اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2023/11/17 القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (7).3. الفصل السادس: صهيونيات متعاضدة -3- (تابع) لقد كان لا بد، داخل المؤامرة الصهيونية الكبرى، من إيجاد مدخل إلى "صهينة" النصارى([1]) من الجهة الدينية، ليكون شطر منهم على الأقل، خادما للمشروع العالمي الكبير. ويغلط كثيرون عندما يحصرون الصهيونية النصرانية في البروتستانت دون الكاثوليك، وهذا لأن تصهيُن كليهما، لم يكن على الشاكلة نفسها، ولا في الوقت نفسه. وإن صهيونية الكنيسة الكاثوليكية، قد قُدّمت على أنها مصالحة بين "المسيحيين" والشعب اليهودي، بعد أن كانت الكنيسة تُحمّل اليهود دم المسيح بحسب معتقداتها. وقد انتهت عملية المصالحة -كما هو معلوم- بتوجيه الكنيسة الكاثوليكية في القرن العشرين اعتذارا رسميا لليهود عن المآسي التي لحقتهم بسبب تقصيرها في حمايتهم؛ وهذا يسير في الاتجاه المعاكس لما كان الأمر عليه. وربما قد سهّل هذا الانقلابَ عزوفُ الناس في بلاد النصارى عن التدين، حتى لم يعد يهمهم ما تقرره الكنيسة من عجائب. ولقد توالت التصريحات من رجال الكنيسة، إلى أن انتهت بتصريح البابا يوحنا بولس الثاني في سنة 1986م، والذي يُعتبر جزءا من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، يقول فيه: [بالنسبة إلينا، ليست الديانة اليهودية ديانة خارجية، بل إنها تنتمي إلى قلب ديانتنا؛ وعلاقتنا بالديانة اليهودية، مختلفة عن علاقتنا بأي دين آخر. أنتم إخوتنا الأحباء ونستطيع القول ما معناه: أنتم إخوتنا الكبار.][2]؛ وهذا، أقل ما يُقال عنه: إنه انقلاب على المسيحية العيسوية، التي جاءت من أجل تقويم التديّن اليهوديّ المنحرف؛ لكن الانحراف الواقع من إحدى الجهتيْن، يبدو أنه التقى مع الانحراف الذي عليه الجهة الأخرى، ليصير التقاء على انحراف في التديّن، لا على الدين!... أما الصهيونية (المسيحية) النصرانية([3]) فهو الاسم الذي يطلق عادة على معتقد جماعة من النصارى المنحدرين غالباً من الكنائس البروتستانتية الأصولية، والتي تؤمن بأن قيام دولة إسرائيل عام 1948م كان ضرورة حتمية، لأنه يتمم نبوءات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ويمثل المقدمة لمجيء المسيح الثاني إلى الأرض كملِكٍ منتصر. ويعتقد صهاينة النصارى أنه من واجبهم الدفاع عن الشعب اليهودي بصورة عامة، وعن الدولة العبرية بصورة خاصة، ويرفضون أي نقد أو معارضة لإسرائيل، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يشكلون جزءاً من اللوبي المؤيد لها. وهذا هو سبب إتيان الرئيس "بايدن" وكاتب الدولة في الخارجية "بلينكن"، إلى إسرائيل يؤازرانها بعد معركة السابع من أكتوبر 2023م. ولقد منحاها كل الحق في الدفاع عن نفسها، ولو بارتكاب جرائم الحرب؛ وهنا تظهر الصهيونية النصرانية بجلاء. ومع أن الصهيونية النصرانية أيديولوجيا دينية، قامت على تأويلات بعيدة، أطاحت بكل القيم المعروفة لدى البشرية عند معتنقيها؛ فإنها لا تنظر إلى إسرائيل إلا نظرة مقيّدة، تكون فيها دولة الصهاينة وسيلة لمقدم المسيح عليه السلام فحسب. فلو افترضنا أن المسيح جاء الآن، فإن صهاينة النصارى لن يُلقوا بالا إلى اليهود ودولتهم؛ خصوصا والمنطق يُحتّم أن يستمع النصارى عندئذ إلى