اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]() «السابقالتالي»
2025/06/02 رحلتي إليّ -6- نحو التسميم الأول
أذكر في إحدى السنوات، أن والدي في يوم من أيامها، كان قد أصبح زائد النشاط. سمعت مما كان يُقال حولي، أن الأمر متعلّق بانتخابات، كان التنافس فيها على أشدّه. كان الأمر في الحقيقة استفتاء، يُعرض فيه أول دستور مغربي، على الشعب بحسب الزعم. وعندما أقول هنا بحسب الزعم، لا لأنني منحاز إلى طرف دون طرف، وإنما لأن هذا الذي كان "الشعب"، لم يكن يدري من هذا الأمر في الغالب شيئا. كانت الأمية ضاربة بأطنابها، فإن غابت الأميّة الفطريّة قليلا، حل محلها الجهل المـُطبق. كان سبب الجهل الأبرز، هو اقتفاء الشعب المسلم لآثار المستعمر في كل شيء، رغم بقاء بعض مظاهر التديّن سارية بحسب ما يبدو. لم نكن نجد صريح الإيمان إلا لدى الأميّين، الذين لم تكن "عقلانية" الكافر قد خدعتهم؛ فكان ذلك ينعكس عليهم طيبوبة وحسن أخلاق. ومن ذلك، أنني فتحت عينيّ وأنا أسمع جلّ من كانوا من جيل أبي، ممن كانوا يُحيطون بنا من الأمازيغ، لا يخاطبونني إلا بصفة "سيدي فلان"، ولا يخاطبون أختا لي إلا بصفة "لالّا فلانة"، فكنت لا أعلم أصل ذلك ولا غايته؛ إلا أنني كنت أميّز من الرجال والنساء، التوقير والمودّة. كان هؤلاء الأفراد، من آخر ما سنعرفه في المغرب من مظاهر تعظيم أهل البيت؛ وهو ما جعلني أشعر بشدّة التواضع، بين يدي أولئك الطّيّبين، منذئذ وإلى الأبد. كانت هذه الطبقة من الناس، تربّينا بطريقتها، وكان ذلك يعود عليهم عاجلا بالبركة في أمورهم، وسيعود عليهم في آجلهم، بما لا يخطر لهم على بال، من الرحمات. لم يستمرّ ذلك الحال طويلا، فقد تسلّل حال الكفر (وهو غير الكفر بالمعنى العقديّ الشرعي) من المدارس ذات الأصل الفرنسي إلى من كانوا من نتاجها، فصرنا نسمع بآذاننا في سنوات لاحقة تنكّر جيل الأبناء لأمور كثيرة، منها ما يتعلّق بالعترة النبوية. وأما أنا فقد كنت على الحياد، لا أتذمّر من شيء، بقدر ما كنت أسعى إلى تمحيص معلوماتي، من دون التفات إلى ما سأدفعه من أثمان في المقابل... وعندما أعود بذاكرتي إلى الوراء، أجد أن الناس الذين أتوا إلى الدنيا قبلنا، كانوا يعيشون بالإيمان؛ كانوا يحتملون من ظروف العيش ما لا يكاد يُطاق، برضى ظاهر ورجاء لا يخيب. كان ظلم القواد (حكام الأقاليم) ومن تحتهم، يكاد يكون أمرا عاما مشتركا، ما لم يكن القائد طيّب الأصل، يعمل بما يناسب أصله. ولم يختلف الأمر مع الدولة الفرنسية، عنه بُعيْد الاستقلال؛ لأن المغاربة الذين استلموا المناصب الحكوميّة، لم يكونوا يعرفون إلا النموذج الفرنسي الذي سبقهم إليها؛ مع أن شطرا من المغاربة، لم يكونوا يبلغون عقلانية الفرنسيّين، ولا "إنسانيتهم" التي كانوا يأبون أن ينزلوا عنها، بخلاف بني جلدتنا الذين كانوا قد تشرّبوا العنف من جميع نواحيهم الاجتماعية، على بعض الاستثناءات ممن كانوا على أصل طيّب أو على نصيب من العلم والدّين. كان البلد ما يزال في طور انتقالي، هو ما أشرت إليه آنفا بـ "مرحلة الاضطراب". وكان عرض أول دستور على الشعب، يدخل ضمن استنساخ طريقة الحكم الاستعمارية، بعد الاستقلال، يا حسرة!... وكان إرادة للخروج من الاضطرابات، التي كانت توشك أن تنقلب حربا أهليّة... *** كان حزب الاستقلال الذي ينحاز إليه والدي، مصطفا إلى جانب المخزن؛ وكان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي يُعاديه والدي، يُعارض ذلك الدستور. وأما المخزن، فإنه المنظومة التقليدية التي تحكم البلاد بالقوة والابتزاز أحيانا، كما كان الشأن منذ عهد الدولة السعدية بداية القرن السادس عشر؛ وهو يتألف من السلطان (الذي أصبح مع فجر الاستقلال يُعرف بالمـَلِك)، وبطانته المقرّبة (التي تعرف