اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]() «السابقالتالي»
2025/06/22 رحلتي إليّ -7- نحو التسميم الأول
عندما كنت في حوالي الثامنة، دخلت والدتي في اتفاق مع والدي، لم أكن أعلم عنه أنا شيئا، غير أنّي انتفعت منه: لقد سمح لها بأن تخيط الثياب لنساء الحي، لتتمكن من الإنفاق علينا، في مقابل أن يحتفظ هو براتبه، كما فهمت وحدي. أظن أنها كانت تروم كسر العزلة التي كانت تعيشها عن طريق التقاء نسوة الحي اللائي كنّ يأتينها، وأن توسّع على أطفالها، لأن والدي كان لا ينفق على البيت إلا قليلا؛ وظل على هذه الصفة طيلة حياته، وكأننا أغراب عنه... كانت النساء يأتين إلى الوالدة بالأثواب، وهي تخيط لهن منها "بلوزات"، وكانت البلوزة في أصلها لباسا تركيّا للنساء، صارت تعرف به الجزائريات، وقد أخذته عنهن الوجديّات؛ وكانت والدتي متقنة لهذا الصنف من الألبسة، إلى جانب ألبسة الأطفال التي كانت تتحفنا بها في الأعياد. عندما صار لوالدتي مدخول، صرنا نعرف في فصل الشتاء الألبسة الصوفية، والأخرى الواقية من الأمطار؛ وهذا لأن الشتاء في زماننا، وفي بلدتنا، كان يمر غزير الأمطار، مع بعض الثلوج التي تسقط في رأس السنة غالبا، بسبب ارتفاع البلدة عن سطح البحر بأزيد من ألف متر. صرنا نلبس الأحذية الشتوية المطاطية أيضا بفضل نفقة أمي، وصارت مائدتنا تقترب من موائد غيرنا، مع بعض المفاوضات المتعبة بين الوالديْن. لم يكن محروما من المال الذي يدخل بيتنا من وراء الخياطة، إلا جدّتي التي كانت تُعامَل في البيت معاملة الأجنبية؛ بل لقد وصل الأمر إلى أن رأيتها بعيني تُعامل معاملة الأَمَة. كانت والدتي إذا أرادت أن تخيط لجدتي ثوبا، ملزمة بأن تفعل ذلك سرّا، حتى إذا اكتمل اللباس، وجاء أوان إخراجه إلى العلن، زعمت المرأتان أن "فلانة" من نساء الحي، هي من أهدته إليها، عندما جاءت تخيط ثوبها؛ فكان والدي لا يجد ما يقوله عندئذ... كانت والدتي قد اشترت بالمال الذي تكتسبه، السِّلم في بيتنا؛ فلقد صار والدي أكثر هدوءا، وأكثر انصرافا إلى سهراته مع الفسّاق من أقرانه. وصل الأمر به مرة، وقد كان في وجدة رفقة أحد رؤساء العمال في المنجم، أن قُبض عليه وأُدخل السجن. بقي هو وصاحبه في السجن أسبوعيْن أو أكثر، إلى أن صار بعض رجال قبيلتنا يأتون إلى بيتنا يستنكرون، وكأن والدتي كانت تملك من الأمر شيئا. أذكر واحدا منهم على الخصوص، جاء يكلم والدتي، ويقول: - لقد صرنا نخجل مما فعله السي "ح"، وهذا الفعل لا يليق بواحد شريف!... كان الأمر في ظاهره كالنصيحة، غير أنه كان طعنا في الظهر من غير شك. أكاد أجزم أن المتكلّم لو وُجد وجها لوجه مع الوالد، لسارع إلى امتداحه والنفخ في نفسه العليلة... كنت أنا أسمع، وأتعجّب، من سعي الرجل في إفساد ذات البين بين والديّ؛ علمت هذا، وأنا بعد في تلك السنّ. أما الرجل الآخر الذي كان يتفقدنا في غياب والدي، فهو من كنت أناديه: (عمي م). كان يسأل عما يحتاجه البيت من مصاريف، ويتعهد بإيصالها طيلة غيبة والدي. كان هذا الرجل، بعكس الأول، يبدو عليه أنه فخور بفضيحة الوالد؛ وهو ما سيبين لي بوضوح أكبر مع