اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2023/11/21 القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (7).4. الفصل السادس: صهيونيات متعاضدة -4- (تتمة) قد يرى بعض الناس تناقضا بين ما أقررناه من كون الأيديولوجيا عند اليهود والنصارى، قد حلّت محلّ الدين، وما سنقوله هنا عن تأدلج شطر من المسلمين؛ مع أننا حافظنا على طول الخط، على القول بضرورة التفريق بين الدين مع الشرائع المنسوخة (اليهودية والنصرانية)، والدين الحق مع الشريعة الخاتمة (الإسلام). وكنا قد مهّدنا للكلام عن التأدلج المخصوص بالمسلمين في العديد من كتاباتنا، بأمور على رأسها: ولا بد أن نشير قبل الدخول في التفاصيل، إلى أن تتبع الصهيونيات من حيث تفاصيلها، يخرج عن تناولنا؛ لذلك سنقصر الكلام على نموذجين كبيريْن هما: "الصهيونية الوهابية" و"الصهيونية الإخوانية"، لعظيم أثرهما على المسلمين. ولا بد أيضا، من التأكيد على أننا لم نسارع إلى انتقاد هذين التوجهيْن؛ ولكن أمهلنا أصحابهما سنين طويلة كنا ننصحهم بما نستطيع، وكانوا يُصرّون على التمادي، حتى لم يدعوا لنا مناصا من فضح ما هم عليه؛ والله أعلم بما نضمر لهم ولسواهم من المسلمين ومن عموم الناس، من محبة لخيرهم... ولنبدأ بالصهيونية الوهابية: ا. الصهيونية الوهابيّة: وسواء صحّت نسبة الكتاب المنشور بعنوان: "مذكرات مستر همفر"، إلى أحد جواسيس بريطانيا في ذلك الوقت، أم لم تصح؛ فإن الظروف والملابسات، ما كانت لتختلف كثيرا عما جاء فيه. وهذا، لأن بريطانيا التي كانت تُعِدّ اليهود لإنشاء إسرائيل في ذلك الزمان، ما كان لها أن تفعل ذلك، من دون عمل على إسقاط الخلافة الإسلامية في المقابل. وما كان لتلك الخلافة أن تسقط، من دون عمل العاملين ممن سيرد ذكرهم، على إسقاطها. وقد شاء الله للخلافة أن تضعف قبل السقوط، كما هي سنة الله في خلقه، حتى صار الأوروبيّون يسمونها حالَ ضعفها "الرجل المريض". وإذا كانت الخلافة العثمانية رجلا مريضا، فهذا يعني أن بريطانيا لن تدّخر وسعا في الإجهاز عليها، بالنيابة عن كل الحاقدين. ولقد كانت الدعوة الوهابية، كأخواتها من دعوات الضلال، من الأسباب الكبيرة والمباشرة في هذا الهدم، رغم أنها ستزعم الإصلاح من باب التعمية والتورية. وحتى يسهل على ضعاف العقول تمييز ما نقول، فإننا نسألهم: أليس الشيطان هو سبب ضلال كل الضالّين؟ فإن قيل: بلى، قلنا: أتعهدونه مرة جاء إليكم يدعوكم وهو مـُقرّ بأن فعله إضلال منه لكم؟ فإن قيل في الغالب: لا؛ قلنا، فلم يبق إلا أنه يدعو أهلَ الدين إلى الضلال، بما يزعم لهم أنه تصحيح وإصلاح؛ وهو ما كنّا نعنيه. ومن هذا الباب يأخذ اللعين علماء الدين من الأمم الكتابية على الخصوص، ليجعلهم متمسّكين بما هم عليه من ضلال؛ ثم ليستعملهم في تثبيت العامة من أممهم على ذلك. وله -لعنه الله- من الوسائل والأساليب، ما لا يكاد يُحيط به عالم. وكما سبق له أن أضل اليهود وأضل النصارى، فإنه الآن يُضل المسلمين، من استطاع أن يصل إليهم؛ لأن الربّانيّين قد أخبره الله عدم تمكينه منهم بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِی لَیۡسَ لَكَ عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنٌ} [الإسراء: 65]. والفقيه لو كان يُريد الإنصاف من نفسه، فعليه أن ينظر: إن كان الشيطان يتسلّط عليه، فليعلم أنه ليس من خواص عباد الله. فإذا أضل الشيطان الفقيه، وتصدّر هو بعد ذلك يؤمّ الناس إمامة دعوة، فإنه يُصبح معينا للشيطان على إضلال غيره من بعده، كما أخبرنا عن نظرائه من الأحبار والرهبان. وإن كل فقيه يأمن على نفسه الإضلال، فليعلم أنه واقع فيه؛ لأن إحدى علامات ضلال الفقهاء، أن يأمنوه على أنفسهم؛ وكيف يسوغ لهم ذلك، وهم غير معصومين!... يقول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا۟ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا یَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ} [الأعراف: 99]. فائدة: مرة سمعت أحد خطباء الجمعة يدعو ويقول: اللهم أمّنّا مكرك، والناس كلهم في الجامع يؤمنون؛ وما علموا أنهم يدعون على أنفسهم. والصواب أن يقول العبد: اللهم لا تجعلنا نأمن مكرك. فائدة أخرى: قد يعترض بعض الناس على بعض ما نقول بقولهم: إن العصمة لم تثبت إلا للأنبياء وحدهم، لذلك فلا ينبغي التقليل من شأن الفقهاء بالوقوع فريسة لإضلال إبليس!... فنقول: إن العصمة تثبت للأنبياء من هذا الوجه المعلوم للعامة، وتثبت للكُمّل من الأولياء؛ وإن عدم اعتبار الفقه لعصمة هؤلاء لهو من نقص الفقهاء، الذي تترتب عليه آفات كثيرة، تزيد من فُرص الإضلال داخل الأمة. وأما الوجه الآخر من العصمة، فقد ذكرناه في غير هذا الكتاب، ولن نُعرّج عليه هنا طلبا للاختصار... ويدخل ضمن العمل لهدم الخلافة من قِبل البريطانيّين، تحريض الأطراف العربية المختلفة عليها، ووعدهم بإنشاء خلافة لهم عربية، بدلا من التركية زعما؛ مع أن الخلافة العثمانية كانت إسلامية، لا تركية كما يزعم المغرضون. فظهرت الدعوة الوهابية، في هذا السياق الممهد لقيام إسرائيل، في منطقة نجد كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ على يد شيخ الضلال "ابن عبد الوهاب" (1703 – 1792م)، والأمير محمد بن سعود، حين تحالفا على نشر الدعوة السلفية التي قامت على إثرها الدولة السعودية الأولى، والتي سيطرت على شبه الجزيرة العربية بموجبها، وعلى أجزاء من