اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/02/14 القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (17).1. الفصل السادس عشر: شيء من الإسكاتولوجيا الإسكاتولوجيا، هو علم آخر الزمان؛ وهو إن كان معلوما في بعض جزئياته، لليهود والنصارى، فإنه يكاد يكون مخصوصا بالأمة المحمدية. وذلك لأن الأمة المحمدية هي آخر الأمم في الترتيب القدَري الإلهي، وبالتبع فهي أقرب صلة بالوحي الإلهي، وأكثر علما به؛ من كون خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم، قد أوضح من أمور آخر الزمان، ما لم يُسبق إليه. وكيف لا، وهو عليه السلام، القائل: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ، كَهَاتَيْنِ! (وَقَرَنَ بيْنَ إِصْبَعَيْهِ: السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى)»[1]. فهو عليه السلام أولى الناس بالكلام عن الساعة، كما هو واضح. وأما أمته، عليه السلام، فهي آخر أمة، ليس بينها وبين الساعة شيء؛ لذلك هي معنية بها وبعلمها. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّما أَجَلُكُمْ في أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الأُمَمِ، ما بيْنَ صَلَاةِ العَصْرِ إِلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَإنَّما مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا، فَقالَ: مَن يَعْمَلُ لِي إِلى نِصْفِ النَّهَارِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ إلى نِصْفِ النَّهَارِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؛ ثُمَّ قالَ: مَنْ يَعْمَلُ لي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلى صَلَاةِ العَصْرِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلى صَلَاةِ العَصْرِ علَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؛ ثُمَّ قالَ: مَنْ يَعْمَلُ لي مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ علَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ؟ أَلَا، فَأَنْتُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، علَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلَا لَكُمُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ. فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً! قالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شيئًا؟ قالوا: لَا. قالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ...»[2]. وهذا الحديث، يدلّ على أن الدنيا يوم واحد عند الله، كما أن البرزخ يوم واحد، وكما أن الآخرة يوم واحد، غير أنه لا ينتهي. ولقد اختصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمم في ثلاث، لأن الأمم السابقة على اليهود مندرجة فيهم اعتبارا، من أجل اختصار الكلام؛ وهذا، لأن الوقت بين الصبح والظهيرة طويل نسبيا. فختم اليهود النصف الأول من اليوم الدنيوي، واقتسمنا نحن والنصارى النصف الثاني منه. فكان وقتنا من العصر إلى المغرب، والمغرب هنا هو قيام الساعة. فدل هذا على أننا معنيون بأحوال آخر الزمان أكثر من غيرنا، مع مصاحبة اليهود والنصارى لنا وجودا، لا حكما؛ بما أن زمنيهما التشريعييْن قد انتهيا، كما هو جلي من ألفاظ الحديث. وأما القيراط فهو الجزء من الدينار أو الدرهم، ومعنى "قيراط قيراط"، أي لكل عامل قيراط؛ ومعنى قيراطيْن قيراطيْن"، أي لكل عامل قيراطان. وواضح أن الأجر مضاعف، كما ورد في الحديث لفظا. وقد ردّ الله على المعترضين من اليهود والنصارى، بأنه قد جازاهم ما وعدهم، ولكنه يختص