السنين، عندما عرفت أن السفهاء يعدّون الفسق فحولة ورجولة. أذكر أن الرجل كان في رخصة مرضية من عمله، وذلك لأنه كان قد أصيب بكسر في ذراعه، ما تزال جبيرة الجبس شاهدة عليه... *** جاء موعد دخولي إلى المدرسة، في سنتي الثالثة، وأذكر أن (عمي م) أخذني في إحدى الأمسيات، إلى دكان (الح. ع) البقال المشهور، الذي كان جزء منه ينقلب مكتبة عند حلول موسم الدخول المدرسي. أذكر أن الرجل الذي رافقني، كان يعاملني في غاية اللطف، وهو ما جعلني أُحسّ أنني فاقد لوالدي، بأكثر مما كنت أعي؛ فوالدي لم يكن يتلطّف في معاملتنا إلا تكلّفا، ونادرا. أدخلني الرجل إلى الدكان من الباب الخلفي، وأخذ مني ورقة اللوازم المطلوبة، التي كان من بينها كتاب اللغة الفرنسية، الذي كنت أتعرّف عليه للمرة الأولى. عندما رأيت الكتاب، ظننت أني قد كبرت كثيرا، لأنني كنت لا أعلم إلا أن الفرنسية هي من شؤون الكبار من النخبة وحدهم... أذكر أن رائحة كتاب اللغة الفرنسية، ذي الغلاف السميك والأوراق الصقيلة، كانت تختلف عن رائحة الكتب الأخرى أو الدفاتر؛ فقد ميّزتُ منها رائحة الصباغة التي كانت تلوّن بعض الصور والرسوم، بالإضافة إلى رائحة الورق ذي الصنف الجديد، الذي كان مختلفا عن أوراق الكتب الأخرى، ككتاب القراءة العربي "اِقرَأْ"، الذي كان يبدو أرخص. كنت -على عادتي- أهتم بالتفاصيل، التي قد لا يهتم بها غيري، وكانت الروائح مع الألوان والملامس، تدخل إلى ذاكرتي، لتحتل منها حيّزا لن تغادره أبدا. كانت الروائح مقرونة عندي، بما يصاحبها في أول مرة من أحوالي الباطنية، من حزن أو خوف أو حذر؛ وأما الفرح، فكنت قد ودّعته، ولم أعد أكاد أجده ثانية. كان وعيي بالأشياء من حولي، أدعى إلى الرهبة، منه إلى الفرح؛ وهذا، لأن ما كنت أجهله من الأشياء، من حقيقتها، كان يُذهب عنّي الأنس بها... ما زلت أذكر من هذا القبيل، يوما عاصفا، وأنا أجلس في غرفتنا مع جدّتي ووالدتي، ربما لم أكن أتجاوز الثانية من عمري حينها، كما أخبرتني والدتي عندما ذكرت لها الواقعة؛ كنت أتنبّه لأول مرة إلى صوت الرياح، وهي تصطدم بالأشجار التي كانت على غير العادة توجد داخل البيوت، في الأحواش، لا خارجها. وكنت أتناول كأسا من الحليب المغليّ أعدّته لي والدتي؛ فما زلت إلى الآن، كلما تناولت حليبا مغليا، أذكر صوت الريح في تلك الأمسية من ماضيّ. لم أناقش مسألة الذاكرة المتنوّعة، مع أحد فيما قبل، حتى أقارنها عندي مع غيري من الناس؛ فأنا قد اعتدت الكتمان والانطواء... عاد والدي بعد انقضاء مدة حبسه في وجدة، وهو منكسر على غير عادته. كان يتحاشى أن يخرج من البيت في غير أوقات العمل، وكانت جدّتي المسكينة، تعمل على عدم إشعاره بعاره، وربما أظنها قد ذكرت له أن السجن يكون للرجال. ما كان والدي رجلا، ولا كان سجنه من الصنف الذي يُبتلى به الرجال؛ ولكنّها كانت تعلم أنه إذا بقي في خجله وشعوره بالسوء، فإن ذلك كان سيؤدّي ثمنَه ابنتُها ونحن الأطفال. فكانت الجدة على عادتها، تستبق الشرّ، وتحرّف مساره بما تستطيع. كم كانت منكرة لذاتها، وهي تقوم بهذه المهام التي صارت من قدَرها!... *** كنت في هذه