اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/04/30 رحلتي إليّ -1- نحو التسميم الأول
ولد أبي بين جدي إدريس بن محمد الملقب بـ "الفقير"، وجدتي الشريفية (تمزيغ لكلمة الشريفة) بنت محمد؛ وكان وحيدهما من الذكور. وقد كان ميلاده قبل 1930م بسنوات، وكان لوضعه في بيت جدّي، أثر سيء من جهة تربيته، كما يعلم جميع مَن هو مِن قبيلتنا؛ لأنه رُبّي مدلّلا، ولم يعتد أن يُخالفه أحد. ولقد كان جدي إدريس فلاحا، على غرار جلّ أبناء قبيلتنا والقبائل المجاورة؛ حيث كانوا يجعلون من المساحات الضيقة من التربة التي تبدو كأنها نطاقات حول الجبل، حدائق (بحائر: ج. بحيرة) يستنبتون فيها ما يعيشون عليه من خضر وفواكه على طول السنة. وكانت هذه الحدائق، تتخلل البيوت المبنية من الحجارة والطين أو من الطين المدكوك؛ خصوصا في الجزء العلويّ من الجرف، والقريب من المغارات والكهوف التي كان يسكنها الأجداد الأولون. أما البنايات التي تنزل إلى أسفل الجرف، فإنها كانت في كل مرة تتخذ هيئة أكثر عصرنة من الجزء العلوي؛ وقد زاد هذا التطور من جهة البناء، في الوقت الذي بدأ شباب القبيلة يعملون في منجم جرادة للفحم الحجري، منذ أن بدأت الدولة الفرنسية تستغلّه، في حوالي 1929م. ولقد كان والدي، من أولئك الشباب الذين قطنوا جرادة، وعملوا في منجمها لفترة قصيرة قبل توظيفه بالإدارة العمومية بعد الاستقلال مباشرة عام 1956م... وأما والدتي فقد كان اسمها ح. بنت محمد الحميدي، وكانت تصغر والدي بأكثر من عشر سنين، مما يجعل ولادتها في بداية الأربعينيات من القرن العشرين. وقد كان جدي لأمي قاضيا شرعيا في زمن الاستعمار الفرنسي، في بلدة مكناسة في ضواحي مدينة تازة. وكان هو وإخوته (أعمام أمي)، من مقلّدة الفقهاء، وخرّيجي جامعة القرويّين، بفاس المشرّفة. وسنعود إلى شؤونهم مع والدتي فيما بعد، وبحسب ما يقتضيه تسلسل الأحداث. وأما جدّتي أم والدتي، فكان اسمها "جمعة" (واسم جمعة كان يُطلق على الإناث في مغربنا لا على الذكور كما هو الحال في بلاد المشرق)، بنت عبد الله. تربت يتيمة مع عمّها "محمد"، الذي كان فقيها هو الآخر، والذي علمها أصول الإسلام رغم أميتها؛ فكانت هي المربية لنا أنا وإخوتي حقيقة، على الإيمان وبعض أصول الدين. وقبل أن أستمر في السرد، لا بد من ذكر ما يتعلّق بجدّتي "جمعة"، حتى انتهى بها الأمر، إلى السكن معنا في "حاسي بلال"، بسنوات قبل أن ننتقل إلى بيتنا في "جرادة"، التي هي المركز، والتي لا تبعد إلا بنحو أربع كيلومترات عنها. والذي كان يميّز حاسي بلال عن جرادة، طوال مدة العمل في المنجم الفحمي، هو أنها كانت محل المنجم، حيث ينزل العمال في مناوبات ثلاث، عبر مصعد شهير، إلى أسفل الأرض، ليحفروا بواسطة آلات الحفر التي تعمل بالضغط، الفحم من مخارج جانبية ضيّقة، تتفرع عن المهابِط (descenderies)، لا تتجاوز حجم أجسام العاملين، يُسمّى الواحد منها بالفرنسية المدرَّجة "لاطاي" (la taille)؛ متتبعين لخيوط الفحم ضمن طبقات الأرض، على ضوء توجيهات إدارة المسح. وكم كانت تلك الحفر الجانبية خطيرة، لولا أنها كانت تُمسَك على جدرانها الجانبية التي لا تتجاوز بضع عشرات من السنتيمترات، بقطع من الأخشاب المقطوعة من الغابات لذلك الغرض، كلما تقدّم العامل في الحفر. وكم كانت تهوي على العاملين إن عجزت الأخشاب على حمل ثقل الطبقات التي تعلوها، فيموتون تحتها ردما. وقد يموتون اختناقا، إن هم صادفوا أحد التجاويف الأرضية المليئة بالغاز المميت (مونوكسيد الكاربون)... ولقد كانت حوادث المنجم، إلى جانب الإضرابات العمّالية توقّع بوتيرتها رتابة العيْش في المدينة العمّالية، على غرار ما وصف الأديب الفرنسي في روايته الشهيرة "جيرمينال"... وكان جدي أب والدتي القاضي، يعيش عيشة الكبراء في مكناسة؛ حيث كان له بيت كبير يقوم عليه خدم (قد يكون من بينهم رقيق)، وكان له فيما أذكر مما سمعته من جدّتي ثلاث زوجات، كانت هي آخرهن وصُغراهنّ. وجدّتي