العراق والشام واليمن. وقد كانت بدايتهما (الدولة والدعوة)، في الدرعية بنجد، إذ أعلن محمد بن عبد الوهاب فيها، مواجهة مَن وقف ضِدّ دعوة "توحيده" الذي لا يمت إلى الشريعة المحمدية بصلة، وإن كان سيُوظّف فيها النصوص من القرآن والسنة توظيفا يستميل به الجهلة من العامة ومن أشباه العامة من متفقهة الزمان والمكان. وحتى نجعل القارئ على بيّنة نقول: إن التوحيد في المرتبتيْن الأولييْن من الإسلام (الإسلام، والإيمان)، هو التوحيد العام المشترك، الذي لا يختلف عليه اثنان من المسلمين؛ وإن التوحيد الخاص، هو ما يبدأ في إدراكه السالكون عند الدرجة الثانية العليا من المرتبة الثالثة التي هي الإحسان. وليعلم القارئ بعد هذا التوضيح، أين موضع أقدام الوهابية، وأين ألسنتهم؛ ليعلم عِظَم التّمزّق الذي أحدثوه في دين الفرد والجماعة جميعا؛ وإلى الله المشتكى... وقد اتخذ ابن عبد الوهّاب من بعض المظاهر لدى الناس، غرضا صوّب نحوه سهامه، وجعله يصنّفه شركا، يستبيح به دماء من أثبت عليهم التلبّس به. ولقد كان يزعم في خلال ذلك، أن يُقيم الحجة على الناس، وأنه كان يدلّهم على التوبة قبل المناجزة. فشن سلسلة من الحروب تكللت بتوحيد أجزاء واسعة من شبه الجزيرة العربية، إقامةً لدولة "التوحيد والعقيدة الصحيحة"، وتطهيراً لأمة الإسلام من الشرك بحسب زعمه. ولقد كان يكفي لأدنى الناس علما أن يُثبت انحراف ابن عبد الوهّاب، عند جعله الشرك قاعدة في الأمة والتوحيد استثناء؛ وذلك كما فعل سليمان بن عبد الوهّاب أخو إمام الضلال، الذي واجه أخاه بالسيف، وردّ عليه بكتاب قيّم جعله تحت عنوان: "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية"؛ ولعله أوّل من سمى أتباع أخيه بالوهّابيّة. ولكن القدر، شاء لابن عبد الوهاب أن يستمر، ولدعوته أن تنتشر، كما شاء سبحانه، قبل ذلك ومعه وبعده، لإضلال الشيطان أن يعمل في نفوس الضالّين، وأن ينتشر في أصقاع الأرض بشتى الوسائل والأسباب... وفي عام 1818م، حاصرت القوات العثمانية بقيادة إبراهيم باشا ابن والي الدولة العثمانية بمصر محمد علي باشا، الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى ودمرتها، فيما عرف بالحرب السعودية العثمانية؛ إلا أن الوهابيين وآل سعود أسسوا دولة سعودية ثانية، على يد الأمير تركي بن عبد الله بن محمد، فتوسعت بشكل محدود على عكس سابقتها؛ غير أنها سقطت بسبب الصراع والحروب الداخلية عام 1891م؛ ثم قامت الدولة السعودية الثالثة من جديد في أوائل القرن العشرين، حاضنة للدعوة الوهابية، ووارثة للدولة السعودية الأولى والثانية، وذلك تحت قيادة عبد العزيز بن سعود مؤسس المملكة العربية السعودية المعروفة الآن. وأما نهج الوهابية في هدم الإسلام من الداخل، فقد انتهجوا فيه: ومن نظر إلى هذه المهالك التي يتمسك بها الوهابية، فإنه سيعلم علم يقين أنهم مسلطون على هذه الأمة ليُخرجوها من النور إلى الظلمات مهما استطاعوا. {وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَوۡلِیَاۤؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ یُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ} [البقرة: 257]؛ والطاغوت، هو كل ما يطغى على القلب حتى يُعميه عن شهود نور ربه. نقول هذا، لأن من التحريفات التفسيرية التي لحقت هذا المصطلح القرآني، ما يعتقده "الإخوان" من كون الطاغوت، هم الحكام الذين يحكمون الدول العربية خاصة؛ وهذا فيه من التّألّي على الله ما لا يخفى. والإخوان المسلمون -وإن كنّا أفردنا لضلالتهم جزءا خاصا من هذا الفصل- يكونون في الغالب على العقيدة الوهابية، خصوصا المتأخرون منهم. وكهذا، فإن ما نقوله عن الوهابية يعنيهم من جهة واحدة على الأقل. وينبغي هنا أن نؤكد على أن ولي عهد المملكة السعودية محمد بن سلمان، قد أعلن تراجع المملكة عن عقيدتها الوهابية؛ وهذا أمر جيد جدا، لو أنه في مقابله عمل على العودة إلى صحيح الدين وأصيله. ويجدر بنا، ونحن نتحرّى الاختصار، أن نقرر أن من الوهابية من يقبل هذه التسمية، ومنهم من يُفضلون عليها "السلفية". ونحن نرى أن الانتساب إلى ابن عبد الوهاب أصدق، وأما الانتساب إلى السلف فهو افتراء وتمسّح بمن يفارقهم قلبا وقالبا. ومرة أخرى فمناقشة هذه المسائل، ليس هذا محلها، فلا ينتظر منا القارئ ذلك هنا. ثم إن الوهابية على عادة المنحرفين والضالين، لا يتورعون عن الكذب، من أجل ترسيخ دعوتهم ونشرها. ومن الكذب ما هو خفيّ لا يعلمه إلا ذوو البصائر: وهو تصديقٌ لكذب الشيطان الوارد به وحيه، فيكون الحاكي له صادقا وهو كذوب. فالشيطان يأتي من لا نور له، خصوصا إن كان في ظاهر الأمر من أهل العلم، بحجج يغلبه بها، فيظن المسكين أنه قد ظفر بما لم يظفر به غيره، فيعمل على إشاعته في الناس، وهو يُسمّي كل ذلك: "دعوة إلى الله"، وهيهات!... وعلامة هؤلاء الصادقين الكذبة، هو فرارهم من محاججة أهل النور، وهذا يُظهر إصرارهم على غيّهم، خلافا لما يدّعون؛ وأما طالب الحق، فيُفترض فيه أن يعرض أموره على الموافق وعلى المخالف، ليظهر له الحق بإذن الله عند اجتماع الآراء. وهذا قليل في أهل زماننا، وقد عرفناه نحن بالتجربة والمعاشرة... وتكشف وثائق الأرشيف البريطاني المرفوع عنها السرية، والتي لا نضمن صدقها ومطابقتها للواقع على التمام، الكثير من التفاصيل الهامة عن حيثيات نشأة الدولة السعودية الثالثة، في مطلع القرن