اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/05/12 رحلتي إليّ -3- نحو التسميم الأول -3-
بمجرد أن تمكنت من الوقوف والسير المتعثّر، في حوالي منتصف سنتي الثانية، كنت أتلهف إلى معرفة البيت وتفاصيله، مما كنت أصله بيديّ. وقبل أن أتقن السير، أذكر أنني كنت مرة أحاول التنقل من المكان الذي كنت فيه، إلى مكان أبعد قليلا داخل الغرفة التي كانت مخصصة لنا نحن الأطفال مع جدّتنا، في يوم كانت تزورنا امرأة مسنّة كانت هي من تتولّى توليد أمّي عندما يحين أوان وضعها في كل مرة؛ ولم يُفلت من هذه السنّة إلا أنا، حيث كنت قد وُلدت في مستوصف شركة المفاحم، على يد قابلة إسبانية؛ كانت جدتي جمعة كثيرا ما تذكّرني بها، عندما كانت تلاحظ أن صفاتي أميل إلى الرّوم (الروامى) منها إلى العرب أو الأمازيغ. فكانت تقول لي: أنت جدّتك إسبانية!... نعني من صفة الجدّة القابلة، حيث كان يُنسب في عرف مجتمعنا الأطفال إلى القوابل اللائي استقبلنهم، من باب معرفة فضلهنّ على الناس؛ وهذا، قبل أن تتحوّل الثقافة السائدة إلى ارتياد المستوصفات والمستشفيات، التي صار الناس يفقدون تحت سقوفها المعاملة الحميمة، عندما أصبح النظام الحكومي هو المهيمن... كانت المرأة المسنّة التي زارتنا في ذلك اليوم، تقارب الثمانين من عمرها، وتُدعى (ر. ح). وكانت تسكن عند ابنها الكهل بجانبنا، والذي كان يعمل في مخزن شركة المفاحم (le magazin)؛ وكان لذلك أثر على جارنا الذي كان في كل مرة يأتي بلوح جديد عند عودته من العمل، يضيفه إلى الألواح التي كان يعدّل بها على البيت من الداخل، إلى أن أصبح البيت، يكاد يكون مظلما بالنهار. كان بإمكاننا نحن أطفال الجوار، أن نطلّ على كل البيوت المجاورة، أو أن ندخلها أحيانا: تارة بدعوة من أهلها الكبار، وعلى الخصوص النساء؛ وتارة بإتاحة أقراننا من الأطفال لذلك. فكانت ملاحظتي على بيت الرجل الذي كنت أعلم فيما بعد أنه من قبيلتنا، أنه يكاد يكون مظلما، بسبب إغلاق صاحبه لجلّ الحوش الذي يكون في العادة مفتوحا. وبما أن البيوت التي كنّا نسكنها، كانت تابعة لشركة المفاحم، فقد كان بإمكاننا أن نقارن فيما بينها بسهولة؛ ما دامت على تصميم موحّد. كنّا لا نعلم من اسم جارنا، إلا اسمه واسم أبيه: فأما اسمه فقد علمنا بعد الكبر أنه كان صفة ذميمة كان يناديه بها أبوه (الهـ...)، وأما أبوه الذي كان قد توفي، فكان اسمه (العـ...). ولقد سمعت من والدي الذي كان يُبدي كثيرا من الجفاء إزاء الرجل، أن والده كان من حفظة القرآن بالمقام. وكان -بحسب ما يحكي الوالد- لا يُعامل ابنه الذي هو جارنا، إلا بقسوة، وكان لا يُناديه إلا بالصفة الذميمة التي التصقت به، حتى صارت له اسما. وقد كنا نحن الأطفال، لا نميّز ذلك، فربما كنّا نناديه: عمّي الها... وقد كان هو دائم التجهّم، حتى إذا ناديناه لضرورة بلقبه، تجاهلنا، وانصرف إلى ما كان يزاوله من أعمال، أصبحت تهم بعد أن انتهى من داخل بيته، حديقة له تبعد بأمتار عن بيته، وتقع في مقابلة حديقة كانت تابعة لبيتنا. كان الناس الذين يعملون بالمفاحم، يأتون من كل البلاد المجاورة، التي لم يكونوا يعرفون فيها إلا الفلاحة في الغالب؛ حتى إذا