اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2023/01/16 شذرات مما يتعلق بموقعة صفين من أحكام وآيات (10) (تابع) 10. خلافة المهدي: إن خلافة المهدي حتمية تاريخية، لا بد أن ينتهي إليها المسار القدري الذي بدأ من خلافة أبي بكر عليه السلام. وهي في مقابل اختتام المسار القدري العام، الذي بدأ بخلافة آدم عليه السلام، وسينتهي بعد خلافة المهديّ بخلافة عيسى عليهما السلام. وأما ختمية الولاية التي هي روح الإمامة، فالعامة تكون لعيسى عليه السلام، والخاصة بالأمة المحمدية تكون للشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي عليه السلام، كما كنا نخبر دائما. وختمية الولاية هي في المعنى أخص من الإمامة التي مررنا بها عدة مرات، وأثبتناها للاثني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام، ولغيرهم بالتبع من كل زمان. وهذا يعني أن المهدي يختم الخلافة، ويختم الإمامة؛ أما الولاية فشأنها ما ذكرنا، فنرجو ألّا يخلط القارئ بينهما. وكل الختميات هي مراتب محمدية، اختص الله بها بعض عباده على بعض، زيادة في فضلهم. وهذه الختمية المحمدية الجامعة، هي ختمية النبوة التي قال الله فيها: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَاۤ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِیِّـۧنَۗ} [الأحزاب: 40]. ومعنى الخاتَم في الآية من الختمية، وهو المعبر عنه أيضا بلفظ الختْم المضاف إلى الولاية من قِبل الأولياء. ومعنى الختم والخاتم، هو من تنتهي إليه مراتب الصفة المذكورة، لا الخاتِم الذي يختمها في الزمان؛ مع أن معنى الخاتِم متضمَّن في ختمية النبوة لدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فليُعتبر هذا التفريق هنا أيضا، لأنه نافع في العلم. وقد غلط بعض المتصوفة في ختمية الولاية، عندما نسبوها إلى بعض شيوخهم، وجعلوها خاتمة في الزمان؛ حتى أنكروا وجود الأولياء بعد زمان شيوخهم. وهذا جهل كبير لا يُغتفر!... ولنعد إلى حتمية ختم المهدي للخلافة المحمدية (الحكم)، والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلاً مِنْ وَلَدِي اسْمُهُ اسْمِي. فَقَامَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِنْ أَيِّ وَلَدِكَ؟ قَالَ: مِنْ وَلَدِي هَذَا. وَضَرَبَ ِبَيَدِهِ عَلَى الْحُسَيْنِ.»[1]. وعبارة: "لو لم يبق... لطوّل..." هي ما يدل على معنى الحتمية القدرية؛ أي إن ذلك كائن، ولو من جهة خرق العادة؛ لقطع العلم بضرورة وقوعه. وهذا الصنف من العلم مندرج فيما لا يقبل المحو، مما هو مكتوب في اللوح المحفوظ. ودليله من القرآن هو قول الله تعالى: {یَمۡحُوا۟ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ وَیُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥۤ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ} [الرعد: 39]. وعلى هذا تكون خلافة المهدي ثابتة، يصدق المؤمنون بأخبارها الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلمها شهودا من رزقه الله النظر في اللوح المحفوظ من الأولياء. وأما الرواية المشهورة لدى أهل السنة، والتي جاء فيها: "اِسْمُهُ اسْمي، واسْمُ أَبيهِ اسْمُ أَبي"، فمن الواضح أن شطرها مدرج، بِنِية تعمية اسم المهدي، وإدخال الشك على الناس فيه؛ وهو صنف من عدائه ومحاربته قبل أوان ظهوره عليه السلام. وهذا لا يكون إلا من تيّار النصب الذي تولى أمر وضع الأحاديث النبوية وتحريفها، من جهة أهل السنة. وهذا لأن من التحريف، ما هو خاص بالروافض أيضا، وإن كان مختلفا عن تحريف أهل السنة من حيث المعاني المراد تثبيتها في الناس؛ وكأن الفريقيْن قد اتفقا على أصول الضلال، وافترقا في فروعه فحسب. وهذه الرواية التي أوردناها نحن للحديث، من أصح الروايات لفظا، وأوضحها معنى. وقد ورد في نهاية رواية أبي داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود، التي جئنا بالعبارة المدرجة فيها: «يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً.»