حكم المسيح عليه السلام في اليهود وفي النصارى جميعا. وهذا أمر لم نجد من هؤلاء المنتظِرين، من يضع في الاحتمال أن يسمع عندئذ ما يُخالف عقيدته فيه؛ ويتدبر فيما لو سمع ما ينقض عقيدته من المسيح نفسه، ما الذي سيختاره حينئذ؟... فإن هو أطاع المسيح فيما يخالف عقيدته، فإنه كان ينبغي عليه ألا يجزم بشيء قبل مجيئه عليه السلام، من باب الاحتياط؛ وإن كان عازما على رفض ما يخالف ما هو عليه، فليعلم أنه سيؤكّد كفره الذي هو عليه الآن فحسب. وعلى كل حال، فإن مسألة الجزم في العقائد، بعد نسخ الشريعة وتبدّل الزمن التشريعي، هو مخالفة لأصل الدين من البداية، ومبالغة في الانتصار للأيديولوجيا التي أسسها الأحبار والرهبان، ليُضلّوا بها أجيالا من النصارى... وتؤمن النصرانية المتصهينة بما تؤمن به المذاهب النصرانية الأخرى فيما يتعلق بألوهية المسيح وبنوّته لله (تعالى الله!)، كما تشاركها الاعتقاد بعقيدة التثليث والصلب والفداء. أما أهم ما يميزها، فهو العقائد ذات الصبغة الصهيونية، والاعتقاد بأن لديها خطة إلهية للدهر، تتضمن أحداثاً لا بد من وقوعها. فهي في نظرها، نبوءات آخر الزمان، التي تمثّل جوهر الفكر النصراني الصهيوني. وفيما يلي أهم هذه العقائد: كانت هذه في البداية نظرة اليهــود للمسيّا أو الماشيَّح المنتظر عندهم، وهو في نظرهم شخص آخر غير عيسى بن مريم الذي أنكروا نبوته واعتبروه كاذبًا؛ بينما المسيح في الحقيقة هو عيسى بن مريم عليه السلام، لا غيره. لكنّ اليهود سيبقون على ضلالهم، إلى أن يخرج منهم المسيح الدجال، عقوبة لهم؛ فيتبعونه إلى الهلاك المبرم. وقد تسربت مسألة انتظار الماشيح من عند اليهود، إلى الأدبيات النصرانية، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من البروتستانتية؛ حتى أصبحوا ينتظرون المسيح، كما ينتظر اليهــود الماشيح نفسه. وهذه العقيدة تجعل الخلاص مرهوناً بالانتماء إلى اليهــود (لدى اليهــودية)، وبمساعدة اليهــود (لدى النصرانية المتصهينة)، وتسوّغ أفعال القتل والإبادة للفلسطينيّين، في سبيل هذه الغاية. وإن نحن نظرنا إلى الولايات المتحدة اليوم، من بين بلدان أخرى على المذهب ذاته، فإننا سنجد مساعدتهم لدولة إسرائيل تقوم على هذه العقيدة، ونجدهم ينظرون إلى خدمتهم للمصالح اليهودية على أنها فرض ديني عليهم. غير أنه من اللازم التذكير بأن هذه العقيدة مخلوطة بين اليهودية والنصرانية، وهذا الخلط هو ما جعل النصارى البروتستانت يتصهينون؛ بل يصيرون أكثر صهيونية من اليهود أنفسهم. والدليل على ما نقول، هو خلو المذهب الكاثوليكي في بدايته، وخلو المذهب الأرثذوكسي من هذه العقيدة خلوا تاما. ورغم أن هذا، كان ينبغي أن يجعل البروتستانت ومن شابههم من النصارى يُراجعون عقيدتهم، فإنهم بقوا عليها بفعل الوحي الشيطاني. ولو أنهم كانوا يعقلون قليلا، لسألوا اليهود عن قولهم في المسيح عليه السلام، ليعلموا أنهم على عقيدتيْن مختلفتيْن في الأصل؛ بحيث يصير اليهودي كافرا في نظر النصراني، ويصير النصراني كافرا في نظر اليهودي. ولكن الشيطان ألف بينهم على عقيدة منفصلة، ليست من عقائد هؤلاء ولا أولئك، في تغييب للعقل النقدي تغييبا تاما. وإن هذا التصديق الأعمى من قِبل البروتستانت بما أوحاه الشيطان إلى بعض رهبانهم، لا يدل إلا على انحرافهم عن النصرانية