بفضله من يشاء سبحانه. وما نالت الأمة المحمدية هذا الفضل، إلا لأنها تفضل الأمم الأخرى من كونها تنتسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، في حين تنتسب الأمم الأخرى إليه، بواسطة أنبيائها. فنحن في مقابلة الأنبياء، لا في مقابلة الأمم!... ومن هنا، فإنه يكون كفر كلّ كتابي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، متضمنا لكفره بنبيه (رسوله)، حتما؛ علم أم لم يعلم. ويتضح من كلامنا، أن الوجود يدور على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه محبوب الله وسرّه الذاتي. فكل من اقترب إليه أو اتخذ سببا عنده، فإنه ينال حظا من العناية الإلهية الخاصة. وأما إن كان امرؤ يتساءل عن إناطة تفضيل الأمة المحمدية في الأجر بالمشيئة، فليعلم أن كل شيء عائد إلى المشيئة؛ وإنما اختُصّت هنا بالذكر، حسما للجدل، ليس غير... وسوف لن نجمع كل ما يتعلق بأحوال آخر الزمان هنا، لأن الكتاب لا يحتمل؛ ولكن سنذكر ما نراه من الأحاديث النبوية أصلا في المسألة، وسندخل في ذلك بشيء من التفصيل، بإذن الله، حتى يُحسن الناس التنزيل على واقعهم: وقبل أن نبدأ في النظر إلى مفاصل الكلام النبوي الشريف، ينبغي أن نلاحظ أن الأمر يتعلّق في مجمله -وهو صدر الكلام- بحال أمة الإسلام؛ لأنها المعنية الأولى بالوحي، وإن كانت العلامات الأخيرة مشتركة وعامة. ومن ينظر إلى الاحتقان الموجود بين الشيعة وأهل السنة، والذي يُغذَّى منذ قرون بالخرافة من الجانبيْن، يعلمْ أن الأمر سائر نحو مواجهة يرى كل طرف نفسه الطرف المـُحقّ فيها، ومن هنا كانت الدعوة واحدة؛ وهو -كما ذكرنا في كلام سابق- من قتال الباطل للباطل. ونعني أن القتال منوط بالباطل الذي لدى كل جانب، لا بالحق الجامع بينهما. وأما معاداة الولايات المتحدة لروسيا، فإنها خادمة للعداوة الداخلية للأمة الإسلامية فحسب. وأما إن سأل سائل: فلمَ لم يكن الحق معاديا للحق، كما يكون الباطل معاديا للباطل؟ فإننا نجيب: لأن الحق واحد، ووحدته دالة عليه؛ بخلاف الباطل الذي هو متعدد، والتعدد مفض إلى العداوة عند اشتداد الخلاف. وهذا هو أصل ما يشير إليه قول الله تعالى: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡ یَعۡدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ فكثّر الظلمات التي هي الباطل، وأفرد النور الذي هو الحق، وجعل هذه الطريقة في المقابلة دليلا على وحدانية الله، الذي لا ينبغي لعاقل أن يعدل به (أي أن يجعل له ندّا مساويا). وهنا ينبغي أن نذكر الدعوة التي لم يستجبها الله لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، والتي هي متعلقة بأن لا يجعل بأسها بينها. فإن تقرر هذا الأصل، فإنه علينا أن نعلم أنه لا بد أن يبلغ منتهاه في الشدة، ولن يكون ذلك إلا قُبيل الساعة، وإيذانا بنهاية عمر الدنيا([4]). ومن كان من ذوي الألباب، فإنه سيعود إلى المضاهاة بين العالم والإنسان التي أثبتناها في فصول سابقة، ليعلم أنه كما لعمر الإنسان الفرد نهاية؛ فكذلك لعمر العالم نهاية؛ ونهايته هي المسماة بالاصطلاح القرآني "الساعة". وقد قال الله تعالى فيها: {إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَـَٔاتِیَةٌ لَّا رَیۡبَ فِیهَا وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یُؤۡمِنُونَ} [غافر: 59]؛ ومعنى لا يؤمنون مزدوج: أحد وجوهه، لا يؤمنون مع ورود ذكره في القرآن؛ والثاني، لا يؤمنون بما تستنتجه العقول السليمة من حتمية نهاية العالم. وحتى لا يُفهم كلامنا على غير وجهه، فلْننبه إلى أننا لا نقصد بنهاية العالم، نهاية