اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/05/07 رحلتي إليّ -2- نحو التسميم الأول
مما أذكره قليلا، في سنتي الأولى، أن والدي عندما كان يذهب في الصباح إلى عمله، كان يُسْلمني إلى جدتي في الغرفة الثانية من البيت، ويغلق الغرفة الأخرى على والدتي بالمفتاح. وذلك كما علمت فيما بعد، غيرة عليها، وإرضاء لمرض الشك والوسوسة اللذيْن كانا ملازميْن له. فكنت أبقى مع جدتي وهي تحتضنني مدة، ثم ما ألبث أن أطلب اللحوق بوالدتي، بحركات مني للتملّص، ما تلبث جدتي أن تمل منها فتطلقني. فكنت أذهب حبوا على ركبتيّ الصغيرتيْن نحو الغرفة الثانية، وأمد يدي الصغيرة نحو الباب الخشبيّ السميك، وكأنني أريد فتحه، فتعود أصابعي الصغيرة إليّ خائبة على الفور. وكنت بعد ذلك ألجأ إلى المناداة باسم والدتي الذي لا أعرف غيره: "مّا". وعندما تتكرر المحاولات، وأتعب منها، كنت أعود خائبا مـُتعبا، إلى جدتي في الغرفة الأخرى مرة أخرى؛ ولعلها كانت عند استلامي، تتمتم عبارات تُخبر بها عن سخطها، من دون أن أفهم منها تفاصيل معانيها. وعندما كبرت، أخبرت والدتي بما كنت أعيشه في تلك السنة، فأخبرتني أنها عندما كانت تسمع ندائي من خلف باب غرفتها، مع صوت أصابعي على الخشب السميك، كانت تبكي. ولقد كانت تلجأ مضطرة إلى مخاطبتي بالعودة إلى جدتي، رفقا بي؛ وهو ما كنت أفعله في النهاية... مضت عدة أشهر لا تبلغ السنة، وإذا بأختي (خ) تولد، فأصبحت أراقب هذا المخلوق الجديد، والفصول تتناوب علينا بحرّها وصقيعها؛ ذلك لأن مناخ المنطقة التي كنا نعيش فيها، كان شبه صحراوي، يمتاز في الصيف بالحرارة، وفي الشتاء بالبرودة. ورغم أنني لم أكن أعي كل ما يحدث حولي، بسبب انقسام وعيي بين ذاتي الصغيرة وذوات العالم من حولي؛ إلا أن الخلاصات والأحاسيس العامة كانت تصلني. لكنّ كوني ممتصّا لما يحدث حولي، ومنفعلا على الدوام، كان يجعلني أشعر وكأنّي سجين يتلقّى الأذى من غيره من دون أن يكون له رأي فيما يحدث. لم يكن يخطر في بالي، أن هذا السجن سيصاحبني طيلة سنين عمري، بطرائق مختلفة؛ وإن كان الظاهر لا يشي به كما سيأتي. وما أعنيه من كلامي، هو مشاركتي للآخرين في أنانياتهم، أو إن شئت قل ارتباطي بكل ما حولي ارتباطا وجدانيا، هو نعمة من غير شك؛ لكنه معاناة مستمرة أيضا. وهذا كان يجعلني ممزّقا بين أنانيتي التي ينبغي أن تكون محل تركيز نظري، والأنانيات الأخرى التي تشوش عليّ ذلك التركيز. وربما قد يأتي محل مناسب، أُظهر فيه ما كنت أعانيه... *** كان والدي، يأخذني على ذراعيه أحيانا، ويخرج ليقف أمام البيت الذي لم أكن أعلم مدى صغره، إلا عندما زرت ذلك الحي وأنا كهل، وقبل أن يهدمه أصحابه ليبنوا مكانه بيتا جديدا. كان والدي يقف وهو يفرح بي، وكأنه يُفاخر العالم؛ حتى إذا مرّ به أحد عبر الطريق الترابي الذي كان لا يبعد عن البيت إلا خطوة أو خطوتيْن، وسأله بعد التحية (التي لم تكن في ذلك الوقت إلا: صباح الخير، أو مساء الخير!): أهذا ولدك؟.. فكان يُجيب باعتزاز: نعم، هذا الولد!... وسرعان ما كنا نعود إلى البيت، الذي لم يكن أحد يستمتع بوجوده فيه، وكما سأعلم فيما بعد بالتدريج، إلا