العشرين. فقُبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت الجزيرة العربية تخضع شكليا لنفوذ الدولة العثمانية، وتوجد في المدينة المنورة حامية تركية تشرف على تأمين خط سكة حديد الحجاز، بينما تتقاسم القبائل والعائلات النفوذ الفعلي والسيطرة على الأرض: فالأشراف يحكمون الحجاز، وآل سعود يحكمون نجد، والأدارسة يحكمون عسير، وآل رشيد يحكمون حائل والجوف([2]). ... ثم سعى أمير نجد، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، إلى فتح خطوط تواصل مع بريطانيا، فقابل في أبريل 1911م المعتمد السياسي البريطاني في الكويت الكابتن "شكسبير"، الذي دوّن في تقرير مطول بعثه إلى قياداته تفاصيل اللقاء. وتمثلتْ مقترحات ابن سعود في رغبته في دعم بريطانيا له، في مواجهة الأتراك الذين يعززون قواتهم عبر ساحل الإحساء، وهو ما يعيقه عن إعلان التمرد عليهم، قبل الحد من قدرتهم على جلب الجنود بحرا. ومن ثَم تكررت لقاءات ابن سعود مع "شكسبير"([3]). وقّع ابن سعود في 15 مايو 1914م معاهدة مع العثمانيين نصت على توليه منصب (والي نجد) طيلة حياته، ووراثة أولاده للمنصب من بعده، على أن الدولة العثمانية متى دخلت في حرب مع دولة أجنبية أو إذا حدث اضطراب داخلي في أيٍّ من ولاياتها، وطلبت منه إرسال قوة دعم، فعليه توفير تلك القوة مع كامل أسلحتها ومؤنها. ولكن لم يفت ابن سعود قبل التوقيع على المعاهدة أن يأخذ رأي الإنجليز سرا، فكتب في 2 أبريل 1914م، إلى المعتمَد السياسي البريطاني في البحرين "تريفور"يستأذنه([4])، ويعرض عِمالته... وعندما لاحت بوادر مشاركة الدولة العثمانية في الحرب، كتب السير "ماليت" سفير بريطانيا في القسطنطينية، إلى وزير خارجيته "إدوارد غراي" بتاريخ 4 سبتمبر 1914م، بأن يهيّء قيام حركة عربية يكون من مهمتها مواجهة الدولة العثمانية، إن هي دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا. ووقعت الحرب بالفعل، وصار ابن سعود الرجلَ المفضل في الجزيرة العربية بالنسبة إلى حكومة الهند التابعة للتاج البريطاني، بينما صار الشريف حسين (المنافس) الرجلَ المفضل لدار المندوب السامي في مصر. انقلب والي نجد: ابن سعود، على العثمانيين؛ فسجن ضابطا تركيا أوفدته حكومة الباب العالي إليه لتدريب قواته، كما اعتقل أربعة علماء أرسلتهم السلطات التركية إليه للدعوة في نجد إلى الجهاد ضد الإنجليز، وأرسل إلى القنصل البريطاني العام بالخليج "بيرسي كوكس" في نوفمبر 1914م، يُطمئنه ويؤكّد له ولاءه. كما شن ابن سعود حربا ضارية، ضد آل رشيد الموالين للعثمانيين، وقُتل الكابتن "شكسبير" في تلك الحرب في 1915م أثناء تواجده مع الجيش السعودي. وعندما أعلن الشريف حسين ثورته ضد الأتراك، انطلاقا من الحجاز في يونيو 1916م، وقد كانت حربا غير شرعية، وممهدة للتفرقة الإسلامية المنهي عنها، سارع ابن سعود، في 20 يوليو من العام نفسه، إلى إرسال رسالة إلى "برسي كوكس" نصحه فيها باستغلال ثورة الشريف ضد الدولة العثمانية، والاستفادة من آثارها، إلى أن يحين وقت القضاء عليه من قِبلها. وبالرغم من تحريض ابن سعود على الشريف حسين، فإنه بعث إليه رسالة في أغسطس 1916م، يستنيمه بها، عن طريق التأكيد على الأخوة التي بينهما، وعلة تعاونهما ضد الأتراك الحريصين بحسبه على: "تدمير الإسلام والمسلمين وخاصة العرب". وهذا يُظهر خبث ابن سعود، ودخوله في النفاق بإبدائه وجها لكل جهة؛ على ما في التغرير بمسلم من شناعة تمحق دين من كان على دين... كما أرسل ابن سعود رسالة إلى الشريف عبد الله بن الحسين في أكتوبر 1916م، يهنئه فيها بالسيطرة على الطائف ويطمئنه بعبارات قريبة من تلك التي وجهها إلى الشريف حسين، ويُعاهده على العمل معه من أجل تحقيق الغايات المتفق عليها. هذا مع العلم أن الخارج على حكم السلطان، جزاؤه القتل في حكم الشريعة الإسلامية. فإن انضاف الخروج إلى موالاة الكافرين فهو الكفر، وصاحبه يُقتل بحد الكفر لا بحد الخروج. يقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضٍ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ} [المائدة: 51] رغم رسائل ابن سعود المتعددة للإنجليز، والتي توضح كراهيته للشريف حسين، فإنهم حرصوا على تلطيف الأجواء بين الرجلين، فأرسل القنصل البريطاني في جدة "ويلسون" رسالة في نوفمبر 1916م إلى الشريف حسين، متحدثا فيها عن دعم ابن سعود لثورته، ومؤكدا على أن حكومة بريطانيا حريصة جدا على أن يدعم جميعُ الشيوخ العرب القضية العربية الشريفة. ومن ثَم أرسل الشريف حسين رسالة ودية إلى ابن سعود يؤكد فيها على ما اتفقا عليه سابقا؛ لكن هذه المرة بإيعاز من البريطانيّين، الذين لا يخفى مدى إمساكهم بخيوط اللعبة. وعقب انتهاء الحرب العالمية طالب الشريف حسين بحكم "الدولة العربية الكبرى"، التي وعدته بها بريطانيا، وتصور أنها ستشمل الحجاز والشام والعراق وفلسطين، ورفض التوقيع على معاهدة "فرساي"([5])، ولم يوافق على فرض الانتداب على فلسطين؛ فتنكرت له بريطانيا، وسمحت لعبد العزيز بن سعود بالتمدد والقضاء عليه، ليؤسس نواة الدولة السعودية الثالثة، التي عبّر عن أهميتها المعتمَد السياسي البريطاني في البحرين الميجر "ديكسن" في أغسطس 1920م، مؤكّدا على أن جزيرة العرب الوسطى القوية تحت حكم ابن سعود، والذي هو مرتبط بأشد العلاقات الودية بالحكومة البريطانية، ستكون ملائمة للسياسة البريطانية كل الملاءمة. وذلك لأنها ستحسم الكثير من المصاعب، وفي الوقت نفسه، تجعل كل الدويلات الساحلية معتمِدة على بريطانيا أكثر مما هي عليه الآن. الكويت، والبحرين، والساحل المهادن، وعُمان، والحجاز، وحتى سوريا، سوف تعيش كلها في هلع من جارها القوي، وستكون أكثر انصياعا لرغبات حكومة "الجلالة" مما هي عليه اليوم. ويذكر "ديكسن" أن طريقة العربي هي أن يعيش على تحريض جيرانه الأقوياء بعضهم ضد بعض؛ وفي الوقت نفسه، إذا لم يستطع القيام بذلك، فعليه أن يستند إلى دولة حامية قوية للالتجاء إليها. ويُخبر أنه إذا أصبح ابن سعود قويا جدا في جزيرة العرب، فإن النفوذ البريطاني يزيد زيادة عظيمة بين الدول الساحلية.