الآن بالمؤسّسة الملكيّة)، إلى جانب كبار الأعيان وملاك الأراضي في البلاد، وزعماء القبائل وشيوخها، وكبار العسكريين في الجيش، ومدراء الأمن ورؤسائه مع المخابرات، وغيرهم من أعضاء المؤسسة التنفيذية التابعة الآن لوزارة الداخلية خاصة. ورغم أن الملك هو من يترأس الدولة كلها، مما سيجعل منظومة المخزن تحت حكمه فيما يبدو، فإن ميزان القوة كانت يتحرك باستمرار، بحسب ثقل كل جهة في الوقت؛ إلى الحد الذي قد يكون الملك ذاته محرجا في اتخاذ بعض قراراته، أو مضطرا إلى موافقة جهة من عناصر المخزن، دون الجهات الأخرى. وهكذا، فإن الكفة بعد الاستقلال، كانت ترجح لصالح أصحاب المال، ولبقايا ضبّاط فرنسا الذين صاروا نواةً للجيش وأجهزة الأمن المغربية. فأما من ذوي النفوذ المالي، فقد كان -مثلا- محمد الغزاوي، الذي كان أول من استلم مديرية الأمن، فكان يُخرج رواتب رجال الأمن من ماله الخاص، كما سمعنا من بعضٍ ممن عاصروه؛ وهذا، لأنه كان أغنى من محمد الخامس ملك المغرب نفسه. وقد أعقبه الجنرال أوفقير (كوماندار في البداية)، لأنه كان من بقايا الضباط الفرنسيّين، الذين حرصت فرنسا على إبقائهم في المراكز الحسّاسة، ضمن الجيش المغربي الذي كان يزامله فيه كبار قدماء الجيشيْن الفرنسي والإسباني، أو على رأس الإدارة الأمنية. ولقد كانت تركيبة المخزن، بعد نيل الاستقلال، لا تدل إلا على أن فرنسا، ما تزال ماسكة بزمام الأمور في بلادنا؛ وذلك بسبب النخبة المخزنية التي كانت إلى عهد قريب نخبة خادمة لأغراض الدولة الفرنسية، التي كان من عادتها أن تمنح أفرادها من الامتيازات الماديّة والسلطويّة، ما يجعلهم حريصين على عدم تغيير الحال. وكلامنا هذا يعني أن النخبة الناشئة عن رجال المقاومة وجيش التحرير، التي ضم المخزن بعض رجالها إليه، لم تكن بالثقل الكافي حينها، ولا كانت في طريقة عملها منفصلة عن التنظيرات الفرنسية وقوانينها، ولا عن فلسفاتها وطريقة نظرها إلى الأمور. وأنا أنبه هنا إلى هذه الآفة، لأنه كان يُفترض فيمن استلموا الحكم من الوطنيّين تحت إمرة الملك، أن ينطلقوا من الشريعة الإسلامية في أصولها النظريّة (العقدية)، ومن القوانين العملية التي كان ينبغي أن تنبثق عن الفقه الشرعي. ولكن عندما نجد فقيها كعلال الفاسي، يُنشئ حزبا سياسيا على غرار الأحزاب الفرنسية، ويعمل بطرائق الجاهلية البعيدة عن روح التشريع الإسلامي، مع نخبة دينية من أمثال المختار السوسي والمكي الناصري؛ فإنه يُستبعد من غيرهم، ممن أَنشأوا الأحزاب الأخرى والنقابات، أن يكونوا أهدى... وفي يوم الاستفتاء ذاك، كانت الحركة غير اعتيادية في بيتنا: كان والدي كثير الدخول والخروج، وكان يُصدر تعليمات إلى جدتي ووالدتي، أظن أن إحداها كانت تتعلّق بإعداد الشاي وأرغفة المسمّن للموظّفين القائمين على العملية؛ في حين أن الأوامر الأخرى كانت تَخرُج جدّتي على إثرها، في كل مرة، متنكّرة قليلا بزيّ مخالف، لتصوّت بأسماء مختلفة، كما فهمت. كانت المسكينة مجدّة فيما تقوم به، وكأنها سُرّت لأن يحتاج إليها صهرها مرة في عمرها. علمت أنا كل هذا، من دون أن أعلم حقيقة ما كنت أسمع أو أعي أبعاده؛ لكنّي ميّزت أن الأمر فيه تزوير ما، كنت أرفضه بباطني... *** كان والدي عندما يقدّم هذه الخدمات للمخزن، يظهر عليه أنه معنيّ بها شخصيّا؛ فهمت ذلك من كل كلامه في ذلك الوقت، وفيما بعد من السنين. كان بسبب جهله المـُطبق، يتكلم كثيرا لوالدتي عن السياسة، التي كنت قد بدأت أنا أعي بعض معناها؛ وكان يعُدّ نفسه فيما بينه وبينها، وبعيدا عن كل عين ناقدة، سياسيّا لا يُشقّ له غبار. ولقد بلغ به الأمر من فساد العقل، أنه كان يعدّ نفسه الرجل الثاني فيها بعد الملك مباشرة، في بيتنا؛ مع أنه كان من الأفضل له، أن يتهيّأ لما ستأتي به