أولا، ثم يدل على أنهم من أغبى البشر وأكثرهم قابلية لغسيل الدماغ. ثم إن أهمّ شيء يُذكر هنا هو أن الرسالة الموسوية والرسالة العيسوية، قد أتَتَا إلى بني إسرائيل حصرا -إن افترضنا أن بقايا العبرانيّين اليوم ما زالوا يعتبرون الرسالتيْن الماضيتيْن رغم نَسْخهما- فالعجب كل العجب سيكون من الأوروبيّين ومن الأمريكان، الذين هم من عرق مخالف غير عرق بني إسرائيل، ومع ذلك يعتقدون أنهم معنيّون بالخطاب؟... لذلك عليهم أن يسألوا أنفسهم: ما الذي جعلهم يعتنقون عقيدة هم غير مخاطبين بها؟... هذا، وقد ذكرنا سابقا أن الرسل السابقين ما كانوا يُبعثون إلا إلى قومهم خاصة، وهذا جليّ عند اليهود؛ بخلاف النصارى الذين زعموا (وهو اجتهاد منهم يخالف النص) أن دعوتهم عالمية. ولنأت الآن بالنص من الإنجيل، قبل أن نُتبعه بالنص من القرآن الذي هو آخر كلام منزل لله تعالى. فقد جاء في الإنجيل: "ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا«. فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا«!، فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ«.. فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي«!. فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب.» فَقَالَتْ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا«!، حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ."[4] ولننظر الآن إلى قول عيسى عليه السلام: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ«.، ألا يُفهم منه جليّا بأنه أُرسل إلى بني إسرائيل حصرا، بعد أن خرجوا عن شريعة موسى عليه السلام؟... لكن من النصارى من سيقول: فلمَ إذاً استجاب المسيح للمرأة في النهاية وشفى ابنتها، وهي كنعانية؟ أليس هذا دليلا ماديا على شمول دعوته لكل الناس؟... فنقول: وأما الدليل من القرآن -رغم أن بني إسرائيل يكفرون به وكأن الربّ متعدّد- فهو قول الله تعالى: {وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَاۤءُوهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَٱنتَقَمۡنَا مِنَ ٱلَّذِینَ أَجۡرَمُوا۟ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَیۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ} [الروم: 47]: ومن أعجب الأمور أن صهاينة النصارى يعلمون أن في قيام إسرائيل هلاك جُلّ اليهود، ومع ذلك يُعينونهم على إقامتها والحفاظ عليها؛ والأعجب، هو انقياد اليهود لصهاينة النصارى، من دون التفات إلى مصيرهم!... ولعل اليهود يرون في اتِّباع صهاينة النصارى، توظيفا من جهتهم أيضا للأحداث، من أجل مقدم مسيحهم: "المسيح الدجّال". فما أبعد ما بين الطرفيْن!... وما أحكم فعل الله في خلقه، حتى جمعهم على اختلافهم!... والمعركة المقصودة عندهم هي معركة "هرمجّدون"، التي هي عندنا "الملحمة الكبرى"؛ يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ فُسْطاطَ الْمُسْلِمِينَ، يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ الْكُبْرَى، بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَها: دِمَشْقُ، مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ.»