن عاشوراء ينبغي أن يُعتنى فيه بالحسيْن عليه السلام. فمن صام بعد معرفته الحكم، فعليه أن يصوم خشوعا لله وتعظيما للحدث، من دون مبالغة في اصطناع الحزن وإظهار التباكي جماعات، كما يفعل عوام الشيعة. ومن لم يصم، فليبق على استحضار الحدث ومقاسمة أهل البيت عليهم السلام مصابهم، أيضا من دون مبالغة. وهذا الحكم نراه ناسخا لكل حكم قبله، بخصوص صوم يوم عاشوراء؛ لأن النبي لو أدرك يوم استشهاد الحسيْن عليه السلام، لكان استحدث حكما خاصا به، ولو في خصوص نفسه الشريفة عليه وآله الصلاة والسلام. وبما أنه لم يُدركه، فمراعاة ذلك الحكم غيبا، بصيام أو من دونه، تُحوّل مناط حكم عاشوراء إلى استشهاد الحسيْن وحده. والله ورسوله أعلم... أما الاستمرار في اعتبار نجاة موسى من فرعون، بعد كل الذي حدث، فهو تجاهل للحسيْن عليه السلام، وعدم اعتبار لحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الاستشهاد؛ وهما معا لا يدلاّن إلاّ على النصب في أجلى مظاهره. ونحن قد كنا نصحنا أهل المغرب بتجنّب مظاهر الاحتفال بذلك اليوم، ونؤكد مرة أخرى هنا على رأينا؛ حتى لا يُستجلب البلاء على البلاد بجهل العامة، عند العمل بعمل النواصب، وإن كان العاملون لا يعلمون... ه. التقليل من شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن النصب ليس منوطا بأهل البيت كما يُقال عند تعريفه، إلا ظاهرا؛ لأن أهل البيت عليهم السلام، ما كانوا ليُميّزوا عن سائر الناس لولا قرابتهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا لا يحتاج إطالة كلام حتى يُتَبيّن!... فظهر من هذا، أن النصب هو معاداة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه؛ ولكنها عداوة متدثرة بدثار الإسلام في ظاهر الأمر. وبهذا، فإن النصب يكون علامة من علامات نفاق الناس؛ منذ معركة صفّين، وإلى قيام الساعة... وكل من أراد أن يُلبس المسألة لبوسا علميّا، بزعم مساواة الناس في الإسلام من كل وجه؛ والتذكير بأن نظر الشرع يكون إلى الأعمال، لا إلى الأنساب، بإبراز قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ.»[6]، أو قوله عليه وآله الصلاة والسلام: «... وَأَيْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا!»[7]، وما هو في معناهما؛ فإنه يكون إما جاهلا، وإما مُغرضا. وحتى نُبيّن المراد، سنكتفي بالرد على الإيراديْن السابقيْن، تاركين ما وراء ذلك لهمة الطالب، ما دام هذا الكتاب لا يتسع لذلك؛ فنقول: * إن الحديث الأول، لا ينفي اعتبار النسب؛ وإلا ما كان ذكره في مقابل العمل. ولكن يحث أهل النسب على أن لا يتخلفوا في ميدان العمل، لأن ذلك لا يليق بهم. وحتى ندلل على الأمر، فلنأخذه من جهة أخرى، نقابل فيها بين العالم الفقيه، والعامي. فهل يكون العمل من العامي، على الدرجة ذاتها من العالم؟... كلا!... وهذا لأن العالم له اعتبارات في العمل، تغيب عن العامي من غير شك؛ ولنأخذ النية مثلا على ذلك. فإن قيل للعالم: حتى تكون عالما حقا، فلا تتخلف في ميدان العمل، بحيث يسبقك العامي!... فهل يكون المقصود التسوية في القيمة بين العالم والجاهل، أم يكون حضّ العالم على أن يكون في مستوى علمه؟!... ونظن أن الجواب واضح جدا!... * أما الحديث الثاني، فقد غلط فيه أقوام أخذوه على ظاهره، وعدّوا السيدة فاطمة عليها السلام كغيرها من الناس؛ وهذا إثم عظيم!... وأما مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكلام، فهو تعظيم حدود الله؛ وهو من العبودية؛ وعبوديته صلى الله عليه وآله وسلم لا أتم منها ولا أكمل. فعندما أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يضرب مثلا على حرصه على إقامة حدود الله، ضربه بنفسه الشريفة؛ وعندما نظر إلى نفسه الشريفة لم يجد أحب إليه فيها من فاطمة عليها السلام، فعدل في التعبير إليها. فعدوله إليها عليه وآله الصلاة والسلام، ليس من تسويته بغيرها؛ وإنما هو من فرادتها عنده، ومن علو شأنها. ولكن الأعراب الذين لا ذوق لهم في اللغة، لا يفهمون تعابيرها إلا على ما يُعطيه ظاهر ظاهرها؛ وهذا معروف في الأدب قبل الدين. وها نحن قد أشرنا إلى مبدأ هذا العلم، ونسأل الله أن تكون هذه الإشارة كافية للدلالة على ما وراءها من كنوز يزخر بها القرآن، وتزخر السّنّة... وأما أسوأ ما وصلت إليه النواصب في هذا الضلال، فهو ما نظّر له ابن تيمية، ويقوم على التحذير من تعظيم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، مخافة أن يدخل المرء بذلك في الإشراك بالله. وسنكتفي هنا في الردّ على هذا الباطل، بما يلي: ا. إن تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مهما بالغ فيه العبد، لا يوصل إلى الشرك؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم هو أعلى وأجلى مظهر للاسم الله. وكأن المحذّر هنا من تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، محذّر من تعظيم الله ذاته، بزعم خوف الشرك!... فما أعجب هذا القول!... وهذا يعني، أن من نظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سيبصر الله، لا سواه؛ إن كان من أهل النور. وهو معنى قوله تعالى: {وَتَرَىٰهُمۡ یَنظُرُونَ إِلَیۡكَ وَهُمۡ لَا یُبۡصِرُونَ} [الأعراف: 198]. وهذه الخصيصة أصلية في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وللأنبياء السابقين والورثة من أمتنا منها نصيب، لا بالأصالة. وهذا يعني أن كل دال على الله بمظهره، فإن دلالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكون من دلالته كنسبة الحقيقة إلى المجاز. