اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]() «السابقالتالي»
2024/03/21 تعقيبا على الدكتور طه عبد الرحمن اطلعت في موقع هسبريس، على مقال نُشر يوم السبت 16 مارس 2024م، لكاتبه وائل بورشاشن، يورد فيه مقولات للمتفلسف المغربي طه عبد الرحمن، فوجدت تلك المقولات تشتمل على مغالطات، رأيت من واجبي أن أردّ عليها بما يتيسر. وقبل أن أتناول المقولات المذكورة، لا بد من أن أبيّن بعض الحقائق والأصول: أما في قطع الجسور من جهة الفلسفة، إلى جهة الدين، أي انطلاقا من مرتبة الفكر العام الذي يسبق طور الفلسفة، نحو النظر إما في الفقه وأصوله، أو في العقائد وأصولها؛ كما سيخطر في الأذهان، فهو عندنا لا يصح. والسبب واضح جليّ، وهو أن الدين مُـغن عن الفلسفة؛ وأن المفكر المجرد يكون على ظلمة تامة، بخلاف المفكر داخل الدين في المرتبة الأولى (مرتبة الفقهاء وعلماء الأصول). وهذا أصل معتبر، في التمييز بين ما هو علوي رباني وما هو سُفليّ إنسانيّ؛ وبين ما هو نوري وما هو ظلماني؛ وهذا حتى مع تشابه الألفاظ. ومن هنا كنا نحن لا نقر لصاحب دين، بأن يكون فيلسوفا؛ لأن الفلسفة عندنا لا بد أن يكون صاحبها على كفر أكبر، كما كان كبار الفلاسفة من اليونانيين القدماء خصوصا، وفي جميع أطوار فلسفتهم. فمثلا، نحن نعتبر كثيرا، السفسطة، ونجد فيها إشارات عميقة إلى الحقيقة؛ لكن دائما من جهة الظلمة، لا من جهة النور. وهنا، لا بد لنا من التمييز بين النور الموهوب أو المكتسب للعقل عن طريق العمل المشروع؛ ونور العقل المخصوص به. وإن عدم التفريق بين النوريْن، هو ما أدى بضعفاء المتدينين والعقلاء، إلى الخلط في أصل المسألة، ثم إلى توهم إمكان تحصيل العقل لنتائج معتبرة من داخل الدين، عن طريق التفكر؛ حتى كاد الدين يعود عند المتأخرين فكرا شبه مجرد؛ أي لا فرق بينه وبين الفكر المجرد إلا جعله الوحي منطلقا لتفكّره. أما الفلسفة الحديثة، فنحن ننكر أنها فلسفة؛ ولا نقرّ لها إلا بكونها فكرا، من الدرجة الأولى أو من الدرجة الثانية. والفرق بين الدرجتيْن عندنا، هو أن الدرجة الفكرية العليا هي ما يُمكن أن نسميه تفلسفا، لكونها تنظر في أصول الفكر وفي بعض المسائل الفلسفية العليا، لا في كلها. وهذا لنزول مرتبة الفكر عموما، في مراتب العقلانية، ولتناوله لأنساق جزئية غير كلية؛ بينما يُفترض في الفيلسوف أنه يبحث المسائل الكبرى ضمن الأنساق الكلية الشاملة. ولا بد هنا من أن نحكم بنهاية الفلسفة كما حكم بعض المتفلسفين، وهذه النهاية، هي ما قلنا عنه سابقا عن الفلسفة، بأنها غير موصلة إلا إلى الحيرة. وعلى عكس ما يظن أصحاب هذا الطريق، فإنه لا منقذ للفلاسفة من حيرتهم إلا الدين؛ لكن الدين المقصود لنا، هو الدين كما هو في أصله، لا الدين المشوب بالفكر. وهذا أمر لم نجد من يذكره، بله أن يدل عليه. وأما ما يعده المتفلسفون في زماننا فلسفة فليس إلا دراسة لها، مع مبالغة في التحليل لا تقبلها الفلسفة. ونعني من هذا، أن لغة الفلسفة أعلى من لغة الفكر بدرجتيْه؛ والإخلال بالترتيب الأصلي للأمور، لا يُنتج إلا رداءة. ونحن قد اطلعنا على النصوص الفلسفية الأصلية، واطلعنا على ما قاله الدارسون لها، فوجدنا في أحيان كثيرة الدارسَ غير ملمّ بمعاني النص؛ فيؤدي به هذا القصور إلى تحريف المعنى، وهذا لا يقبله أحد... كما لا بد لنا أيضا، من تقرير انحراف أهل الدين المتفلسفين في المقابل. وصفة التفلسف -إن كان المتفلسف يخوض في الفلسفة على غرار من يُسمَّون فلاسفة مسلمين (إن لم ينطقوا بالكفر فيلحقوا بالفلاسفة)- هي أقصى ما نقبله. بل وإننا نجعل المفكر المجاوز لحدود التفكر المشروعة، أو المفكر المتفلسف، منحرفا عن الدين؛ ونجعل التفلسف في عمومه دليلا على فسوق المتفلسف، ما دام الدين قد أغناه عن تحكيم العقل في كل شيء (مع جواز تغير الحكم في أثناء السلوك للعقل المتنور في وجوه بعينها من المسائل)؛ وإلا فإن السؤال الأكبر