[6]. "هرمجدون"، هي كلمة عبرية مكونة من مقطعين، هما (هَرْ) ومعناه تل أو جبل؛ و(مجدو)، وهو اسم سهل صغير شمال فلسطين. ويقولون إنها ستكون معركة ضخمة تحشد جيوشاً جرارة قوامها ملايين الجنود، حيث تحتشد أمم الأرض ضد إسرائيل؛ ثم يرفع المسيح أتباعه إلى السحاب وينقذهم من المعاناة، بحسب زعم النصارى. ويؤمن بهذه النبوءة شخصيات عسكرية وسياسية وأكاديمية أمريكية كبيرة، وعلى رأسهم الكثير من رؤساء الولايات المتحدة. ولا يخفى أن بعض هذه النبوءات صحيح، وبعضه مختلق يبنونه وفق أهوائهم ومبلغ خيالهم. وأما الشخصيات المذكورة (من رجال السياسة ورجال الجيش) فلا وزن لها في مجال العلوم الدينية والمعقولات، وأغلبها تكون -رغم مناصبها العليا- من مرتبة العامة من الناحية العقلية؛ لذلك فلا ينبغي الالتفات إليها. وهذا الجمع بين العلو من جهة المنصب، والسفل من جهة العقل، يُعطي صنفا من الناس يسهل عليهم أن يكونوا مجرمين متطرّفين، كما نرى من واقعنا المشهود اليوم... وأما نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان، فنحن نؤمن به لإخبار الله ورسوله عنه. يقول الله تعالى في القرآن: {وَإِنَّهُۥ لَعِلۡمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمۡتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِۚ هَـٰذَا صِرَ ٰطٌ مُّسۡتَقِیمٌ} [الزخرف: 61]؛ والضمير في {وَإِنَّهُ}، يعود على عيسى عليه السلام؛ والمعنى أن عيسى عند نزوله، سيكون علامة على قيام الساعة، فهو من العلامات الكبرى للساعة. والنهي الوارد في قوله تعالى: {فَلَا تَمۡتَرُنَّ بِهَا}، أي فصدقوا بها أي العلامة التي هي عيسى، ولا تكذّبوا. ثم يقول الله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}[النساء: 159]. ومعنى {قَبْلَ مَوْتِهِ}، أي بعد نزول عيسى وقبل موته؛ لأنه الآن مرفوع إلى السماء. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ [أي، مدعو النبوة]، آخِرُهُمْ الْأَعْوَرُ الدَّجَّالُ، مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، ثم قال: وَإِنَّهُ سَيَظْهَرُ [سيغلب] عَلَى الْأَرْضِ كُلِّها غَيْرِ الْحَرَمِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِنَّهُ يَسُوقُ النَّاسَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيُحْصَرُونَ حَصْراً شَدِيداً ... إِلَى أَنْ قَالَ: فَيُصْبِحُ فِيهِمْ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُهُ وَجُنُودَهُ، حَتَّى إِنَّ الْحَجَرَ أَوْ جِذْمَ الْحَائِطِ [أصل الحائط] لَيُنادِي: يَا مُسْلِمُ أَوْ يا مُؤْمِنُ، هَذَا كافِرٌ مُسْتَتِرٌ بِي فَتَعالَ فَاقْتُلْهُ.»[7]. ولا بأس قبل أن نمضي من الوقوف عند بعض الألفاظ: ويقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «فَيَكُونُ عِيسى بْنُ مَرْيَمَ فِي أُمَّتِي حَكَماً عَدْلاً وَإِمَاماً مُقْسِطاً، يَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَذْبَحُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَتْرُكُ الصَّدَقَةَ، فَلا يُسْعَى عَلَى شَاةٍ وَلا بَعِيرٍ.»