، وهذه في الحقيقة صفة كل خليفة، وليست مخصوصة بالمهدي؛ وإنما خُصّ المهدي بذكرها، لأن زمنه مسبوق بالظلم والجور، بخلاف الخلفاء الراشدين الذين سبقهم عدل النبوة وقسطها؛ أو الخلفاء الذين جاءت خلافتهم متخللة لفترات الملك العاض. ونعني من هذا، أن من الملوك الذين سيتولون الحكم في تاريخ الأمة، من يكون على عدل؛ وإن كان عدله لا يبلغ عدل الخلفاء. ومن هذا الباب، منعنا نحن وحرّمنا، أن ينسُب ناسب شيئا من الظلم إلى خليفة من الخلفاء بالإطلاق. ونخص بالذكر هنا، الخليفة العادل عثمان بن عفّان عليه السلام، الذي تفنن بعض المتقدمين وبعض المتأخرين في الطعن في خلافته لجهلهم بالخلافة نفسها. وهذا الجهل المفضي إلى الطعن، من أسوأ ما يقع فيه الناس، لو كانوا يشعرون!... وأما من خالف توجيهنا في القطع بعدالة الخليفة، فإنه سيقع في تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يشعر!... وكفى بهذا إثما مبينا!... ولنشرع الآن في بيان بعض خصائص خلافة المهدي: ا. سبْق الظلم والجور لها: ومعناه أن الناس يكونون قد فارقوا العمل بالشريعة الربانية، واستعاضوا عنها بالقوانين الوضعية، وبنتائج أفكارهم، كما هو الحال في زماننا. وهذه المخالفة للشريعة ينشأ عنها صنوف الظلم التي منها ما يعرفه الناس بالعادة، ومنها ما لا يعرفون. وهذا، لأن كل موافقة للشريعة هي عدل محقق، يأتي بالخير المناسب له، علم الناس أم لم يعلموا؛ وكل مخالفة لها، هي ظلم محقق، يأتي بالشر المناسب له، علم الناس أم لم يعلموا. أما الظلم والجور بالمعنى التام، ومن كل وجه، فلا يصح من جهة الحقيقة؛ لأن كل فعل إنساني، هو فعل رباني قبل ذلك. وما كان فعلا لله، فلا يمكن أن يكون ظلما وجورا من كل وجه قط؛ بل هو عدل محض من وجهه الخاص. فبقي أن الظلم والجور هنا نسبيان، متعلقان بمعاملة الشريعة فحسب... ومسألة العدل الإلهي قد تناولها أصحاب الكلام والفلسفة، ولم يخرجوا منها بطائل؛ لأن العقل وحده لا يتمكن من إدراكها، لافتقاره في ذلك إلى نور الكشف. ونحن نعجب كثيرا ممن يُنيطون بالعقل استكناه كل العلوم، مع أن الدليل من التاريخ ومن الواقع ينتصر لعكس ما يظنّون. ونحن لا نرى هذا الإخلال بشروط العلم، إلا من غلبة العقل لصاحبه. ومَن غلبه عقله، حتى صار يحكم بما لا يصح إلا منه، فهذه علامة عدم أهليته لطلب العلم؛ بله أن يكون عالما. وهذا، مما يدخل في ضبط المنهجية العلمية، كما نعرفها نحن... ولا بأس هنا من الإشارة إلى مسألة خلق الشر، التي يعلق بها ضعفاء العقول من مفكري الكافرين والمؤمنين. فهم يرون أن خلق الله لما هو معتبر شرا في العالم، لا يليق بالتنزيه الذي يتصورونه فيه سبحانه؛ حتى لقد سمعنا من أحد السفهاء قوله: إن الله بذلك لا "يستحق" صفة الرحمة. والمسكين، لا يعلم لا معنى الشر، ولا معنى نسبته بالخلق إلى الله، ولا معنى الرحمة!... وحتى نسهّل على الناس تبيّن معالم هذه المسألة من دون إطالة، فإننا نشير إلى نقطات مركّزة، هي: - إن الشر المخلوق، يُعتبر في النسبة الخَلقية للأفعال وحدها، لا في النسبة الإلهية. وذلك لأن أفعال الله كلها خير محض، وإن كان كثير من الناس لا يرقوْن إلى إدراكه. - إن خلق فعل الشر (بالاعتبار السابق) من قِبل الله تعالى، هو رحمة بذلك الفعل؛ ولو لمْ يُخلق لكان محروما من الرحمة المنوطة به. وعلى هذا، فإن خلق أفعال الشر من الله تعالى، هو من كمال رحمته بجميع خلقه. وحتى تتضح الرؤية، فلنضرب مثلا بالشيطان نفسه: فلو لم يخلقه الله، وهو من تُنسب إليه جميع أفعال الشر، لكان غير مرحوم برحمة الإيجاد؛ ولكانت مرتبة الشيطنة غير مرحومة، عند بقائها في طيّ العدم. - إن وجود الشر ضروري في مقابلة وجود الخير؛ وهذا لأن العالم المخلوق مبني على أساس الازدواج. يقول الله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَیۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَیۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]. وهذا حتى يمتاز الخالق عن المخلوق من جهة المرتبة. - إن اشتراط العبد صفات مخصوصة في ربه، تكون على مقاس عقله؛ هو خلق لصورة يتصور أنها صورة الله. والله تعالى لا يُخلق، وإنما