سيبقى عالقا: ما جدوى الدين؟... أيكون الدين كما يعتقد متظلّمو العقول، وسيلة الإنسان إلى تحصيل بعض الطمأنينة فيما يتعلق بالأمور الميتافيزيقية، بعد أن يكون العقل قد تعقّل الفيزيقا؟!... كلا؛ ولكن الدين (الحق) هو مُـسعف للعقل بهداية الله وإمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليعلم الشهادة وبعض الغيب؛ علما يقينيا يفوق ما يعلمه العقلاء من يقينية عقلية. وهذا، لا يعلمه من لم يسلك طريق الدين، على أصله، كما هو بالدلالة النبوية. ونحن بحمد الله، ما عرفنا الفلسفة ومكانة الفلاسفة المختلفين، وعرفنا مختلف المراتب العقلية الدينية والفكرية، إلا من طريق الدين وحده، بخلاف ما قد يظنّه الناظر في كلامنا؛ وإن وجد هذا الناظر تشابها ظاهريا في الكلام... أما الآن، فلنمرّ إلى مقولات الدكتور عبد الرحمن، بحسب ما أوردها صاحب المقال: إن الأخطار التي تهدد المتفلسف، لا تكون إلا أخطارا فكرية عقلية؛ وإن كان عليه من اقتحام شيء، فهو غمار المسائل العويصة، التي قد تقضي على عقله وعلى كل مساره الفكري. فهذا هو المتفلسف الحق عندنا؛ أي من طريق العقل وحده، من غير خلط أموره بشيء من الدين كما تفعل أنت. فعندما تشترط أنت على المتفلسف أن يرابط على ثغر، فاعلم أنك تكون متناولا، لاصطلاحات شرعية، في مجال عقلي؛ وهذا خلط بين ما لا يقبل الاختلاط؛ وإيهام بتركيب المعاني، والشأن هو تبسيطها لا تركيبها، واختزالها لا تكثيرها؛ وذلك لأن اللغة الفكرية تُشبه الرياضيات كثيرا. وفي الرياضيات، لا يُبقى على المعادلات كما هي متضخِّمة، وإنما تُختزل إلى أقصى حد، ليُمكن العمل بها ضمن معادلات جديدة إن أمكن... وأما إن كنت تقصد ضمن السياق السياسي العالمي بالشر المطلق إسرائيل، فإنك تكون مخطئا؛ لأن إسرائيل موجودة غير معدومة (على الأقل من أحد وجهيها الذي هو وجود إمكانها). وكل مخلوق، بصرف النظر عن حقيقته إيمانا وكفرا، إحسانا وإساءة، فهو لا يخلو من خير، بمعنى الوجود الذي ذكرنا. وليس في الشر مخلوق أكثر التصاقا بالشر بكل صنوفه من إبليس، ومع ذلك فإن إبليس ينتفع منه كثير من الناس من أتباعه (وهو انتفاع دنيوي جزئي)، بحسب منطقهم؛ ومن مؤمنين مخالفين بحسب منطقهم أيضا. ولولا هذا النفع الذي لإبليس، ما خلقه الله؛ ولا قال في حقه: {إِنَّ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ إِذَا مَسَّهُمۡ طَـٰۤىِٕفٌ مِّنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ تَذَكَّرُوا۟ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ} [الأعراف: 201]؛ فها هم من ألم بهم الشيطان، انقلبت لمته بهم ذكرا، عندما كانوا متقين. وبعد الذكر الذي هو وحده نعمة، جاء الإبصار الذي هو الغاية. ثم إن المؤمن في طريق الدين، لولا اعتراض إبليس لسبيله في كل مرة، حتى يتجرد لمغالبته، ما صح له سير ولا ترقٍّ. ومن هذا العلم قيل: "إن لكل مقام شيطانا!... فإن كان الشيطان سببا إلى هذا الخير كله، فكيف يكون شرا مطلقا؛ وإن كان اليهود على كل حال أهون في الشر من إبليس، فلا يمكن أن يُشار إليهم بأنهم شر مطلق؛ وإلا فقدت اللغة دلالاتها. ولم نشأ التفصيل هنا في كيفية انتفاع الناس بحسب مراتبهم ومقاماتهم من إبليس؛ ولو فعلنا، لسمع الناس العجب؛ حتى إن منهم -لولا أنه لا يجوز شرعا شُكر إبليس- من قد يظن أنه ينبغي أن يشكره. وسبب عدم جواز شكر إبليس على نفعه، لا يمنعه إلا كونه لا نية له في عمل الخير، وأنه يريد الشر للناس ويفرح به إذا أصابهم؛ خصوصا منه الشر الذي يصيبهم في دينهم. وعلى هذا، فإن التفكير والتنظير والتبصير التي يشترطها الدكتور عبد الرحمن، ستنتفي بانتفاء متعلَّقها (محلها) الذي هو الشر المطلق؛ وينتفي من بعدها التصدي لهذا الشر المستطير الذي يقول عنه إن الإنسانية لم تشهد له مثلا. وكيف أن الإنسانية لم تشهد مثل هذه الشرور في الماضي، حتى يظهر فيها ما هو شر من كل الشرور؟... وبأي