الأيام، من مثل انفتاح مدارك أبنائه على ما لم يكن يعلم منه قليلا ولا كثيرا... كان والدي يتكلم عن الملك، وكأنه مخلوق فوق البشر، غير أنه هو كان أعلم الناس به. كنت في بعض المرات، أسمع منه كلاما عن محمد الخامس الذي كان قد انتقل عن الدنيا، يصف فيه عمله مع "الوطنيّين"، ويصف في المقابل خيانة "الخونة"، ويذكر منهم من كان قد قضى، ومن كان لا يزال حيّا. كان "ولاء" والدي سابقا، لمحمد الخامس، الذي كنت ألاحظ إجماع مجتمعي الصغير على تعظيمه. كيف لا، وقد سمعت مرات والدتي، وهي تكلّمني عن تناقل المغاربة لخبر رؤيتهم له في القمر، إبّان نفيه عن المغرب. كانت هذه الواقعة، لا تقبل النقاش عند الأغلبية من ذلك الجيل، وتدخل في الكرامات التي تكون للأولياء، كما هو شائع في بلدنا، بلد الأولياء. وبعد انتقال محمد الخامس عن الدنيا، عام 1961م، انتقل ولاء والدي مباشرة، إلى الحسن الثاني، الذي كان الناس ما يزالون يسمّونه "مولاي الحسن". كان الأمر عند والدي، دينيا ووطنيا؛ مع أنه لم يكن يميّز لا دينا ولا وطنيّة؛ إنما هي عقيدة تشرّبها، واستقرت لديه، من غير أدنى قسط من العقلانية... كانت عقيدة والدي، تقبل الكذب والتزوير، وكأن الحقّ قد يحتاج إلى الباطل من أجل قيامه. وهو الشيء الذي علمت أنا فيما بعد، أن عكسه هو الصحيح؛ أي أن الباطل هو ما يحتاج في قيامه إلى الحق. ولكن أين كان والدي من هذا المستوى المعرفيّ؟!... لم يكن والدي استثناء من بين رجال المخزن، ممن كانوا يفوقونه ربما، وفي بعض الأحيان، مقدرة عقلية؛ وهذا لأنني سأعلم فيما بعد، بكثير من المنكرات، التي ارتُكِبت في ذلك الوقت؛ من قتل للخصوم السياسيّين وتعذيبهم، ومن تنكيل بزوجاتهم وأبنائهم ومجمل أقربائهم. كل هذا، في مجتمع يزعم أنه على الإسلام، وأنه يخشى حساب رب العالمين يوم الدّين!... ما كان يقع من شرور في مجتمعنا، كان لا بدّ أن يؤدّي إلى "فصام" جماعي، يطبع شخصية جل المغاربة، إلى الآن... *** ذكرت هذا الآن، لأنه يأتي في سياق سؤالي لجدّتي ووالدتي، فيما بعد، وعندما كنت ما زلت أتابع دراستي في المدرسة الابتدائية، عن سبب ذلك الضّيم الذي كنا نعيشه في البيت، وكأن محكمة قد حكمت علينا بالسجن مع الأشغال الشاقة!... سألت كثيرا لفظا، أو بنظراتي، عندما كنّا نمرّ بالأوقات الصعبة؛ فكانت جدّتي هي من تسارع إلى إجابتي، وكأنها هي المعنية، ربما بسبب خبرتها التي تفوق خبرة والدتي حتما. وكانت إجابتها، بعد أن ترتسم على وجهها علامات الأسى: - هذا، لأنه لا وليّ لنا!... وكانت أحيانا، تزيد: - لو كان لنا رجال إلى جانبنا، ما كنّا على هذه الحال!... كانت والدتي ترمقها، وهي حائرة؛ وكنت أنا أستعدّ لحمل همّ، كان أكبر من سنّي بكثير... عندما طُلّقت جدّتي من (ع. ر) قبلُ، كما أخبرت سابقا، واتفق هو وعمّ والدي (م. الفـ.) على تزويج والدتي، فإنهما كانا يتخلصان من حِمل مزدوج: من المرأة وابنتها، من دون أدنى متابعة لهما بعدُ. وكانت هذه خيانة كبيرة لهما، ولنا نحن الأطفال من بعدهما، فيما سيأتي من الزمان؛ لأننا تُركنا فرائس لأحد النرجسيّين الخبثاء، يفعل بنا ما يشاء... لم تكن والدتي أو جدّتي من دون أقارب، وإنما كان أقاربهما قد نفضوا أيديهم منهما، لأنهم كانوا يسكنون "الغرب" (غرب المغرب)، في زمن كان التنقل بين غرب المغرب وشرقه قليلا، وكانت وسيلته المثلى القطار؛ وأما الحافلات فكانت ما تزال من الطراز العتيق المتعب جدّا للمسافرين. ولقد علمتُ بوجود أقارب جدّتي وأنا بعدُ في المرحلة الابتدائية من تعلُّمي، عندما سافرَتْ هي إلى فاس، حيث كان ما يزال أخوها (ع. أبو شـ.) يعيش. كان أخوها هذا، يمتلك مقهى ومطعما للمسافرين، وكان من أغنياء فاس. نبهتني جدّتي إلى مطابقة اسمه على البطاقة الدِّعائية التي حملتها معها إلينا عند عودتها، لاسم الشارع الذي كان المقهى متواجدا به، وهو: "علال بن عبد الله". أما أخوها (م. بن ع.)