الأثناء، أحرص على الإنصات إلى المذياع، الذي كان صوته مجلجلا في بيتنا. ما كنت لأفهم ما يصدر عنه دائما، لكنّني كنت قد بدأت الاهتمام بالأغاني، والبرامج الثقافية القريبة من إدراكي. وسرعان ما صرت أميل إلى الإذاعة الجزائرية، لكثرة برامجها الثقافية والشبابية، ولقربها من طبائعنا نحن أهل الشرق المغربي؛ حتى صار والدي كلما دخل البيت وجد المذيعين الجزائريّين يصدحون، أو وجد إحدى الأغاني الشعبية الجزائرية، تملأ الأرجاء... كانت الأغاني الجزائرية الشعبية، أقرب إلى أذني المغربية الشرقية؛ فتعرفت حينذاك من جملة من بدأت أعرفهم، على سلوى، وعلى جيلها كله. ووجدت سلوى مرة أخرى، ضمن الأسطوانات التي كان يُشغلها كل مساء زوج عمّتي (ف)، عندما كنّا نلتقي عند جدّي في المقام. كان الرجل يضع الفونوغراف أمامه كل مساء، بعد أن ينتهي من احتساء القهوة؛ فكنت أجلس بجانبه، وأتفحّص بالنظر صور الأسطوانات. كانت سلوى، التي عرفت صوتها من الإذاعة، لا تشبه نساءنا؛ كانت في الصورة قصيرة شعر الرأس، وحاسرة الكتفيْن؛ فكنت لا أعلم من أي عالم هي... وكان زوج عمّتي (ع. ح) يعاملني معاملة حسنة، فكنت أميل إليه، وأحترمه بصدق... كان والدي عندما يدخل ويجدني أستمع إلى الإذاعة الجزائرية، في بيتنا، بعد أن وجد أنّ ذلك يتكرر، يتبرّم، ويحرص على أن يسألني مستنكرا: - أنت مغربيّ أم جزائري؟... وهو يبغي الظهور بمظهر الوطنيّ الغيور، من دون تكلفة تُذكر... أما أنا فكنت لا أعلم معنى سؤاله، ما دمت أجد في الإذاعة ما يروقني؛ خصوصا وأن وطنية والدي الزائفة، ما كانت لتنطلي علي. فكنت عند كل سؤال منه، أجيب في باطني من باب العناد: - أنا لست جزائريا ولا مغربيّا!... وإن كنت لا أجرؤ على الإجهار. وقد كنت صادقا في جوابي، لأنني لم أكن أدرك الفرق بين المغربيّ والجزائري آنذاك، إلا منه وعن بعد؛ خصوصا وأن أغانيهم كانت أقرب إليّ من جلّ الغناء المغربي. فالمغاربة كانوا يلتقون على الإيقاع السداسي غالبا، الذي يظهر عند محمد فويتح إيقاعا فيلاليّا صرفا. لم تكن الإذاعة المغربية تُسمعنا إيقاعات المغرب الشرقي، التي هي أشبه بما لدى الغرب الجزائري... وأنا الآن أقول: كان ذلك نقصا في البرمجة الإذاعية، ما دامت الموسيقى خطابا وجدانيا، لا ينبغي أن يُغفل، وما دام الإيقاع هو أساس الموسيقى. وهذا يعني أن من لا يفقه ما أذكره هنا، لا ينبغي له أن يشتغل بالسياسة، لأنه يفقد بعض شروط ذلك العمل... وبما أن سنّي هنا، ما زالت تقصر بي عن إدراك الموسيقى، فإنني سأرجئ الكلام عنها إلى أجزاء لاحقة من هذه السيرة... *** عندما آذنت العطلة الصيفية بانتهائها، وقد عدت من المقام متسمّما دون أن أدري، صرت أستعدّ لتدبير انتقالي من حاسي بلال إلى جرادة، لأن المؤسّسة التي كنت سأواصل بها الدراسة، كانت لا توجد إلا هناك. كانت وسيلة انتقال التلاميذ، هي القطار الذي وفرته شركة المناجم لأبناء عمالها، وكان القطار شبيها بالقُطُر التي كنا نراها في بعض صور أفلام "الويسترن": كانت القاطرة تعمل بالفحم في البداية، وكان صوت مزمارها، يُشبه صوت مزمار قطار الكاوبوي؛ وكان البخار يتصاعد منها