معنى؟... وباعتبار أن الثغر هو فلسطين، التي تنبغي المرابطة عليها، بما أن الدكتور عبد الرحمن، لم يحمل السلاح، ولم يقاتل الصهاينة، فإنه ما فعل ما كان يُنتظر منه، ولا ما زعمه لنفسه. وذلك لأن المرابطة هي القيام على الثغر قياما حقيقيا وفي الحس، أما من الناحية العقلية، فلا تعد مرابطة، إلا من باب المجاز؛ والمجاز واسع ولا يُبنى عليه في الفلسفة. وبما أن الدكتور قد أخل بما يُتوقّع منه، من كونه متفلسفا، فهو قد خرج بالأحرى عن الفلسفة. وهذا كاف في الرد على مقولته المخلوطة. إن الأزمات عند أمتنا، لا تُحل بهذه الطريقة، خصوصا وأن الفكر من أسباب البلاء النازل بها؛ وعلى الأخص، عندما أُقنع العوام بأنهم مفكرون بالقوة، وليس بينهم وبين خروج فكرهم إلى الفعل، إلا بعض الدراسة، وبعض إجادة لعملية خلط الكلام، ليبدو في الناتج النهائي جملا، حتى إن لم يفهم منها أحد شيئا، قيل له: هذه فلسفة، والفلسفة لا يفهمها كل أحد!... ونحن لن نبالغ إن قلنا، إن أغلب ما يُكتب في الغرب اليوم قبل الشرق، هو كلام أقرب إلى الهذيان؛ ولكن خصوصية زماننا، هي أن لا أحد يجرؤ على التصدّي للهذيان، لأنهم يُسمونه على الأقل فكرا، إن لم يبلغ بهم السوء ما بلغ بصاحبنا، فيسميه فلسفة حقّا!... لو قارنّا بين فكر "مالك بن نبي" رحمه الله، مثلا، وفكر طه عبد الرحمن هداه الله، لوجدنا الأول يفوقه في التفلسف، وإن لم يزعم -بحسب ما أعلم- أنه كذلك. وذلك لصرامة لغته الفكرية، وإن كانت المعاني الدينية لا تسلم له. فكيف إن قورن بمن يتكلم مِن مجال الدين على نور وبيّنة!... وأما إن سأل سائل، فإن كان فكر طه عبد الرحمن ليس بالمتانة التي يزعمها، فكيف يُستدعى من قِبل دولة قطر من أجل تكريمه؟!... فإننا نجيب: هذا، لأن الدول عموما، غير حريصة على كلام أحد، وإن كان فيلسوف عصره حقا، أو إمام عصره (بالمعنى الديني) حقا؛ وما يهمها هو خدمة سياساتها وحدها. وبما أننا نحن من ضمن قلة من الناس، كنا قد حكمنا على عمل "حماس" بإنه جريمة في حق الشعب الفلسطيني، من أحد الوجوه؛ وبما أن قطر هي راعية المشروع الإخواني في العالم، ضمن مجموعة من الراعين؛ فإنها استقدمت طه عبد الرحمن لتخادمه ويُخادمها: هي تخادمه بالجائزة، وزيادة انتشار الصيت (إن كان هذا مبلغ طموحه)؛ وهو يُخادمها بالشهادة لحماس بأنها جاهدت جهاد الأولين، وسبقت في طريق التدين (المنحرف) كل السابقين، حتى صاروا مجموعة من الأولياء متحقّقي الولاية (رغم أن الولاية الخاصة تكاد يُكفر بها في زماننا كفرا أصبح من أركان الدين!). وهذه الشهادة من الدكتور عبد الرحمن شهادة زور، أنا أنصحه بالتوبة عنها، وعدم لقاء الله عليها، وهو من بلغ من العمر ما لا يُرجى معه إلا حسن الخاتمة. ولنقلها له صريحة واضحة، إن حل أزمة الأمة المتعاظمة، لا يكون على أيدي المفكرين غير الضابطين لفكرهم، وإن كان بعضهم لبعض ظهيرا!... فاربع على نفسك!... أولا: إن المرابطة، والثغر، معنيان عسكريان صارا شرعييْن فيما بعد. أما أن تجعلهما معنييْن فلسفييْن، فلا يُقبل منك ذلك. وحتى ندل على ما نريد نسأل: هل كان سقراط ثغريا حتى تثبت لك مرتبة الفيلسوف؟!... فإن كنت تقصد الاستعارة، فهذا مما يدخل في البيان اللغوي لا في الفلسفة... وأما البنوة التي أسهبت في ذكر أصنافها، فقد انتهت إلى بنوة الفيلسوف لساعته؛ ولا ندري من أين لك بهذا المعنى؟ ولا بمعنى الساعة لديك؟... أيكون مزاحمة للساعة بالاصطلاح القرآني؟... فإن كان يراد منه مشابهة بناء التراكيب اللغوية المعروفة في العلوم، من دون تقصد لإساءة أدب مع الوحي، فإنك تكون قد ألحقت نفسك بأهل التخصصات المختلفة، عنوة ومن غير شرط مقبول!... وأما الخصوصية التي أثبتها لكل الصنوف المذكورة، فهي خصوصية بلا معنى؛ لأن الخصوصية الوحيدة المعروفة والمعتبرة ضمن كلامك، هي خصوصية الصوفي؛ أي الذي بلغ الغاية من التديّن، في مقابل صنف عوام المؤمنين، وعموم المفكرين. والسؤال هنا، هو: إن كان لك بمعالم شخصيتك بعض إلمام، فمن أي الأصناف الثلاثة أنت؟... ونحن نشك في إلمامك بنفسك، بسبب كل الترهات التي مرت بنا، والتي لا تصدر عن مفكر معتبر (مؤمن)... ثم أي منهجية تبقى بعد هذا الخلط كله، وهي تعني الضبط؟!... في البداية: كيف تمرّ الساعة على اللحظة؟ وأين المحافظة على الدلالات اللغوية هنا؟... لقد تكلمنا آنفا عن الشر المطلق، وعن معنى الثغر في الشرع، وبكلامنا يسقط كل بنائك. وإن كان الأمر ألفاظا لا تدل على معنى، فإن مرابطتك -كما تزعم- ستنعدم، كما انعدم الشر المطلق. وستبقى مقيما بين العقلاء بلا عقل، عند فقدك المعالم المعتبرة. أما المعالم الموهومة، فإنها لن تغني عن أصحابها شيئا؛ ولو كانت تغني، لأغنت المجانين فيما يقولون. وما أكثر ما ينطق المجنون، بما لا يفقهه مدّعو العقل!... عموم الأمة الإسلامية، فاقد لاعتبارية صنفي المواثقة اللذين ذكرتَهما. فلمَ تغالط، وتريد إظهار المسلمين وكأنهم على الصراط المستقيم؟... وأين هي الفطرة في المسلمين، التي تخاف عليها من أن تُفسدها إسرائيل؟... ألم تفسد عند الغالبية من المسلمين، لأسباب أخرى، كان غيرك أكثر اعتناء بإبرازها؟... إلا إن كنت تتهم إسرائيل بكل البوائق التي وقعنا فيها، منذ القرن الأول؟!... فعندئذ سنقول لك: إن حالتك في الطب العقلي مستعصية!... والشر المطلق بحسبك، الذي هو محو للأخلاق بالكلية؛ نبغي منك أن نعرف في مقابل الكلام عنه، ما هي الأخلاق أولا؟ وإن أخذناها بالمعنى العامي الذي أظنك تعتمده، فأين هي الأخلاق عند المسلمين الآن؟... فإن أرغمهم أحد (وليكن افتراضا إسرائيل) على نبذ الأخلاق، فما هي قدرة هذا الطرف على التحكم في بواطن الناس، حتى ينزلهم إلى الدركات السفلى، بعد أن كانوا أناسي؟... وأما التمييز بين الحق والباطل، ويُفترض أنك أحد من فرغ من ذلك: لم لا تعود فيه إلى بلدك، وتدل الناس على الحق وعلى الباطل هنا؛ دلالة معرفة للحق، وإنكار للباطل!... وأما إن كنت أنت نفسك لا تميز بين الحق والباطل، كما هما في الاصطلاح الشرعي أولا، فإنه كان يجدر بك السكوت، وعدم الخوض فيما لا تحسن. بل كان يجدر بك أن تعمل على فضح حقيقتك أمام نفسك، حتى لا تنفضح في وقت ما أمام الأشهاد، وعلى الصعيد العالمي... أما التقنيات، فهي أمور حيادية، توظّف بحسب ما يُراد منها من خير أو شر. ولم يحُل بين المسلمين وتحقيق التقدم التكنولوجي إلا صنفان من العقول: عقول فقهية جامدة، تزعم أنها قيّمة على الدين؛ وعقول مفكرة: إما هي مُستلبة تُعمِّق من "الاستعمار" المستمر في بلداننا، وإما هي تخلط بين ما هو فكر وما هو دين، لا على نور ولا بيّنة، كما تفعل أنت. فنتج عن هذا كله، أن التخلف التكنولوجي الذي نعاني منه، هو لسبب ذاتيّ لدينا بالدرجة الأولى. ثم، ألم يكن من مهماتك بصفتك مفكرا، أن تدل قومك على سبيل تحقيق التقدم التكنولوجي؟... بدل أن تنظر في نيات الخصوم والأعداء؟!... وأما محو العالم كله، فاطمئن؛ فإن العالم لن يُفنيه إلا مَن خلقه. ولو كنت تنظر في الأخبار النبوية التي تصف أحوال الناس قبل الساعة، لعلمت ما ندلك عليه؛ ولكن الظاهر أنك لم تنظر؛ لسبب نجهله، ولا نريد أن نرجم فيه بالغيب. وكل هذا التهويل منك لقدرة السلاح النووي على إفناء العالم، فهو يدخل ضمن سياسة التخويف التي تمارسها القوى المهيمنة على بعض العالم، والمريدةُ للتحكم فيه بحسب ما تستطيع. فهل أنت معها علينا؟!... ومن الأسلحة المعتبرة في هذا المضمار، التحليلات الفكرية الظلامية، التي تجعل ضعفاء العقول يخضعون لتلك القوى من تلقاء أنفسهم. وأما السلاح الأكبر الذي تكون به الغلبة، والذي تتعمد السكوت عنه، فهو المدد النوريّ الذي يأخذه الموفقون من الحضرة النبوية الشريفة، بواسطة الشيوخ الربانيين. نقول لك هذا، لأننا نحسبك على علم بهذا السلاح؛ أما إن كنت لا تعلم، فتلك طامة تُضاف إلى ما سبقها... أما هنا، فيتجلّى الوهم الذي يصيب المتفلسفة