[8]. ومعنى الحديث أن عيسى عليه السلام، عندما سينزل، سيكون نائبا عن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومتبعا لشريعته. وسيأمر النصارى فيخرجوا عما كانوا عليه من فسوق، ويأمر بكسر الصليب، ومعناه أنه سيُخرجهم من عقيدة الفداء الموهومة التي هي تنظير سقيم؛ ويذبح الخنزير: أي يأمر بقتله ويمنع أكله؛ ويترك الصدقة بسبب الرخاء العام في ذلك الزمان. ولن يبقى من أتباعه بعد قتل اليهود وإمامهم الدجال، إلا الذين كانوا على الإسلام، أو الذين أسلموا من اليهود والنصارى، بدعوة عيسى؛ وسيحكم بعد وفاة المهدي عليه السلام أربعين سنة، هي خاتمة الخلافة العامة التي كان من ضمنها خلافة داود وسليمان. ومن هنا يظهر أن آخر خليفة([9]) من الرسل، هو عيسى عليه السلام. وتعود أصول الصهيونية النصرانية المباشرة إلى "التدبيرية" (القدرية([10]) بالاصطلاح الإسلامي)[11]، والتدبيرية منهج لتفسير الكتاب المقدس ظهر في إنجلترا في القرن التاسع عشر بصورة أساس، بفضل جهود "جون نلسون داربي" من كنيسة الإخوة البليموث. إلا أن البعض يرجع بأصولها إلى فترةٍ أقدم من ذلك، إلى بريطانيا القرن السابع عشر. وهي على كل حال، ظهرت نتيجة لسياق تاريخي معيّن، أقدم من ذلك بكثير... تُعتبر التدبيرية أو القدرية محورا رئيسا في الفكر اللاهوتي للصهاينة النصارى، فهم بقصد فهم صلة الله بالبشر، يقسمون تاريخ هذه العلاقة إلى سبعة أقدار أو حقب زمنية، يُخضِع فيها الله الإنسان لتجارب تمتحن طاعته. فيقول "سكوفيلد" أحد أهم مفكري هذا المذهب: "كل قدر دور من الزمان، يُمتحن فيه البشر حسبما أوحاه الله من وحي مخصوص.". فوفقاً للتدبيريين نحن نعيش اليوم في الحقبة السادسة أو ما يسمى "دور الكنيسة والنعمة"؛ بانتظار حلول الحقبة السابعة والأخيرة، برجوع المسيح للأرض، لتأسيس حكمه الألفي، كما يزعمون. وهكذا تَفصل التدبيرية بين مفهومي إسرائيل (الشعب اليهودي) والكنيسة (الشعب النصراني الآن)؛ فبالنسبة للنصرانية التقليدية، الكنيسة كما يقول "أوغسطينوس" هي وارثة الوعود التي أعطاها الله لإسرائيل (الاستبدالية)، فهي بذلك إسرائيل الجديدة التي تسعى بشوق لبلوغ أورشليم السماوية. وفي هذا المفهوم تصبح أورشليم أو الأرض الموعودة للنصارى، ذات طبيعة روحانية أزلية، لا صلة لها بأرض إسرائيل التاريخية؛ على عكس الصهاينة النصارى الذين يشددون على الفصل بين "إسرائيل" بصفته شعبا يهوديا أو شعب الله على الأرض، و"الكنيسة" أو شعب الله في السماء؛ مؤكدين على التفسير الحرفيّ للكتاب المقدس. فيفضي هذا بهم إلى نتيجة حتمية مفادها أن أرض فلسطين التاريخية، هي ملك أبدي للشعب اليهودي. وبحسب تفسير الصهاينة من النصارى، فإن نبوءات الكتاب المقدس التي أعلنت عن عودة "شعب الله" إلى أرضه، قد تحققت في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديَيْن. فالتدبيريّون لا يؤمنون بأن المسيحية التي أتت لتحل محل اليهودية، بل بتلك التي أتت لكي تعيد لها عناصرها المفقودة فحسب. وهم بحسب فهمهم للكتاب المقدس يعتقدون بأن قيام إسرائيل عام 1948م كان الخطوة الأولى لعودة المسيح للعالم، كما سبق أن بيّنّا... ولنُلق الآن نظرة على ظهور الصهيونية في بريطانيا، ثم في الولايات المتحدة، لنتبيّن أثر الأولى في الثانية، ولنتبيّن -أيضا- ارتباطهما معا، بالصهيونية اليهودية: أُعطيت الصهيونية النصرانية بعدها السياسي الأيديولوجي للمرة الأولى في بريطانيا عام 1655م عندما دعا "أوليفر كرومويل" رئيس المحفل البوريتاني بين عامي 1649 و1659م، لعقد مؤتمر يسمح لليهود بالعودة للسكن والإقامة في المملكة (بريطانيا) بعدما