وهي تسير، وعلى الخصوص في أيّام الشتاء الباردة، عندما يتكثّف قريبا من مقدّمتها. أما العربات، فلم تكن منها خلف القاطرة إلا اثنتان: واحدة للإناث، والأخرى للذكور؛ أظن أن إحداهما كانت مطلية باللون البني، والأخرى باللون الرمادي. كنت أنا أصغر التلاميذ على عادتي، وكان والدي قد تدبّر بطاقة لي من موظّفي الشركة الإداريّين الذين كان يعرفهم، فكانت تخولني الركوب مع أبناء العمال، من دون حرج. كان بعض أقراني يرمقونني بحسد، وهم يعلمون أنه لا ينبغي لي أن أكون معهم حتى أشاركهم امتيازاتهم؛ لكنهم لم يكونوا يستطيعون شيئا، خصوصا وهم يعلمون أن المخزن لا يُعارَض... كنت عندما أصعد إلى العربة، أتسلّق درجا عاليا بصعوبة، وكنت أكتفي بالوقوف بجانب الباب، وكأنني ضيف ثقيل على العربة التي لم يكن بها كراسي، وإنما كانت فارغة يقف بها ركّابها هنا وهناك. كان كبار التلاميذ يقفون إلى أقرانهم، وكان الصغار في جماعات دونهم؛ أما أنا فقد كنت غريبا، لا صديق لي، وقليلا ما كان يوجّه الكلام إليّ أحد، إلا لضرورة ما، أو عندما يقف إلى جانبي من لا يرغب بإمضاء المسافة ساكتا. ومع ذلك، فأنا لم أكن أسمح لنفسي بالتعبير عما يجيش بخاطري، لكثرة ما قُمعت في البيت... كنت، بسبب عدم خبرتي، أخرج قبل بزوغ ضوء النهار من بيتنا؛ لأقطع مسافة بينه وبين محطة القطار، قليلة الأضواء، قد تقارب ثلاثة كيلومترات؛ وهذا، لأن الطريق كانت ترابية، ملتوية، أخرج فيها من منطقة إلى أخرى. أما أضواء الأحياء فكانت قليلة وخافتة، لأن الكهرباء التي كانت تستعملها الشركة، كانت من فئة عشرة ومائة واط... كنت أصل إلى المحطة، وأجدها فارغة، إلا من حارس ليلي، يحرس تلك الناحية من محيط "مصعد المنجم". كنت أذهب إلى باب أحد المكاتب كان في الأطراف منعزلا، وأنحشر فيه بشخصي الصغير، لأحتمي من لسعات البرد أيام الشتاء؛ فكان الحارس ينظر إلي، وأحسّ من نظرته بالأمان. كان أناس ذلك الزمان محترمين، فرغم أنني كنت أفهم من نظرته إلي بعض الاستغراب، لأن الوقت كان ما يزال باكرا جدا، إلا أنه لم يكلمني مرة واحدة، بل كان يكتفي بإشعاري بأنني تحت نظره، فكنت أحترمه لذلك كثيرا... كانت جدّتي هي التي تتحمل عبء تجهيزي للخروج من البيت كل صباح، فكانت تكلّف نفسها أن تستيقظ قبلي بمدة، لأجدها قد أعدت لي طعام الإفطار، وأَحمت حذائي على الموقد الحطبي (المجمر) الذي تتعب كثيرا في إشعاله. كان فطوري متكونا في الغالب، من كسرة خبز، وبعض الجبن الذي قيل لي إن جدّتي قد أتت به ضمن المعونات التي كان يُقدّمها "الإنعاش الوطني" للفقراء من الناس؛ مع بعض الشاي المغربي. فلقد كان والدي يأتي بـ "البون" إلى الجدة، لتأتيه ببعض الزيت أو الدقيق، أو ما تجود به الدول الصديقة المعينة للدولة المغربية، حتى يحتفظ هو من ماله بما يقابله. كانت المؤسّسة التي توجّهت إليها مكتوبا على واجهتها بالخط العريض "collège"؛ أما أنا فلقد كان "الكوليج" في نظري، عالما آخر، لا يمت لعالم حاسي بلال بصلة؛ وهو ما سيجعلني أبدأ التجربة من الصفر، داخل مؤسسة كبيرة، تتكون من عدّة بلوكات، ويسهر على سير النظام بها، كتيبة من