على حقيقته: فأي عقل ستبنيه، وقصور عقلك بادٍ؟!... لا تنس أنكم معشر الدارسين للفكر، لم تعلموا إلى الآن من العقل إلا بعض وجوهه على قصور كما أسلفنا. ثم لتعلم أن إسرائيل لم تهزم العرب في 67 برجاحة عقلها، وهي التي تعيش على الخرافة؛ وإنما هزمتهم بضعف عقولهم هم، وبخيانة النخبتيْن العسكرية والسياسية لشعوبهما. وإن كانت حماس -على ضيق يدها وقلة عددها- قد أحدثت هذه الهزة في إسرائيل، فلِناظرٍ أن يتصور ما الذي كان سيحدث لو أن الصف العربي كان متماسكا وخاليا من الثغرات!... وكان المصطفّون على هيئة الصلاة، يُقدّمون إماما ربانيا يؤم بهم في الصلاة الكبرى، التي تكون للأمة جمعاء في كل زمان. نقول هذا، ونحن -بحمد الله- نعلم أن: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وما الأسباب هنا أو هناك إلا حجب تستر حكمة الله في أفعاله. ثم، لمَ تر نفسك معنيا بهزيمة العرب وانتصارهم؟ أيكون النفخ فيك قد أجدى النافخين؟!... وإياك أن تظن أن أمر أمثالك يخفى عنا، وإلا فلا أثر لسلوك الطريق الذي ندل الناس عليه فينا!... ثم، ألا تعتبر بجحافل المفكرين الذين مروا في تاريخ الأمة من قبلك، ما بين إسلامي وعلماني، فلم يزد تفكّرهم الأمة إلا ضعفا؛ فكيف ستكون الاستثناء الذي تظنّ، وأنت حتما لست أكبر عقلا ممن مضوا؟!... وليعلم القارئ أن الفكر هو مظنة الضعف، لا مظنة القوة. ألا يرى إلى الله يقول في القرآن الكريم: {إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدۡبَرَ وَٱسۡتَكۡبَرَ} [المدثر: 18-23]؛ وقد جاء هذا، في معرض الذم لأحد عتاة الكفر، وهو الوليد بن المغيرة؛ فانظر إلى مراحل النظر والفكر في الآيات، ثم انظر إلى أثر الفكر على من لم تُكتب له الهداية، أو من لم يكن له إذن من الله ورسوله في التفكر. وهذا، هو ما كنا نشير إليه في بداية كلامنا عن توازي طريقي الدين والفكر. أولا، وقد كنتُ أبديت هذه الملاحظة لبعض من يشاركونك التخصص فيما قبل، وهي أنك تُكثر من نحت الاصطلاحات؛ وكأنك تخاطب نفسك؛ أو كأن الناس قبلك لم يتكلموا لغة فكرية!... ونحن نقولها هنا صراحة: إن فكّ أزمة المسلمين التاريخية، لا يكون بالفكر؛ لأن الفكر بشري، لا بد أن يكون قاصرا عن إدراك أبعاد الأزمة أولا؛ ثم لا بد أن يكون عاجزا عن تصور الحلول لمحدوديته ولانحرافه أحيانا، ثانيا. ثم ينبغي لك أن تعلم يا دكتور، أن مجال الفكر، هو أفضل مجال لعمل إبليس الذي يريد منه إضلال العباد عن سبيل الرشاد. فكيف يكون ما هو عون لإبليس عونا للمؤمنين دائما، ومن كل وجه؟!... وانظر إلى الفِرق الضالة التي انحرفت عن الإسلام الأصيل، فإنك ستجد الفكر من أكثر ما اعتمدته، وفي مقدمة هذه الفرق المعتزلة والأشاعرة. ونحن هنا، لا نتكلم عن العقول الربانية التي تنظر بنور الله، لأنه ينكشف لها في العمليات العقلية، ما لا ينكشف لغيرها؛ ولا قياس مع وجود الفارق، كما يُقال!... ولنسألك هنا سؤالا مباشرا: هل يشكو الدين الحق من نقص، حتى تكمّله الفلسفة؟... فإن كان الجواب بنعم، فاعلم أنك على فسوق أكبر؛ وعليك أن تتعلم دينك من جديد، حتى تستقيم عليه. هذا، إن كنت عليه حريصا... وأما إن كان الجواب لا، فالسؤال عندئذ هو: لم الاشتغال بما لا حاجة إليه. وأنا أكلمك -كما أخبرتك سابقا عن ذوق (تجربة)- لم أشتغل في بداية تديني وطيلة سلوكي، إلا بالدين وحده، وقد كفاني كل همومي، ولله الحمد. وهذا الكلام الذي أتكلمه الآن في الفلسفة، أو الفكر عموما، أو هذا الاشتغال بأمور أخرى كالموسيقى وغيرها؛ فكله أنطلق فيها من الدين، ولا أكون فيه كما يكون غيري، من الذين يتوهمون الانفصال. والمسألة طويلة الذيول، وهذا ليس أوانها... لم يكن الواجب عليك الانتصار للتراث، لأن التراث إنتاج بشري، يتراوح بين الجودة والرداءة؛ وهو نسبي نسبية تزيد وتنقص بحسب المنظور فيه، وبحسب الناظر. وقد كان حريا بك أن تجدد ما تراه مستدعيا للتجديد؛ ولكنك غير مؤهل لذلك. وذلك