والدي... فحتى فرحتي الطفولية، كانت تقترب من نهايتها... ذات مرة، وفي إحدى الأماسي، أذكر أنني كنت أجلس على الأرض في ملابس خفيفة، بقرب جدار غرفتَيِ البيت، ولم أكن أجيد الوقوف بعد؛ وقد كنت أبعد قليلا عن والدتي التي كانت تجلس إلى يساري؛ بينما كان والدي يجلس في منتصف المسافة إلى جهة داخل الحوش الذي كان نصفه الذي يلي الغرفتيْن مسقوفا بألواح من الزنك، ونصفه الذي يلي جدار البيت الخارجي، مفتوحا على السماء. وهكذا كان بيتنا يعرف كل التقلبات الجوية التي يعرفها الخارج، من رياح وأمطار وثلوج، بحسب الفصل، بطريقة مباشرة... كان والدي قد فتح مصباح الطاولة التي كان يشتغل عليها لإصلاح الساعات الميكانيكية لبعض معارفه، بمقابل ماليّ زهيد، يدّعي أنه سيزيد به في مدخوله الضئيل، الذي كان يأخذه مقابل وظيفته مع السلطة. وقد كان يمتلك لذلك عُدّة متخصّصة، تتلخص في ملاقط دقيقة، وفي موقد صغير يشتغل بالكحول، لإزالة المغنطة عن أجزاء الساعة الدقيقة. وقد كان يُراسل شركة أظنها كانت بالدار البيضاء، تبعث إليه بالأجزاء الجديدة التي يُركّبها محلّ الأجزاء الفاسدة من الساعات التي تمر على يديه. ولقد تعلمت باكرا، التفريق بين الساعات السويسرية النفيسة ذات الأحجار الكريمة، والساعات الرخيصة التي كان يأتي بها عوام الناس، والتي كان والدي يُسمّيها "ساعات الكيلو". لم أكن أدري حينها ما معنى "الكيلو"، إلى أن كبرت، وعلمت أن كل البضائع الرخيصة، كانت تباع بالميزان (الكيلو) لا بالقطعة... فكك والدي أجزاء المصباح، وأتى ببعض أدواته الحديدية، وصار يعمل بيديه ما لم أكن أميّزه؛ فأخذت والدتي، وهي في الثامنة عشر من عمرها، قطعة من القطع المبعثرة على الأرضية، فلم تشعر إلا ووالدي يُعاجلها بصفعة قوية، بقيت أذنها تعاني منها طيلة حياتها. فاستنكرتُ وأنا أنظر إلى ذلك الظلم السافر ما يقع، وعلمت أن والدي قد ظلم بفعلته تلك والدتي ظلما، ما كان ينبغي له أن يرتكبه. وغضبت في داخلي غضبا شديدا، ولكنّ جسدي الصغير، لم يكن بعدُ مؤهّلا للتعبير عن الغضب، بالقوة وبالطريقة المناسبتيْن. وقد بقيت هذه الحادثة عالقة بوجداني، الذي بدأ يعي أن العالم الذي نعيش فيه، لم يكن يقتصر على الآلام البدنية التي كنت أعرف بعضها منذ ولادتي، من برودة، أو حرارة، أو جوع، أو عطش، أو وجع بطن أو عضلات أو جلد؛ ولكنه كان يحوي أصنافا أخرى من الآلام نفسيّة، يتسبب فيها الآخرون الذين يعيشون من حولنا... *** مرت الأيام وأنا أنمو بدنيا وعقليا، وتعلّمت الكلام بحسب ما علمتني والدتي وجدّتي... ومما تعلّمته أيضا، أن أراعي والدي في معاملتي بخلاف ما أراعي الجدة والوالدة؛ والعجيب في الأمر، أنهما هما من حرصتا على ذلك. وقد علمت فيما بعد أن ذلك من الثقافة السائدة في مجتمعنا، وصرت تبعا لذلك أنصاع له، وأعمل على عدم استعداء الوالد؛ إلى الحد الذي كانت تصرّفاتي تتقيّد بمجرد أن يدخل هو إلى البيت. فلا صياح، ولا جري في الأنحاء... كيف لا، وقد كانت عبارة: انتبه، قد جاء والدك!... تتردد على مسمعي في كلّ مرّة، أو أُتوعّد، إن أنا فعلت ما لا يُقبل في العرف الذي لم أكن قد عرفته بعد، بأن يُخبر والدي