([6]). وهذا أسلوب كل مخادع، يوقع فريسته في حباله، ويستعمله فيما يريد، ثم يتخلص منه عند استيفاء الغرض منه. ويظهر من كلام الميجر "ديكسن"، أن بريطانيا كانت على علم بنفسية العرب، الذين يخضعون للأجنبي، ولا يخضع بعضهم لبعض إلا استثناء. وهو ما وقع لدول شمال أفريقيا نفسها، تحت الهيمنة الفرنسية، التي ما تزال عاملة فيها إلى الآن، رغم ما أصاب فرنسا من ضعف بادٍ. وهذا يجعلنا نستخلص فنقول: لولا الإسلام الذي جعل العرب يرتفعون زمنا بسببه، حتى فاقوا في الحضارة كبريات الأمم، لبقوا في حُفَرهم يَكِيدُ بعضهم لبعض أبد الدهر!... ولقد صدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: "نحنُ قومٌ أعزّنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزّة بغيره أذلّنا الله!". فحيَّ على ذلّ العرب، بعد سقوط الخلافة العثمانية!... يتضح من كل ما سبق أن العرب قد وقعوا فريسة للدهاء البريطاني، وهم البدو -في شطرهم- الذين لا خبرة لهم بشيء من السياسة. ولكن الجاهل، لا يُدرك أنه جاهل في الغالب، ويظن أنه يستطيع ملاعبة الشياطين. وهذا الذي ذكرناه عن ابن سعود، لا ينبغي أن يأخذنا بعيدا عن التيّار الوهّابي؛ بل ينبغي أن يجعلنا ننظر إلى الصورة مكتملة، لنُدرك من جهةٍ، أن بعض العرب قد غدروا بالدولة العثمانية، لكونها مخالفة للدعوة الوهابية البدعية، والتي هي أحق بصفة العمل ضد الإسلام والمسلمين؛ ونُدرك من جهة أخرى أنهم قد فعلوا ذلك، من أجل تحقيق مآرب سياسية، لن يظفروا إلا بالفتات منها؛ وهي الدويلات الوظيفية التي ستُنشئها بريطانيا، والتي لا تخدم إسلاما ولا مسلمين. وهكذا ستتربع بريطانيا على عرش النفوذ العالمي، عند ترتيب المنطقة العربية بما يخدم أغراضها؛ وستترك هي -والغرب من بعدها- التيار الوهابي ليبسط نفوذه الديني على العالم الإسلامي في القرن العشرين الميلادي، لتتحقّق التبعية لها وللغرب عموما، عندما تكون الدول العربية تحت ضغط "الإرهاب" الديني المتوحش؛ الذي ما إن أطل برأسه على العالم، حتى جعلوه بشهادة الشهود، من نسل العروبة والإسلام. وما يزال العالم (نقصد الشعوب من العالم كله، لا الأنظمة المتآمرة)، يُعاني من هذا الإرهاب، المرة بعد الأخرى، من دون أن يدري حقيقته. ونحن من باب التأسيس العلمي نقول: إن الحركة الوهابية، تُعدّ من أكثر البيئات خصوبة وتوليدا للإرهاب. لكن هذا، لن يكون بعيدا عن أعين الغرب قطّ؛ ولعلنا سنعود إلى مسألة الإرهاب وتعريفه في مرة أخرى إن شاء الله؛ إما في هذا الكتاب، أو في غيره... ولقد استهوى التيّار الوهابيّ من العرب والعجم، كل غبي غليظ الطبع سفيه الحلم، فصاروا طبقة عازلة في مجتمعاتهم لصحيح الإدراك وحسن الفهم ومسايرة روح العصر، حتى صار البلد الذي يكثر فيه عددهم على يقين من أنه سيقع في تخلّف منتج لداعش وأشباه داعش، ممن يعيشون في كهوف التاريخ المظلمة، كارهين لنور الشمس كالخفافيش. وأصبح كل من ينظر إلى الإسلام من خلال هذا التيّار، ينفر منه، ويوقن أنه ليس دينا يجدر بالناس اتباعه؛ هذا إن كان على بعض عقل. وأما إن كان سفيها، فإنه ربما وقع في حبال الوهابية، فخرج عن سواء السبيل، والْتَحَقَ في الغالب بالمجرمين... وهكذا فإن داعش التي كانت ثمرة الوهابية الجهادية، ستبقى نقطة سوداء في تاريخ الأمة، جعلت الإسلام يظهر أسفل مما يكون عليه الكفر ذاته؛ وجعلت سليمي الفِطر يفرّون من الإسلام فرارهم من الطاعون، مع أنه استمرار "طبيعي" للفطرة ذاتها. وأظهرت هذه الطائفة من العنف المجّاني، ما يجعل المسلمين لو ثبت عليهم، يتفوّقون على مصّاصي الدماء، وعلى أكلة لحوم البشر. إن ما تكون عليه داعش، لا يليق بالدين الباطل، فكيف يُلصق بالدّين الحقّ!... ولكنّ التمكين الذي عرفته داعش في سوريا والعراق، لا يدل إلا على توظيفها من قِبل الصهيونية العالمية، لتقطع الطريق على عباد الله الباحثين عن الحق، لزمان قد يطول، بسبب الآثار السيئة التي خلفتها في نفوس من عرف بعض شرّها!... ولا شك أن معرفة طوامّ داعش، لن تتطلّب إلا عينا مجرّدة، وعقلا في أبسط درجاته، ما دامت هي على ضحالة معرفية تكاد تكون فريدة في مستوى جهلها والجهالات... والآن، وعلى غرار ما فعلناه مع صنوف الصهيونيات السابقة، عند إبراز مناط تصهيُنها، حتى لا يغيب عنّا واحد منها، إن نحن تتبعنا ذلك المناط؛ فلا شك عندنا إن تحرّينا مناط الوهّابية، فإننا سنجده "التوحيد" المزعوم، وهو الذي لا يشتغل به إلا أصحاب الحرف والبسطاء الجهلة من الناس؛ ومتى كان العلم يشتغل به السفهاء؟!... ونحن كنا قد ردَدْنا على شيطانهم الأكبر ابن تيمية الذي يفوقهم دهاء وذكاء، في كتاب لنا أسميناه "تجريد التوحيد"؛ وأما الوهابية، فلن نكلّف أنفسنا بالرد على حماقاتهم، ونكتفي بالإشارة إليها فحسب. ب. الصهيونية