الحياة، فنكون موافقين للمعاني المرادة للكفار؛ ولكن نقصد نهاية عالم الدنيا، الذي هو المرحلة الأولى للحياة؛ وذلك عند انتقال جميع أفراد البشرية بالموت، إلى عالم البرزخ، الذي هو العالم الثاني الأوسط، بين الدنيا والآخرة. وإن عالم البرزخ يختلف عن عالم الدنيا المعروف بعموم التقييد فيه، وهذا يعني أنه (البرزخ) أكثر اتساعا من عالم الدنيا، وإن كان في نفسه ضيّقا بسبب البرزخية نفسها، التي هي كالخط الفاصل بين فضاءيْن، والتي تدل على أنه فاصل وجامع بين عالميْن. وسيبقى الناس (ومعهم الجن) في البرزخ إلى أن تنتهي مدته؛ ثم يغادره أهله إلى عالم الآخرة الذي سيخلقه الله، ليكون مقرا أبديا للمكلفين ومن معهم من غيرهم من المخلوقين. غير أن الآخرة تختلف عن البرزخ بعدم نهائيتها، وبكونها المرحلة المكتملة للحياة. يقول الله تعالى: {وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ} [العنكبوت: 64]؛ الحيوان: أي الحياة الحق. ولقد وصف الله الحياة الدنيا في هذه الآية باللهو واللعب، ليدل على نسبية الأمور فيها، التي تكون بالمقارنة إلى إطلاق الآخرة مقاربة للصفر. واللهو واللعب في الأفعال، هو العبث الدال على مقاربة الصفر في القيمة؛ غير أن لفظ العبث، الذي يُفهم منه شبه انعدام قيمته، يدل من جانب آخر، على انعدام الحكمة أيضا. والله سبحانه، منزه عن العبث، وهو القائل تعالى: {أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ عَبَثًا وَأَنَّكُمۡ إِلَیۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وبهذا، يتضح أن الحياة الدنيا لهو ولعب بالنظر إلينا، وعند اعتبار أحوالنا في الآخرة؛ لا في علم الله الذي يتنزه فعله عن العبث سبحانه. وإن كان الناس على علم بالدنيا بسبب ذوقهم لها، فإننا قد ذكرنا عن البرزخ أنه أكثر اتساعا منها نسبيا؛ وذلك لأنه محل بداية التنعيم والتعذيب، المنوط في ظاهر نسبته بالقبر، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الْقَبْرُ إِمّا رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النّارِ.»[5]. وهو يُشير إلى أن الجنة رياض، وأن النار حفر. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما بيْنَ بَيْتي ومِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي علَى حَوْضِي.»[6]؛ ويقول الله تعالى، في معرض امتنانه على المؤمنين: {وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ} [آل عمران: 103]. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القبر أيضا: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجا (العبد) مِنْهُ، فَما بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَما بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ.»[7]. وكل الأخبار الواردة عن القبر، لا تدل إلا عن كونه برزخا؛ أي محلا لنتيجة أعمال الدنيا، ومقدّمة (عيّنة) لأحوال الآخرة. ولا يطمع أحد أن يعلم أحوال القبر من الدنيا، لأن البرزخ بالنظر إلى عالم الدنيا غيب، لا يُطلع الله عليه المـُصطفيْن من عباده إلا كشفا. وأما أخذ العوام لمعنى القبر على القبر الترابي، فهو من باب تسمية الشيء بسببه. وبهذا، يبقى القبر المعهود، بابا ومدخلا إلى القبر الغيبي فحسب... ولنعد إلى ما كنا بصدده من مقارنة بين الدنيا والبرزخ والآخرة، حتى يخرج القارئون لكلامنا بما ينفعهم في آخرتهم بإذن الله. وقد قلنا عن الدنيا إنها محل التقييد بالنظر إلى البرزخ؛ لكنها أيضا بالنظر إليه محل الاختلاط؛ فهي لا تصفو لأحد من الأبرار أو من الأشرار. فالأبرار لا بد لهم في دنياهم