به. فصرت مع مرور الوقت، أحذر والدي وأنظر إليه كما ينظر العامّة إلى الشرطي أو الدركي، لكونه مظنّة التسلّط والقهر، يصدر عنه ما يمكن أن يُصنّف ضمن الأضرار التي يحسن اجتنابها. لن أدخل هنا في مدى موافقة هذه المبادئ التي كنت أُنشَّأ عليها للتربية السليمة، وسأكتفي بسرد الوقائع إلى أن يحين وقت النقد والتحليل... ومما أذكره، وأنا في حوالي الثالثة من عمري، أنني سمعت جلبة في البيت غير معهودة، وصرت أسمع كلاما عن المـَلك، لم أتبيّن حقيقته؛ ولكنني في إحدى الأمسيات، رأيت والدي يُصلّي؛ ولم أكن قد رأيته قبلا يفعل ذلك. غير أن ما شدّ انتباهي آنذاك، هو اللباس الأبيض الذي كان يرتديه، وهو على سجّادة الصلاة، التي لم تكن سوى جلدا مدبوغا لخروف (هيدورة)؛ فوقفت مسندا خدّي على جانب الباب، وأنا أبكي. فنظرت إليّ الوالدة التي كانت خارج الغرفة قريبة منّي تستفهمني -وقد تنبّه الوالد إلى وجودي الضئيل على مرأى منه- سائلة: ماذا بك؟... فأجبتها وأنا أنظر إلى والدي بشفقة، لا أظنّ أنها غابت عن ملاحظته، وأجبت كالمعتذر: أنا لا أعرف كيف أعمل!... وكنت أعني أن أعمل عملا أعول به الأسرة. وذلك لأنني لمـّا رأيت الوالد على تلك الهيئة، ظننت أنه قد أصبح مسنّا عاجزا عن العمل، لكوني لم أعتد على رؤية تلك الهيئة إلا للمسنّين والعجزة من الشيوخ؛ فاستنتجت، من دون أن أستشير أحدا، أن والدي لن يقدر على العمل بعد الآن، وأنه ربما قد يكون قريبا من الموت نفسه. فانفجر والداي ضحكا، لم أدرك له داعيا؛ سوى أنني قد اطمأننت قليلا، وعلمت أن مسألة العمل ربما قد تكون محلولة من دون تدخّل منّي... ولم يكن اللباس الذي ارتداه والدي بأمر من السلطة المحلية، إلا اللباس المخزني الذي يُلزَم به رجال الدولة بحضور الملِك. وقد كان اللباس يشمل جلبابا وسلهاما أبيضَيْن، مع طربوش اختار الوالد أن يكون يومذاك وطنيا، كذلك الذي كان يضعه محمد الخامس على رأسه. والسبب -كما علمت فيما بعد- كان هو زيارة الحسن الثاني إلى حاسي بلال (سنة 1962)، بعد أشهر قليلة من تولّيه الحكم عقب وفاة والده محمد الخامس، الذي كنت أسمع عنه في البيت إطراء منقطع النظير، من أهلي، ومن كل من كان يزورنا في ذلك الوقت من أقارب ومن معارف، على قلّتهم... جاء يوم خروج الناس لاستقبال الملك، فحُشر الجميع إلى المكان الموعود؛ وكنت أنا مع أمي وجدّتي، لكن إحدى قريبات والدي تسمّى (غ)، هي من كانت تحملني على ظهرها. ولم أكن أرى إلا غبار فحم متطاير يحجب الرؤية، ذلك لأنني سمعت أن طائرة الملك (أظنها الآن هيليكوبتر)، قد حطّت قرب "القفص" (la cage) الذي كان المصعد المخصص لنزول العمال إلى المنجم والصعود منه. وبما أن كثبانا من الفحم كانت تحيط بـ "القفص"، فقد تصاعد ما دقّ منه بفعل الهواء الناتج عن دوران المروحية؛ إلى الحد الذي لم أكن أنا أرى معه إلا السواد، في الحين الذين كنت أرى أمواج البشر يميلون تارة نحو اليمين وتارة نحو الشمال، وتارة يتقدمون إلى الأمام وهم يصيحون: "ها هو، ها هو!...". وهكذا انقضت رحلتي، من دون أن أظفر منها أنا بشيء... *** أذكر أنني زرت في هذه السن "لَبْلاد"، التي لم تكن إلا المقام