الإخوانية المدّعية للإصلاح: ولن نعود في التاريخ الإسلامي إلى القرون الأولى، من أجل الكشف عن جذور هذا الصنف من الانحراف لدى المسلمين، لأن ذلك سيخرج بالكتاب عن غرضه عند الإبعاد كثيرا؛ وإنما سنحصر الكلام فيما يعود إلى بدء التنظيرات الإصلاحية الحديثة، مع جمال الدين الأفغاني (1838-1897م) فمَن بعده. ولا شك أن الأفغاني الذي نتخذه في هذا الجزء منطلَقا، كان من الأفذاذ الذين اتسع اطلاعهم، واتقد ذهنهم، وخبروا مختلف الدول والمجتمعات بكثرة تنقلهم. فالأفغاني قد خرج من أفغانستان وتوجه إلى الهند، ثم إلى مكة، ثم إلى مصر، ثم إلى الدولة العثمانية (الأستانة)، ثم إلى أوروبا التي سيقيم منها في لندن ثم في باريس، حيث استدعى تلميذه محمد عبده (1849-1905م) ليؤسسا هناك جريدة "العروة الوثقى"، التي كانت موجّهة إلى الأمة الإسلامية، واعتُبرت دعاية إلى الإصلاح العام المنشود. وقبل أن نستمر في الكلام، علينا أن نتوقف عند سنة 1876م لنسجّل بها طلب جمال الدين الأفغاني الانضمام إلى المحفل الماسوني "كوكب الشرق"، في مصر، حيث قال في طلب الانضمام: [من مدرّس الفلسفة بمصر المحروسة جمال الدين الكابلي، الذي مضى من عمره سبع(ة) وثلاثون سنة، بأني أرجو من إخوان الصفا، وأستدعي من خلان الوفا، أعني أرباب الجمع المقدس الماسون، الذي هو عن الخلل والزلل مصون، أن يمنّوا عليّ ويتفضّلوا إليّ، بقبولي في ذلك الجمع المطهّر، وبإدخالي في سلك المنخرطين في ذلك المنتدى المفتخر. ولكم الفضل.][7]. ولن ندخل في اتهام بعض فقهاء العصر للرجل في عقيدته، وقد اطلعنا على عبارات منقولة عنه، وعن تلميذه محمد عبده تؤيّد ذلك؛ لا يتكلم بها إلا أهل الزندقة من الحلولية([8])، وأصحاب القول بوحدة الوجود([9])؛ ولكن سنتوقف عند عبارات من رسالته هذه، من مثل قوله عن مجمع الماسون بأنه مطهر، وبأنه مصون عن الخلل والزلل؛ لأنه لا يجوز القطع بهذه الصفات في حق ما هو أحيانا من صحيح الدين، اعتبارا لعلم الله في الأمر، والذي قد يكون مخالفا لعلم الناس في أحيان كثيرة؛ فكيف يُزعم ذلك لما هو من ضرب المجاهيل والمبهمات، مع إحسان الظن عند المـُنطَلَق!... ولا يمكننا هنا قبول رأي أولئك الذين يعتذرون عن انخراط كثير من الشخصيات العربية في المحافل الماسونية، بكون هذه الأخيرة ما كانت تُعرف في ذلك الزمان إلا بما يتوافق عليه الناس من خير عام؛ لأن هذا القول لا يخفى ما فيه من التغرير بالناس، ودعوتهم إلى الدخول فيما لا يتبيّنون حقيقته. وهل اُستُدرج الناس إلى أنواع الضلالات إلا بدعاوى خيرية وآمال إصلاحية!... وقد كان أولى بالأفغاني ومن شابهه ممن ينتسبون إلى الدين، إن كان انتسابهم بصدق نية، أن يكونوا أول من يتّقي الشبهات، ويدعو غيره إلى اتقائها. ونحن نرجّح أن الباعث على الانخراط في المحافل الماسونية من قِبل الأفغاني وأمثاله، هو تحصيل المنافع الدنيوية المادية، التي يُلوّح بها دعاة الماسونية للنخبة من كل مجتمع. لكن فداحة النتيجة، ستُطيح بأي منفعة تُراد!... وأهل الدين، لا ينبغي أن يطلبوا الدنيا من أبوابها المباحة؛ فكيف يُقبل منهم طلبها من جهة الشبهات!... ونحن نبقي الكلام محصورا في الشبهات، من باب إيفاء الجدل حقه؛ وإلا فنحن نعلم أن الماسونية هي صنف من صنوف الكفر، إن لم يظهر لأصحابه في بداية أمرهم، فسيظهر لهم جليا في نهايته. وإن كان الأمر هكذا، فإن بوادر صهيونية مدّعي الإصلاح، ستلوح من الآن، وقبل أن نكشف الستار عن تفاصيل أخرى بخصوصهم. ورغم أننا لا نتساهل نحن في هذه الإطلاقات، إلا أن اجتماع القرائن يجعلنا نتوجّس؛ خصوصا، ونحن نعلم كيف يقع متّقدو الذكاء إذا انعدم نورهم، في حبال الشيطان بسهولة، والتي يقدّمها إليهم في صورة التوحيد الخاص، أو على الأقل في صورة الفكر الإنسانيّ الرفيع... وقد نُسبت إلى جمال الدين الأفغاني شطحات في التفسير، كررها عنه تلميذه، خرجت بألفاظ القرآن الكريم عن مدلولاتها، وأوّلتها تأويلات بعيدة، تصب فيما يُسمّى بتيّار الحداثة اليوم. وقد ذكر رشيد رضا (1865- 1935م) عن أستاذه محمد عبده أنه: "كان يميل لوحدة الوجود التي يشتبه فيها كلامه مع كلام الصوفية الباطنية([10])."[11] . وقد اتُّهم محمد عبده بالقول بوحدة الأديان، وهو القائل: "وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة وصحفاً متصادقة يدرسها أبناء الملّتين، ويوقرها أرباب الدينين، فيتم نور الله في أرضه، ويظهر دينه الحق على الدين كله."[12]. ولا شك أن هذا القول له أصل عند جمال الدين الأفغاني، من كونه أقدر من الناحية العقلية على الخوض في هذه المسائل من تلميذه؛ فهي كما نرى شجرة خبيثة تتفرع مع الأجيال. ومما يرجّح ما نذهب إليه، ثبوت تبادل الرسائل بين رشيد رضا والأفغاني قُبيل وفاته بالأستانة، وهو ما يدل على اتفاق حاصل بصفة مباشرة عن طريق الرسائل، وبصفة غير مباشرة عن طريق محمد عبده (التلميذ الأستاذ). ويقول رشيد رضا عن الأفغاني: "وكلامه في النشوء والترقي، يشبه كلام داروين."[13]. ونقل أحمد أمين عنه قوله: "وعندي أنه لا مانع من السفور إذا لم يُتَّخذ مطيَّة للفجور."