دخلوا إلى المدينة العمالية، وسكنوا البيوت الإسمنتية الصغيرة المتشابهة، لم يكونوا يستغنون عن حدائق صغيرة، يختارون لها بقعا في مقابل البيوت، وكأنهم لا يقبلون بالانفصال التام عن عمل الزراعة. كانت هذه البساتين غير المنظمة، تحيط بحيّنا من جهة الأمام، ومن جهة الخلف... عندما قمت أسير في الغرفة التي سبق أن وصفتها، وأنا ما زلت لا أتقن المشي، لم أتمالك نفسي وزادت سرعتي من غير قصد منّي، فاتجهت نحو موقد الفحم الذي كان يوجد عليه (غلاّي) أكاد أسمع أزيزه الآن أو أرى بخاره المتصاعد من فوهته. مع السرعة المباغتة، وتعثّري، وقعت بوجهي على الآنية الموجودة على الموقد، فجاءت فوهة "الغلاّي" بين عينيّ في أصل أنفي وأسفل جبهتي. ولقد كانت نجاتي من أن ينكفئ عليّ الغلاّي بمائه المغلي على وجهي أو على جسمي الصغير، أو أن أقع على حديد الموقد الحامي، كرامة لا يشكّ فيها أحد. ولو أن فوهة الغلاي كانت قد تزحزحت بسنتمتر واحد إلى اليمين أو إلى اليسار، لكنت فقدت ربما إحدى عينيّ؛ فتأكّدت الكرامة، عند سماعي لارتياع النسوة اللائي كنّ خلفي: أمي وجدّتي والعجوز. ولقد تناهت إلى سمعي الأصوات وهي بين الصراخ الذي تختلط فيه أسماء الأفعال التي جُعلت للندب أو التنبيه أو الجزع والالتياع، وبين ذكر اسم الله الذي كانت الأمهات يلجأن إليه عند كل خطب... عندما تمكنت أمّي أو جدّتي من التقاطي، كان الدم يسيل على وجهي، وهي تضمّني بلهفة شديدة؛ لم تلبث أن انقلبت حمدا وشكرا لله، عندما تبيّن أن الجرح لم يتعدّ ما بين عينيّ. وكانت العجوز التي في ضيافتنا امرأة خبيرة بعلاج مثل هذه الأمور، كما كانت كل المسنّات في مجتمعنا؛ فأشارت إلى مضيفتيْها بأن تأتياها بقليل من الكحل، لتضعه على الجرح، بغية إيقاف النزيف. وكانت أمي إلى جانب لهفتها عليّ، تخشى محاسبة أبي، كما علمت فيما بعد من الحال. فلم يلبث الكحل أن استقر على موضع الجرح، الذي سرعان ما توقّف نزيفه. ولقد حسبت النسوة أثناء معالجة جرحي، حساب كل شيء، إلا حساب أن يُصبح أثر الجرح بين عينيّ بعد البُرء يميل إلى الخضرة، وشبيها إلى حدّ بعيد بوشم رُسم قصدا على جبهتي. فزاد هذا "الوشم" من بلائي بما كان يُلاحظه الناس من حسن صورتي، حتى كان أقراني وفيما بعد معلّميَّ يسألونني، لمَ يوجد وشم بين عينيّ؟ على خلاف ما يكون عليه الذكور من الأطفال... فربما كان منهم من يظنّ أنه قد رُسم بالقصد!... فكنت كثيرا ما أُضطرّ إلى الشرح والتفصيل، من أجل إبعاد شُبهة القصد، وكأنني كنت أنا الفاعل لذاك الفعل!... *** كنت عندما أصبحت أستطيع الجلوس كالكبار، أتوسّل أمي وجدّتي لكي تسمحا لي بالخروج لأجلس على عتبة الباب قائلا بلغتي الخاصة: "اللّاحا إِي فْعَلْبابْ"؟... وكنت أعبّر بكلمة "اللاحا" عن مقابلها في اللغة العربية، الذي هو "الراحة"، وأقصد الجلوس. وبما أنني كنت لا أتمكّن من نطق الراء، فقد استبدلت بها اللام. وأما كلمة "إِي" فكانت عندي هي أداة القصر، نحتتها من كلمة غير التي تستعمل للاستثناء؛ وكان ما تبقّى من الجملة يدل على الباب والعتبة من كونهما اسما للمكان. وهكذا كان معنى الجملة: أريد الجلوس في العتبة وحدها، من دون أن أتحرك