هذه أصلها زرهوني، من ذرّية مولاي إدريس الأزهر رضي الله عنه؛ وكانت زهراء اللون، ممتلئة الجسم، شعرها أسود، يميل تحت أشعة الشمس إلى شُقرة خفيفة. وأعني من كل هذا، أن جدتي هذه، كانت تبدو من جهة الخِلقة كالأوروبية؛ وهو ما يعني أنها لشبابها وجمالها، كانت مقرّبة إلى جدي القاضي. وكانت في البلدة امرأة خطبت نفسها إلى جدي، فلم يقبل أن يتزوجها، فكان جزاؤه عندها أن تقتله سمّا؛ بحسب ما سمعت من جدتي، وهي تكلّم أمّي. فتوفي جدي محمد الحميدي شابا، أحسبه شهيدا، على غرار الشهداء من أهل البيت جميعا. وقبل ذلك، كان جدي، قد رفض أمرا للحاكم الفرنسي، ومزق الورقة الواردة به، عندما وجد به إهانة له ولأهل البلدة؛ فكان جزاؤه الحبس سنة. وعلى كل حال، فعندما توفي جدّي، وكانت جدّتي ما تزال شابة، وكانت والدتي ما تزال رضيعة؛ أخرجها أعمام والدتي وهم جماعة، من غرفتها، وأغلقوا بابها دونها، ليستولوا على كل أملاكه عنوة؛ كما كان يفعل الذكور مع الإناث في الغالب، خصوصا في البوادي. وحتى لا يأخذوا منها ابنتها -وهي كل ما لها- عاجلتهم بالفرار من البلدة، إلى مدينة تازة حيث أهلها... وكان ع. رضوان الذي تزوج جدتي بنّاء، يشتغل في حرفة البناء في فاس، التي كانت تستقطب الحرفيّين على عادتها من كل حقب تاريخها. ومِن هناك سمع أن شركة المفاحم التي يوجد لها منجم في جرادة، تُشغّل البنّائين لبناء أحياء العمال هناك. فارتحل مع أسرته إلى جرادة، وبدأ العمل بصفته بنّاء هناك، برفقة أخ له يُسمّى م. رضوان. ولقد أدركت أنا هذا الرجل الذي تربت عنده والدتي، وهي تناديه: أبي؛ فظننت أنه جدي. بل لقد وصل الأمر، بعد أن شرعت الدولة المغربية الحديثة في تسجيل الناس في إدارة الحالة المدنية، إلى أن انتسبت والدتي إداريا إليه... وقد سهّل هذا الإلحاقَ الإداريَّ، والدي، الذي قد صار كاتبا في مكتب الحالة المدنيّة، بعد سنوات من عمله بمهمة مُقَدَّم؛ وهو ما يُسمى الآن في المغرب "عونا للسلطة". ويضح من هذه التسمية، أن المهمة كانت مراقبة الناس (العمال)، والقيام بالوساطة الإدارية بينهم وبين السلطة عند الضرورة. وهو ما كان يمنح والدي ونظراءه، هيبة منبنية على الخوف، مِن قِبل عوام الناس، الذين كانوا في عمومهم أمّيّين. وقد نفعتني "هيبة" والدي في طفولتي كثيرا، بسبب دفعها عني من كانوا يكبرونني سنّا، وجعلهم يقلّبون الأمر في أذهانهم مرارا، قبل العزم على إذايتي... كان ع. رضوان، إلى جانب حرفة البناء، عازفا على المزمار المغربي (الغيطة)، وكان والدي وعمه عازفيْن على آلة الدف والناي التقليدي (القصبة)، بالإضافة إلى المزمار. وكانت الموسيقى التي يعزفونها، والرقصات التي تنشأ عنها، مما يشيع وقتها في الغرب الجزائري؛ وإن كان أصلها موسيقى تركية، بسبب حكم العثمانيّين لما كان يُسمّى المغرب الأوسط. فكان لا بد من التقاء الثلاثة على هذه الهواية، التي وصلت إلى حد احتراف إقامة أفراح المحلّيّين. وكان ع. رضوان وزوجه جمعة، بمعية والدتي الطفلة، يترددون على بيت م. الفقير عم والدي؛ وكان والدي بعد طلاقه الأول، يتردد على بيته المرة بعد الأخرى، فرأى والدتي، فخطبها. ولا أدري بكم من الوقت سبق طلاق جدّتي زواج أمي، بعد أن استولى زوجها على بيت لها، اشتراه بمالها الذي استحقّته من باب التعويض عن حادثة سير وقعت لها وهي مسافرة في حافلة، وجعله على اسمه. وكان استيلاء مطلّقها على بيتها، سببا في لجوئها إلى السكن مع ابنتها بعد مدة قليلة، في غرفة بحيّ هامشيّ. فلمّا خُطبت والدتي، اشترط رجال العائلة (الفرقة الموسيقية التراثية) على والدي أن تسكن معها جدّتي، لأنه لم يعد لها من أقارب في البلدة إلا ابنتها. فكان هذا سبب سكنى جدّتي معنا، على خلاف المعتاد المعيش، الذي كنّا نعاينه من حولنا. فلقد كبرنا، ونحن نسمع في مجتمعنا الكلام عن سوء صلات الأزواج بحمواتهم؛ حتى صرنا نعد ذلك من الثوابت!... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.