[14]. وذكر الشيخ يوسف النبهاني، وهو عندنا موثوق، عن جمال الدين الأفغاني: "أنه اجتمع به سنة 1870م في مصر، حين كان مجاورا بالأزهر، (يقول:) ولازمته من قبْل المغرب إلى قرب العشاء، فلم يصلّ المغرب"[15] ، كما أخبر عن تلميذه محمد عبده قائلا: "الذي أعلمه من حال الشيخ محمد عبده -وكل من عرفه يعلمه كذلك- أنه حينما كان في بيروت منفيا، كان كثير المخالطة للنصارى والزيارة في بيوتهم والاختلاط مع نسائهم بدون تستر. هذا مما يعلمه كل من عرف حاله في هذه البلاد، فضلا عن أسفاره المشهورة إلى بلاد أوروبا واختلاطه بنساء الإفرنج وارتكابه المنكرات، من شرب الخمر، وترك الصلوات. ولم يدَّعِ هو نفسه الصلاح، ولا أحد توهمه فيه؛ فكيف يكون قدوة وإماما في دين الإسلام؟!... نعم، هو إمام الفسَّـاق والمرّاق مثله، ولذلك تراهم على شاكلته، لا حجّ، ولا صلاة، ولا صيام، ولا غيرها من شرائع الإسلام."[16]ثم يُضيف بعد هذا: "دعاني رجل من أهل جبل لبنان سنة 1888م إلى بيته، فتوجهت معه، فوجدت هناك الشيخ محمد عبده. فتصاحبنا من الصباح إلى المساء، لم أفارقه نهارا كاملا. فصليت الظهر والعصر، ولم يصل ظهرا ولا عصرا. ولم يكن به علة؛ ولا عذرَ له، إلاَّ خوفه من أنه إذا صلى بحضوري، يقول أولئك الحاضرون الذين كان لا يصلي أمامهم: إنه يرائي في هذه الصلاة لأجلي. فغلب عليه شيطانه، وأصر على عدم الصلاة؛ وإلا فقد بلغني عنه أنه كان يصلي تارة ويترك أكثر."[17]. ونتساءل نحن هنا عن حال رشيد رضا الذي، كان يعلم من "إمامَيْه" ما يعلم، كيف ساغ له أن يعتقد إمامتهما؟!... ورغم أنه أُثر عنه أنه كان في بدايته أشعريا، إلا أن انقلابه إلى الانحراف التيمي (الوهابي) عند بلوغه المجلد الثالث من مجلة المنار، يجعل المرء يُسيء به الظنّ ويحذره على نفسه؛ لأنه لا يكون على هذا الانحراف عندنا إلا من قويت ظلمته، وشُكّ (إن لم يتب) في خاتمته. وقد عرفنا في الجزء السابق من شأن الوهّابية، ما يجعل العبد يخشاهم على كل مؤمن... وقبل أن نمضي في الكلام، لا بأس من تناول مسألتيْن علميّتيْن عرضتا ضمن الكلام: الأولى، وجوب التعاضد بين الكتب السماوية، بما أن الربّ واحد؛ والثانية: من الذي يكون خلف أغمار الناس، حتى يلمّعهم، ويجعل منهم أئمة للناس، حيث يسهل عليهم إشاعة البدع والضلالات؟: وأما حسن البنا (1906-1949م)، والذي تلقى الفقه الحنفي والعقيدة السلفية (التيمية الوهابية) عن رشيد رضا، فهو الذي خرج بمشروع "الإصلاح" الذي يَزْعُمه الرجال الثلاثة الذين أسبقناهم بالذكر، من التنظير، إلى العمل السياسي المنظّم. ولا يخفى ما كان للبنّا من فطانة، جعلت منه وهو في بداية العشرينيات من عمره، يُنشئ جماعة "الإخوان المسلمون" ذات الأبعاد المتعددة (على الأقل من جهة التنظير)، وذات الأثر البالغ في الأمة الإسلامية جمعاء، إبان حياته، وبعد وفاته، وإلى الآن. ولن نكون مجازفين إذا أقررنا بأن جماعة حسن البنّا، هي أصل جلّ الجماعات الإسلامية السياسية التي ظهرت في القرن الأخير... وبما أن البنّا كان يدعو إلى العمل من أجل فلسطين، فإنه قد اعتنى بأهم وسيلتيْن: الإعانات المالية للفلسطينيين، والجهاد المسلح معهم؛ حتى إن الإخوان كانوا من أعوان عز الدين القسام في جهاده قبل استشهاده (نحسبه عند الله كذلك، والله حسيبه) في العشرين من نوفمبر سنة 1935م. ولقد كان عز الدين القسام الذي أتى من شمال سوريا، المؤسس الحقيقي للجهاد في فلسطين (سوريا الجنوبية) في الحقبة الحديثة؛ وكان على مثل عمل البنّا، بحيث يمكن أن نجعله من المؤسّسين معه للعمل الإخواني بالاصطلاح. ولكن وفاته -رحمه الله- في وقت مبكر، جعلت الأنظار تنصب على حسن البنا وحده؛ لهذا السبب، ولأسباب أخرى تدخل في إعداد الأئمة من طرف "الجهات المشبوهة". ولو عدنا إلى رسائل البنّا، من أجل تبيّن القواعد التي أُسّس عليها عمل الإخوان المسلمين، لوجدناها كتبت بالطريقة الإنشائية الوعظية العامية، التي لا يخلو صاحبها من دعوى. وهذا أساسه أمران: ومن أكبر الشنائع التي وقع فيها البنّا، جعله دعوته محورية في الأمة، وجعل تصنيف الناس يعود إلى قولهم فيها، وهذا لا يصح؛ لأن دعوة الإسلام هي الدعوة النبوية، لا غيرها. فمن شاء الله له أن يكون إماما للأمة في زمن من الأزمنة، فإنه سيعمل على إعادة الدعوة النبوية إلى الواجهة (وهو ما يُسمّى التجديد)؛ لا أن يخترع دعوة من عنده، يُوظّف فيها النصوص من القرآن والسنة على غير وجهها، وكأنه هو المعني الأول بها. هذا عندنا ضلال كبير، لا شبهة فيه... والمثال الصارخ على ما ذكرنا، هو إيراد قول الله تعالى: {قُلۡ هَـٰذِهِۦ سَبِیلِیۤ أَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِیرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِیۖ وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ} [يوسف: 108]، وذلك في مقدمة الرسائل، وتحت عنوان "دعوتنا"[18]. وحسن البنّا، لا تسمح له مرتبته الدينية، أن يتمثل هذه الآية؛ لأن السبيل سبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تكون فيها الدعوة إلى الله حقّا، لا زعما كما صرنا نراه عند من يُسمّون أنفسهم دعاة في زماننا. وأما ترامي البنّا عليها، وإيهام نفسه وأتباعه أنهم على بصيرة، فهو افتراء على الله، من غير بيّنة ولا برهان. وأما الحكم المترتب على هذا الفعل، فهو عدم جواز اتباع كل من تسول له نفسه ذلك. وستنشأ عن هذه الضلالة الكبرى، ضلالات أخرى بالضرورة، سنذكر بعضها، لأن الكتاب لا يحتمل تناول رسائل البنا جميعها. ولن نطيل في تتبع آراء المرشد الأول لجماعة الإخوان المسلمين، لأنها إطناب يدور كله حول الأسس المحرّفة الأولى، التي لا شك في انحرافها، والتي يُنظر فيها بعقل قليل النور، يقيس أحوال الأمة على