هو الخالق. هذا هو المبدأ الحافظ للعقائد في الأذهان، وإلا انهار العقل بانهيار المعقولات. والمطلوب من العبد أن يعرف ربه من إخباره عن نفسه في كلامه، أو من إخبار نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لا من إعمال فكره الذي لا يُجدي في كثير من الدنيويات، فكيف بالإلاهيات!... ب. حال الأمة إبّان خلافة المهدي: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَخْرُجُ فِي آخِرِ أُمَّتِي الْمَهْدِيُّ: يَسْقِيهِ اللهُ الْغَيْثَ، وَتُخْرِجُ الْأَرْضُ نَبَاتَهَا، وَيُعْطِي الْمَالَ صِحَاحًا، وَتَكْثُرُ الْمَاشِيَةُ، وَتَعْظُمُ الْأُمَّةُ. يَعِيشُ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا.»[2]. ولنتتبع الألفاظ على ترتيبها: - «يَخْرُجُ فِي آخِرِ أُمَّتِي الْمَهْدِيُّ»: أي في آخر عمرها، وهو آخر الزمان، وقُبيل قيام الساعة. وأغلب الظن أنه لا يجاوز ما بين المهدي وقيام الساعة القرن من الزمان على أكثر تقدير. والمهديّ كما قد عرفنا، صفة من الهداية لآخر خليفة، لا اسم. ومعنى كونه مهديّا، هو كونه مُسدَّدا من الله ورسوله؛ فهو على مدد كشفي وتوفيق تام. ومن يكون على هذه الصفة فهو المهدي بالاصطلاح، وأما غيره من الناس، فهدايتهم جزئية ولا بد. ولا يخلو واحد من أهل كل زمان، من هذه الصفة، فيكون مهدي زمانه. ولعل استشعار هذا المعنى، هو ما جعل بعض المفتئتين من كل زمان، يتطاولون إلى نيل المهدوية بغير حق؛ وإن كان المتطاولون في الحقيقة لا يعلمون من المهدوية إلا ما يوصل إلى الحكم، كما لم تعلم الرافضة من الإمامة إلا معنى الخلافة (الحكم)!... فالحكم هو شهوة الناس، التي لا يقاومها إلا الرجال!... وعلى المعنى العام، فإن الخلفاء الاثني عشر الذين ذكرناهم بالاسم سابقا، كلهم مهديون، لا يطعن فيهم إلا جاهل. وتداخل الصفات في الأشخاص، لا ينقص من قدرهم في الصفة الخاصة، بل يزيد؛ ولكن تمييز بعضهم عن بعض، قد يكون بالصفة الغالبة لا غير... وهذه الهداية التي يكون صاحبها مسددا وعلى موافقة تامة للشريعة، هي ما تصطلح عليه الشيعة بـ "العصمة". لكنهم -ولأجل كون المعبّرين عن العصمة من العامة- قد فهموا العصمة فهما سطحيا وظاهريّا. وحتى أهل السنة الذين يُنكرون العصمة، يوافقون الشيعة في تعريف العصمة. وتقصد الفئتان معا من العصمة، ألّا تتلبس المعصوم صورةٌ لذنب. وهذه في الحقيقة هي عصمة الملائكة الذين قال الله فيهم: {لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ} [التحريم: 6؛ وأما عصمة المهديّين، فهي ذات ثلاث صور: الأولى: هي موافقة حكم الله في الأمور من جهة العلم. - «يَسْقِيهِ اللهُ الْغَيْثَ»: أي لا يمنع الله في زمانه المطر عن الناس، بقدر حاجتهم وما ينفعهم. وهذا يعني أن الناس في زمانه يكونون مطيعين لربهم، وفق ما شرع لهم. وقد جاء في حديث آخر: «... وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّماءِ، وَلَوْلا الْبَهائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ...»[3]. وهذا يعني أيضا، أن منع المطر الذي يكون في الأزمنة السابقة على بعث المهديّ، يكون بسبب منع الناس لزكاة أموالهم؛ ولولا البهائم ما أُمطروا بالقدر الذي ينفع البهائم في تلك الأزمنة، ولكان المنع للمطر تاما. فكأن البهائم تشفع للناس، فيما لا قوام لهم إلا به، من جهة قد لا يتفطنون إليها. وهذه الشفاعة، من صنف شفاعة الأدنى للأعلى، كما كان بعض المماليك والإماء من الصالحين يشفعون بالدعاء لسادتهم. وإن سِيَر السلف مليئة بما يُعضد ما نقول، من حكايات لمن أراد تتبعها في مظانّها... وأما في زمن المهدي، حيث سيعود الناس إلى العمل بالشريعة، ومن ضمنه إخراج الزكاة، فإن الله سيعود عليهم بسقيهم سقيا تاما نافعا. وهذا من باب ربط أعمال الناس بنتائجها، والذي اندرس في الآخِرين؛ حتى ما عادوا يفقهون من الأسباب إلا ما كان من ظاهر الطبيعة، على غرار الكافرين!... فليُعتبر هذا!... وأما نسبة الله سقي الغيث إلى المهدي، لا إلى عموم الناس، فللدلالة على أن الحاكم يُثيبه الله على ما يكون من طاعة