، وكان قد حافظ على اسمه العائلي في الوقت الذي تخلّى عنه أخوه، فإنه انتقل إلى طنجة، حيث استقر مع أبنائه، يدير أملاكه هناك... أخبرتني جدّتي أن أخاها (ع)، كان يكرمها كثيرا، وعرض عليها أن تقيم معه في غرفة خصصها لها؛ ولكنها لم تكن تستطيع ترك والدتي وحدها، في مواجهة والدي؛ ولا كان أخوها من المروءة، بحيث يزور ابنة أخته، ولو مرّة واحدة في عمره. أما والدتي، فإنني لن أتعرف على بقية عائلتها، من أعمام وإخوة من الأب، إلا بعد سنين طويلة، كنت أنا قد تجاوزت فيها العشرين من عمري... كان المـُنطلق الذي يُعامل به والدي والدتي وجدّتي، هو أنهما لا ظهير لهما من الرجال؛ فكان متحرّرا إلى أبعد الحدود في تلك المعاملة، كعادة قليلي المروءة. بل إن الأمر كان يزداد سوءا مع توالي السنين، إلى الحد الذي تأذينا منه نحن الأطفال كثيرا... كان بيتنا يسير بحسب مزاج والدي: فإن عنّ له أن يضحك، أو أن يلاعب أحدنا، وهو ما كان نادرا، فلقد كان علينا جميعا أن نجاريه؛ وإن دخل إلى البيت عابسا، وهو الغالب، كنّا لا نتكلم إلا همسا، ولا نتحرّك إلا للضرورة القصوى... *** في هذه الأثناء، كان جدّي إدريس يكاد يأتي إلينا مرة في كل سنة، بعد أن يكون قد انتهى من حصاد زرعه، أو في نهاية الخريف. كان يعاملني معاملة حسنة، بخلاف والدي الذي كان يُعاملني في كثير من الأحيان وكأنني من مرتبة أدنى من البشر على الأقل؛ فكان مقدم جدّي يُحييني بعد موات، وكان في بعض الأحيان، يأخذني معه إلى مدينة جرادة، التي كنت لا أكاد أعرفها. كنا نركب الحافلة القديمة، وعند وصولنا إلى المحطة، كنا نتوجه إلى أحد صانعي البواريد التقليدية؛ علمت فيما بعد أنه كان ينتسب كجدّي، إلى حزب الاستقلال. كان الرجلان يتحدّثان في المعمل الصغير، عن شؤونهما الحزبية، في الوقت الذي كنت أنا لا أفقه كلمة واحدة من حديثهما، كما كنت لا أعلم فيم تُستعمل تلك البواريد مختلفة الأحجام؛ لأنني لم أكن أعلم سوى استعمال البواريد الكبيرة التي كنت أراها عند "البواردية"، في الرقصات الجماعية التي كنت أحضرها أحيانا. وأما جدّتي الشريفية، فكنا لا نراها، إلا إن سافرنا نحن إليها حيث هي في المقام، إذا هي حلّت العطلة الصيفية المدرسية. كانت هي تسمّي المقام "ثمورت" أو "الزاويث"، ولا تسميه المقام أبدا؛ فكان ذلك يُحدث ارتباكا لديّ، حين لا أعلم الفرق الدقيق بين هذه الكلمات كلها. وكانت العطلة الصيفية المدرسية في ذلك الوقت، تدوم ثلاثة أشهر بالتمام والكمال؛ حتى كنا نكاد ننسى جوّ الدراسة، من طولها... كان أهل بيت جدّي ينادونه كلهم "سيدي"، بمن فيهم والدي. فكنت أرجو لذلك بعض نفع، أتوهم منه أن يكون بمقدرته أن يحميني من السوء الذي كنت أعيشه؛ فتبيّن لي سريعا أن الرجل نفسه، لم تكن له سلطة حقيقية على ابنه، وإنما كان ذلك "البروتوكول" الأجوف الذي يمارسانه، داخلا ضمن النفاق الذي يعيشه مجتمعنا عامة، ويعيشانه هما خاصة، لعلم كلّ واحد منهما بحقيقة الآخر... كان والدي، لا يقبل أن يمكث جدي عندنا طويلا، لسبب يخصّه؛ وكان يُفلح في أن يوصل تبرّمه ذاك إليه بعد انقضاء أيام معدودة من إقامته عندنا؛ فكان الرجل يعود أدراجه، وعلى وجهه مسحة من الخيبة، قبل أن أملّ أنا من رفقته. كانت تعابير الحزن لا تكاد تفارق محيّا جدّي، لسبب الفقر الذي كان يشكوه دائما؛ أو لتضييق بعض أهل المقام عليه، في أمور السقي أو ما شابهها؛ إذ كان أهل البلد يتناوبون على حصص للسقي، قد تأتي نوبتها لأحدهم، بعد منتصف الليل. علمت فيما بعد أن أهل قبيلتنا، كان بأسهم بينهم شديدا، رغم أنهم كلهم كانوا يفاخرون بانتمائهم إلى النسب الشريف، وإلى جدنا سيدي أبي