أحوال غيرها من الكافرين، ويستخلص العبر من تجارب أمم لا تعنينا، كما لا تعنينا نتائجها وهي لم تخرج من الكفر. ولقد كنا ننبه كثيرا إلى ضرورة الفصل بين السياقين الأوروبي النصراني، والعربي الإسلامي، عند تناول التحولات الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا؛ وإلى عدم ربطها بما أنتجته المجتمعات الأوروبية بعيدا عنا. وهذا يعني أن التنظير الإخوانيّ لا يتأسس على الدين، وإن وُظّف فيه الدين توظيفا سيئا جدا؛ وإنما يتأسس على فكر سياسي عام. وسيأتي الكلام عن الإمامة في الدين وشروطها في أوانه بإذن الله، وسيتبيّن حينئذ ما الذي كنّا نرمي إليه بهذه الملاحظات المقتضبة... ولكن الجانب التنظيري ليس الوحيد ضمن الانحراف الديني لدى الإخوان، وإنما هو الجانب العملي التنظيمي، الذي لا أصل له في الشريعة. وإن نحن أمعنّا النظر في تنظيم الإخوان الهرمي، والسريّ في شطر منه، فإننا سنجده مطابقا لتنظيم الماسونية. ولن نستغل هنا ثبوت انتماء سيد قطب إلى الماسونية، بإقرار منه ذاته، في مقاله "لماذا صرت ماسونيا"، والمنشور بجريدة "التاج المصري" في 23 أبريل عام 1943م؛ كما سنفترض -وهو من فاق في التنظير لعمل الإسلاميّين مؤسِّسَ الجماعة نفسه- أن يكون قد غيّر مساره وتاب؛ ولن نتوقف عند القول بدعم الإنجليز ماليا لجماعة الإخوان، منذ نشأتها، ولا بغير ذلك من القرائن المريبة؛ ولكننا سنركّز على التنظيم الهرمي نفسه، الذي لا يمكن إلا أن يكون شيطانيا. وذلك لأن الإسلام لا يقبل هذه الهرمية المعمول بها ظاهرا، إلا فيما يدخل في أحوال الراعي والرعية، وبما هو مسموح أن تعمل عليه الدّول في هرميتها، والتي لا بد منها في ضبط شؤون الناس والمجتمعات. وأما الهرمية التي يكون فيها الشخص تابعا لشخص آخر من غير بيّنة من ربّه، وفي تدرج ينتهي إلى واحد لا برهان على أهليته للإرشاد الديني، فإنها (الهرمية) لا بد أن تكون شيطانية، لخفاء كيفية اتخاذ الرأي والقرار فيها، ولخفاء أسس التوجيه. والخفاء مبدأ غير ديني، حيث كان؛ يُتخذ وسيلة للعمل بالهوى من قِبل القيادات في مختلف الدرجات؛ من كون القيادات غير معصومة، ومن كون العمل بالهوى يأتي بالظلمة لهم ولمن تحت إمرتهم؛ حتى إذا اشتدت ظلمتهم، وعميت بصائرهم، أخذهم الشيطان في سبل الكفر والشرك الأكبريْن. وفي الغالب إذا بلغ الواحد من هؤلاء، هذه الدرجة الكبرى من الظلمة، فإنه لا يتمكّن من العودة عنها (التوبة)؛ وهو ما يُسمّى بالاصطلاح القرآني: "الختم على القلب". وإنّ حرص الجماعات الإسلامية، على التزام هذه الهرمية في تسيير شؤونها، بالإضافة إلى السريّة المعتمدة في بعض جوانب عملها على الأقل، لا يدل إلا على انحرافها عن الجادة انحرافا مؤكّدا؛ وهو ما يستدعي قيام علماء الدين لها، إن كانوا على فهم سليم للدين؛ بعكس ما نراه في زماننا، من انتساب شطرهم إليها!... وهو ما زاد من بلاء الأمة، إلى حدود تفوق التصورات... وأما من الناحية العملية، فقد جربتُ معاملة بعض ٍمن المتسلفة والمتأخونة في مجتمعنا، فلم أجد منهم حرصا على الدين ولا تعاونا على خدمته؛ وإنما وجدت أناسا يتفانون في العمل بطريقة مخصوصة من أجل إشباع نوازع مرضية قلبية شخصية؛ لا نشك في وجودها، كما لا نشك في تبعاتها؛ إن هم وجدوا من سفهاء الأمة من يطلب نوعا من الاعتراف، لا يجده إلا عندهم. وهم في ذلك، لا يعتمدون إلا الديماغوجية والخديعة، ويأبون كل مجادلة علمية وكل حوار بنّاء. وقد تبيّن لي أن هؤلاء الذين يُوظّفون الدين في سبيل استتباع الجم الغفير من الناس، لا يأبهون لمخالفة المحكمات من الأحكام الشرعية، ويكونون على استبداد يفوق كل استبداد. ونحن لم نقل هذا ابتداء، وإنما صدّقناهم في البداية، وأحسنّا بهم الظن، وافترضنا فيهم الصدق؛ ولكن بعد التجربة والاحتكاك، ظهر خبث طويتهم، وبان إيثارهم للدنيا على الآخرة، حتى ما عاد عندنا في أمرهم أدنى ريب؛ نسأل الله التوبة لنا ولهم، إنه هو التواب الرحيم. ولولا النصيحة الواجبة للمسلمين، ما كنت أُظهر من حالهم ما يجهدون هم في إخفائه عن الناس... ولا شك أن القارئ هنا سيتساءل عن فعل جماعة حماس الفلسطينية، وهي فرع من فروع جماعة الإخوان المسلمين، في السابع من أكتوبر 2023م، وعن حكم ذلك في الشريعة؛ ونحن سنرجئ الكلام عن ذلك، إلى فصل آخر بإذن الله، عندما سنتناول الجهاد بمعناه الشرعي؛ وإن كان شطر من الحكم قد بدأت تلوح معالمه، لمن كان يُحسن التنزيل... وفي ختام هذا الجزء الخاص بصهيونية الجماعات الإخوانية المتسلفة، التي ظهرت بصورة سافرة وفاقعة في التنظيمات السرورية؛ لا بد من أن نحدد مركز اهتمامها ومناط أمرها، على غرار ما فعلناه مع كل صنوف الصهيونية السابقة، ولْنقل هو: "الحكم". والحكم عند الإسلاميّين قد اتُّخذ صنما يُعبد، وغايةً تُطلب؛ فمن أجله تُقبل الانحرافات البيّنة، وفي سبيله يُعادى المؤمنون المتقون، ويُطاح بالمصالح العامة، وتُوالى الصهيونية العالمية في الخفاء. وأسوأ ما وصل إليه الإسلاميّون، هو معاداة الحكام معاداة لا لشيء، إلا لأنهم حكام، مع أن الحكام في أحيان كثيرة، قد يكونون أحسن منهم حالا؛ فهم على الأقل لا يتظاهرون بالتقوى الخدّاعة، ولا يزعمون أنهم أئمة في الدين. ولقد فاق سوءَ الإسلاميّين أحيانا، سوء العامة الذين يُعتبرون موالين لهم وجدانيا، لأنهم لا يعتمدون في موافقتهم لا عقلا ولا دينا؛ بل يعتمدون المنافسة على الدنيا، وحسد من آتاه الله شيئا