من أن يصيبهم السوء ولو بقدر ما، والأشرار لا بد من أن ينالهم من الخير، ولو بقدر ما؛ أما البرزخ، فإن الأحوال قد بدأت فيه بالانقسام، بحيث ينفصل فيه المؤمنون عن الكافرين، والمطيعون عن العاصين. وأما الآخرة، فإنها محل الانقسام التام، بانقسام الدار؛ فالآخرة ليست آخرة واحدة إلا في الاعتبار العام، وإلا فإنها آخرتان على التحقيق: إحداهما الجنة والثانية النار. والجنة في حق المؤمنين هي دار الإطلاق، عند مقارنتها بأحوالهم في دنياهم وبرزخهم؛ وأما أهل النار فهم أهل التقييد التام، أو لنقل هم أهل إطلاق التقييد في المقابل (نهاية تقييد التقييد). كما أن الجنة هي مظاهر أسماء الجمال كلها، المعلومة من الدنيا، والتي سيتجلّى الله بها لعباده الأخيار في الآخرة، إتماما لنعمته عليهم؛ في حين أن النار ستكون محلا لتجلّي أسماء الجلال كلها، المعلومة من الدنيا، والتي سيتجلّى الله بها على عباده الأشرار، من باب زيادة العذاب عليهم وإعلاما لهم بطلاقة قدرته سبحانه. ومن لم يعلم الآخرة على هذا الانقسام التام، والفصل العام، فإنه لن يعلمها على حقيقتها. وأما ما يتعلق فيها بمدة الحساب، فإنه بالمقارنة إلى ما لا نهاية يبقى مساويا للصفر؛ ولا اعتبار له إلا في عقول المـُحاسبين بالنظر إلى أحوالهم فحسب. ومن عاد إلى القرآن، فإنه سيجده بالكلام عن أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، يُرسّخ هذا المعنى؛ لكن من بداية إدراكه من الدنيا عند الاختلاط، لمن كان على الصراط المستقيم. أما من بقي مشتتا، لا يعلم من حقيقة الدنيا شيئا، فليعلم أنه ما لامس معاني القرآن!... وهنا ينبغي أن نتوقف عند ما يُسمّيه البعض "العلوم الدنيوية"، كالفيزياء وغيرها، ولنسأل: هل أصحاب هذه العلوم يعلمون الدنيا؟ فنجيب: لا؛ فيأتي السؤال الثاني: فما الذي يعلمونه، وهم على علم كما ذُكر؟ قلنا: هم يعلمون أوهاما يمدّ لهم الله فيها، عند انصرافهم عنه؛ وهذا كله من قدرة الله. ولنسأل سؤالا معاكسا، لنتحقق مما ذكرنا: فهل يبقى لأولئك العلماء من علم، بعد حلول الموت بهم، المفني لعالمهم؟ فنجيب: لا يبقى لهم منه شيء. والآن: من لا يبقى معه شيء مما كان يظنه علما، هل يُسمى ما كان عليه علما حقيقة؟ والجواب بالتأكيد هو: لا. وإن نحن عدنا إلى وصف الله لهذه الحال، فإننا سنجده في قوله تعالى: {وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَعۡمَـٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِیعَةٍ یَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَاۤءً حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَهُۥ لَمۡ یَجِدۡهُ شَیۡـًٔا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ} [النور: 39]. والعلوم التي كنا بصددها، هي من بين أعمال الكفار التي لن يجدوها شيئا. ونحن عندما نجد المسلمين منبهرين بحال الكفار، ونجدهم معظمين لأحوالهم، فإننا نعجب من أمرهم: كيف يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!... وكيف يتطلعون إلى الظلمة، ويزهدون في النور؟!... ولكنه آخر الزمان، الذي تقتدي الأمة المحمدية فيه بالأمم الكتابية!... ولكنّ الناس حتى يرضوا عن أنفسهم، وتهنأ لهم دنياهم، فإنهم لن يقبلوا أن يُقِرّوا على أنفسهم بأنهم بعداء عن العلم، خصوصا إن كانوا معدودين من العلماء عند العامة؛ لذلك سيلجأون إلى التلبيس في الأقوال والأحوال، ليبرهنوا لأنفسهم بأنهم علماء؛ وليس ذلك إلا بدراسة المقولات العلمية المختلفة، وباختيار ما يُناسب منها لحالهم، ليجعلوه عقائد يعملون عليها. وإن أخص صفة لهؤلاء العلماء الكذبة: جراءتهم على الله ورسوله، بسبب ظلمة قلوبهم؛ وإعجاب الواحد منهم بنفسه، إن أحسن تركيب جملة غير مفيدة؛ وانتصارهم لأنفسهم أمام مجادليهم بكل ما يستطيعون. وللقارئ الآن أن يسأل: كيف سيكون حال العوام الذين يكونون أتباعا لعلماء السوء؟ فنجيب: ألا يرى الناس كيف صيّرهم علماؤهم أحزابا وشيعا، قابلين لخوض المعارك من أجل "شيوخهم"، بينما لا تتحرك لهم شعرةٌ غيرةً على حرمات الله!... ولقد كانت هذه الحال، من أول ما لاحظنا على بعض علماء دمشق، عندما نزلنا بها؛ فعلمنا أن الخطب عظيم، وأنه لا محالة جالب لبلاء شديد؛ فكان من ذلك البلاء ما كان، وعسى الله أن يتوب على من تاب، ليعودوا إلى صحيح الدين... وزلازل الظاهر، لا تقع حتى تقع زلازل الباطن، المتعلّقة بالقلوب؛ وهي الفتن المعروضة عليها. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْداءُ؛ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَها، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حَتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا، فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دَامَتِ السَّمَاواتُ وَالْأَرْضُ؛ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا؛ إِلَّا ما أُشْرِبَ مِنْ هَواهُ.»[11]. وهذا يُبيّن أن أثر الفتن معنوي في أصله، وأن ما كان من الفتن حسيا، لا بد أن يعود إلى معناه؛ لأن نهايتها إلى القلوب وأثرها فيها. وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرض الفتن على عموم القلوب، هو لتحقّق الامتحان؛ والامتحان لا يكون امتحانا إلا إذا عم. فإذا عمّ انقسم الناس بإزائه صنفيْن، لا ثالث لهما: صنف يرفضها بما جعل الله فيه من هداية، فيصير أبيض خاليا من السوء، فيثبّته الله على حاله، بحيث لا تضره الفتن بعد ذلك أبدا. وقلب يتشرّبها، فيُصيبه من سوادها؛ حتى إذا اشتد سواده، أُصيب بالعمه، فلا يعود يميّز بين معروف ومنكر؛ وهذا هو الذي يصدق عليه وصف المفتون حقيقة، من كونه سقط صريعا لها. وقد صار صنف المفتونين في زماننا كثرة، يوالي بعضهم بعضا، فيتوهمون بذلك أنهم على الصواب. ورأينا صفتهم البارزة، وهي عدم معرفتهم للمعروف، وعدم إنكارهم للمنكر؛ فهم يسيرون وفق أهوائهم، وكأن الله لم يُنزل شيئا مِن عنده مِن الهدى. وهؤلاء لا يعتبرون بفتنة، بل يصيرون من هلكاها، إلى أن يأتي عليهم اليوم الذي تُغلق فيه أبواب التوبة في وجوههم. وحتى يميّز الناس حال السوء، فعليهم أن لا يتوهموا أن المفتونين سيظهرون في صورة المجانين الذين لا يعتنون بمظاهرهم؛ لأنهم سيكونون مجانين، لكن من جهة العقل وحده. وأما من جهة المظاهر، فإنهم سيبدون محترمين، ومن أصحاب المكانة في مجتمعاتهم، ليفتتن بهم غيرُهم. وأما تواطؤهم فيما بينهم على الباطل، حتى يجعلوه عقلانية يشترطونها على غيرهم، فهو من بلوغهم النهاية في السوء، لا من كونهم معتبرين عند الله وعند المؤمنين!... وإن أغلب ما يقع من الزلازل، يكون نتيجة للخوض في العقائد بغير علم؛ وقد رأينا في زماننا سفهاء يتكلمون في كل ما يعرض لهم، فيعلقون فيما يتقحّمون، كما يعلق الذباب في خيوط العنكبوت؛ ويلحق بعضهم ببعض في العلوق، حتى يصيروا جماعة من الهلكى يحومون حول مقولة بعينها، يجعلونها مذهبا. ونحن رغم نهيِنا عن خوض العامة في العقائد وتفاصيلها، قصد تجنيبهم السوء، فإن كثيرا منهم وجدناهم مصرّين على ما هم عليه؛ ولهم أئمة في هذا السوء، يشدون من عضدهم ويُثبّتونهم في الفتن. ولو رمنا ذكر كل ما سمعناه من المنكرات، لاحتجنا في ذلك إلى كتابة العديد من المجلّدات