القاسم أزروال دفين بَرْكِينَ. كنت أعجب منذ صغري لتلك التناقضات، التي يعيشونها، ولجمعهم لها فيما بينها في آن واحد، من دون أدنى حرج؛ وكأن الأصل في الأمور، هو ما كانوا عليه!... *** كان أهل قبيلتنا، يحرصون على ألا يتزوّج الشريفةَ غير الشريف، وهو ما أبقاهم منغلقين في ذلك المكان الذي تركهم جدنا الأول فيه. ولهذا السبب، كان يُذكر لنا، من باب الاستثناء المخالف للقاعدة، أن والدة جدّي إدريس كانت "عمراوية". وكانت قبيلة أولاد عمرو، هي المجاورة لنا في المقام، ومشارِكتُنا للسوق الأسبوعية "الخميس"، التي كان يتوجّه إليها أولاد سيدي علي بنسامح أيضا، ربما مع أقليات أخرى لا أعرفها أنا... كانت قبيلة أولاد عمرو، أمازيغية، لا يتكلّم أبناؤها إلا الأمازيغية؛ وكنّا نحن في بداية الأمر نظن أنها قبيلة ينتسب أبناؤها إلى جدّ مشترك، إلى أن أخبرني أحد أبنائها (م. ع)، الذي كان يعرف جدي شخصيا، أن أصل تسميتها هو: "الواد عمر"، لا "أولاد عمرو"؛ وذلك لأن النازحين في زمن المجاعة والجفاف، قد جاؤوا إلى ذلك الوادي من كل الجهات، جماعات جماعات؛ فكان يُقال: "الواد عمر، الواد عمر!..."؛ فعجبت أنا لهذا الأمر أيما عجب، وذلك لأنني عرفت كثيرا من أبناء هذه القبيلة، طيلة مراحل عمري، فلم يُخبرني واحد منهم بهذه الحقيقة... وقد علمت من هذه الثقافة العنصريّة لقبيلتنا، أنهم كانوا لا يتقبّلوننا بقبول حسن، أنا وإخوتي، لأن أمنا لم تكن منهم. وأذكر أن واحدا منهم، أخبرني في منتصف عمري، أنني لا أنتسب إلى القبيلة إلا نصف انتساب، بخلافه هو مَن كان أبوه وأمه معا منها. فدهشت لهذه العنصريّة الضيّقة، يُعرب عنها أحد من كنت أظنهم على بعض الثقافة!... بين جدّ ومزاح، من غير شكّ!... كان هذا التمييز العنصري، غير مـُدرك لنا في بداية طفولتنا؛ مع أننا نحن الأبناء، كنّا نلاحظه من أقرب الأقارب لنا، الذين يعاملون والدي بانفتاح لم نكن نظفر منهم ولا بعشر معشاره. ثم ما لبثت أن ازدادت الهوة بيننا اتساعا، مع ظهور صفات النجابة عليّ خاصة... *** عندما انتقلت إلى السنة الخامسة الابتدائية، كان لزاما عليّ أن أنتقل إلى المدرسة المركزية "أبو عبيد البكري"، في الحيّ الأوروبي؛ لأنها كانت وحدها ما يتيح الدراسة في السنة النهائية الابتدائية. كان معلّمي للغة العربية أحد شباب مدينة تطوان، وكان يُدعى "عمر المقفلجي"... كان مختلفا، عن معلّمي السابقين، لأناقته الزائدة، وحسن معاملته؛ وهو ما جعلني أنفتح انفتاحا فوق ما كنت عليه في السنين الفارطة. فما لبثت أن صرت أبرز تلميذ عند هذا الرجل، حتى كان يوكل إليّ مساعدته في تصحيح إنجازات رفاقي، وهو ما أثار عليّ حفيظة كثير منهم، وأوغر صدورهم... كان السّي عمر، أول من تلقيت عنه توجيها موسيقيّا؛ وذلك لأنه في حصة الأناشيد، كان يُعلّمنا قصيدة "شمس العشيّ" الشهيرة، ضمن ما يُسمّى عندنا في المغرب "الطرب الأندلسي". وكان مع تعليمه لنا طريقة غناء هذه القصيدة، يعمل على شرح كلماتها، التي لم يكن دائما من السهل على عقولنا الصغيرة، أن تُدرك معانيها... كان مطلع القصيدة يبدأ هكذا: شمس العشي قد غــرَّبَتْ واستعبرَتْ عيــني من الفُرقا على الشفق قد سطّرت حيــنْ غيّبت زاد العشيق شوقا حتّى الطيور قد غـــــرّدت وترنّمت ترثي على الــورقا لقد فتح هذا التعليم الغنائي أمامي، عالما طالما سحرني، وأخذني عن نفسي؛ فكنت أزداد احتراما لهذا المعلّم المختلف. ولم تمض إلا شهور قليلة، حتى أنهيت السنة الخامسة، بتفوّق قليل النظير. أذكر أنني عدت إلى البيت بعد إعلان النتائج، وكنت قد اعتدت على ألا أفرح بأي إنجاز لي في دراستي، بسبب قلة اكتراث والدي لذلك، وتعمّده لاحتقار ذلك أمامي، وكأنه يخشى عليّ من الاغترار. لم يكن يخطر ببالي أنه كان يحسدني، وهو