منها، كما أخبر الله تعالى عن قوم سابقين من بني إسرائيل بقوله تعالى: {إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُو۟لِی ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ. وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ وَأَحۡسِن كَمَاۤ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ . قَالَ إِنَّمَاۤ أُوتِیتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِیۤۚ أَوَلَمۡ یَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةً وَأَكۡثَرُ جَمۡعًاۚ وَلَا یُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ . فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِی زِینَتِهِۦۖ قَالَ ٱلَّذِینَ یُرِیدُونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا یَـٰلَیۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَاۤ أُوتِیَ قَـٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِیمٍ . وَقَالَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ وَیۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَیۡرٌ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًاۚ وَلَا یُلَقَّىٰهَاۤ إِلَّا ٱلصَّـٰبِرُونَ . فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍ یَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِینَ . وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِینَ تَمَنَّوۡا۟ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ یَقُولُونَ وَیۡكَأَنَّ ٱللَّهَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُۖ لَوۡلَاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَیۡكَأَنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ} [القصص: 76-82]. وليعلم عوام المسلمين أنهم بمنافستهم لأهل المال، وبتمني ما في أيديهم، يدخلون في باب من أبواب الكفر، إذا تمادوا فيه، ولم يتّخذوا الهدي الربّانيّ نبراسا يسيرون عليه، فإنه يوشك أن يدخل بهم في الكفر الأكبر!... وإن الأمور بين مقدمات ونتائج، من لم يتبيّن الصلات فيما بينها، فهو على خطر كبير. ونعني من كلامنا هذا، أن الإسلاميّين ليسوا وحدهم أهل السوء في مجتمعاتنا؛ ولكن العوام الذين قد يبدون في غالب الأحيان مساكين لا شأن لهم، هم أصحاب السوء الأكبر؛ لأنهم بأعدادهم الكبيرة، يرجّحون كفّة الفاسقين على صالحي الأمة. وهذا يجعلهم صهاينة على قدر ما، وإن كان هذا سيفاجئهم!... وفي نهاية فصل الصهيونيات، يظهر أن التسمية ليست هي ما ينبغي أن يُحذر؛ وإنما الغايات والطرق المتّخَذة إليها. وإن نحن نظرنا إلى الغايات، فإننا سنجد كل أصناف الصهيونية التي ذكرنا، تتعاون على هدم الدين وتحارب أهله بجميع الوسائل، وإن كانت مرحليّا على تضادّ فيما بينها وعلى خلاف، وربما على قتال. فالأمور لا يُنظر إليها منفصلة عن الغايات الكبرى، لأن الغايات الصغرى في كثير من الأوقات تكون مضلِّلة، تحجب بها الشياطين ما هو أبعد منها وأخطر. وإن هدم الدين، لا ينبغي أن يخفى على طالب الحق، إن كان في ظاهره بوسيلة الدين؛ لأن استعمال الدين في محاربة الدين قد سبقَنا إليه اليهود والنصارى، ولسنا أول من وقع فيه. فعن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: "ذَكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ شيئًا، فقالَ: ذاكَ عِنْدَ أَوانِ ذَهابِ الْعِلْمِ! قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ، وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْناءَنا، وَيُقْرِئُهُ أَبْناؤُنا أَبْناءَهُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ؟ قالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيادُ! إِنْ كُنْتُ لَأَراكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ؛ أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهودُ وَالنَّصارَى، يَقْرَأُونَ التَّوْراةَ وَالْإنِْجيلَ لا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِما؟!»"[26]. ومن ينظر إلى صهاينة الإسلاميّين في زماننا، وإلى شدة حرصهم على قراءة القرآن وإقرائه، بغرض التدليس على الناس، مع غياب العلم الدينيّ الحق لديهم، يجدْ تصديق الكلام النبويّ مشهودا لعينيه بجلاء تام. ومن ينظر إلى عدد القارئين للقرآن لدى الأمة في زماننا، فإنه يكاد يجزم بأن هذا الزمن هو أفضل أزمنتها؛ ومن ينظر في المقابل إلى فسوق المسلمين عن دينهم في هذا الزمان، وإلى أعدادهم الكبيرة، يكاد يجزم بأن الأمة تعيش أسوأ أزمنتها!... ولقد كنت مرة أجادل أحد أساتذة التربية الإسلامية، وكان من أتباع حركة التوحيد والإصلاح؛ وتناولنا مسألة "الدعاة" بالمقارنة إلى الهداية في المـُقابل، فسألته: متى كان عدد الدعاة كبيرا في الأمة: في الماضي أم الآن؟... فأجاب على الفور: الآن. فأردفت: ومتى كانت الهداية أوسع انتشارا، في الماضي أم الآن؟ فأجاب على الفور: في الماضي. فقلت له: فحُلّ هذا الإشكال إن استطعت!... فتوقّف، وكأنه لم يتنبه إلى هذه المفارقة الخطيرة، إلا حينها. ومع ذلك، فلم ينل منه خطابي له شيئا، لا في هذه المرة ولا في مرات أخرى سبقتها أو تلتها. نسأل الله أن يجعلنا بفضله من المهديّين حقّا، فإنه لا يهدي إلى الحق إلا هو سبحانه!... [1] . أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.