المعيدين، إلى جانب "الحارس العام". أما المدير فقد كان في مكتبه، لا يراه أحد إلا لحدث جلل، أو داخلا وخارجا، قاطعا للمسافة القصيرة التي تفصل سيارته (أظن أنها كانت زرقاء) عن مكتبه. ومع أن السيارة كانت تبقى خارج سور المؤسّسة، إلا أن المكتب كان يوجد داخل السور قريبا جدا منها... كان جهلي بالأشياء، يبدأ عند جهلي بأسمائها، لأنني كنت دائما أولي الأسماء عناية كبيرة: إن أدركت معناها، ينفتح لي ما وراءها من معلومات؛ وإن جهلتها، يبقى المسمّى عندي في طيّ الغيب، وإن عرفت منه بعض تفاصيله. ولم أكن أجد في البيت أو فيمن حولي من الأقران، من يهتم لما أهتم له؛ وأما الأقران، فلقد كانوا يستعجلون الظهور بمظهر العارفين، فكان ذلك يفوّت عليهم البحث في الأسماء، كما أبحث أنا. ويزداد الأمر صعوبة، إذا كان الاسم فرنسيا، بعيدا عن الاستعمال اليومي، كما كان اسم "كوليج"... وإن الصلة بين الأسماء والمسميات، هي من أكبر أبواب المعارف الإلهية، لا يعتني بها إلا كبار العلماء بالله. وأما المفكّرون الذين بحثوها، وظنوا أنهم بذلك قد أدركوا مستوى ما من الفلسفة، فإنهم قد أخطأوا الطريق، وإن بالغوا في التنظيرات المبنية على التلفيقات التي صارت في زماننا تُعتبر ولو في جانب من جوانبها "علما"، وهيهات!... *** كانت جدتي وحدها، تهيئني، وتقف معي على الباب تنتظر أن أغادر، ثم تشيّعني بنظراتها كل يوم إلى أن أغيب... لن أتمكن مهما فعلت، من شكر تلك المرأة، التي لم تتذمّر يوما من مشقة الاعتناء بي، بل ما رأيتها طيلة حياتها، إلا مسرورة بي، معظّمة لي، تعظيما كنت أنا لا أُدرك بواعثه: كانت رحمها الله، لا تناديني طيلة حياتها إلا بـ "سيدي فلان"، وقد تقبّل أحيانا يدي. فكنت أنا لا أرى ذلك إلا من فرط محبّتها لي، ولكنّي الآن أقول في نفسي، ربما كان في ذهنها شيء آخر، لم أكن أنا أميّزه... ومما اتضح لي مع مرور الوقت، أن والدتي كانت ممنوعة من الاشتغال بنا عن قرب؛ لأن والدي كان يعتبرها خالصة له. ولا أدري هل فكّر يوما لو أن جدّتي لم تكن تعيش معنا، ما كان سيفعل؟... وقد أدّى البوْن بيننا نحن الأطفال، وبين والدتنا، إلى قلة كلامها معنا، على ما يكون منّا من التفاف حولها؛ أما إذا حضر الوالد، فإنه كان يمنع الكلام، فلا يكلّم أحد أحدا. عندما كبرنا قليلا، فهمنا أنه كان يمنع الكلام، حتى لا ينقل أحدنا خبرا من أخباره من خارج البيت إلى داخله. كنّا نعيش نظام "الدولة البوليسية" في بيتنا الصغير، لحكمة كان الله وحده يعلمها... مرّت عليّ ثلاث سنوات وأنا أركب القطار في كل صباح على الساعة السابعة، بمدة قبل إقلاعه، وأنزل منه بدقائق قبل الساعة الثامنة، على تلّة تُشرف على "الكوليج". كنا ننزل منه، فنجري على منحدر من الفحم أسود، فلا نصل ساحة الإعدادية إلا منهكين؛ ثم نعود أدراجنا بعد الخروج على الساعة الثانية عشرة زوالا، فلا أصل إلى البيت إلا منهكا أيضا، لأتناول غدائي بسرعة، وأقفل راجعا لأصل إلى محطة القطار في الوقت المناسب، قبل إقلاعه في اتجاه جرادة مرة أخرى، طلبا لحصص المساء التعليمية. كنت في الذهاب والإياب، أحمل محفظة جلدية