الأمي الجاهل؛ كما وضح لي بعد سنين طويلة؛ خصوصا بمحضر أهل بيتنا الذين كان يحرص على ألا يروا في العالم "بطلا" في جميع المجالات دونه، لكن من دون بحث في الشروط؛ وإنما هي عقيدة كان ينبغي أن تستند إلى التسليم وحده. لا شك أن هذا كان مرضا نفسيا لدى والدي، خطيرا، ستكون له تبعات علينا جميعا، في السنين الآتية. وكان الضرر يصيب الواحد منّا، كلما كان أصغر في السن؛ فكنا نحن الأبناء وقد أصبح عددنا ستة، أكثر تضررا من غيرنا، لأننا فتحنا أعيننا على هذا الوضع السقيم؛ وكانت تأتي بعدنا والدتنا التي عرفته منذ السادسة عشرة من عمرها. وأما جدّتي فقد كانت أقلنا تضررا، لكونها من جيل الوالد، ولم تعاشره حتى جاوزت سنّ الثلاثين... عندما عدت إلى البيت بنتيجة امتحاني، وجدت جدّتي متأهبة لسؤالي، وعلامات الصرامة تعلو وجهها الذي كان يبدو محمرّا عند دخول الصيف. سألتني: - ما كانت نتيجتك؟ فأجبتها: - سأقول لك، إن كنت لن تزغردي!... وهذا لأنني كنت أعلم أنها ستُعلن ذلك بزغاريدها القوية، حتى تُسمع كل الجيران. وأنا كنت قد آليت على نفسي ألا أرفع رأسي أبدا بشيء، أو أفرح بشيء؛ حتى لكأنني صرت أرى حسناتي سيئات... أجابتني، وعلامات نفاد صبرها واضحة: - لن أزغرد، أخبرني فقط!... فأجبتها: - لقد نجحت!... فانطلقت وهي تبعدني عنها، وقد كنت أحاول منعها من أن تزغرد، رافعة أصوات زغاريدها المتكرّرة، وواضعة إحدى يديها على فيها... كان ذلك المساء عيدا في بيتنا، انتزعته جدّتي بقوة شخصيتها، من الكآبة المحيطة بنا، والتي كان والدي يبني حصنها لبنة لبنة... عندما كان يعرف بأنه لن يتمكّن من تغيير الوضع، كان يستكين، وينتظر عودة رتابة أيامنا ليُرضي ساديته... كان المهنئون يتواردون على بيتنا وُحدانا أو جماعات، ثم ينصرفون بعد شرب الشاي أو "الليمونادا"، راجين أن تتكرر نجاحاتي وتستمر... لم يكن ذلك الاحتفال يروقني، بل أحزنني جدا؛ لأنني كنت أرى الثقل سيزداد عليّ مع تقدّمي في الدراسة، وكانت نظرات الناس قد ازدادت وطأتها، وكأنني كنت أستشعر القادم المرير... *** انتهت السنة الدراسية بحفل جّيد التنظيم، أشرف عليه مدير مدرستنا الصارم، وكان مما زاد من شدّة وقوعي تحت تأثير سحر الموسيقى، عزف أحد المعلّمين، على آلة الأكورديون، التي كنت أراها لأول مرة في حياتي... كان العازف أنيقا، كمشاهير أبطال السينما، ويلبس "سموكينغ" يبدو فيه وكأنه نقلنا معه إلى عالم فوق عالمنا البئيس. كان الرجل يُدعى ع. الدرفوفي، وكان يعزف بإتقان على آلات موسيقية عدّة، منها: الكمان، والناي، والعود، والقيثار، بالإضافة إلى الأكورديون... كان هذا الرجل، وكأنه جاءنا من بلد بعيد؛ ولكنه مع كل هذا، فقد أنفق جلّ عمره في مدارس حاسي بلال، من دون أن يُسمح له بالانتقال إلى وجدة حيث بيت أسرته، لمدة سنوات طويلة؛ إلى أن صار واحدا من "ضحايا" التعليم، والمنظومة التربوية العقيمة في بلدنا المغرب. كان يسافر من حاسي بلال إلى وجدة، على متن دراجة نارية ضخمة، مما لم نكن نراه نحن إلا في صور المجلاّت التي تأتينا من فرنسا، كمجلة "أهلا أيها الرفقة!" (Salut les copains)، التي كنّا نجد بعض صفحاتها ملقاة على قارعة الطريق، فنتناولها متعجّبين من فخامة ورقها الصقيل، ومن مقاربة صورها للشخصيات مع سياراتهم أو دراجاتهم الكبيرة للواقع؛ حيث لم يكن جهاز التلفاز قد نفذ إلى بلدتنا بعد... سأعرف الرجل فيما بعد، وأنا زميل له في المهنة؛ كان يبدو محطّما، كما هو شأن جلّ أبناء وطننا. وسأذكر آلته الأكورديون، بقصد شرائها منه، عندما بدأت دراسة "البيانو" في مدينة وجدة، لأتمرّن عليها، ما دمت كنت لا أستطيع اقتناء بيانو، وكانت أستاذتي تعزف على الأكورديون أيضا. كنت أظن أن الآلة ستكون على حالتها الأولى، لكنني عندما رافقت