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن قوم: «... خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.»[8]. فإذا كان هذا حال خيارنا، فما حال نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، وهو خيار خيار الخيار؟!... {فَمَالِ هَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا یَكَادُونَ یَفۡقَهُونَ حَدِیثًا} [النساء: 78]!... ب. لا يُعدّ الشرك شركا عند الله، حتى يُعبد المظهر من دون الظاهر؛ وأما الجمع في الشهود بينهما، فهو من خالص التوحيد. يقول الله تعالى من جملة ما يقول: {مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦۤ إِلَّاۤ أَسۡمَاۤءً سَمَّیۡتُمُوهَاۤ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُم مَّاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَـٰنٍۚ} [يوسف: 40]. وهذا الكلام موجّه للمشركين، الذين لا يعبدون من معبوداتهم إلا أسماء سمّوها هم وآباؤهم. والعلم يُعطي أن مسمّى تلك الأسماء هو الله، وإن لم يعلم العميُ المطموسون. والتوحيد المقابل لشرك الجاهلين، هو ما كانت عليه الأنبياء جميعا عليهم السلام، والكلام في هذه الآية لواحد منهم. ومعنى كون المشركين لا يعبدون إلا أسماء سموها هم وآباؤهم، هو أن ما يطلقونه من أسماء على معبوداتهم من دون الله، لا حقيقة له؛ بخلاف الأسماء الإلهية التي تعود إلى حقيقة قائمة بنفسها لنفسها، وهي من جهةٍ مرتبة الألوهية، ومن جهة أخرى الذات الإلهية التي تستند إليها المرتبة. وكل كلام لابن تيمية أو لأحد ممن تابعه في ضلالاته، إنما هو تأسيس للشرك الذي جاء الإسلام للقضاء عليه!... فاعجب من انعكاس الدين، وكيف انعكس!... ومن أثر هذا الصنف من النصب، أن صار بعض العامة من المسلمين، لا يرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا كآحاد الأنبياء، وهو في الحقيقة أصلهم وسيّدهم. بل إن بعض من ينسب نفسه إلى العقلانية، يرى أن بعض الأنبياء أفضل من نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم. ويستدل لذلك، من فرط عماه بالقرآن والسنة. فمن القرآن، يستدلون بمثل قوله تعالى: {أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ} [الأنعام: 90]، فيتوهمون أنه صلى الله عليه وآله وسلم مأمور بأن يقتدي بالأنبياء السابقين لأنه مفتقر إلى تعليمهم؛ فيكون كالتلميذ مع أساتذته؛ وهيهات!... فما أُمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الاقتداء، إلا لأن الشرائع السابقة شريعة له بالأصالة، وقبل أن تُنسب إلى غيره من الأنبياء. فهو مأمور في الآية، بأن يأخذ ما له، وأن يستن بما شرع هو لغيره. فأين هذا، من الفهم السقيم الذي يكون عليه النواصب!... وسنكتفي من القرآن بما ذكرنا حتى لا نطيل. وأما من السنة، فيستدلون بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن قال: أنا خَيْرٌ مِن يُونُسَ بْنِ مَتَّى، فقَدْ كَذَبَ.»[9]. ففهموا من الحديث أن تفضيل المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على غيره من الأنبياء منهيّ عنه. وتفصيل القول في هذه المسألة، له وجهان: - الأول: أن يُؤخذ الضمير "أنا" من الحديث، على أنه متوجه على الشخص السامع المنهيّ. وهذا يعني أن من خطر في نفسه أنه (أي السامع) خير من يونس بن متى فقد كذب. والقرينة هي ما ذكره الله عن يونس عليه السلام في قوله تعالى: {وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ} [الأنبياء: 87]؛ فإذا ظن القارئ للقرآن أنه لا يمكن أن يقع في هذا القول الشنيع الصادر عن يونس، من اعتقاد أن الله لا يقدر عليه -لكونه يأخذه على ظاهر ما تُعطي الألفاظ- فليعلم أنه كاذب؛ لأنه لا يبلغ علم يونس بالله، ولا أدبه معه، مهما ظن في نفسه. والأمر هنا خاص جدا، وهو مما يتناوله الأنبياء من علم فيما بينهم، أو يتناوله كبار الورثة عنهم عليهم السلام. وهذا الوجه هو الذي نرجحه نحن... - الثاني: أن يكون ضمير المتكلم عائدا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحتى في هذه الحال، فإن المعنى يكون خاصا جدا، ومتعلقا بذات الله العليّة، من حيث لا تُعلم الدلالة عليها إلا من وراء وراء الألفاظ. وكل من لا علم له بالذات، فإنه يحرم عليه الخوض في هذه المسألة، إن كان يُشفق على نفسه... وسنكتفي أيضا بهذا الحديث وحده للدلالة على هذا الباب الواسع من العلم، حتى لا نخرج عن غرض الكتاب... وعلى عكس ما يعمل عليه النواصب، فإن المطلوب من المؤمنين، هو أن يتعلموا من العلماء الطاهرين كيف يعظمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف يفنَوْن فيه؛ حتى لا تعود لهم وجهة في الأكوان إلا وجهه المقدّس، إن وجدهم الله أهلا لذلك... وليعلم الطالب، أن من لم يسلك الطريق الذي ندل عليه، فإنه يخاف أن ينقطع مدده من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لسوء أدبه معه؛ وإنه من انقطع مدده، لا بد أن يموت على غير ملة الإسلام؛ وإن عاش بين الناس من أعلم العلماء بحسب الزعم. وهذه نصيحة نقدمها للعلماء قبل غيرهم، لا نريد بها إلا وجه الله!... وهي من روح قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى ما يَكونُ بَيْنَهُ وَبيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ؛ ويَعْمَلُ حَتَّى ما يَكونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ.»