كبيرة، أضع فيها كل كتبي ودفاتري؛ فرغم أن إدارة المؤسّسة كانت تعيّن لنا ساعات المواد الدراسية لكل يوم، وكان لديّ ما يُسمّى "استعمال الزمان" (جدول الزمان)، إلا أنني أنا كنت آخذ جميع لوازمي، تحسّبا لكل طارئ. وهذا يدلّ على أني قد كنت أنظر إلى الأمور بتهيّب كبير، وبطريقة نظر خاصة، سيتبيّن بالتدريج، أنه لم يكن يُشاركني فيها أحد من أقراني، الذين ربما أظهروا لي تعجّبهم من ضخامة محفظة كتبي بالمقارنة إلى صغر سنّي. فلقد كانت المحفظة، تبدو بالمقارنة إلى جسمي ضخمة منتفخة؛ وكنت عندما أجري بها في طريق العودة خاصة، وأنا خائر القوة بعد أربع ساعات من الدراسة، ومضطر إلى الهرولة، حتى أبقى على مقربة من "الكبار" الذين كانوا يسكنون حيّنا، لأنني كنت أحتمي بهم في قطع الطريق الطويلة، التي لم تكن خالية من المارّين في النهار؛ كثيرا ما تنتهي المحفظة بين ساقيّ: فإما تُسقِطني، وإما أتمايل بها لأستعيد توازني بسرعة حتى لا أتخلّف عن الركب... كان هذا، عذابا يوميا، أعيشه، ولا أعلم لِمَ أعيشه؛ لا أكاد أفهم إلا أن الأمر هكذا، ولا ينبغي أن يُناقش!... ربما كان هذا شيئا من حال التسليم الذي كان ملازما لي: لم أكن أعترض على أحد من الناس ولو بباطني، لا داخل البيت ولا خارجه، إلا على أخواتي اللائي يصغرنني ببضع سنوات؛ فقد تعلّمت أنني من طبقة أعلى من طبقتهن، علما وتجربة... لم يمض وقت طويل، حتى صرت المرجع العلمي في بيتنا لسائر إخوتي. كنت كلما ازددت علما، أزداد إحساسا بجهلي؛ وكان العلم النظري وحده، لا يكفيني، إلى الحد الذي أذكر معه أنني كنت يوما أقف قبالة "ماكينة" والدتي، وأنا أرمق حركة الإبرة السريعة، أبغي معرفة كيف تحدث الخياطة. فلمّا لم أتمكّن من اللحاق بحركة القطع المعدنيّة بعيني، لم أشعر إلا وأنا أضع أصبعي تحت الإبرة، لأجرّب طريقة خياطتها للثوب. وهو ما جعل والدتي تتوقّف على الفور، وهي تأخذ يدي تتفحّصها، وتنهرني مشدّدة عليّ ألا أعود لمثلها أبدا. لم يتضرر أصبعي مع أنني شعرت بالإبرة بلغت إلى ظفري من الجهة المقابلة، وكأن شيئا لم يكن. لكنّني لم أعد إليها مرة أخرى. وهذا لا يعني أنني لم أفعل ما يُشابهها، فقد وضعت يوما شفرة بين أسناني العلوية والسفلية عموديا، وأطبقت فمي شيئا فشيئا، حتى استعصى عليّ فتحه فيما بعد؛ فجئت الوالدة أشير إلى فمي، فلما رأت ما بي، صارت تتذمّر وتشكو تعبها منّي؛ فبقيت مدة تعالج فمي وتمسك الشفرة حتى لا تجرحني، إلى أن خلصتني. ومرة أخرى، أدخلت نصف زرّ إلى أنفي، ودفعته إلى أعلى، حتى غاب؛ ثم أتيت الوالدة لتتدبّر الأمر، فما أخرجت الزر من أنفي إلا بمشقة... كل هذا، لأنني لم أكن أقنع بالعلم النظري، وكنت أطلب العلم الذوقي من دون أن أعرفه وقتذاك. وهذا، لأنني كنت مجبولا على الذوق من جهة الاستعداد، وهو ما سيظهر بعد سنوات عليّ ظهورا بيّنا... لكنني ما كنت أعلم أنني سأكون مخالفا فيه لجل الناس، ولا كان أحد من الناس ليُخبرني بمخالفتي للعموم، وهو ما ستنشأ عنه مشقّة لي، لا يُطيقها إلا من أطاقه الله...
(نهاية الجزء الأول) |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.