بعيدا... وكنت أحاول أن أبلغ بنبرة صوتي، ما لا يبلغه التعبير من الوعد بما كنت أعلم أنه ما يُطلب منّي، ومن طمأنة المرأتيْن بقدر وسعي. وبعد إلحاح كبير، كانت المرأتان تجودان عليّ بفتح الباب، وتمكيني من الجلوس على العتبة العليا للباب، واضعا قدميّ على العتبة التي أسفل منها، وأنا أضمّ أطرافي وفاء بوعدي للجدة والوالدة من جهة، وخوفا من العالم حولي الذي كنت أنظر إليه بدهشة بالغة من جهة أخرى... في البداية، كان الباب لا يُغلق خلفي، بل يبقى مفتوحا بضعة سنتيمترات، تجعلني أعلم أنني مراقب عن كثب. ولقد كان من غير المسموح في بيتنا، أن يُفتح الباب، بسبب صرامة والدي الزائدة على الحدود؛ وإن كانت متفهّمة... لم يكن الخروج إلى العالم، وحده ما يُخيفني في تلك السنّ؛ بل كانت توجد أسباب أخرى، ما أظن أن أحدا غيري كان يعلمها بالقدر الذي أعلمه. أول تلك الأسباب، هو المرور في الليل من غرفتنا، إلى المرحاض قبل الإخلاد إلى النوم؛ وذلك لأن المرحاض كان يوجد في النصف المكشوف من الحوش. ولم يكن سبب خوفي في الليالي التي لم تكن الغيوم تغطّي نجومها في السماء، إلا الفضاء الواسع، الذي كنت أشعر إزاءه وبسبب ضآلتي، كأنه سيجذبني إليه وأصعد في السماء، وكأن قانون الجاذبية لم يكن كافيا لإبقائي على الأرض. كنت أشعر بكل هذا، من دون علم تفصيلي بالجاذبية، وأنا في تلك السن المبكرة؛ ولم يكن ينقذني من هذه المصيبة، إلا جدّتي إن هي وضعت "فوطتها" التي كانت تضعها على رأسها وعلى صدرها، عندما تخرج من البيت، أو عندما يكون البرد قارسا داخل البيت نفسه، إذا ما غاب عنه الفحم المخصّص لإمداد الموقد، بيني وبين السماء. كانت جدتي تحجب عنّي رؤية النجوم، وكانت تصحبني وهي على تلك الحال، من باب الغرفة إلى باب المرحاض، وتنتظرني إلى أن أخرج لتعود بي أدراجي. كانت رحمها الله، تفعل ذلك كلما دعوتها، من دون تبرّم كعادتها، ومن دون ضجر؛ إلى أن تجاوزتُ مخاوفي مع مرور الشهور... كان سبب رهبتي من السماء، وعيي في تلك السنّ بأن السماء مكان واسع، يُمكن أن أضيع فيه وأتلاشى... كانت رهبتي من السماء في الليل، أكبر من رهبتي من العالم الأرضي الخارجي في النهار؛ وذلك لأن العالم الذي حولي، كنت أعمل على اكتشافه شيئا فشيئا، لا دفعة واحدة، بالإضافة إلى فارق النور نهارا، الذي كان يوهم الناظر باستشعار الأنس، مع أن عالم النهار وعالم الليل معا، كانا مجهوليْن لي. ولقد اكتشفت فيما بعد، أن المخيف لم يكن سوى المجهول، لا الليل نفسه أو النهار. لذلك ترسّخ لديّ منذ هذه السنّ المبكرة، أنه ينبغي عليّ معرفة الحقيقة... الحقيقة المناسبة لسنّي، لا الحقيقة الكبرى... كثيرا ما كانت العجوز (ر) تمرّ بي، وأنا جالس على عتبة الباب، لا يتحرّك منّي إلى رأسي وعيناي؛ فكانت في جيئتها وذهابها، في زياراتها لنساء الحيّ يمنة ويسرة، تُداعبني قائلة: - ماذا تريد أن تكون؟ قائدا، أم طالبا؟... وكانت كلمة طالب، تُستعمل للدلالة على حَفَظة القرآن عندنا. فكنت أجيب على الفور: طالب. فكانت تنصرف مسرورة، وهي تدعو لي بصالح الدعوات، إلى أن تغيب عن ناظري وسمعي، عندما تدلف إلى بيت ابنها. وقد كنت في تلك السنّ أميّز بين القائد الذي هو من رجال السلطة في المغرب، والطالب الذي له صلة بالعلم؛ فكنت أشمئز من ذكر رجال السلطة، وأختار العلم، وكأن الأمر معروض على اختياري حقّا. وقد يكون لحديث والدي في البيت عن القائد، لكونه يعمل تحت سلطته المباشرة، أثر في إدراكي للمعنى... وكان أحد أقراني، واسمه (ب. م)، والذي كان يقطن البيت المجاور لبيت السي (الها...)، كثيرا ما يعتدي على المرأة العجوز بالشتائم، أو بمدّ يده إلى عصابة رأسها ليرمي بها بعيدا، إن وجدها جالسة أمام باب بيت ابنها ماسكة بمسبحة تديرها بين أصابعها؛ فكانت تغضب لذلك، وتدعو عليه بما تحفظه من أدعية السوء. وكم كانت تُسرّ عندما كنت أقوم له وأطرده بعيدا، فلا تترك من أدعية الخير شيئا إلا ودعت لي به. وكنت أكره أن أرى شخصا منذئذ، يُظلم أمامي؛ خصوصا وأن المرأة كانت ممن يبعث منظرهم على التوقير والتعظيم... *** وفي الأوقات التي كنت لا أجلس فيها على عتبة الباب، وهي الغالبة، كنت أقوم بتفتيش البيت، وإعادة مراقبة كل ركن من أركانه، وكأنه كان يمكن أن يتغيّر بين كل يوم وآخر. وكم كنت أحسّ بالغبن، عندما كان تفقّدي للبيت ينتهي في أقل مدّة، ولا أجد شيئا أتعلّمه بعده. وبما أن أهل بيتي كانوا كلهم أميّين، فقد كنت أبقى منقطعا، لا يعرف أحد مدى ما بي... وحتى والدي الذي كان يعمل في بداية تعيينه مـُقدَّما، فإنه كان أميّا لا يعرف من القراءة والكتابة إلا تمييز الأحرف؛ كمن أمضى في الدراسة أسابيع معدودة. لم يكن والدي قد عرف من المؤسّسات إلا الكتّاب في المقام، حيث كان يتعلّم قراءة الحروف وحفظ القليل من قصار السور القرآنية. وقد أخبرنا، أنه لم يكن يحب التعلّم، وكان يأخذ معه نايه (القصبة) إلى الكتّاب، فيجعل اللوح بينه وبين "الفقيه" (المعلّم)، وينصرف إلى العزف عليه بصوت خافت. فكان الفقيه إذا تنبّه إلى فعلته، يضربه بقضيبه الطويل ضربة على رأسه، لعلّه يعود إلى الانشغال بلوحه؛ وهو ما لم يكن ليستمرّ. فالتقت رغبة والدي مع رغبة فقيه الكتّاب، على أن يُغادر حضور مجالس التعلّم، لينصرف إلى إتمام إتقان عزفه على الناي وعلى الدف، وإلى التسكع مع المتسكّعين. وربما لو كان الوالد قد حصّل قسطا من تعلّم اللغة، لكان قد تمّ تعيينه في منصب حكومي أعلى مما أُسند إليه عند توظيفه. وهذا، لأن الدولة المغربية كانت بعد الاستقلال مباشرة، محتاجة إلى سدّ الفراغ الذي تركته الحكومة الفرنسية بعد إعلان استقلال المغرب في عام 1956م. وقد انخرط والدي في سلك الوظيفة العمومية، بعد أشهر من ذلك الإعلان، أي في عام 1957م. وقد كانت الوظائف، تُعرض على رجال المقاومة، من حزب الاستقلال، لأن أول وزير للداخلية وكثيرا من رجال الدولة، كانوا معدودين منهم. وكان انخراط والدي في سلك الداخلية، على عهد إدريس المحمدي ثاني الوزراء منذ الاستقلال، والذي تولّى المنصب على فترتيْن: من دجنبر 1956، إلى ماي 1958؛ ثم من دجنبر 1958، إلى ماي 1960. وأما الفترة التي بين ماي 1958 ودجنبر 1958، والتي كانت تعرف اضطرابات كبيرة، فقد تولى وزارة الداخلية فيها: مسعود الشيگر. وقد كنت أسمع من والدي وهو يحكي لوالدتي، عن تلك الاضطرابات، وكنت أعلم أن والدي ذا الميول