لأنك لم تعرف التراث معرفة تامة، بحيث تفكك جميع عناصره، لتعلم الثابت منه والمتغير؛ ولكنك كعادتك من المفكرين، تدرس التراث كما هو، وتغطي على ضعف الدراسة باختلاق لغة مطنبة، توهم المتلقي منها، بأنك قد قلت شيئا هو لم يُدركه. وهذا الأسلوب في المغالطة، هو ديدن كثيرين من "مفكرينا"، وإن كان المفكرون المعتبرون في التاريخ الغربي يتنزهون عنه. والسؤال هنا هو: لم تجدون أنفسكم مضطرين للكتابة، وأنتم لا تضيفون شيئا؟!... أما إن كنت تظن نفسك قد أضفت شيئا، فذلك سيعني أنك من المولعين بالكم والشكل، لا بالمعنى؛ وأنه يُعجبك أن يُعجب كلامك الجاهلين. ثم، لم يظن كل من تخرّج في مجال الفلسفة خصوصا، أنه قد صار فيلسوفا، وأن عليه أن يكتب فلسفته؟!... ألا تعلمون أن الفلسفة منوطة بمكانة عقلية مخصوصة؟!... وأن الفيلسوف، لا بد له من عيش فلسفته (الالتزام)؛ وهذا لأن من يزعم الفلسفة ويعيش كما تعيش العامة، لا يمكن أن يُعدّ ضمن العقول الفلسفية البتة. وقد وقع في هذه الآفة بعد المسلمين والمشارقة، متأخرو الغربيين أنفسهم؛ إلى الحد الذي لا نكاد نعرف لهم فيلسوفا منذ أزيد من قرن... وأما الإبداع، فينبغي أن يكون في مجال يقبل الإبداع؛ والفكر ليس إبداعا، بقدر ما هو بناء. والبنّاء يبني بحسب ما أوتي من أدوات، من أجل تنفيذ تصميم المهندس. وأما المهندس، فيمكن أن يبدع، لأنه يعمل في مجال الرسم، وإن كان رسمه هندسيا؛ أي إن الهندسة تعينه على إبداعه، من غير أن تكون هي مجال إبداع إلا جزئيا. وهكذا هو الفكر، باعتباره بناء عقليا محكوما بمنطق (أو أكثر) ضابط لعمله. وهذا يعني أن النتيجة الفكرية، هي التي يُمكن أن تكون إبداعا بتجوّز، إن هي أفضت إلى أمر جديد؛ وأما خلط الكلام، وإعادة تفسير المقولات بكل ما تحتمله اللغة، أو أحيانا حتى بما لا تحتمله، فإن هذا يكون مرضا عقليا، وسرطانا فكريا، بعيدا عن الفكر وعن الإبداع. ويوجد طريق غير الفكر، للإبداع في الفلسفة وفي المجالات الفنية، نُضرب عن ذكره هنا طلبا للاختصار. وإن دارسي الفلسفة، لو أمهلوا أنفسهم أن يهضموها، خصوصا على يد عارف رباني (ما فوق الفلسفة)، لاكتسبوا بعض الأهلية للنظر في كل ما درسوا، ولأمكن (ليس دائما) أن ننتظر منهم إضافات إلى الفلسفة، أو تصويبات لها؛ ولكننا نجد المتخرج متلهفا لأن يُنتج، بأي طريقة وتحت أي ذريعة؛ ربما ليقول عنه غير الخبراء إنه فيلسوف فحسب. وإن جل من يقال عنهم ذلك في بيئتنا، لا يكونون فلاسفة بداية، ثم يُصابون بالأمراض العقلية تبعا لذلك، عندما يغلب عليهم وهم "الأنا" المتضخمة، فيصيرون بهذه الصفة عالة على مجتمعاتهم. ولك أن تتصور توظيف الموظِّفين لمن هذه حاله... أما في البداية، فما كان يحق لك أن تأتي بمصطلح التنوير، وهو يدل على عكسه الذي هو "التظليم" (حافظنا على الصيغة الصرفية). وأما مسألة الحداثة، فإننا لا نرى لك أثرا يُذكر في بلدك المغرب، في مقابل الحداثيين الدكانيين. والفكر الذي لا يكون منقذا للمجتمع من المغالطات المختلفة، لا يُعتبر فكرا ناجعا. نعم، أنت تقول أنك فعلت وفعلت، لكن ذلك باق ضمن دائرة ضيّقة، وهي دائرة المتفلسفين من الطلبة أو من الأساتذة الجدد، والذين هم على نهجكم، غارقون في المقارنات والتفسيرات العقيمة، والتي لا تنفعهم إلا عندما تكون "الجهات المختصة" في حاجة إلى الترويج لكونها ترعى الفكر وأهله، كما ترعى العلم وأهله، وكما ترعى الفقه وأهله، و... والحداثة عندنا، إذا جُعلت نمطا فكريا، فإن الأمر فيها يكون مغالطة كبرى؛ لأنها متضمنة لمفهوم زماني، والمفهوم الزماني محايد. نعم، لقد وصل الأمر في أزمنتنا، أن يقوم مجانين ليزعموا أن لهم مدرسة فكرية مخصوصة (كالحداثة)؛ وهو صحيح، إن أقررنا بوجود فكر للمجانين؛ وأما في غياب هذا، فلا يمكن أن نميّع المعايير الفكرية الصارمة، ونفتح الساحة لكل من هب ودب. ومن هذا الباب، قلنا نحن سابقا، بعدم صحة نظرية "الزمكان" عند إنشتاين. ومن