الرجل لأراها، وجدت زاوية من منفاخها قد حلّ بها ثقب واسع؛ فعدلت عن رغبتي في شرائها، مع أنني كنت أرى الخيبة في عيْنيْ ذلك الرجل الذي كنت أحترمه وأقدر فيه فنّه... *** جلب عليّ نجاحي في المدرسة، مع ما كنت عليه من صفات، كثيرا من حسد الأمهات اللائي كان أولادهنّ من أقراني، من دون مقاربتي في إنجازاتي... وقد كنت في هذا العمر، لا أخالط أقراني إلا قليلا، فقد كان اللعب لا يستهويني، وكنت لا أخرج من البيت إلا قليلا. وفي أحيان كثيرة، كنت أجلس بقرب جماعة الآباء، عندما كان يجلس بعضهم إلى بعض، يتجاذبون أطراف الحديث، في ساحة الحيّ. كنت أجلس بعيدا عنهم قليلا، بداعي الاحترام، مع إلقاء سمعي إليهم، لعلّي أظفر منهم بما يقلّل من حيرتي التي بدأت تكبر معي. ولقد سمعت مرة أحدهم، وهو يشير إلي، يُخاطب الآخرين قائلا: - انظروا إلى رجاحة عقل هذا الصبي، الذي يجلس قريبا منّا، ويترك أقرانه لاهين في ألعابهم... كان يقول ذلك، وفي نبرته ونظرته شيء من غبطته لي على ما كنت عليه؛ وكأنه كان يقارنني إلى ولديْه وإلى أبناء الآخرين... وأما أنا ففي الحقيقة، كان يدفعني إلى النّأْي عن أقراني، عدم إتقاني للعبة مما يتعاطونه بحسب المواسم. وهذا، لأن جيلنا، كان يعرف لكل موسم لعبته: ففي الصيف الكرة، وفي الشتاء الخذاريف والكلل الملوّنة التي كانت تأخذنا بألوانها إلى عالم أزهى من عالمنا. كنت أنا من السبّاقين إلى شراء اللعب، فوالدتي بعد تولّيها الإنفاق علينا من خياطتها، لم تكن تبخل عليّ بشيء من أثمنة ما أطالبها به؛ ولكنّي مع ذلك، لم أكن أُحسن شيئا من كل تلك الألعاب، وكأنني لم أُخلق للعب!... علمت هذا فيما بعد يقينا!... وفي تلك الآونة، سقيت السمّ، بحسب ما دلّني الكشف فيما بعد، من إحدى القريبات التي كانت مهووسة بمقارنة ابنها إلي. كان ابنها قد اعتاد هجران صفوف الدراسة منذ مدّة، إلى أن انتهى الأمر بطرده من قبل أن ينهي مرحلته الابتدائية. ولقد تركت هذه المرأة من تلك المقارنة الماثلة لناظريها، أثرا في نفس ابنها، وجدته بعد سنين طويلة من ذلك الوقت. وقد كان وراء تسميمي في هذا الوقت أيضا، بعض الشباب من الجيل الذي يسبقني، والذين كانوا يرون أن التخلّص منّي هو ما يُناسبهم؛ حتى إن أحد أقاربي الذي كان من جيلهم، ذهب إلى بيته، مخبرا لأهله أنني لم أمت رغم مناولتي السم من قِبل شباب الحيّ... لم يمض وقت يسير على المرأة التي سممتني، إلا وهي تُحتَضَر، على هيئة شنيعة؛ علمت منها بعد سنين طويلة، أن الله كان يُعجّل العقوبة لمن يؤذيني من غيرته عليّ!... مع أنه هو سبحانه من كان يبتليني، فيسلّط بعض عباده عليّ. قد يستشكل العامة هذا الأمر الذي يبدو متناقضا، وأما الخاصة، فيعلمون حقيقته التي تدخل ضمن علومهم الخاصة... سأعلم فيما بعد، وبعد تحقّق نهاية سلوكي على يد شيخي سيدي حمزة أبي دشيش رضي الله عنه، أنني كنت من أهل العناية الربّانيّة الكبرى؛ فكان ذلك سبب كل ما سيمرّ بي في جميع أطوار عمري... أما السبب الذي أدّى إلى تسميمي في هذه السنّ المبكرة، فلم يكن الحسد وحده، وإنما كان تبرّمي من سماع ملاحظات أقراني على حسن صورتي، وأنا من كان يطمح إلى تحقّقه برجولته من جميع وجوهها في العاجل القريب. كان حسن صورتي، وتعليق أقراني، يُشعرني وكأنني ناقص الرجولة؛ فأرى في سمرتهم وخشونة ملامحهم ما أراه أقرب إلى رغبتي؛ فانعقد قلبي على رجاء أن يتغيّر لوني وتتغيّر صورتي، إلى ما يُشبه ما كان جلّ أقراني عليه. ولم يكن يدور بخلدي، أن الله سيستجيب لرجائي (دعاء حالي)، وأن إجابته ستكون داعية لتسميمي. لم أكن أعلم في تلك السنّ حقيقة ارتباط الأسباب بمسبّباتها، الذي علمت منه بعد تحقّق وصولي، أن التسميم كان سببا إلى تغيير لوني وصورتي، بحسب ما تقتضيه حكمة الله، وتلبية