؛ ألا وإن أخص عمل يُدخِل الجنة، تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيم آله وصحبه؛ وإن أخص عمل يُدخل النار، بغض النبي صلى الله عليه وسلم، وبغض آله وصحبه. فليحذر العبد أن يُؤتى من حيث لا يشعر!... أما أحوال السوء التي يكون عليها النواصب، والتي تكون نتيجة لكل ما سبق، فلن نتتبعها الواحد بعد الآخر؛ بل نُجملها في كل ما هو مخالف للشريعة الغراء. وهذا لأن الله يُعاقب النواصب كلا بحسب معصيته الباطنة، فتخرج العقوبة من جهة الظاهر على صورة المعصية الباطنة المناسبة لها. فالناصبي مـُحاط بالمعصية من جهتيْه الباطنة والظاهرة، ومقهور بها من الوجهيْن. ولو أننا تتبعنا تفاصيل هذا الباب من العلم، لخرجنا بالعجائب، ولكننا دللنا على الأصل الذي لو تتبعه الناس من أنفسهم، لوقعوا -بعد إذن الله لهم- على تلك التفاصيل... 3. التيقظ للروافض في المجتمعات الشيعية: إن الرفض اتخذ من معاداة النصب أساسا لوجوده، من دون أن يعلم أهله أنهم لا يقلّون شيئا عن النواصب في الإضرار بأنفسهم وبالأمة؛ بل إن الغلوّ في أهل البيت عليهم السلام، قد أعطى للنصب سببا للاستمرار، وكأنه يتغذى عليه؛ كما يتغذى الآخر على صاحبه، سواء بسواء. ولسنا نعني بالغلوّ، إلا ما يكون من أمر العامة، عندما يُقحَمون في التعصب الجاهل للأشخاص، ويتوهمون أنه ينفعهم؛ خصوصا عندما يكون مرفوقا بالوقوع في كبار الصحابة المرضيّين. وكأنه لا بد من الوقوع في إحدى المصيبتيْن!... ولن ندخل في التفاهات التي صاغها العقل العامي الرافضي، والتي أصبحت عقيدة للرفض لا تقبل المناقشة؛ ولكن في مقابل ذلك، سندل على الحق في موالاة أهل البيت عليهم السلام، لعلنا نحظى منهم بنظرة قبول: ا. إخراج أهل البيت عن صفات البشرية العامة: وهذا لا يصح البتة، وهو عمل ينفخ فيه الشيطان ليجعل العباد يُعبدون من دون الله، فيدخل الناس في الشرك، بعد أن كانوا يفرّون منه؛ بل ربما كانوا يفرون من صغائر المعاصي. وقد حدث هذا للأمم السابقة، ونحن صرنا نعيده حيّا في أمة يقوم دينها على التوحيد الخالص... ب. محبة أهل البيت تابعة لمحبة النبي: وليست أصلية؛ ومن جعلها أصلية، فإن عمله يصب فيما يريده النواصب ولو من طريق مخالف، أي في صرف الناس عن النبوة؛ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو وحده من يكون التعلق به والتوجه إليه شرطا في التديّن. أما الصحابة وأهل البيت، فينبغي توقيرهم وتعظيمهم لنسبتهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا لأشخاصهم بأعيانها. ومن تحقق توجهه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكونه القبلة القلبية لكل المؤمنين، فإنه لا بد من أن يُنجيه الله من آفَتَيْ النصب والرفض معا، ببركة التوجه إليه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لا بعلم من العبد المتوجِّه ولا بعمل. وهذا يؤكد مرة أخرى أن عقيدتيْ النصب والرفض لا تَنبُتان إلا في بيئة منفصلة عن النبوة، وإن زعمت أنها تعظمها. ونحن هنا نتكلم في المستوى الأول للتديّن، لا في المستويات الفرعية؛ لأن المستويات الفرعية لا تَثبُت إلا بتعظيم خواص الصحابة، وخواص أهل البيت على الجميع السلام. ونعني من هذا، أن تعظيم الأتباع لا يضر الناس بل ينفعهم؛ لكن بشرط أن يأتي في المقام الثاني بعد تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن دون حَجْب لمركزية النبوة في الدين، ولو حَجْباً قليلا... وأما دلالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على العترة في حديث: «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ، (فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ)، ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي؛ أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي.»[10]، فهي واضحة: لأنها تجمع دلالة القرآن مع دلالة أهل البيت عليه، صلى الله عليه وآله وسلم ذاته، لا على غيره؛ حتى يكون من رجع في تديّنه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ممن قد اهتدى، ويكون من بقي في زعمه مع القرآن وحده كما تفعل النواصب؛ أو مع العترة وحدها، كما تفعل الروافض؛ قد ضل. فليُعتبر هذا الأصل فإنه نفيس!... ج. عبودية الأئمة من أهل البيت عبودية تامة: ونعني من هذا، أن الروافض لا يعلمون حقيقة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، والتي تشهد لها سِيَرهم العطرة، بما لا يدع مجالا للشك؛ ولو أنهم علموا ذلك، لخافوا على أنفسهم من أن ينتصب الأئمة خصوما لهم بين يدي الله يوم القيامة، عندما نسبوا إليهم ما لا يليق بهم. ومن كان خصومه الأئمة من أهل البيت، كيف يزعم لنفسه تديُّنا سليما بعدُ أو نجاةً؟!... ولوْ خُيِّر الأئمة من أهل البيت بين أن يسمعوا ما يُقال فيهم من بهتان، أو أن يُقطّعوا إربا إربا مع الآناء إلى قيام الساعة، لاختاروا الثاني. كيف لا ونحن مَن نرجو أن نكون عند الله من جملة خدمهم، نأبى أن يُنسب إلينا ما يُنسب إليهم، حاشاهم؛ وهم الأطهار الأنقياء الذين يندرج نورهم في نور النبي صلى الله عليه وعليهم وسلم، كما يندرج نور القمر في نور الشمس إذا طلعت!... فليتق الله قوم يزعمون أنهم يُعظمون أهل البيت، وهم يُسيئون إليهم بأقوالهم المنكرة!... وحتى يفهم