غريب الصدف، ولا صدف، أنني تلقيت وثيقة صدرت من إحدى الجامعات التي طلب منها إنشتاين الالتحاق بها (جامعة بيرن سيلسدرشتراسه 53012-بيرن)، من طرف أخينا الدكتور ساعد خميسي حفظه الله. وجاء ضمن عبارة الجامعة، وهي تخاطب إنشتاين: [ (...) رغم أنك طرحت نظرية مثيرة للاهتمام في مقالتك التي نشرت في مجلة Annalen der Physik (النشرة الدورية للفيزياء)، إلا أننا نشعر بأن استنتاجاتك المتعلقة بطبيعة الضوء والارتباط المهم بين الزمان والمكان، هي متطرفة نوعا ما. (و)بشكل إجمالي، نحن نجد أن افتراضاتك تنتمي للفن أكثر من كونها تنتمي للفيزياء الحقيقية.]. ونحن لولا أهمية الوثيقة وارتباطها بسابق حكمنا على نظرية إنشتاين، لم نكن لنسمح لنفسنا بهذا التعريج المطيل لمقال أردناه موجزا. وعلى كل حال، فإن من لا يعلم حقيقة الزمان، لا يمكن أن يخرج عند استعمال الألفاظ المتضمنة لمعناه بصورة ما، كالحداثة هنا، بشيء يُذكر؛ وإنما سيكون حبيس ما هو شائع بخصوص ذلك في زمانه، في مجتمعه وقبل ذلك في المجتمع العالمي. وأما المسلمون، فهم في غنى عن الفكر المجرد عن الإيمان، مع الحداثة أو من دونها. ولو أنك عملت على تبيّن الثوابت والمتغيرات في التراث الإسلامي (من دون أن نجعل التقيد بالتراث شرطا في العملية)، بالنظر إلى الوجوه المختلفة للمسائل، إن كانت لك الأهلية لذلك، لكان ذلك العمل منك مفيدا ولو نسبيا... أولا، كنا نرجو منك تعريفا للأخلاق بمستوياتها؛ لأن الكلام فيها بهذا التعميم، يُعطي صدقية لمن لا يعلمون منها شيئا، وهم إما يزعمونها أو ينكرونها. نعم، إن كلامك عن الأصل الديني للأخلاق كلام جيد، لكنه يحتاج إلى تأصيل، ربما تكون قد قمت به فيما لم أقرأه لك. وعلى كل حال، فإن قراءة الكتب عندنا، ليست شرطا في نيل العلم. ولعلك قد سمعت ذلك... ودليلنا على أن كلامك عن الأخلاق عمومي، هو نزولك إلى مناقشة ما لا يُناقش. فمن نزل أسفل من حيوانية الإنسان إلى شيطانية الحيوان، كيف يُنظر في كلامه أو يُردّ عليه!... وما أراك هنا إلا متأثرا -كسائر العوام- بما تروجه وسائل الإعلام؛ وهذا لا يليق!... ثم لنلاحظ قولك "زمان الحداثة"، لنعود إلى ما تفهمه من الحداثة، وإلى ما يفهمه غيرك، من الحداثيين خصوصا. فنحن لا نرى من ضرورة لاختلاق مصطلح الحداثة عند المتأخرين، إلا لضعف عقل لديهم؛ لأن الحداثة الزمانية سارية في جميع الأزمنة، وهي لا تكون قط من شروط المفاضلة بين الأزمنة، أو بين المجتمعات المتعاقبة في تلك الأزمنة؛ وكأن المراد من اختلاق القول بالحداثة، هو إضافة معيار زائف، تنتفي به جل المعايير الأخرى، أو تضعف بحسب هوى الناظر. وهذا لا يمكن أن يندرج ضمن الفكر السليم، بل هو فكر شيطاني لا شبهة فيه. والفكر الشيطاني، لا ندري، هل حاز اهتمامكم معشر المتفلسفين، أم لا؟... نعني من أجل غرض التناول. فإن لم يكن، فاعلموا أنه قد فاتكم النظر في فكر جدير بالاهتمام، خصوصا عند من يبغي أن يُساهم في إصلاحٍ غير موهوم... أما هذا الكلام، فلا يخالفك فيه أحد؛ ولكنه يحتاج إلى تفصيل. ومن التفاصيل: هل يصح الإيمان الكامل دائما بغير إمام؟... وما القول في الحركات الإسلامية التي تجعل من الإيمان تخصصها، وهي أحيانا (أو على الأقل من بعض الوجوه) فاقدة له؟... كل هذا، لأننا لا نظنك تؤسس لـ "إيمان" فكري؛ وإلا فإنك ستكون هادما للإيمان لا بانيا له. وهذا لأن الإيمان مستغن عن الفكر، خصوصا مع جواز التقليد في الجانب الفقهي العملي. وهذا الذي نقول، هو ما جعل الأميين والبله يبلغون درجات كبرى من الإيمان أحيانا. وأما إحسان الإيمان، فهو فوق تصور العقل الفلسفي، فلا داعي للخوض فيه. ولو كان الفلاسفة يُنصفون من أنفسهم، لاعتبروا العقل الرباني في مقابلهم على الأقل؛ ولكن رادارهم لا يلتقط موجاته!... وقد كان يكفيهم هذا، في الدلالة على قصورهم؛ ولكن الخلط الذي "أبدعه" الخالطون، يوهمهم بجدوى فكرهم في معرفة الحقائق، وهيهات!... أولا، إن