لرغبتي... لم أكن قد عرفت الدعاء بالمعنى الشرعي بعد، وإن كنت أعلم الدعاء بمعناه العام، من دعوات الكبار لي، في حين رضى أو في حين مجاملةٍ لمن يكون معي من الكبار... *** ذهبت في العطلة الصيفية لتلك السنة، إلى المقام وحدي؛ لأن والدي قد سمح لي من باب إظهاره لسروره بنجاحي، بالسفر مع أختي (خ) وحدنا في الحافلة، التي تربط بين جرادة و"سيدي الحسن"، حيث سنؤنس جدتنا الشريفية، بدل مقامها وحيدة في بيتها، بعد وفاة جدّي إدريس ببضعة شهور. كان جدّي، قد تُوُفِّيَ في بيتنا بحاسي بلال، لأنه كما علمت، قد جاء يستشير الطبيب هناك، أو لعلّه مرّ به في تاوريرت أو وجدة، ثم أكمل طريقه إلينا. وكان الطبيب قد نصحه بإجراء عملية جراحية، من داء ألمّ بمعدته؛ ولكن جدّي رفض إجراء العملية بحزم، وبقي أياما ممددا، لا يكاد يرفع رأسه من الألم إلى أن توفي. وكان ذلك أول عهدي بالموت، يزورنا في بيتنا، والذي صار لزاما عليّ أن أجد له ترتيبا، ضمن أمور العيش التي نأبه لها... لم تمر عطلتي هناك عند جدّتي، من دون تسميم جديد لي، فقد كنّا نظل متنقلين بين أطراف القرية من الصباح أحيانا، وإلى المساء. فكان يسهل على أي شرّير أن يمنحني شيئا، فأتناوله بحسن طوية، على عادتي. أدركت فيما بعد، أن ذلك التسميم، كان إمعانا في التنكيل بوالدتي، من قِبل بعض النسوة، وأحيانا بسبب الحسد من بعض الأقران؛ فأما والدتي، فلأنها كان تُعتبر أجنبية عن قبيلتنا، ويُشار إليها بـ "البرّانيّة"؛ وأما أنا فلأنني كنت متميّزا عن أقراني في كلّ شيء... وعندما عدنا من العطلة الصيفية، التي شاركَنا فيها أبناء عمّتي الذين كانوا قد أتوا من مدينة "سيدي أبو بكر" حيث كان والدهم يعمل في منجمها الذي يُستخرج منه الزنك والرصاص ومعادن أخرى بكمّيّة أقلّ... ربما كان والدنا قد التحق بنا في آخر العطلة، بسيارة قديمة كثيرة الأعطال، كان قد اشتراها مؤخّرا. على كل حال، أذكر أن والدتي عندما وقع نظرها عليّ، أنكرت عليّ لوني الذي صار يميل إلى السواد (كما رجوت)، وأنّبتني ظنّا منها أنني كنت أطيل المكوث تحت أشعة الشمس، وهو ما لم يكن مجانبا للواقع. ولكن في الحقيقة، فإنه اللون الذي اكتسبه جسمي بعد انتشار السمّ فيه، لأنه سيبقى معي طيلة فصول السنة، بخلاف الاسمرار الذي يكون ناتجا عن شمس الصيف. من هذه السّنّ، سأودع الراحة والعافية، لأعتنق الأوجاع والأسقام التي لن تتوقف لا ليلا ولا نهارا... كنت عندما أخبر والدتي بما أجده من تغيّر لوني بعد شهور من عودتي، تُرجع ذلك دائما إلى تأثير الشمس لسذاجتها؛ لكنّني أنا، كنت أعلم بالنظر، أنها ليست الشمس. ولكن والدتي كانت تُفلح في صرفي، لأمر يريده الله؛ فهي كانت خالية الذهن، وكان يكفيها ما كانت تجده من سوء معاملة والدي؛ كما كانت تحب جميع النسوة اللائي كنّ يُبغضنها كما سنعلم فيما بعد، وإن اضطررن إلى مجاملتها عند لقائها في المناسبات العائلية التي كان والدي يسمح بذهابها إليها مصحوبة دائما. كانت والدتي على النقيض من والدي عند ذكرهما لمعارفهما: فبينما كانت لا تذكر هي الناس إلا بأحسن صفاتهم، كان هو لا يذكرهم إلا بالتنقيص والتحقير، ولم يكن يُعظّم أمامنا إلا رجال السلطة الذين كان يعبدهم... في إحدى المرّات، وكان السمّ ما يزال يواصل انتشاره في جسمي، لاحظت على كفّيّ نقطا سوداء يُحيط بها البياض؛ فأخبرت والدتي، ومع بدوّ الأمر، كان ردّها هو هو، لا يتغيّر: لعل ذلك من أثر الشمس!... علمت فيما بعد، أن السمّ الذي كنت أتناوله المرة بعد الأخرى، كان عضويّا، يحتل جميع أعضاء الجسم، ثم يتكاثر إلى الحد الذي يوقف فيه جميع الوظائف الحيويّة. عرفت هذا، فيما بعد، وبعد أن تكرّر تسميمي؛ وكأن من سمّموني، استبطأوا موتي!... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.