نفسه، في إحدى العطل الصيفية لوالدي. وأذكر أن أمي كانت تحملني على ذراعها، وهي تقف مع النسوة بجانب الخلوة. وقد عرفت فيما بعد أن الخلوة، وهي حفرة كبيرة تحت الأرض، يُنزل إليها عبر أدراج ترابية، توصِل إلى بهو تعلوه طاقة يتسرب منها قليل من نور الشمس نهارا. كان يوجد إلى جهة القبلة عدة حفر (ربما خمس)، تتسع لجلوس إنسان واحد بها؛ قيل إن جدنا سيدي أبا القاسم رضي الله عنه، كان يذكر الله فيها مع إخوة له، وكانت تصحبهم امرأة كان اسمها لالّا ميمونة (لالّا بالأمازيغية تعني السيدة). وقد علمت فيما بعد أن جدّنا، كان قد جاء من البيّض في الجزائر؛ وقد كان تلميذا لسيّدي أحمد بن يوسف الملياني، الذي كان بدوره تلميذا لسيدي زروق البرنسي؛ رضي الله عن الجميع. وكنت قد عاينت فيما بعد في نهاية مخطوط لدلائل الخيرات، كان والدي قد ورثه عن جدي إدريس، الذي ورثه عن والده الفقير، وظيفةً (صيغة للذكر) منسوبة لسيدي أحمد زرّوق. وهكذا فهمنا أن من كانوا يذكرون مع جدّنا، يغلب الظن أنهم كانوا كلهم تلاميذ لابن يوسف الملياني، هم أيضا. كان منهم من الرجال: سيدي علي بن سامح وسيدي يعقوب دفين رشيدة، رضي الله عنهما. وبحسب الكتابات، فإن أهل رشيدة ينحدرون من بلدية بني راشد في الجزائر؛ وبعد فترة اتسمت بالاضطرابات السياسية دخلوا في حلف مع الدولة المرينية (القرن الثالث عشر) للسماح لهم بالاستقرار في المغرب. وقد كانت تُحكى قصص في المقام، عن كرامات بين جدنا وإخوانه، تنتهي دائما بإبراز المكانة لجدّنا على إخوانه، من باب التعصّب؛ فكنت أكره ذلك بالفطرة، ولا أحبّه. وقد يأتي وقت نتكلّم فيه عن أسباب تعصّب الناس لبعض الأسلاف أو لبعض الشيوخ... كان جدّي، لا يقر ببلد، لأنه كان يتنقل عبر رؤوس الجبال، يتتبع عيون الماء الضروري للشرب وللطهارة، تاركا على كل جبل ذريّة له هناك تتكاثر بعد مغادرته؛ ولقد كان المقام، أحد هذه الجبال التي مرّ بها. وكانت الخلوة مقصد من كان يشكو ألما ما، أو من كان يطلب قيلولة في مكان بارد صيفا. وكان محيطها الذي تحده أحجار متراكبة على شكل دائرة، يُخصّص للنساء في زمن "الحفلة"، التي كانت موعد لقاء بين أبناء القبيلة كل عام، في فصل الصيف حيث يتوقف الناس عن أعمالهم عند حلول عُطَلهم السنوية؛ وحيث يتوقف التلاميذ عن دراستهم، ويأتي المتغرّبون في أوروبا من مهجرهم... كان الأهالي الذين ينقسمون بين سكان المقام الأصليّين، وأقاربهم ممن جاءوا من داخل المغرب أو من خارجه، يلتقون كل مساء بعد صلاة العصر بقليل، في ساحة ترابية هيّأوها لذلك الغرض، كانت ترشّ بالماء حتى لا يتصاعد ترابها الرمادي (الذي يُشبه الرّماد في لونه ويُشبه الرمل الدقيق عند ملمسه) عند دوس الراقصين عليه بحماس. كان المسجد العتيق، ينتصب إلى يسار الساحة، لا يفصل بينهما إلا طريق ترابي تسلكه السيارات والشاحنات عند الحاجة، لكونه يصل المقام من الجهتيْن بما يُجاوره من البلاد. وكانت عين الماء توجد إلى يسار المسجد، واسعة قد أحاط بها جدار إسمنتي سميك، وبُني لها أسفل المصبّ الذي كان الماء ينزل منه قويّا وغزيرا، عبر أنبوب حديدي مغروس في التلة، صهريج طويل، خُصّص لشرب