الناس عنا، فليعلموا أن العبودية منها الجزئية ومنها التامة. والعبودية التامة الكاملة، لا تكون إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهي فوق كل إدراك، فلا يطمع أحد في معرفتها من كلام ككلامنا. أما العبودية التامة فتكون للأنبياء عليهم السلام وللورثة من هذه الأمة بالتبع، وهم فيها جميعا مستمدون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ بحيث لا يتمكن أحد من الانفراد بها من دونه. وأما العبودية الجزئية، فمنها ما يغلب عليه الظاهر كعبودية الفقهاء والعُبّاد؛ ومنها ما يغلب عليه الباطن كعبودية المريدين والصوفية. وأما من جهة التفصيل، فإن العبودية لا تكاد تنحصر، لكونها شاملة لجميع العباد مؤمنهم وكافرهم... فلا يحكم أحد من أهل العبودية الجزئية، على أهل العبودية التامة قياسا على نفسه؛ لأنه سينسب إليهم نقصه من حيث لا يدري، فيكون مسيئا وهو يظن الإحسان!... د. الأئمة من أهل البيت أئمة للأمة الإسلامية جمعاء: وهذا، حتى لا يغلط أهل السنة فيحسبوهم شيعة، ولا يغلط الشيعة فيحسبوهم أئمة لهم من دون المسلمين. ومن يعتقد من الجانبيْن ما ذكرنا، فإنه يكون آثما؛ لأنه يكون متقوّلا على الأئمة ما لم يقولوا؛ ويكون محرفا لحكم من أحكام الله ورسوله. والأئمة من أهل البيت، على غرار الخلفاء من هذه الأمة، لا يكونون إلا رؤوسا للأمة بأسرها، فلْيَسْعَ كل مسلم إلى التقرب إليهم بما يُحبّون، وعلى علم. فإنهم عليهم السلام، لم يكونوا قيد حياتهم، إلا خدما لهذه الأمة، تعظيما منهم لجناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن لم يكن على علم بما ذكرنا، فما عرف لا خلفاء ولا أئمة. ويكفيه سوءا -لو علم- أنه جاهل بمن هم أئمته في الدين: إما جهلا تاما، بخصوص من يُنكر إمامتهم له؛ وإما جهلا جزئيا، بخصوص من يقر لهم بها، ولكن يكون مُنْطَلَقه في ذلك من نفسه. نعوذ بالله من حال الجهل، ونسأل الله أن يرزقنا رضى خلفائنا وأئمتنا من أهل بيت نبينا، جميعا؛ ومن دون تفضيل فيما بينهم، لا لعدم وجود تفاضل عند الله ورسوله فيما بينهم؛ ولكن لأننا أحقر من أن نرفع بصرنا إليهم، إلا بالتعظيم والتوقير!... ه. التنبّه للتشيع الصفوي مضاعَفِ الانحراف: وعلى هذا يكون الرفض الصفوي من الشيعة، في الجهة المقابلة من السوء للنصب التيميّ الوهابي. وليُعتبر هذا التقابل، عند من يُريد أن يخرج من النظر إلى أهل السنة وإلى الشيعة بطائل؛ فإن الأمر تقدير عزيز حكيم. ونحن عندما نتكلم عن تشيّع صفويّ، فإننا لا نقرّ بتشيّع علوي كما تزعمه الشيعة لأنفسها. وهذا يُشبه عدم إقرارنا للمتسلفة من أهل السنة بأنهم على السنة بالمعنى الاصطلاحي. فلا يجد علينا إخوتنا الشيعة في أنفسهم، عند كلامنا عن تشيّع قد لا يُقرونه بالمواصفات التي نجعلها له؛ لأننا لا نعود إليهم في كلامنا عن تشيّعهم، كما لا نعود إلى كلام أهل السنة في النظر إلى تسنّنهم. ولعل لنا من الإنصاف، ما نزعم أنه يجعل الفريقيْن يتوقفان عند مطالعة كلامنا، قبل إلحاقه بمن قد يرى بعضهم أننا نُلحَق بهم... وحتى يعلم إخوتنا من الشيعة علمنا (المجمل) بما هم عليه، فليعلموا أننا نتفهم عدم قبولهم بتصنيفنا لتشيّع بعضهم بالتشيّع الصفويّ، ونتفهم تحسُّسهم منه. ولكن عليهم أن يمنحونا قليلا من انتباههم، عندما نصف بعض أهل السنة بالتيمية الوهابيّة؛ بل ونقرّ بأن التسنّن الذي تزعمه الوهابية، لا يخلو من عنصرية عربيّة، نرى أن التشيع الصفوي قد رسخ في مقابلها من العنصرية الفارسيّة لدى الشيعة ما لا يخفى. نعم، نحن لا يخفى عنّا التقاء علماء الشيعة الروافض بالتشيع الصفوي، لما يجمع بينهم من أصول في المذهب من جهة؛ ولِما رأوه من قيام دولة تنافح عن التشيّع عموما، وتدافع عن الشيعة من كونهم أفرادا شيعة من جهة أخرى، بعد أن كانوا منكلا بهم تحت كثير من الدول السنيّة المتعاقبة في التاريخ. فنحن نقرّ لإخوتنا الشيعة بتعرّضهم في المجتمعات السنيّة -على فترات متتالية- لاضطهاد دينيّ، على غرار كل اضطهاد ديني تاريخي، تعرضت له الأقليات في مجتمعات مخالفة لها في العقيدة من أمم أخرى؛ وعلى الصورة ذاتها التي يتعرض لها أهل السنة في إيران اليوم، عند انقلاب الآية. ولكن إقرارنا بالواقع التاريخي، لا يجعلنا ننجرف خلف التشيّع الصفوي وخلف تلفيقاته التي يزعم أهله بها، أنهم على التشيّع الأول، وهيهات!... وهذا، لأن التشيع الصفوي قد أضاف إلى الرفض الخبيث، ما هو من الانحياز للعرق الفارسي؛ وكأن نظرهم إلى النواصب، قد أنساهم أن الباطل لا يُغلب بباطل مثله، ولكن يُغلب بالحق!... و. لمحة تاريخية موجزة: وحتى نزيد الأمر وضوحا، فإننا نقول: إن التشيع الصفوي الذي حكم إيران منذ بداية القرن العاشر الهجري، وإلى الربع الأخير من القرن الثاني عشر الهجري، لم يمض وقت طويل بعد مناوشاتِ ملكيات من هنا أو من هناك؛ حتى بدأ الغزو الروسي والبريطاني يضع عينه على البلاد منذ بداية القرن الثالث عشر الهجري. ورغم أن إيران لم تخضع لاستعمار مباشر، فقد قُسّمت إلى منطقَتَيْ نفوذ: شمالية تحت النفوذ الروسي، وجنوبية شرقية تحت النفوذ البريطاني. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، دخلت إيران في حالة من الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ثم جاءت الدولة البهلوية مع بداية القرن الرابع عشر، واستمرت على فترات إلى أوان قيام الحرب العالمية الثانية، وبعد رفض رضى شاه الانحياز إلى الحلفاء، اضطُرّ إلى التنازل عن العرش وترك بلاده، حتى مات في جنوب أفريقيا، مع بداية النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري؛ فخلفه ابنه محمد رضى شاه بهلوي. وبعد سنتيْن، انسحب الروس من الجزء الشمالي لإيران. وبعدها بخمس سنوات جاء محمد مصدق رئيسا للوزراء، فعزز الاستقلال الإيراني بتدابير كانت ضرورية، واستمر زهاء ثلاث سنوات. واستمرت الأوضاع على حالها من الناحية السياسية، إلى أن قامت الثورة الإسلامية الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه، وجاءت بالخميني زعيما للثورة في آخر القرن الرابع عشر الهجري. وهنا ينبغي أن نتوقف قليلا، من أجل النظر في نظام الخميني الجديد، والذي صار يُعرف بـ "ولاية الفقيه". ز. نظام ولاية الفقيه: هو نظام استحدثه علماء الشيعة بعد الغيبة الكبرى، منذ القديم، لينوب فيه الفقيه الحائز للشرائط عن الإمام في كل المهام المنوطة به. غير أننا ننبه هنا إلى أمريْن: وعندما جاء الخميني إلى قيادة الشيعة، جاء بصفته وليا فقيها "مُرشدا"، وهو قد أحيا وظائف إمامية كانت قد اندرست كالإشراف على الجماعة والجُمع، وكجعل أمر الدولة شورى بين علماء البلاد قبل البرلمان المستعار من النظام الديمقراطي، وتنصيب مجمع تشخيص مصلحة النظام، لئلا يستبد المرشد بالرأي؛ حين بقيت هذه الوظائف غائبة في المجتمع السني، الذي غلب عليه تضييع معالم الحكم. وبعودة ولاية الفقيه، واستخلاصها من كتب الفقه القديمة وإخراجها -من باب الضرورة- إلى العصر الحديث، قد تقدم الفقه الشيعي الإيراني مراحل، على نظيره السني. وهو ما جعل مظاهر التديّن في إيران والمجتمعات الشيعية العربية يطول عمرها، وتتعمق في النفوس جذورها، وتصمد أمام حملات التغريب والتخريب معالمها؛ بخلاف الدول السنّيّة التي سرعان ما ظهرت عليها علامات الانسلاخ من دينها، والارتماء في أحضان الغرب (خصوصا)؛ مما سرّع بانهيار الدين لديها، وبقائها فريسة للفكر الدجالي العالمي، يُمعن في العبث بها المرة تلو الأخرى... وحتى نتبيّن أثر ولاية الفقيه الخمينية، فإننا سنذكر ما استطعنا من مقولات للمرشد، ونبيّن الهدى والضلال المنطوييْن بها؛ بحسب ما يسمح الوقت: وما يقع هنا لغير الربّانيّين، هو أنهم إذا سمعوا هذا الكلام من الأئمة صدقوه، لعلمهم بصدقهم؛ ولكنهم لا يعلمون كيفية تنزيله. وإذا ثبت أنهم لا علم لهم بتنزيله، كان ينبغي لهم السكوت بعد التصديق، فيظفرون بالأجريْن معا: أجر التصديق، وأجر الأدب. ولكنهم وقعوا فيما يقع فيه جميع الفقهاء، وهو إعمال العقل فيما لا قدم له فيه، فخرجوا إلى الضلال. ونحن هنا لعلوّ المسألة في العلم، سنلجأ إلى الإشارة إلى مفاتيحها فحسب: - المفتاح الأول: الأئمة يُخبرون عن حالهم، والناس لا خبر لهم عن ذلك الحال. لذلك فكل تعبير من الناس، هو ناتج عن فهمهم هم، وبالتالي لن يكون هو مراد الأئمة من كلامهم. - المفتاح الثاني: الأئمة من طبقة الربانيّين العليا (ربانية المواجهة). ومن يكون من هذه المرتبة فله ثلاثة أحوال: الأول أن يكون بنفسه: فإذا كان بنفسه، صار كعامة الناس، وإن كان يفوقهم في العلم. والثاني: أن يرقى إلى ظاهر الحقيقة المحمدية، فيكون حاله حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن على قدره. ومن هنا يكون أفضل من سائر الأنبياء والملائكة. والثالث: أن يرقى إلى باطن الحقيقة المحمدية، وهنا مـُستقر الإمام عليّ عليه السلام؛ وهنا يصير الإمام متكلما بلسان الحق الذي هو فوق النبوة والرسالة نفسيْهما. وقد ظهرت هذه الأحوال من بعض أئمة أهل السنة (وأظنه الشبلي عليه السلام)، فكان يقول في بعض أوقاته، لمن يعلم أنه مطلع على حاله من تلاميذه: "اِشهد أني رسول الله!... فكان التلميذ يشهد قائلا: أشهد أنك رسول الله!... ولو مر أحد علماء أهل السنة بالشبلي وبتلاميذه لكفر الإمام والأتباع جميعا؛ وهو معذور. وهذا لأن علوم أحوال الخواص، لا تُدركها العقول؛ خصوصا إن كانت عقولا فقهية من مرتبة الإسلام. ولولا هذا العمق الذي للدين، ما كان يوصف بأنه حبل يصل العباد بربهم. يصل الأئمة مباشرة، بإذاقتهم أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ويصل الأتباع بكيفية غير مباشرة، عند اتباعهم لأئمة الهدى، وعند تكثير سوادهم. 2. يقول الخميني: [ لقد جاء الأنبياء جميعاً من أجل إرساء قواعد العدالة، لكنهم لم ينجحوا، حتى النبي محمد خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية، لم ينجح في ذلك؛ وإن الشخص الذي سينجح في ذلك هو المهدي المنتظر.][12]: - المفتاح الأول: هو أن المهدي تابع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يتمكن من رفع رأسه في حضرته الشريفة؛ ولو فعل لقُطِعت!... - المفتاح الثاني: هو أن زمن المهدي داخل ضمن الزمن المحمدي التشريعي، الذي هو من البعثة الشريفة إلى قيام الساعة. وكل ما يظهر من خير، ضمن الزمن المحمدي، فإنه يُنسب أولا إليه، صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة لا مجازا. لهذا، فالعدل الذي سيظهر به المهدي، هو من عدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا كان الأمر هكذا، فإن الشخص الواحد لا يُقارَن بنفسه، كما يفعل الجاهلون!... - المفتاح الثالث: إن عدل المهدي، هو صنف واحد من صنوف العدل النبوي؛ وهو مخصوص بمسألة الحكم حصرا. ولا يختلف عدل المهدي من هذا الوجه عن