رعيته لربهم؛ لأنه يكون عنده سبحانه من أسبابها. ولو علم الحكام هذا الأصل، لسعوا أن تشيع الطاعة في زمانهم، وتغيب المعصية؛ إن كانوا مؤمنين!... ولا يظنّ أحد من الحكّام أنه كسائر الناس، لا يُحاسب إلا على أفعال نفسه، وإن صح هذا الاعتبار من وجه. وهذا هو ما جعل العلماء من السابقين يفرّون من الحكم فرارهم من الأسد!... أي خوفا من أن يُحاسبوا على معاصي رعيتهم كلها!... ولا يؤخذ كلامنا هنا، على أنه معارض لما ذكرناه عن الحكام في كتابات لنا أخرى؛ لأن هذا الوجه غير ذاك!... - «وَتُخْرِجُ الْأَرْضُ نَبَاتَهَا»: وهذا لا يكون إلا بالإذن الإلهي، لا بنزول الأمطار تلقائيا؛ لأن الناس ينظرون إلى السبب ولا ينظرون إلى المـُسبِّب سبحانه. يقول الله تعالى مفرقا بين فعليْ إنزال المطر وإنبات الأرض: {وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءً فَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجٍ كَرِیمٍ} [لقمان: 10]. ولا يأذن الله للأرض بإخراج نباتها، حتى ينقلب حال الناس من المخالفة إلى الموافقة. وإنبات النبات فيه اعتباران: إنبات النبات الذي هو طعام البهائم، فهذا قل أن يخلو منه زمان؛ وإنبات النبات من طعام الإنسان، فهذا هو الذي يكون إذا أطاع الناس ربهم. وقد جاء في الحديث السابق، في جزء منه: «... وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ المـُؤْنَةِ، وجَوْرِ السُّلْطانِ عَلَيْهِمْ، ...». وإنقاص المكيال والميزان، هو من الغش الذي يشيع قبل الخلافة الخاتمة. وجزاؤه القحط وقلة المؤنة وجور السلطان. وهو من وزن النتائج بميزان الأفعال، وهو من الحكمة والعدل الإلهييْن. ومِن هنا يظهر أن مطالبة الناس (ونخص الإسلاميّين) للحكام بالعدل، من دون أن يحققوا شرط عدم الغش من أنفسهم، وجميع شروط الموافقة للشريعة، لا تكون إلا ضربا من الاستهزاء بالدين من قِبَلِهم. وعندما يترك الناس الغش في زمن المهدي، فإن الله يبدّل حالهم، من الضيق إلى الرخاء، عند إذنه للأرض بإخراج نباتها تبديلا من باب: {هَلۡ جَزَاۤءُ ٱلۡإِحۡسَـٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَـٰنُ} [الرحمن: 60]. وقد يدخل في معنى إخراج الأرض خيرها، ما هو من قبيل المعادن النفيسة أيضا، لأن ذلك يكون سببا في الرفاهية العامة (ارتفاع الدخل الفردي). ويؤيده ما ذكرنا سابقا، وما سيتبع من معاني الحديث الأخرى أيضا... - «وَيُعْطِي الْمَالَ صِحَاحًا»: المـُعطي هو المهدي؛ ومعنى صحاحا: أي من دون حاجة إلى تكسير النقد وتجزيئه؛ فإن كانت العملة الدينار -مثلا- فهو لا يُعطي نصف الدينار وربعه، بل يُعطي الدينار والعشرة والمائة والألف وألف الألف وغيرها... وهذا يعني أن المال في زمان المهدي يكون وفيرا، وأن الناس تكون لهم أُعطيات من الدولة وإن لم يكن لهم عمل يعود عليهم بأجر مخصوص. كل هذا، بسبب ثراء الدولة، وانكفاف الناس من طبقة العاملين على الأموال، عن نهبها وسرقتها. وهذه الحال، تدل على بلوغ الأمة الاكتفاء، عند عيش الناس الرخاء... وهذا أقصى ما يبلغه العباد من تمام الهناء، مما يُناسب الدنيا. ونعني، أن كمال التنعّم، لا يكون إلا في الآخرة!... فلا يطمع أحد فيما لا مطمع فيه!... - «وَتَكْثُرُ الْمَاشِيَةُ»: وهذا يعني توافر الأغذية الحيوانية، حتى يجد الناس فيها الغذاء الحلال، ولا يُضطروا إلى أكل ما لا يعلمون أصله، أو إلى تناول البروتينات المصنّعة تصنيعا، كما يحدث في زماننا. وهذا يعني ضمنيّا، أن الغذاء الطبيعي نعمة من الله، ستعود مع الخلافة الخاتمة وحدها؛ وأما قبل ذلك، وفي زمن المخالفات الشرعية، فإن الغذاء المعبوث به وراثيا، سيصير من جزاء الناس على سوء صنيعهم؛ وبالتالي سيظهر منه ما لم يكن معتادا للناس مما يوافق طبيعة أجسامهم، وسيصير سببا في أمراض لم تكن شائعة في الأزمنة السابقة لزمانهم... والأمر فيما يتعلق بالتغذية، لا يكون منوطا بالمقدار دائما، كما يفهم الكافرون؛ ولكن يكون منوطا بأصالة الغذاء من حيث النوع، وبالبركة التي يجعلها الله فيه، كما ينبغي أن يفهم المؤمنون. والبركة لا تقاس بالموازين