الدواب الآتية أفواجها تباعا، من كل جهات القرية. وكان يوجد إلى جانب العين، وخارج محيطها موضع تجتمع فيه المياه المتسرّبة، يُشبه مسبحا صغيرا يُسمّونه "الماجن"، تعلوه الطحالب دائما، وتقطنه الضفادع. وكانت المياه المتجمعة فيه، تُستعمل لسقي "البحائر"، وهي قطع صغيرة من الأرض تقاسمها أعيان القرية، واتخذوا منها محلاّ لاستنبات الخضر التي يعيشون عليها طيلة السنة، وقد تفصل بينها أشجار مثمرة، كانت شجرة التين غالبة على أصنافها... ولنا نحن معشر الأطفال، فيما بعد، مع تين القرية حكايات طويلة، قد نعود إليها في موضع آخر... *** في أول زيارة لي إلى المقام، ربما كنت لا أتجاوز السنتيْن من عمري. أذكر والدتي شابة تقف وسط النساء خلف الخلوة، وهي تبادلهم القبل والتحيات. وربما -إن لم يكن في سنة بعدها- أذكر امرأة كانت النساء يُشرن إليها بـ "الرومية"، وقد كانت امرأة فرنسية قد تزوّج بها أحد أبناء القبيلة من عائلة (د)، في فرنسا حيث يعمل. كانت تضع على رأسها قبعة نسائية صيفية، تمتاز بها عن سواها من النساء المرافقات لها، واللائي كنّ من عائلة زوجها. وأذكر أيضا، شابّا كان في السن الذي لا يتحرج فيه من مخالطة النساء، جاء إلى والدتي، وهو يُخاطبها بالإشارة، ويُصدر أصواتا تُشبه الهمهمات؛ فعلمت أنه أخرس. كان يُشير إليّ، ويرسم على ذقنه خطا عموديّا، يعني به أنني بنت؛ وكانت والدتي تجيبه: بل هو ولد!... وهو مصرّ على إعادة كلامه مرات ومرات، إلى أن انصرف غير مقتنع... وقد كنت أشبه في الصورة البنات، فلم يكن الشاب قد تجنّى عليّ من باب الإنصاف، وهو ما سيكون له ما بعده بيني وبين ربّي، فيما سيأتي من الزمان... كان والدي إحدى شخصيات الحفلة المرموقة (هكذا كان ذلك الاجتماع السنوي يُسمّى)، لأنه كان يدق على الدف (البندير) بطريقة احترافية، في الوقت الذي كان عمه "الفقير" يعزف على المزمار، في حركة كان يمتاز بها المحترفون أيضا، حين تتراوح بين نفخ الخدّيْن نفخا يفوق العادة، وإفراغ هوائهما في المزمار في كل مرة، من دون أن يتوقف العزف لحظة. وكانت هذه الحركة، تبدو لنا نحن المتفرجين، كأنها عمل سحري يفوق قدرات غالبية الناس.. ومما كنت قد لاحظته في سنوات أخرى، كنت قد كبرت فيها قليلا، هو تقسيم رجال القبيلة إلى كبار وصغار. كانوا يعنون بالصغار الشباب، الذين يمضون جلّ وقتهم في الرقص على الطريقة الجزائرية التركية الأصل؛ في الوقت الذي كان الكبار (في السن)، يجلسون خارج المسجد، متكئين على جدار سوره. وكنتَ ترى سطلات الماء الذي يجلبه الفتيان من العين خدمة للكبار وللصغار، تتنقل من يد إلى يد، تاركة علامات الارتياح على وجوه الشاربين. ذلك، لأن ماء العين كان صافيا جدا، وكان باردا في الصيف برودة لا تفقده عذوبته، كما تفعل الثلاجات، وكان خفيفا معينا على الهضم؛ إلى الحد الذي يجوع المرء بعد شربه، وإن كان قد أكل قريبا. وكان الماء لصفائه، يبدو في السطلات الصغيرة المعدنية، وكأنه يُحوّل القصدير إلى معدن ثمين... *** كانت الأيام في القرية تمر متشابهة، إلا فيما كان يطبع بعض الليالي من مسرحيات لبعض المتحمّسين، تكون في الغالب فاقدة للمضمون وسيئة