عدل عمر عليهما السلام، إلا من كون عدل عمر سُبق بعدل النبوة، فلا بد أن يظهر أنقص منها وإن كان كاملا. وأما عدل المهدي، فإنه سيظهر بعد الظلم والجور الذي سيطبع العصر الذي قبله. والنور الذي يظهر بعد الظلام يبدو في عين العقل أشد من النور الذي يظهر بعد نور أقوى منه... هذا فقط!... 3. يقول الخميني: [إني متأسف لأمرين: أحدهما أن نظام الحكم الإسلامي لم ينجح منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، وحتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولم يستقم نظام الحكم كما ينبغي.][13]: - المفتاح الأول: هو أن الدنيا ليست دار عدل تام من جهة الشريعة والظاهر؛ وإن كان العدل فيها تاما من جهة الحقيقة. فأول ما ينبغي هنا هو: التفريق بين ميزاني الشريعة والحقيقة؛ ومن لا علم له بذلك، فإن الكلام يحرم عليه... - المفتاح الثاني: هو المفتاح الثاني السابق نفسه... - المفتاح الثالث: لو لم يكن ظهور العدل الإسلامي كمالا في التشريع عامة، ما ظهر المهدي ولا ظهر عدله؛ لأنه سيكون خاتم الخلافة المحمدية. وهذا قبل انقضاء مدة الدنيا وقيام الساعة، وحتى لا يُقال إن الإسلام لا يُوصِل إلى العدل في الحكم هنا. وربما عدّه الجاهلون كتشريع النصارى الذي لم يعتن من الأصل بأمور الدولة والحكم. فالمهدي بهذا الاعتبار، لن يُحقّق ما لم يُحققه النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإنما سيقوم بتحقيق ما يُحقِّق، عن الأمر والإذن النبوييْن، فيكون كالخادم المنفذ لتعليمات سيّده فحسب!... ولقد غلط بعض فقهاء أهل السنة أيضا -كما غلط الخميني- عندما قالوا بعدم وجود نظام سياسيّ مخصوص بالإسلام؛ لأن النظام الإسلامي حاضر في الوحي حضورا تاما، بأصوله وفروعه؛ لكنه مرِنٌ إلى الحد الذي تقصر معه العقول الضعيفة، عن تبيّن معالمه أحيانا. والدليل على ما نقول، هو أننا نحن، قد منّ الله علينا بتمييز معالم النظام الإسلامي، إلى الحد الذي نتمكن معه بحمد الله من الكلام عن جميع وجوهه، وإن كان بعضها خارج اختصاصنا. ولولا إحكامنا لأصول ذلك النظام وكثير من فروعه، ما كنا نستطيع ذلك، ولبقينا نتخبط كما يتخبط غيرنا، بين أنظمة غربية وأخرى شرقية، لا يرون عنها انفكاكا... 4. يقول الخميني: [وواضح أن النبي لو كان قد بلغ بأمر الإمامة طِبقاً لما أمر الله به، وبذل المساعي في هذا المجال، لما نشبت في البلدان الإسلامية كل هذه الاختلافات والمشاحنات والمعارك، ولما ظهرت خلافات في أصول الدين وفروعه.][14]: - المفتاح الأول: هذا القول كفر، لأنه يُصادم قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ یَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ} [المائدة: 67]. وهذا القول تكليف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الآن ذاته شهادة بأنه قد أدى التكليف، لأنه معصوم. ويقول الله في موضع آخر: {ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینًاۚ} [المائدة: 3]. وهذه الآية ما كانت لتنزل، لو بقي شيء مما أُمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغه، لم يبلغه؛ حاشاه!... ولا ينبغي للشيعة أن يكونوا أقل فهما لهذه الآية من اليهود الذين عندما سمعوها قالوا للمسلمين: لو علينا معشر يهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. وكل كلام هنا، عن عدم التبليغ منوطٍ بإمامة عليّ عليه السلام، فهو باطل من كل الوجوه، ولا يليق بمتبع لإمام، بله إمام؛ لأن الأئمة معصومون عن سوء الفهم في الوحي!... وللتذكير، فإن العصمة عندنا، تختلف عما يُدركه منها أهل السنة والشيعة معا!... - المفتاح الثاني: كل إمامة -بدءا من إمامة عليّ عليه السلام- هي من مدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا العكس. والإمام، هو المأمور بتبليغ الناس ما يُبرز مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يعودوا إليه في الزمان، فيستمدوا منه كما يستمد الإمام. وهذا لأن الإمامة بالأصالة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما سبق أن بيّنّا في بعض الفصول، فلا يعكسْ أحد الأمر فيضل ضلالا كبيرا... - المفتاح الثالث: مَن أخبر الخمينيّ، بأن غاية الدين هي رفع الاختلاف وتجنيب الناس الحروب؟... بل إن الاختلاف مراد لله، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَ ٰحِدَةً وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَ ٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ} [هود: 118-119]؛ أي للاختلاف خلقهم. ومن دون اختلاف: هل كان يمتاز مؤمن من كافر، أو مسلم من محسن، أو مأموم من إمام؟!... فكلام الخميني السابق، يدل على أنه قد دخلت عليه ظلمة عقله، كما تدخل على عوام الفقهاء عند أهل السنة أيضا... - المفتاح الرابع: أما العلم بسبب الاختلاف المذكور، فيدخل في علم الحقائق. وأقل ما ينبغي أن يُعلم منه: العلم بتقابل الأسماء الإلهية؛ لأن الاختلاف ناشئ عنها... 5. ثم يقول الخميني: [وبالإمامة يكتمل الدين والتبليغ يتم.][15]: - المفتاح: الإمامة فرع من فروع النبوة، وبها تظهر مرتبة الوراثة. ونعني أن النبوة أعلى من الإمامة في المرتبة، من غير أدنى شك. وهذا يعني بدوره، أن الإمامة هي التي تثبت بالنبوة، لا العكس. وبما أن الإمامة تجل من تجليات النبوة؛ فتجليات النبوة هي التي تكمل، لا النبوة. كقولك: بظهور نور القمر، يكتمل