المعتادة لقياس المواد، ولكن يُنظر فيها إلى كفاية الغذاء القليل للكثير من الناس، أو لمدة أطول من المعتاد؛ ويُنظر فيها إلى مقدار الانتفاع من ذلك الغذاء، وإلى مقدار القوة الناتجة عنه. ولقد كان من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تكثير القليل من الطعام، وكفاية القليل منه للعدد الكثير من الناس. واستمر هذا، من باب الكرامة على يد الأولياء من هذه الأمة، حتى لا يخلو زمن من الأزمنة مما ذكرنا. ومن كان يستبعد هذه الأمور بدعوى لزوم العقلانية، فليعلم أنه ضعيف الإيمان جدا؛ وعليه أن يضرع إلى ربه في شفاء قلبه، لعله يشهد بعينه، ما عجز عن التصديق به يوما!... - «وَتَعْظُمُ الْأُمَّةُ»: أي يكثر عدد أفرادها، ولا يكونون غثاء؛ بل يُحسب لهم الحساب. وأما حال الغثائية الذي ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِها. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثاءٌ كَغُثاءِ السَّيْلِ. وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ! فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيا وَكَراهِيَةُ الْمَوْتِ.»[4]، فهو مما يسبق الخلافة الخاتمة. ونحن في زماننا نشهد غثائية المسلمين، كما أخبر عنها الكلام النبويّ بالتمام؛ وقد كان السابقون منا، في أزمنة مضت، يتصورون ذلك تصوّرا!... وإن تداعي الأمم على أمتنا اليوم، وطمعها فيها، هو جزاء مخالفتها لشريعة ربها، كما بيّنّا غير مرة. وعلى رأس ما يدعو الناسَ إلى المخالفات، حب الدنيا؛ وإذا حل حب الدنيا بقلب امرئ لا بد له من كراهية الموت؛ وكراهية الموت تمنع من الجهاد الشرعي؛ وترك الجهاد يعود بالذل والمهانة على الأمة. سببا لنتيجة، ونتيجةً لسبب!... وكل هذه الأحوال السيئة، تكون زمن الظلم والجور السابق على الخلافة المهدوية، ليظهر فضل الله على الناس أثناءها. وهذا يعني أنه في زمن الخلافة، يعود إلى الأمة اعتبارها، فتكون عظيمة بين الأمم، مهابة الجانب، كما كانت في زمن النبوة الأول. ونحن عند قولنا هذا، نعلم أن من الناس، من كاد يصيبهم اليأس من انصلاح الأحوال؛ بسبب الانقهار المعرفي تحت الظروف والعادة... وهذا أيضا، مما ينبغي اعتباره في المنهجية العلمية... وأما مقدار زمن الخلافة الخاتمة، والذي ورد فيه بحسب الحديث الذي اعتمدناه آنفا، أنه يكون بين السبع والثمان؛ فالأرجح أن يكون -بحسب ما أخبر شيخنا الأكبر في فتوحاته- بين السبع والتسع؛ أي إما سبعا وإما تسعا. وأما عن اتساع الدولة الإسلامية، فإنها في زمن العولمة الذي أظلنا منذ عقود، إما أن تكون هي النظام العالمي ذاته عندئذ؛ وإما أن تكون مـُعظمه، حتى لا يبقى خارجه إلا استثناءات من فلول حزب الشيطان، وهو الأرجح. ج. وزراء المهدي: للمهدي أنصار وهم أهل الحقائق، الذين يبايعونه عن كشف وشهود، كما أخبر ختم هذه الأمة عليه السلام. وهؤلاء سينصرونه حيثما كانوا من العالم، بما آتاهم الله من أسرار. وأما الوزراء الذين يكونون معه في مركز الحكم، فثمانية من أهل التصرف الأكبر؛ سبعة هم أساس ما ينتظم به حكم الأرض (الحكومة العالمية)؛ وهم كلهم أعاجم، لا عربي فيهم. وهذا يوافق من جهة الظاهر، ما هم عليه العرب من انسلاخ عن الدين اليوم، بحيث لا يكون لهم اعتبار وقتئذ، في هذه المراتب العليا. ورغم أن الوزراء أعاجم، فإنهم لا يتكلمون إلا بالعربية، تعظيما للمهدي، ولمن تكون خلافة المهدي عنه، صلى الله عليه وآله وسلم. ومن الوزراء، يُستفاد أن شؤون البلدان ستُدار بطريقة الغيب، لا بطريقة الشهادة دائما، وكما يحدث الآن. ونعني من هذا أن لكل من الشهادة والغيب حكما في الزمان من باب العدل الإلهي؛ وبما أن الشهادة كان لها الحكم في بداية عمر الأمة المحمدية، من عصر النبوة إلى القرن الرابع خصوصا؛ فإن انقلاب الحكم في نهاية عمر الأمة سيكون إلى الغيب انقلابا جليّا، لا خفاء فيه. وبما أن الزمن الأول كان لظاهر الشريعة، حتى لم يُعرف الدين إلا به؛ فإن الزمن الآخِر يكون لباطن الشريعة، كما هو معلوم للأولياء من كل زمان. ومن هنا كان ينبغي أن يكون وزراء المهدي من أهل