الإخراج؛ أو بما كان يطبع اليوم الأخير، الذي يسمّيه الأهالي بـ "المعروف". كان يوم المعروف، يبدأ بتناول الكسكس اللذيذ المصحوب باللحم النضيج، في منتصف النهار؛ وبعد صلاة العصر، يتقدم أحد شيوخ القبيلة، ويتحلّق حوله الأطفال والرجال، وبعض النساء المسنّات. فيشرع الرجل في الدعاء والناس يؤمّنون في خشوع، إلى أن يصل في الدعاء إلى عبارات تيسير العودة للمغادرين، فيشعر الناس بوحشة الفراق قبل أن يفترقوا، وربما منهم من كان ينخرط في البكاء، والشرفاء معروفون برقّة قلوبهم... وكان الناس بعد ختم الدعاء يتوجهون، إلى بيوت مضيفيهم، ليجمعوا أغراضهم؛ فمنهم من كان يخرج بسيارته في الحال، ومنهم من كان ينتظر الحافلة التي تأتي في الغد لإعادته إلى مدينته إن كانت المدينة جرادة، ومنهم من كان ينتظر يوم السوق الأسبوعي (الخميس)، ليسافر من هناك إلى تاوريرت، ومنها إلى داخل المغرب في كل الاتجاهات. ولم يكن أحد الحاضرين ينصرف، إلا وهو يعِد نفسه بالعودة في السنة المقبلة، أكثر استعدادا، ومصحوبا بمال أوفر. ورغم أن هذه الحفلة كانت ستبدو علمانية في نظر الإسلاميّين لو رأوها، أو ستبدو بدعة وضلالة في نظر المتسلّفة الذين نبتوا في مجتمعاتنا فيما بعد؛ إلا أن أناس القرية كانوا يلتقون فيها على محبة وإخاء، وفرح وكرم، وكانوا يتوجّهون إلى الله بما يتيسر لهم من الألفاظ العامية، ومن دون تنطع؛ فكان الجميع يتأثر لذلك الصفاء، وينشحن به ليستمد القوة على العيش في غربته الصغيرة داخل المغرب، أو في غربته الكبيرة في أوروبا، إن كان من المهاجرين. لم يتمكن أهل القرية من المحافظة على روحانية الزيارة السنوية، بعد توالي السنين، وبعد تبدّل الأبناء والأحفاد المتعلّمين، عما كان عليه الأجداد الأمّيّون أو أشباه الأميّين. وأما أنا، فقد انقطعت عنها إلى الآن، لسبب سأعود إليه في حينه... *** أما عندما كنّا نعود إلى حاسي بلال، فقد كان لجدتي ووالدتي معارفهما من اليعقوبيّين شرفاء رشيدة، الذين كان ينتمي إليهم طليق جدّتي، وأخوه (م.ر) الذي كان في بدايته "شيخا" أي مغنيا على الطريقة التراثية، فيكون عند غنائه مصحوبا بعازفيْن على ناييْن يُسمّيان محليّا: "الگصاصْبَة". وقد أخبرتني جدتي، أنه كان حسن الصوت، لا يتمكن أحد من مجاراته؛ فلقيه بعض الفقراء من العلويّين، فدعاه إلى التصوف، فقبل، وصار مـُسمّعا للطريقة العلوية في جرادة أولا، ثم في وجدة بعدها. وقد سمعته أنا بعد سنوات، وهو يُنشد قصائد سيدي ابن عليوة رضي الله عنه، فبهرني حسن صوته؛ خصوصا وأن القصائد كانت في غالبيتها تُنشد على ألحان ما يُسمّى "الشعبي الجزائري"، الذي قد يُسميه العامة "القصايد". وهذا الصنف ألحانه جميلة جدا، يستعمل فيها أهله الصنائع الأندلسية. وكان صوت السّي (م) يأخذ المرء عن نفسه بشجاه وعذوبته مع رجولته البادية. وأنا أحكم هنا من خبرتي الموسيقية، التي تجعل هذا الصوت نادر الوجود في المغنّين من مجتمعاتنا. فكانت لهذا الرجل، وكان يسكن حيا عماليا في جرادة، حماة له، تعيش معه ومع ابنتها؛ وكانت تُدعى "الفقيرة. ع". وكانت امرأة صالحة، حريصة على طهارة ثيابها، إلى الحد الذي تكون معه دائمة الإمساك