في هذا المجال وحده... ومن معاني ظهور الفتن، غلبتها؛ كقولنا: ظهر المسلمون على الكافرين، إذا غلبوهم. وهذا يشير إلى اشتداد الفتن، إلى الحد الذي لا يبقى معه أمل لأحد في النجاة بحسب ما يُعطي القياس؛ ولكن كما قلنا، العبرة في مثل هذه الأحوال، لا باستطاعة الإنسان أو عدمها، ولكن بصدق اللّجوء إلى الله فحسب. وكل هذا، يحدث في الدنيا، بسبب اقتراب الساعة التي هي بدايةٌ للآخرة. ونعني أن هبوب ريح الآخرة على الدنيا، يجعل الأمور تنفعل لأحكام الآخرة، أكثر من انفعالها لأحكام الدنيا، بسبب القرب. فمثلا، كان يُعوّل في السابق من أجل النجاة على إحسان الأعمال والاجتهاد فيها؛ أما عند ظهور الفتن فإن التعويل يصير على الله وحده، ومن دون نظر إلى سبب؛ وإن كانت الأسباب لا ترتفع بالكلّيّة. وهذا الباب من أبواب العلم مستقل، هو في العلوم أيضا كالبرزخ، وفيه من الأسرار التي لم نر لها ذكرا لدى علماء الدين المترسّمين، ما الله به عليم؛ ولولا مخافة الإطالة، لجئنا من القرآن ذاته، بما يؤكّد المرة بعد الأخرى ما ذهبنا إليه. وعلى كل حال، فليس المطلوب من المؤمن الآن فهم ما نقول، ولكن المطلوب العمل به؛ لأن الوقت لا يتسع للفهم، وقد صار تقارُب الزمان في تزايد... ولن يكثر القتل، حتى توجد أسلحة "الدمار الشامل"، التي لا تقتل الواحد بعد الواحد؛ وإنما قد تمحو الألوف في الضربة الواحدة، وربما الملايين؛ كما هي الحال مع الأسلحة النووية. وهذا يعني، أن ظهور هذا الصنف من الأسلحة، هو نفسه علامة من علامات الساعة. وأما توهّم الدول (أو الأشخاص) الذين يحوزون هذه الأسلحة الفتاكة، بأنهم على سبب من أسباب النصر، فهو بعيد. وهذا، لأن ارتداد آثار هذه الأسلحة على أصحابها، يكاد يكون متيقَّنا. ولو نظرنا إلى بناء أغنياء العالم اليوم للملاجئ تحت الأرض، بالمواصفات التي يُتوقّع أن تحميهم من الانفجارات النووية، لأزمنة طويلة (عشرات السنين)؛ لعرفنا الاتجاه الذي تتجه إليه البشرية. وببلوغ أثر هذه الأسلحة الفتاكة، إلى الهواء والماء والتربة، فإنها تكون قاتلة لكل حياة تبلغها؛ وهو ما سيجعل الواقع يتغيّر تغيُّرا كبيرا، إن كان ما يزال في عمر الدنيا بقية... وإن بلوغ تطور العيش المادي، أطوارا تُصبح الحياة معه، شبيهة بحياة الجنة من حيث التيسير وقرب قضاء المآرب، سيجعل الناس يتوهمون أنهم متحكمون في الدنيا؛ وهذه هي علامة اقتراب فنائها. يقول الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا یَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَـٰمُ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَاۤ أَنَّهُمۡ قَـٰدِرُونَ عَلَیۡهَاۤ أَتَىٰهَاۤ أَمۡرُنَا لَیۡلًا أَوۡ نَهَارًا فَجَعَلۡنَـٰهَا حَصِیدًا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمٍ یَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]. وأما الحمقى الذين يظنون أن "تقدم" البشرية لا نهائي؛ وأنه منوط بالتقدم في العلوم المادية وحدها، بالنظر إلى الزمان، فإنهم أقل قدرا من أن يُلتفت إليهم. وقد يُقبل هذا النظر من غير المميّزين من المراهقين، عندما يُفتنون بأساتذة يُصرّون على تعليمهم ما يُحرّف إدراكهم؛ وأما إذا بلغوا سنّ التمييز، فإن أغلبهم يعود إلى صحيح الإدراك، بسبب عدم خضوع أمور الدنيا المختلفة في عمومها وفي تفاصيلها، للتنظيرات المـُختزِلة والقاصرة، والتي لا يكون أصحابها إلا من أهل الكفر؛ أي من أهل عمى البصيرة. ولقد صار عدم تبيين هذه الحقيقة الواضحة، سببا من أسباب الفتن في بلاد المسلمين، عندما سكت العلماء ونطق الجاهلون... ومن