تجلي الشمس؛ لأن القمر لا انفصال له عنها، حتى يزعم زاعم أنه بالقمر اكتملت الشمس وهي الكاملة بذاتها!... فافهم!... وكذلك القول في التبليغ، فإنه من الأئمة فرع عن تبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن يتصور غير هذا، فإنه سيقع في الفصل، والفصل سيوقعه في الشرك لا محالة. وهذا لأن التوحيد، هو ما يُعطي هذه الاعتبارات التي نتكلم بها نحن هنا... 6. ويقول الخميني عن الأئمة: [لا يُتصور فيهم السهو والغفلة...][16]: - المفتاح: قد ذكرنا للأئمة أحوالا ثلاثة: حالا يكونون فيه بأنفسهم، وحالا يكونون فيه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحالا يكونون فيه بالله تعالى من النبي. فإن كانوا بالله، فإن السهو والغفلة لا يُتصوران منهم عليهم السلام؛ وإن كانوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهم أيضا محفوظون مما ذُكر بنور النبوة؛ وأما إن كانوا بأنفسهم، فقد يُجري الله عليهم الغفلة والسهو وغير ذلك من صنوف النقص؛ غير أنهم لمرتبتهم المنيفة، سرعان ما يعودون إلى الحق، فضلا من الله ونعمة. والحكمة من إظهار صفات النقص على الأئمة، هي حفظ الأتباع من اعتقاد الألوهية فيهم، كما جرت عادة الرب مع الأنبياء أنفسهم؛ لأن النقص يكسر التنزيه الذي يكون طاغيا على بصائر الأتباع. ولو اعتقد الأتباع وهم من مرتبة العامة الألوهية في أئمتهم، فإنهم يضلون كما ضلت النصارى قبلهم!... 7. ثم يقول الخميني: [تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن][17]: - المفتاح الأول: القرآن وحي من عند الله، لا يعدله في درجته حتى الحديث النبوي. والحديث القدسي درجة بين القرآن والحديث النبوي. أما كلام الأئمة، فهو تحت الحديث النبوي؛ لأنه من مرتبة الوراثة، لا من مرتبة النبوة!... فافهم!... - المفتاح الثاني: كلام الأئمة متفرع من جهة المعنى عن الوحي، من غير شك؛ لأنه متصل به. ولولا هذا الاتصال، ما صحت الوراثة نفسها... لذلك من أراد أن يسمع تفسير القرآن على كماله، فليسمعه من إمام!... ومن هذا الباب أنكرنا على الخوارج في جدالهم لعليّ عليه السلام، في فهم آيات القرآن؛ لأنه كان أفضل من يفسرها في زمانه. وقد ذكرنا هذا الوجه في بابه من الفصل الخاص به سابقا. 8. ويقول الخميني: [فإن للإمام عليه السلام، مقاما محمودا، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية، تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون][18]: - المفتاح الأول: إن هذه الصفة تكون لغوث الزمان (الخليفة الغيبي)، لا لكل إمام. وقد يكون لإمام الزمان منصب فيما ذُكر تحت الخليفة الغيبي، إن كان من أهل المراتب المـُسندة إلى رجال الغيب. أما التعميم الذي يقصده الخمينيّ، فلا يصح!... - المفتاح الثاني: لا يستهوِلَنَّ أحد ما ذُكر من تحكم الخليفة في جميع ذرات الكون، لأن هذا هو ما تعطيه الخلافة عن الله. وهذا الخليفة عند قيامه في هذه الخلافة، فإنه يكون قائما بالله لا بنفسه، وتكون جميع الأسماء الإلهية له؛ لأنه بها يتصرف في الكون!... ومن لا يميّز ما نقول، فليبق على الساحل ولا يخُض هذه اللُّجج، فإنه أسلم له وأنفع... 9. ثم يقول الخميني: [إن الذين لم يكن لهم ارتباط بالإسلام والقرآن إلا لأجْل الرئاسة والدنيا، وكانوا يجعلون القرآن وسيلة لمقاصدهم الفاسدة، كان من الممكن أن يحرفوا هذا الكتاب السماوي في حالة ذكر اسم الإمام في القرآن، وأن يمسحوا هذه الآيات منه، وأن يلصقوا وصمة العار هذه على حياة المسلمين.][19]: - المفتاح الأول: نعم، نحن لا ننزه المـُغرضين من إرادة ذلك؛ وقد أثبتنا أنهم قد حرفوا الدين بالفعل. ولكن تحريفهم ذلك، هو من مشيئة الله وإرادته؛ لأنه محال أن يظهر شيء في الوجود بغير إرادة الله. واعتقاد هذا الاعتقاد الفاسد، كفر؛ قد يعفو الله عنه، إن كان العبد عاميّا ولم يُدخِل نفسه في "علم الكلام"، كما يفعل كثير من الجهلة... - المفتاح الثاني: هو أن الله قد تكفل بحفظ القرآن، وهو القائل سبحانه: {إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ} [الحجر: 9]. وكل معتقد خلاف هذه الآية فإنه يكفر. وحفظ القرآن متحقق، كما جاء في المصحف، بالقراءات المسنونة، باللفظ وبالمعنى. فلا يخف أحد من تهويلات الضالين، ولا من تشكيكات المترددين!... وهذا القول للخميني، لا ينبني إلا على احتمال أورده عليه عقله، ليجد مستندا للطعن في النواصب طعنا يظن أنه ينفعه. والحقيقة هي أن هذا الفعل منه قد يجعل المرء يشك في جميع أقواله، لأنه غير مستوثِق فيها. 10. ثم يقول الخميني: [والأقوى: إلحاق الناصبي بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق الخمس به؛ بل الظاهر جواز أخذ ماله أينما وجد، وبأي نحو كان، ووجوب إخراج خمسه.][20]: - المفتاح الأول: الناصبي عدو لله ورسوله، متخف بظاهر الإسلام، فهو إذاً منافق. - المفتاح الثاني: المنافق لا يُقتل في الشريعة الإسلامية، لأن نطقه بالشهادة يعصم دمه وماله وعرضه. لذلك فإن حكم الخميني على الناصبي غير شرعي. - المفتاح الثالث: في أزمنتنا هذه، لا ينبغي الاشتغال بمعاداة الروافض ولا النواصب؛ لأن المهدي هو من سيتولى أمرهم بعد بعثته عليه السلام. فلينتظر الناس أن يروا ذلك بأعينهم، من غير أن يحتملوا في سبيله وزرا... 11. ويقول الخميني: [ولولا هذه المؤسسات الدينية الكبرى، لما كان هناك الآن أي أثر للدين الحقيقي المتمثل في المذهب الشيعي، وكانت هذه المذاهب الباطلة التي وُضعت لبناتها في سقيفة بني ساعدة وهدفها اجتثاث جذور الدين الحقيقي تحتل الآن مواضع الحق.][21]: - المفتاح الأول: كان يصح كلام الخميني، لو أن الرفض لم يظهر في الشيعة، وتوسع فيهم حتى صار الغالب عليهم. وهذا، لأن الرفض والنصب سواء في السوء!... - المفتاح الثاني: اللبنات التي وُضعت في سقيفة بني ساعدة كانت لبنات هدى، فلا يغلط أحد في الجهل بقدر الخلفاء عليهم السلام، فيُسيء إلى نفسه وهو يرجو نفعها... 