الأخلاق أسسها الله ورسوله، ولا دخل لك أو لأحد غيرك في تأسيسها؛ إلا إن كنت تقصد التأسيس النظري في عالم الأوهام. وحتى هذا، قد سبق فيه غيرك؛ فلا يصح لك أن تدّعيه. ولكنني أراك قد أصابك داء المتفلسفة... وأما صلة الإنسان بالعالم، فهي صلة توحّد، بما أن الإنسان جزء من العالم؛ إلا إن كنت تقول بغير هذا!... وبدل أن تنظّر لـ "الأمانة"، كان يجدر بك أن تعرف عبودية الإنسان والعالم؛ إن لم تكن تجد حرجا في ذلك أمام متفلسفة الغرب. وأما الحقوق والواجبات، فهي مسألة واسعة في الشريعة الإسلامية؛ بل هي أوسع من الشريعة بحسب ما يعلمها الفقهاء، عندما نُدخل في الاعتبار كل المراتب الدينية. وأما نفي القول بسيادة الإنسان على العالم مطلقا، فهو إنكار للخلافة الإنسانية عن ربه؛ وهو بالتبع ضرب للدين في مركزه، ما دامت الخلافة تشمل النبوة كما تشمل الخلافة بالاصطلاح. وهذا الذي نقوله، هو ما يكون سببا في عودة الإنسان (بالمعنى العام) إلى إنسانيته. أما المتاهات التي تُدخلونه أنتم فيها، فإنها تزيد من عذابه الدنيوي، وقد تكون سببا في عذابه الأخروي. وأما ربط الواقع بالقيمة، فهو انفعال للفكر الغربي؛ ومن كان منفعلا له، فإنه يكون على فكر غربي ولو جزئيا؛ وهذه مسألة أخرى، لا يتسع الحيّز لها الآن. ولكن هذا الإضراب، لا يمنع من أن نذكر ما يكون بمثابة دلالة على ما لم نذكر، ولسنا نعني إلا الصلة بين العالم من حيث هو كتاب، والمعاني التي ينبغي أن يوصل إليها بالنظر إليه؛ وهو ما يدخل ضمن مفهوم "القيمة". وحتى يزداد القارئ قربا مما نقول، فعليه ألا يغيب عنه معنى الآية في الكتاب؛ فإذا عرف الآية، ساغ له أن يبحث عما هي عليه آية. وهذا بحر لا ساحل له؛ ندل عليه ولا نلجه الآن... أما نظرية الائتمان التي تقول بها، فلا نراها نحن إلا من آثار التخمة الفكرية لديك؛ أي هي عندنا لغو فكري. وأما المفاضلة في المعنى بين العقد والميثاق، فهي تعود إلى الطرفيْن، لا إلى اختلاف اللفظ. فإذا كان العقد بين العباد وربهم، فهو الميثاق؛ وأما إن كنت تقصد من العقد العقدَ الاجتماعي الذي بين الحاكم والمحكوم، بالمعنى الأوروبي، فهذا لا يصح أن تُقابله بالميثاق الديني، وإن كان الظاهر أنك تفاضل، بسبب نزوله في المرتبة، ثم لأنك لم تُبيّن وجه المفاضلة، سوى أن هذا وردت به الكتب المنزلة، والآخر وليد العقل الإنساني. وهي مغالطة منك كبرى، نشأت عن زللك باللغة؛ وهو كثير عندك. والسبب هو، لأن اللغة تؤدّي معاني عامة، وتؤدّي معاني اصطلاحية كما تعلم؛ لكن المعنى الاصطلاحي يختلف بين الاصطلاح العام، والاصطلاح الرباني. ومن هنا كنا نقول نحن، بعدم إمكان ترجمة الوحي، لا لفظا ولا معنى. وأما كلامك عن الفصل والوصل في هذا السياق، فهو نسج على غير شرط؛ وهو من خصوصيات الصوفية. فإن كنت تزعم تصوفا، بهذا الإقحام، فإنه لا يثبت لك؛ بل هو على العكس من ذلك، استهانة بلغة الصوفية المعظّمين؛ وكلامك هو الذي يصير أدنى، عندئذ؛ لا كلام العلمانيين. ولو كنت تقصد النيل من العلمانيين، فكان ينبغي عليك سلوك الفكر المجرد، لتحتكم إلى معاييرهم ذاتها، بدل هذا الهروب المقنّع... يعلم الله أن الرد عليك، وأنا أعتبرك الأخ الأكبر، شاق علي. ولكن السياق الذي خرجت فيه تتكلم، أدخلك في صراعات أيديولوجية وسياسية، قد تكون أوسع دائرة مما تعلم؛ وأنا أعلمك غير حاذق في السياسة. لذلك رأيت من واجبي أن أكلمك بما يقتضيه الموقف. حفظك الله دكتورَنا من كل سوء ومكروه، وجعلك مهديا هاديا، ووفقك لكل ما يقربك من ربك من حال أو قول أو عمل. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الهادي، وعلى آله مصابيح الهدى، وصحابته المهديين، وعلى كل من اهتدى بهديه إلى قيام الساعة. والحمد لله رب العالمين. كتبه العبد الضعيف: عبد الغني العمري الحسني عفا الله عنه. بتاريخ: 17 و18 مارس 2024. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.