جهة ارتباط الأمور بعضها ببعض، فإن أحوال الناس تكون قد انعكست على التمام، بحيث يُصبح المعروف منكرا، والمنكر معروفا، كما أسلفنا؛ وهذا هو ما ينتج عنه انقلاب حركة دوران الأرض حقيقة. فإذا وقع ذلك، أدرك الناس حقيقة حالهم، فكان نتيجة ذلك طلوع شمس إيمانهم، من مغرب كفرهم. وهو أوان إغلاق باب التوبة، كما أخبر الله تعالى بقوله: {هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَوۡ یَأۡتِیَ رَبُّكَ أَوۡ یَأۡتِیَ بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَۗ یَوۡمَ یَأۡتِی بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَ لَا یَنفَعُ نَفۡسًا إِیمَـٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِیۤ إِیمَـٰنِهَا خَیۡرًاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوۤا۟ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام: 158]. وإن كون تغيّر اتجاه دوران الأرض سببا في إيمان الكافر، هو من انكسار حجاب العادة في عينه؛ فإذا ارتفع حجاب العادة، أبصر الناس الأمر على حقيقته؛ وهذا يُشبه ما يقع عند رؤية الناس للمعجزات. لكن الفرق، هو أن مخالفة العادة من دوران الأرض، يكون مشهودا للجميع، فيعطي نتيجة عامة في الناس، وهي إيمان مَن لم يكن قد آمن. ولكن الله قد أخبر بأنه لا يقبل إيمان المؤمن يومئذ، لأنه سيكون إيمانا عن شهود؛ والإيمان لا يكون إيمانا إلا بالغيب، وهو محل الابتلاء. يقول الله تعالى: {ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ} [البقرة: 3]. وهذا هو سبب ربط الله لإتيان الآيات، بعدم نفع الإيمان، في الآية السابقة. وأما قوله تعالى: {لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِیۤ إِیمَـٰنِهَا خَیۡرًاۗ}، فيعني لا ينفعها إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل، الإيمان المعلوم الآن؛ وكانت قد عملت بمقتضى ذلك الإيمان خيرا يُحسب لها. وهذا يعني أن حال المؤمنين لا يتغيّر عند طلوع الشمس من المغرب، لأنهم سيزدادون إيمانا، ويزدادون أعمالا صالحة. وإن عدم قبول إيمان الكافرين عند طلوع الشمس من المغرب، يمنع من تسوية حال المؤمن بحال الكافر؛ وذلك لأن إيمان الكافر لو قبل، فإنه سيجعله مندرجا في جماعة المؤمنين، وقد كان مفارقا لها. وهذا من باب قول الله تعالى: {أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ كَٱلۡمُجۡرِمِینَ . مَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ} [القلم: 35-36]. ومن هذا الباب، ينبغي على الناس أن يعلموا أن كل من يموت يؤمن، عند معاينة ما كان غيبا في سابق عهده. ولكن الله لن يقبل إيمانه، وبالتالي لن تتغير حقيقته عند اطلاعه على الغيوب الأخروية. ونستطيع القول بأنه لا يَرِد الآخرة إلا مؤمن: مؤمن إيمانا صحيحا، وافق فيه حاله الآخر أول حاله؛ ومؤمن عن اضطرار، بسبب رفع كثير من الحجب. وأهل النار أنفسهم، لن يبقى فيهم كافر واحد؛ ولكنهم مع ذلك سيُعذّبون عذابا أليما. ومن كان قد فهم ما نرمي إليه، فإنه سيعلم أن إيمان الاضطرار، لا يُسمّى إيمانا إلا مجازا؛ وإلا فإن صاحبه ما يزال على حقيقته التي كان عليها. ولو تصورنا، أن أهل النار يبقون على كفرهم، فهل يظن ظانّ أنهم سيتألمون ألما شديدا؟!... لا!... لأن كفرهم حينئذ سيرفع عنهم جُلّ العذاب، عند عدم علمهم لما فاتهم من الأحوال السَّنيّة ومن الأعمال الصالحة. وهذا الذي نذكره، من العلم بالآخرة، الذي يُنال من الدنيا، والذي سبقت منا الإشارة إليه... (يتبع) [1] .أخرجه مسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.