الحقائق؛ أي حتى يكونوا أعلم من غيرهم، بما هو سمة لزمانهم. وهذا، حتى يكمل لهذه الأمة تجلّي دينها بتبدل الحكم من الظاهر إلى الباطن، ومن الشهادة إلى الغيب. وكل من لا خبر له عن هذا الانقلاب، فإنه لا بد أن يُسيء الظن بالأمة عندما يرى مخالفتها للشريعة بعد القرون الثلاثة الأولى، وازدياد التوغل في ذلك مع مرور الزمان. والحقيقة هي أن الحكم سينقلب عند تغير الأحوال من الظاهر إلى الباطن، كما يحل الليل بعد ضوء النهار. وإن الرحمة الإلهية الخاصة بهذه الأمة المحمدية تتلون بحسب أحوالها، فيما ذكرناه من انقلاب؛ حتى تبلغ الرحمة من قد يقطع المرء بحرمانه منها، عناية من الله بهذه الأمة، وإكراما لنبيّها صلى الله عليه وآله وسلم. وحتى يزداد المرء إدراكا لهذه المسألة، فليعتبر في الطاعة والمعصية الظاهر والباطن: فإذا علم أن الطاعة تكون ظاهرة أو تكون باطنة، وأن المعصية أيضا تكون ظاهرة أو باطنة؛ فإن الفقه الجامع ينظر حينئذ إلى الظاهر والباطن معا، فإن وجد من الظاهر طاعة ووجد من الباطن معصية، حكم بالطاعة وقدّمها على اعتبار المعصية، رحمة من الله؛ والعكس صحيح. وبين هذه الأحوال موازنات، إذا دقت المعاصي ودقت الطاعات، أو تركّبت وتعددت؛ ومن علم هذا، سيعلم اتساع هذا العلم. وهو من العلوم الشائعة في آخر الزمان... ونحن عندما كنا ندل على الرحمة، فهذا لا يعني أنها ستصيب العباد من أول أمرهم؛ وإنما قد يمرون بحال العقوبة والعذاب وقتيا، بحسب المشيئة. ولكن النهاية بحمد الله، تكون إلى الرحمة. هذا هو ما عنيناه!... وكما أن لكل زمان رجالا، فلا بد أن يكون الحكم في العلم، أولَ الزمان لعلماء الدين المسمّون فقهاء الظاهر؛ وأما بعد الانقلاب إلى حكم الباطن في آخر الزمان، فإن الحكم في العلم سيكون للأولياء الذين هم فقهاء الباطن. ومن كان من أهل البصيرة، فإنه سيلاحظ أن تحوّل الحكم إلى الأولياء في عالم الشهادة، قد بدأ يظهر منذ مدة؛ وبعد انقضاء زمن الخفاء والبطون المتوسط. ولهذا، فمن كان من الموفّقين، فلا بد له من أن يكون في جماعة مع إمام وليّ منذ الآن؛ لأنه سيكون أقرب حينئذ إلى الحق بحسب الزمان الذي يكون فيه. فإذا أدركه زمن خلافة المهدي، فإنه سيكون من أول الملتحقين به، بسبب كونه على نهج المهديّ من قبل ظهوره. وهذا يدخل ضمن الاستعداد لاستقبال الخلافة الخاتمة، كما يستعد الدجاليون لاستقبال خليفتهم الشيطاني... د. روح الخلافة المهدوية: يغلط كثيرون، عندما يسمعون كلامنا عن الخلافة، فيظنون أننا منشغلون بطريقة الحكم، على غرار الإسلاميّين، الذين جعلوا الحكم محور الدين وقطب رحاه بخلاف ما ينبغي. ونحن في الحقيقة عندما نتكلم عن الظروف والأسباب، فإننا لا نغفل بها عن الله الذي هو رب كل ذلك، ولا عن عبادته سبحانه التي من أجلها خُلقنا. وحتى يُدرك القارئ ما نرمي إليه، فإننا نضرب -على عادتنا- مثالا، وهو عبادة الله في اليوم الواحد، من طلوع الفجر إلى وقت النوم: فهل يكون العبد الموفق أثناء عبادته مع ربه في جميع أوقاته؟ أم يكون مع وقت العبادة، بحيث ينشغل بالصباح وبالزوال ثم بالمساء والليل، وكأنه يعبد الشمس أو القمر؟... والجواب واضح، كما أن المعنى الذي أشرنا إليه عند اختلاف الأزمنة وتحول الحكم من الظاهر إلى الباطن، واضح أيضا... وإن العودة إلى تحكيم الشريعة ظاهرا وباطنا، لن يتأتى إلا إذا كان أهل الحكم، من العارفين بالله، الجامعين بين علميْ الظاهر والباطن. وهذا لأن العارف بالله، هو وحده من بين الناس، من يعلم الصواب في معاملة الله في كل وقت وحال. ونعني بالكلام هنا، أن الأحكام الفقهية التي اعتاد الناس الركون إليها، لن تنفع إلا في إقامة الشعائر على التخصيص؛ وأما سواها من المعاملات الظاهرة (كالسياسات) والباطنة كالمعاملات القلبية، فإنها لا تُؤخذ إلا عن أهلها، والذين هم الأولياء لا الفقهاء. ولقد بدأ الفقهاء منذ عدة قرون يشعرون بانسداد الطريق في وجوههم، وكأن الدين غير الدين، رغم بذلهم الجهد من أجل السير على نهج الأولين من الجهة العقلية خاصة. وما علموا أن السير على خطى أسلافهم بطريق المطابقة، هو