12. ويقول الخميني أيضا: [إننا لا نعبد إلهاً يقيم بناء شامخا للعبادة والعدالة والتدين، ثم يقوم بهدمه بنفسه، ويُجلس يزيد ومعاوية وعثمان وسواهم من العتاة في مواقع الإمارة على الناس، ولا يقوم بتقرير مصير الأمة بعد وفاة نبيه.][22]: - المفتاح الأول: هذا القياس فاسد، وهو صادر عن ضعيف عقل وضعيف إيمان. - المفتاح الثاني: إن هذا القول يقتضي وجود إلهيْن: إله شَرَع الدين، وإله فعل خلاف ما شرع الأول. وهذه العقيدة هي عقيدة الثنوية من المجوس ومن المانوية وغيرهم من ملل الضلال... - المفتاح الثالث: قد وقع في هذا القياس الفاسد أيضا، من رفضوا الدين من الأصل، بقولهم إن الشر الموجود في العالم، قد خرج عن إرادة الله الذي أمر بالخير في التكاليف الدينية. وهم يجهلون معنى الإرادة!... وهم بنظرهم يجعلون -ولو من دون إفصاح- إله الخير الله (الذي يؤمن به المؤمنون)، وإله الشر الشيطان (أو أي كائن غيره). وهذه الملة هي أصل الملل الشركية كلها، لعمومها كل الأصناف الأخرى، عموم البذرة للشجرة... - المفتاح الرابع: إن الله عندما شرع الشريعة جعلها ميزانا توزن به أعمال العباد وأحوالهم، لقوله تعالى: {وَٱلسَّمَاۤءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِیزَانَ} [الرحمن: 7]؛ ولم يجعلها ميزانا لأفعاله هو سبحانه؛ لأنه: {لَا یُسۡـَٔلُ عَمَّا یَفۡعَلُ وَهُمۡ یُسۡـَٔلُونَ} [الأنبياء: 23]. والتشريع من الأمر الإلهي، وأما الأفعال الإلهية الظاهرة في الأكوان فمن الإرادة الإلهية. وإن خالفت الإرادة التشريع، فالشأن معتاد. وما وقع في اللبس إلا من ظنّ الأمر الإلهي إرادة، وظن الإرادة الإلهية أمرا؛ وهذا يعني أن الجهل بهذه المسائل هو سبب هذه المقولات الخاطئة... والتناقض الذي يراه في التشريع بحسب زعمه، هو من عدم علمه، لذلك فإليه يعود؛ لا إلى الإله المعبود... - المفتاح الخامس: إن الله لم يُهمل أمة نبيه، لا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بعد وفاته. وهذا الوهم قد دخل على القائل من عقله. ونعني أن عقله لم يتنور بالمدد النبوي، رغم زعمه أنه من أنصار الأئمة ودين الحق. وهذا هو ما ينبغي أن يخافه المرء على نفسه!... ومن لم يتنور عقله، فإنه سيرى اختلافا بين زمن حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدنيوية، والزمن الذي جاء بعد وفاته. والحقيقة أنه لا فرق؛ علم من علم، وجهل من جهل!... - المفتاح السادس: نعم، إن الله هو من ولى معاوية ويزيد وغيرهما من الملوك الظلمة... ولكنه لم يُخبرهم أنه أطلق أيديهم في الأمة يفعلون بها ما يشاؤون. لذلك فإنه سبحانه سيحاسبهم على كل أفعالهم، كما يُحاسب جميع العباد. وما ينبغي التفريق فيه هنا: هو القدر والشريعة. والقدر لا ينتظر الشريعة حتى توافقه ثم يجري؛ بل هو يجري من غير نظر إلى الشريعة... وعلى العبد المؤمن أن يعلم أن الله هو مقدّر الأقدار، خيرها وشرها. وهذه مسألة من أول ما ظهر في علم الكلام عند دخول الغفلة على الناس، وإرادتهم الاستعاضة عن النور النبوي (الهداية)، بنور العقل الأرضي... والخميني هنا، لا يتجاوز مرتبة الإسلام -إن سلمت له- لأن الإيمان بالقدر من أركان مرتبة الإيمان. ولو أنه كان من أهل مرتبة الإيمان، ما صدرت عنه هذه الشناعة!... ولنكتف بهذا القدر من توضيح كلام الخميني، الذي تعتبره الشيعة الإمام الفقيه؛ ونحن لم نرد من هذا التوضيح إلا دلالة الشيعة المعاصرين على مَواطن الخلل لديهم، والتي يُخالفون فيها الأئمة من أهل البيت الذين يزعمون أنهم على خُطاهم سائرون، وهيهات!... لعلهم يرجعون!... وقد يتعجب إخوتنا الشيعة بعد هذا، إن نحن قلنا لهم: إننا نراهن عليهم في العودة إلى الحق؛ لا لشيء، إلا لبقاء عقلانية لديهم. ونحن وإن كنا لا نوافق دولة إيران على سياساتها كلها، فإننا نحمد لها وقوفها وقفة العزة في وجه الاستكبار الدجالي. ويشهد الله، أننا نعتبر في العباد إسلامهم والتزامهم بطريق النبوة، أكثر من اعتبارنا لأعراقهم. ويشهد الله أننا نحب في إخوتنا الشيعة الإيرانيين إسلامهم كما نحبه في أهل السنة الأصلاء. فلا يزايد علينا أحد من الشيعة ولا من أهل السنة في إسلامنا، وفي انتصارنا للإسلام!... بارك الله في الجميع... وحتى لا يغتر أصحاب التشيع الصفوي بالتنظيرات التي يجعلون فيها أنفسهم ورثة للمختار الثقفي عند زعمه الانتصار للحسيْن عليه السلام في ثورته، فإننا نقول لهم: قد اغتر بعض أهل السنة قبلكم بالحجّاج الثقفي، فلم يزدهم اغترارهم إلا بعدا عن الحق. واغترار الفريقيْن برجليْن من ثقيف، إن كان يُنبه أهل الاعتبار إلى شيء، فإنه ينبه إلى وقوع الفريقيْن تحت تحكم إبليس، بالدرجة ذاتها، وإن اختلفت صورة الإضلال بين هؤلاء وهؤلاء. فهل من مُعتبِر؟!... (يُتبع...) [1] . أخرجه البخاري عن أبي بكرة نفيع بن الحارث، رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.