بها مضمومة إليها، مخافة أن تلامس الجدرانَ تنزّها. وكانت صافية السريرة نقية الطوية، فكانت ترى منامات أو ربما تُعلّم كشفا، أمورا كانت تُخبر بها من تتوسّم فيه التصديق؛ أو ربما كانت من أهل النوبة، لأن زوج ابنتها، كان لا يُخالف لها كلمة. وسمعت من جدّتي، أنها أخبرت مرّة امرأة من جاراتها، وكان لديها طفل يشكو من علّة ما، وكان لديها برّاد (البراد هو الآنية التي يُصنع بها الشاي المغربي الشهير) جديد ضمن أثاثها، قائلة لها: يقولون لك: إما أن تتصدّقي بالبراد الجديد، وإما يموت الولد. فكأن المرأة لم تُصدّق، أو كأن أحدهم همس في أذنها، فرفضت أن تتصدّق بالبرّاد، فمات الطفل عن قريب... كانت هذه المرأة المباركة، تأتي لزيارتنا بين المرّة والأخرى، وكانت هيّنة ليّنة، لكنها جادة ولا تضحك، وكانت حريصة على أداء صلواتها في أوقاتها بعناية كبيرة. فإذا جاء أوان عودتها إلى بيت صهرها، ربما اصطحبت جدتي معها، لأنه قد كانت تجمع بينهما محبّة خالصة. وفي إحدى المرّات، وهما تنتظران الحافلة التي ستنقلهما من حاسي بلال إلى جرادة، كما ذكرت لي جدّتي، أن المرأة أخبرتها أنها ترى والدتي كالزهرة في البستان؛ فدفعها ذلك إلى أن تسألها عن والدي، فأجابتها بأن طريقه "كحلا" (سوداء)، وهو ما ستُسفر عنه الأيّام تباعا. وعندما أخبرتني جدتي بما ذكرته لها الفقيرة (ع)، قبل أن يظهر كثير من تحقُّقه، كانت جازمة، لما تعرفه عنها وعن وقوع ما تُخبر به... حتى إنها عندما توفيت ابنتها (ف) التي كانت زوجة للفقير (م)، هي من دلّته على المرأة التي تزوجّها فيما بعد، قائلة له: اذهب إلى تازة، واقصد بيت فلان الفلاني، واخطب إليه ابنته فلانة (كان اسمها ع أيضا)؛ ففعل كما قالت، وتزوج بالمرأة التي دلّته عليها، فكانت له نعم الزوج، وولدت له أولادا آخرين، وأعانته على تربيتهم، إلى أن استقلوا بأنفسهم... وقد كانت والدتي تأخذني في سنواتي الأولى، إلى (ف)، هذه التي توفيت، وحضرتُ وفاتها. كانت (ف) تحبني كثيرا، إلى الحد الذي عندما تهيّأنا للعودة إلى بيتنا أنا وأمي وجدّتي، ألحت عليّ لآخذ أحد أرانبها هدية منها إلي، فاشترطت عليها أن تغسل أقدام الأرنب التي كانت متسخة، وإلا فلن آخذه؛ فغسلته ونشفته وأعطته لي، فكان ذلك أول حيوان يكون في ملكيتي... ثم لم تلبث هذه الفاضلة (ف)، أن ماتت (أظن وهي تلد مولودا لها)؛ وكدت أحضر غسلها، لولا أن بعض النسوة تنبّهن لي. وقد حدث أننا عندما دخلنا البيت أنا وأمي وجدتي، انخرطت المرأتان في نحيب، جعلهما تنسياني، فتسللت إلى غرفة يتحلق حولها نساء كثيرات، فسمعتهن يتكلمن عنها، وفهمت أنها داخل الغرفة، فأردت أن أراها، ولم يكن بالداخل إلا من يغسلها من النسوة. ولولا أن تنبهت لي إحداهن قائلة وهي تصرخ: ماذا يفعل هذا هنا؟!... لكنت قد عاينت ما لم تكن تنبغي لي معاينته. فأحسست بالأيدي تخرجني إلى خارج الغرفة، ثم إلى خارج جماعة النساء المتحلّقات حول الغرفة. وقد كان هذا، أول اقتراب مني إلى الموت، وأول سماع لي عنه؛ رغم أنه سيبقى في دائرة المجهولات، إلى أن يحين وقت تعرّفي عليه بنفسي... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.