ما يزيد من عنتهم، وأن الأمر انقلب إلى جهة الأولياء وهم لا يعلمون. فمن كان منهم يريد أن يجد لفقهه طريقا، وفيه مسلكا، فلا مناص له من أن يكون مع وليّ؛ وإلا بقي معلقا حائرا، لا يدري يمينه من شماله... ه. ملاحظات ينبغي التنبُّه إليها: بما أن خروج الدجال سيسبق خروج المهدي، وسيكون نزول عيسى عليه السلام بعدهما؛ فلا بأس من أن نلاحظ أن الدجال والمهدي مخلوقان معا، قبل زمان ظهورهما بمدة؛ وهما ينتظران الآن معا الإذن لهما بالخروج؛ وأن عيسى أيضا مرفوع فحسب، وهو ينتظر الإذن أيضا بالنزول فحسب. وهذا من باب المناسبة التي بين الثلاثة، رغم افتراق طريقيْهم. وإن عيسى عليه السلام، لكونه هو من سيقتل الدجال، ما دام هو أحقّ الرجليْن بصفة المسيح، سيكون حاله عندئذ، كما أخبر الله تعالى في قوله: {وَقُلۡ جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَـٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. لذلك بعد زهوق الصورة الكاذبة للمسيح، ستبقى الصورة الصادقة، وستثبت في الأرض؛ حتى يعلمها كل مؤمن من أهل ذلك الزمان، وكأنها الشمس توسطت السماء، لا يُغبن فيها ذو بصر!... وبما أن المهدي سيكون آخر خليفة إمام من هذه الأمة، وأن عيسى سينزل إبّان خلافته؛ فإنه عليه السلام سيكون تحت حكمه، تعظيما للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإعلاما بأنه بعد نزوله سيكون وليّا محمديا، لا نبيا مرسلا. وهذا يعني أن نبوته ستبطن في ولايته، فيصير أشبه بعليّ عليه السلام في زمانه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمامُكُمْ مِنْكُمْ.»[5]، ثم يقول: «لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي يُقاتِلُونَ علَى الحَقِّ ظاهِرِينَ إلى يَومِ القِيامَةِ. قالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعالَ صَلِّ لَنا! فيَقولُ: لا، إنَّ بَعْضَكُمْ علَى بَعْضٍ أُمَراءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هذِهِ الْأُمَّةَ.»[6]. وأما عليّ عليه السلام فقد قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى، إِلَّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي.»[7]. وهارون نبي ظاهر النبوة، فبقي أن عليّا نبوته باطنة في ولايته؛ إن كنا نريد تصديق الحديث بلفظه ومعناه. ومن كانت نبوته باطنة، فإنه لا يوصف بها فيقال عنه نبي، مع اعتبارها فيه!... وهذا من لباب العلم كما يُقال!... وهو نافع جدا لأهل التصديق من زماننا... و. إنكار المهدي: لقد ظهر في الأمة أقوام يدّعون تحقيق العلم، ويُنكرون خروج المهدي عليه السلام؛ وقالوا إنما هي عقيدة سبقت إليها أمم أخرى كانت تنتظر المخلّص، ونحن على خلافهم في الحقيقة. وهذا خلط في المفاهيم، لأن المهدي عندنا خليفة إمام، لا مخلّص بالمعنى الإسرائيلي. والمخلّص عند بني إسرائيل، كان بحسب فهمهم لا بد أن يكون ملكا؛ لأن الخلاص الذي كانوا ينتظرون، هو الخلاص من استعباد الأمم الأخرى لهم. وهذا الفهم، هو ما منعهم من الإيمان بعيسى عليه السلام عند مجيئه إليهم، وهو مَن كان ظاهرا بمظهر العبد!... أما حقيقة عيسى فكانت فوق إدراكهم، لأنها كانت إلهية؛ وهم لم يكن في طاقتهم علمها من ذلك الوجه، وإنما عَلِمها المسيحيّون الأُول بعض علم. واليهود في مقابلتهم للمسيحيّين، يُشبهون المتسلِّفة عند المسلمين، الذين يُكثرون الكلام عن التوحيد، وهم لا يُطيقونه في الحقيقة. وهكذا، فإن كلامهم في التوحيد يكون تثبيتا منهم لشركهم، وهم لا يشعرون. ونحن قد نصحناهم كثيرا، أن يتركوا ما هم عليه، ولكن مقامهم يغلبهم!... ومن ينكر المهديّ عندنا أقل ما يقال عنه: إنه فاسق!... وفي الغالب لا يكون إلا من أتباع الدجال، وإن أظهر الإسلام؛ لأن الدجال وحده، هو من يُبغض المهدي بُغضا يتمنى معه ألّا يظهر، وألّا يكون له حظ في الوجود من الأصل... ومن أراد معرفة دجاجلة زماننا، كبارهم وصغارهم، فلينظر إلى قولهم في المهدي؛ فإن هم أنكروه، فأولئك هم!... فمن علم عن المهديّ ما ذكرنا، فإنه سيعلم أنه هو من سيعود بالأمة عن الطريق المنحرف الذي