الاستقلالية، كان يتلقى وهو موظّف عمومي، الأوامر من الحكومة الاستقلالية بالعمل ضد الأحزاب المخالفة، والتي كان على رأسها: حزب الحركة الشعبية الذي تأسس على يد المحجوبي أحرضان عام 1957، وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي انشق عن حزب الاستقلال عام 1958، وترأسّه المهدي بن بركة. كان والدي يُعلن في البيت أنه يُمنع عليه أن يشتغل لمصلحة حزب من الأحزاب، ويُخبر بأنه كان يفعل ذلك خفية، بأمر من القائد الذي كان على رأس الإقليم. ولقد عرفت تلك الآونة اختطافات عديدة واغتيالات، لم يكن رجال السلطة بعيدين عنها. وكان والدي يُبين عن بُغضه للاتحاديّين وللحركيّين، فكنت أنا أستغرب لذلك، وأعلم أنه إنما كان على ذلك لجهله بحقيقة ما يجري في البلاد، رغم أنه كان يعد نفسه، ومن دون أن يشهد له أحد، من رجال السياسة. أما جدي إدريس، فقد كان استقلاليا، لا يُخفي ذلك، بل يفخر به. ولقد كان عندما يأتي لزيارتنا من المقام، على ظهر فرسه في السنين الأولى، يُكثر من ذكر عبد الرحمن حجيرة، الذي كان كاتبا عاما للحزب في وجدة. فيحكي إذا حضر والدي، وهو يُقلّب الشاي بين البرّاد والكأس قائلا: قال لي حجيرة، وقلت لحجيرة... فكنت وأنا أسمع الاسم لا أعلم حقيقة المسمّى، إلا ما يكون من صلة بينه وبين الحجر الصغير. ولم يكن أحد يهتم لإشباع نهمي المعرفي، فكنت أُبقي على تصوّري في ذهني الصغير مبهما. ولقد أخبرني شخص عملت معه فيما بعد، وكان يعرف جدي معرفة شخصية، أنه أنفق ماله "كله" على الحزب؛ لأنه كان يقصد إلى سوق الخميس، ويجلس في محل صنع الشاي، يدعو كل من أراد أن يستمع منه عن حزب الاستقلال، إلى شرب الشاي. فكان الناس يستمعون وينصرفون، وهو يؤدّي في النهاية ثمن كل الشاي المشروب... *** كان والدي، الذي لا يعرف من الحروف إلا صورها وطريقة نطقها البدائية الموافقة لما يكون عليه من مرّ على الكتّاب مرور الكرام، لا يعرف حتى كتابة أسمائنا نحن من كنّا أبناءه. وكثيرا ما كنت أخلط في كتابة اسمي وأذكره لمعلميَّ إن هم سألوني عنه، بزيادة ألف هكذا: عبد الغاني؛ لا لشيء إلا لأن والدي كان ينطقه بعاميّة ممزّغة مزيدا بالألف، ويُعلّمنيه على تلك الصورة. وأما كتابة اسمي باللغة الفرنسية، فلم أتقنها، إلا بعد مدّة؛ وذلك لأن والدي كان يجهلها على التمام نطقا وكتابة، وكان يتعلّل في جهله ذاك، بأنه هو وأمثاله من رجال المقاومة، كانوا يأبون تعلّم الفرنسية، من باب الوطنية؛ تلك الوطنية التي لم نكن نحن في البيت نعلم شيئا عنها، إلا ما يتصف به الوالد من عصبيّة جاهلة، وتطاول على الناس في غيبتهم. ولقد كنّا نشهد من الوالد، أمرا عجبا، إن هو اضطر إلى قراءة إحدى رسائل جدّي النادرة، التي كنت أنظر إليها وكأنها أمر خطير في كل مرّة؛ أو عندما يأتي بعدد من أعداد جريدة العلم، التي كانت عنده وعند جدّي معظّمة، وكأنها من الوحي المنزل. كان والدي، يتهجّى الأحرف بطريقة غريبة، عند كل كلمة، جيئة وذهابا، بُغية ضمّها وتركيبها: ينطق الحرف الأول من الكلمة، ثم إذا تعرف عليه، انتقل إلى الحرف الثاني؛ من دون أن يتوقّف صوته، وكأنه يقرأ الخطّ الممدود بين الحرفين، ليوهمنا بأنه يُحسن القراءة ولا يتعثّر بها. وهكذا يفعل، عند ضم الأحرف الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة... بحسب كل كلمة. فكنا نتعب نحن من سماع هذا العزف المنفرد غير المستحبّ، من دون أن نعرف نحن الصغار السبب حينها؛ والذي لم يكن سوى جهله بالقراءة سرّا في نفسه. وهذا يدل، بطريقة لا يُخطئها فهم الفاهم، على أن عهده بالتعلّم كان قصيرا للغاية... اقتصر عمل والدي على قراءة الأسماء على الاستدعاءات التي كان يؤمر بإيصالها إلى أصحابها، وكان هذا كله في حاسي بلال؛ ثم بعد ذلك انتقل إلى العمل بمقر القيادة بجرادة، في مكتب الحالة المدنية، حيث لم يكن شغله يتعدّى فيه نقل الأسماء ما بين السجلّ ودفاتر الحالة المدنية الشخصية، عندما يأتي الناس لاستخراج شهاداتهم الإدارية. ولقد كان ذلك العمل يتم تحت رئاسة شخص طالما عبّر والدي عن بغضه له، وهو (ع. ب. ع)، الذي كان يقول عنه أنه كان من أصل يهودي (تحقيرا)، وأنه كان يأخذ الرشاوى من أصحاب المعاملات الإدارية. لم يكن والدي يكاد يعلم من دين الإسلام شيئا، رغم أنه كان يفاخر بأنه من الشرفاء ولا يتقبل الرشوة التي كانت شائعة في مجتمعنا. وأما أعمال الفسق الأخرى، فلم يكن هو وأصحابه من الموظّفين برئاسة الدائرة فيما بعد، يتورّعون عنها... *** كنت في هذه الطفولة الأولى، قد اكتشفت المذياع، ولكنّني لم أكن أفقه بعد كل ما يصدر عنه. ومن بين ما كنت ألاحظ مداومة والدتي عليه، بعد انصراف والدي إلى عمله كل صباح، برنامج "السيدة ليلى"، التي كانت على غرار ذلك الجيل من الإذاعيّين، جميلة الإلقاء. لم أكن أهتم بالشؤون النسائية التي يعمل البرنامج على تثقيف النساء بخصوصها، بقدر ما كنت أستمع إلى نغمات الأكورديون الفرنسي (Musette) تنساب ساحرة عند الفواصل... أما الأغاني المغربية التي كانت ذائعة في ذلك الوقت، فكانت تتوزع بين محمد فويتح وحميد الزهير، وآخرين من الرعيل الأول للمغنّين والمغنيات؛ بالإضافة إلى حصة الطرب الأندلسي في منتصف النهار، التي لم نكن نستسيغها كثيرا في الشرق المغربي. وأذكر مرة أني سألت أمّي عن صوت مجموعة الكمان، كيف يصدر؛ لأنني وجدته أقرب إلى الصوت البشري، ولم أكن أعرف الآلة، فلم تُجبني وأبدت جهلها بالأمر. وبقيت أنا مع حيرتي كالعادة... أما المذياع في الليل، فقد كان الصوت الصادر عنه، عند البحث عن إذاعة ما، والذي كان خليطا من إشارات الراديو المختلفة والمتداخلة، مبعثا لي على الرهبة. لم أكن لأتمكن من معرفة مصدر تلك الأصوات، فكنت أتخيلها مخلوقات لا تشبهنا، تتكلم بلغات غير لغاتنا، فكنت أرتعب منها؛ خصوصا إن طولِبتُ بإشعال المذياع أو بإطفائه؛ لأنه كان يوجد في الغرفة الأخرى، غرفة والدي، وكان لزاما عليّ أن أقطع الحوش ليلا من الغرفة الأخرى إليه. ورغم أن الحوش كان يُضيئه مصباح لا غطاء عليه، إلا أنه لم يكن في نظري يقوى على مقاومة ظلام الليل الفسيح كلّه؛ وكأنه يُذكّرني بأن الوقت ليل... لكنّني كلما كنت أكبر، كانت الأشياء تصير مألوفة لدي، ويقل خوفي من مجهولها... نعم، لأنني علمت فيما بعد أن الخوف لا يكون إلا من المجهول... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.