اختطّه معاوية بفرعيْه: الرفض والنصب. وهذا يدل دلالة مباشرة على أن المهدي عليه السلام، سيقضي قضاء مبرما على الرفض والنصب معا؛ لكن من جهة الظاهر وحدها، خصوصا إن علمنا أنه مؤيد بالسيف (بالقوة والقهر)؛ والسيف يحكم على الظواهر لا على البواطن. لذلك سيبقى من الناس في زمن المهدي من يكون على عقيدة فاسدة، عنادا منه، ووفاء لما كان هو وطائفته عليه، وكان عليه أئمته الذين يثق بهم الثقة العمياء ويُقلدهم التقليد الأعمى. وبعض الناس، بخلاف ما يظن كثيرون، لا يتحرّون الحق، ولا شأن لهم به؛ وإنما أقصى مناهم أن يكونوا موافقين للصورة الذهنية التي لهم عن أئمتهم، من دون تمحيص. وهذا من الشؤون العجيبة التي ستكون في ذلك الزمان!... فسبحان من له الحكم في كل شيء، ومن كل وجه، لا إله غيره!... ز. الأمم الكتابية واستراتيجياتها: من يتابع تحركات اليهود والنصارى، يرصد حركة غير خفية، تحكم توجهاتهم السياسية. فهم على تصور مسبق لما سيأتي، يعملون على ضوئه، وإن كانوا من أفضل من يعتبر المتغيّرات الظرفية، ومن يُحسنون معاملتها. فاليهود كما نعرف، ما زالوا ينتظرون مسيحهم؛ وهم في عملهم السياسي، لا يغيب عنهم ذلك، وإن كانوا لا يُفصحون عن استراتيجياتهم لسواهم. والنصارى ينتظرون عودة المسيح عليه السلام، وهم يعملون على الاستعداد لذلك بالعمل، وبتهييء الظروف المناسبة بحسب مستطاعهم. بل ويُعجبك من الجانبين تعاونهما على المشترك بينهما، كما يحدث بين اليهود والإنجيليين. فحماية دولة إسرائيل -كما لا يخفى- يعمل عليها الإنجيليون قبل اليهود؛ واليهود يقبلون هذا التعاون، وإن كانوا يعلمون أنه لا بد من الانفصال في وقت ما عن الإنجيليين، ومواصلة الطريق وحدهم. وهذا يُحسب للطرفيْن، من جهة الوعي بالتاريخ، وضبط الاستراتيجيا على ضوء ما يُدركون من حتميته. ولكن المسلمين إن عدنا إليهم، سنجد الجانب السنّيّ منهم يُشابه في عمله عمل الملحدين، الذين يكتشفون الوقائع مع حلولها، لا قبله؛ وكأنه ليس لديهم من العلم ما يجعلهم يُنافسون اليهود والنصارى، على أقل تقدير. وهذا -إن اعتبر وحده- يكون أخطر ما أدى إليه الانحراف الديني الذي أسس له معاوية؛ لأنه يكون قد جرد شطر الأمة مما يضمن له بقاءه، ضمن خارطة العالم في آخر الزمان... وأما الشيعة، فيُحسب لهم أنهم وحدهم من يُمكن أن نقول بجاهزيتهم لمنافسة الأمم الأخرى في أحداث آخر الزمان. والغريب هو أن أهل السنة -بدل أن يعتبروا ذلك ويروه من صالحهم- يتنكبون عنه، ويعملون على الانفصال عنه علما وعملا. بل إن انخراط أهل السنة قد يكون -وهذا ما تدل عليه التحالفات في هذا الزمان- في العمل الاستراتيجي اليهودي النصراني؛ وكأنهم قد ورثوا عن معاوية تحالفه مع الروم، فهم الآن عاملون عليه وفاء له. والخطير في الأمر، هو أن الشعوب السنيّة، لا خبر لها في المجمل عما يُفعل بها؛ ولا عن الجهة التي تُساق إليها، وكأنها هي المـُراهَن على تقديمها قربانا في الملاحم الكبرى... ونحن إذ نذكر أمر العمل الاستراتيجي، ندعو الشعوب السنيّة إلى مراجعة مسارها التاريخي، ومراجعة المبادئ الحاكمة عليه؛ من أجل تبيّن معالم الحاضر والمستقبل، اللذيْن ينبغي أن تكون فيهما هذه الشعوب على علم صحيح. كما ندعو إلى إيجاد أرضية مشتركة بين الشيعة وأهل السنة بخصوص هذا الأمر حصرا، حتى لا تحول الخلافات العقدية دون تحقيق الحد الأدنى المرجوّ منه. وإن كان للشيعة السبق على إخوانهم أهل السنة في هذا المضمار، فلا بد أن يعمل الشطر المسلم المتخلف على الاستفادة من الشطر المتقدم. وهذا يتطلب واقعية من أهل السنة وتنازلا عن الغرور الضارّ، كما يتطلب واقعية أخرى من الشيعة، وتحليا بالأخلاق الضرورية لجمع شمل المسلمين، على قدر المستطاع، ومع الاستزادة من التقارب والوحدة باطّراد، مع تقدم الزمان... (يُتبع...) [1] . أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وابن عساكر وأبو نعيم، ويوسف بن يحيى المقدسي في عقد الدرر، والجويني في فرائد السمطين، وابن حجر في الصواعق المحرقة، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.