تم نفيهم منها بقرار من الملك "إدوارد الأول" عام 1290م. فتم في هذا المؤتمر خلق صلة ما بين عقائد الصهيونية النصرانية، والمصالح الاستراتيجية لبريطانيا؛ دفعت "كرومويل" للإيمان باكراً بوجوب توطين اليهود في الأراضي المقدسة، في فلسطين. ولو نظرنا إلى معاملة النصارى لليهود، لوجدناهم تارة يطردونهم، وأخرى يستقبلونهم بحفاوة ويعملون معهم على عودتهم إلى فلسطين؛ فهل يدل هذا إلا على اضطراب في النظر، واختلال في المعايير، وخضوع للأهواء والمصالح؟!... وأي دين سيبقى مع هذه الصفات!... لهذا نعيد ونكرّر (من باب النصح): اليهود لا دين لهم الآن، والنصارى لا دين لهم الآن؛ ومن شاء منهم أن يتثبّت، فليأتنا لندلّه على ما لا يُبقي لديه حيرة بإذن الله. أما إن كان المرء كما أخبرَنا أحدُ أصحابنا، عندما قال لأحد النصارى: إن المرء أمامه الآن: اليهودية والنصرانية والإسلام، وعليه أن يبحث عن أيِّها هو الحق، حتى إذا عرفه اتبعه. فأجابه النصراني: أنا لا أترك النصرانية وإن عرفت أن الحق في غيرها!... ونحن نقول هنا: من كان على هذه الصفة، فلا يعتبرْ نفسه إنسانا، بل حيوانا؛ وعلى الأصحّ قِرْداً. وهنا نذكر لطيفة: وهي أن بعض المسلمين عندما سمع الله يقول: {قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَ ٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَیۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِیرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ} [المائدة: 60]. وهذه الآية نزلت في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بخاتم الرسل عليه وآله الصلاة والسلام، وكانوا يستهزئون بالمؤمنين إذا قاموا إلى الصلاة، فذكر الله لهم جزاءً في مقابل مكانة أولئك الذين يحتقرونهم في أعينهم؛ وجعل هذا الجزاء مقابلة كالمفاضلة، ليظهر الأسوأ منهما، فقال تعالى: {هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَ ٰلِكَ مَثُوبَةً}، والذي سيفصل القول فيه إمعانا في إذلالهم؛ وهو قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَیۡهِ} {وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِیرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ}، أي إن جزاءكم أنتم بكفركم واستهزائكم: لعنة: وهي الطرد من الرحمة، وغضب: وهو أصل العذاب الذي يلقونه في جهنم. وأما قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِیرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ}، فهو زيادة في العقوبة، وإمعان في الإذلال. ولقد قال المفسرون، إن الله مسخ أُناسا من اليهود قردة وخنازير؛ حتى صاروا يُناقشون: هل أعقبوا بعد المسخ أم لا؟... فقال عقلاؤهم: لم يُعقبوا؛ ولما ماتوا جميعا انقطعوا. وهذا كله مجانب للصواب، لأن المقصود من الجعل قردة وخنازير، ليس هو المسخ، حتى يصير من كان إنسانا قردا وخنزيرا؛ وإنما المقصود مسخ الحقيقة التي يكون عليها هؤلاء المعاقبون من الكافرين من جهة بواطنهم. فبعد أن كانوا على صفة الإنسانية ستنتفي عنهم، مع بقاء الصورة الظاهرة؛ فيكونون من جهة الباطن إما قردة أو خنازير أو عبدة للطاغوت. والقردة: هم من يغلب عليهم التقليد، كالشخص الذي أخبر عنه صاحبنا؛ والخنازير: هم المنهمكون في شهواتهم، لا يعرفون غيرها؛ وأما عبدة الطاغوت، فهم الكلاب التي تتبع أصحاب السلطة وأصحاب المال. وعندما فهم المفسرون الآية على غير وجهها، فقد جعلوها خاصة ببعض اليهود، وأعفوا أنفسهم من تبعاتها؛ حتى صاروا عندما يريدون شتم اليهود يقولون لهم: يا أبناء القردة والخنازير! وهذا لا يصح، ولا يدلّ إلا على جهل صاحبه. وذلك لأن من هذه الأمة من ستطابق حقيقتهم حقائق أولئك اليهود، فيكونون هم أيضا قردة وخنازير وكلاباً وغيرها... ثم إن الله يختم الآية بقوله: {أُو۟لَـٰۤىِٕكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ}؛ أي إن الكفار من أهل الكتاب (ويدخل ضمنهم بعض المسلمين اليوم)، هم شر من القردة والخنازير والكلاب الأصيلة في حيوانيتها؛ لأن هذه الحيوانات لها مكانتها، فلم تنزل عنها، ولها هدايتها المخصوصة بها، فلم تضل عنها. ومن كان هذا حاله، فهو أفضل ممن كان إنسانا ثم نزل إلى صفات الحيوانية. ولقد كان الأولى بالمفسّرين أن يعودوا إلى قول الله تعالى: {وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیرًا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٌ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡیُنٌ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٌ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ} [الأعراف: 179]. فذلك خاص، وهذا عام؛ وبالعام يتضح الخاص. وعلى الناس أن يُسارعوا إلى حذف هذا التفسير الخاطئ، لأنه لا يليق بعلماء الدين. وقد نفخ الشيطان فيه، حتى صار كل العامة يتداولونه!... والذي يدل على المعنى الذي اخترناه من الواقع، هو أن الله قد أعطى لبعض أوليائه رؤية حقيقة الآدميّين، فكانوا عندما يرونهم في السوق أو في المسجد، يرونهم على صور حيوانات. فمنهم الخنزير، ومنهم القرد، ومنهم الحمار، وغير ذلك. وكل هؤلاء في الظاهر مسلمون... وفي القرن التاسع عشر برزت شخصيتان تعتبران من أهم دعاة الصهيونية النصرانية، هما "جون نلسون داربي" من كنيسة الإخوة البليموث والقس "لويس واي". كان هذا الأخير رئيسا لجمعية في لندن هدفها الترويج للدين النصراني بين اليهود، والتي أصبحت بفضل جهود "واي" أهم منبر للتعبير عن العقيدة الصهيونية النصرانية؛ بما في ذلك الدعوة لإرجاع اليهود إلى فلسطين. ومن مؤيدي الصهيونية النصرانية في تلك الفترة، برز أيضاً البرلماني البريطاني "هنري دارموند" الذي ترك الحياة السياسية بعد زيارته الأراضي المقدسة، ليصرف بقية عمره لتعليم النصرانية بنسختها الأصولية، وليدعوَ لعودة اليهود إلى فلسطين. ولم يكن ما يحفز حاملي الأيديولوجيا الصهيونية من النصارى، لينخرطوا في هذا المجال، هو دائماً محبة اليهود؛ لأن بعضهم كان ينظر إليهم نظرة عداء، كالمصلح الاجتماعي الإنجيلي اللورد "آشلي كونت شافتسبوري" (1818 – 1885م)، الذي كان يحبذ رؤية اليهود يقيمون دولتهم في فلسطين ويحيون فيها، بدلاً من البقاء في إنجلترا. وهنا يتكشّف النفاق النصراني، الخادم للمصالح الأوروبية؛ وهو ما سيتجدّد في القرن العشرين ويستمر إلى الآن. ومن الوجوه المهمة للصهاينة النصارى في بريطانيا القس "ويليام هشلر" (1845 – 1931م)، والذي قام في فترة عمله في سفارة بلاده في فيينا، بتنظيم عمليات لنقل المهاجرين اليهود الروس إلى فلسطين. وكان قد نشر كتاباً عام 1894م بعنوان "عودة اليهود إلى فلسطين"، دعا فيه إلى هذه العودة تحقيقاً لنبوءات وردت في كتاب العهد القديم. وكان "هشلر" كذلك من المتحمسين للصحافي النمساوي المجري "تيودور هرتزل" مؤسس الصهيونية؛ حيث كان يقدم له وللقضية الصهيونية الدعم السياسي لفترة تقارب الثلاثين عاماً. ومن أشهر السياسيين البريطانيين الألفيين اللورد "آرثر بلفور المعروف بمنحه اليهود وعد الحكومة البريطانية بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين التاريخية عام 1917م، بالرغم من مواقفه المعروفة بمعاداة اليهود. أعطى قيام دولة إسرائيل عام 1948م زخماً قوياً لمتبنِّي الصهيونية النصرانية، كما أن حرب يونيو عام 1967م، كانت في نظرهم أشبه بمعجزة إلهية، تمكن فيها اليهود من دحر عدة جيوش عربية مجتمعة في آن واحد (وهو عسف في التأويل يلجأ إليه كثيرا الأيديولوجيون)، وأحكمت خلالها الدولة العبرية سيطرتها على بقية أراضي فلسطين التاريخية خصوصاً القدس الشرقية، والمواقع الدينية التي تحتضنها. وأما التدبيريون، فإنه باحتلال إسرائيل للقدس والضفة الغربية، فقد تحققت في نظرهم نبوءات الكتاب المقدس؛ فشجعت هذه العلامات "الإلهية" المزعومة، نصارى إنجيليين آخرين على الانخراط في صفوف المدافعين عن إسرائيل، وعلى دفع الولايات المتحدة للبقاء إلى جانب "جهة الحق" في تتميم النبوءات. ولا يخفى ما في هذه الاستنتاجات من تهافت، بعيد كلّ البعد عن التدبّر الرصين. وأما عندنا، فإن كل ذلك مكر واستدراجات من الله، حتى يقع المقدور الذي أخبرنا عنه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. ويعتبر عام 1979م عاماً استثنائياً بالنسبة لتاريخ الصهيونية النصرانية، فبعد قرن من تقرب "هشلر" من "تيودور هرتزل" مؤسس الصهيونية العالمية، وبدء الدعم النصراني الأصولي المباشر لإقامة الدولة اليهودية، أنشأ القس "جيري فالويل" في الولايات المتحدة الأمريكية منظمة الأغلبية الأخلاقية. وهذه المنظمة تضم لجانا سياسية لنصارى ذوي توجهات محافظة، من أغراضها العمل على التعبئة والدعاية لانتخاب المرشحين المحافظين. ومع بلوغ عدد أعضائها ستة ملايين عضو، أصبحت المنظمة كتلة انتخابية قوية عُزي إليها فضل نجاح "رونالد ريغان" في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1980م. وينص أحد المبادئ الأربعة التأسيسية لمنظمة الأغلبية الأخلاقية على "دعم إسرائيل والشعب اليهودي في كل مكان". وفي عام 1980م، صرح "فالويل" بأن [الله بارك أمريكا، لأن أمريكا باركت اليهود. فإذا أرادت هذه الأمة أن ترى حقولها محافظةً على بهائها، وإنجازاتها العلمية محافظة على ريادتها، وحريتها محمية، فعلى أمريكا أن تبقى واقفة إلى جانب إسرائيل.]. حلَّ "جيري فالويل" منظمة الأغلبية الأخلاقية عام 1989م، ولكن النصارى المحافظين حافظوا على مكانتهم بصفتهم داعمين لإسرائيل، رغم افتقارهم لوجود مؤسسة قوية رسمية لدعم الدولة العبرية بقوة المنظمة المذكورة آنفاً. ولتنظيم هذا الدعم، أسس الصهاينة النصارى في الولايات المتحدة عدة مؤسسات، الغرض المعلن منها: التشجيع على مساندة إسرائيل. أبرزها: "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل"، وقد وصفها القس "جون هاجي" بالنسخة "المسيحية" من "أيباك"؛ ومؤسسات أخرى مثل: "مؤتمر القيادة المسيحية الوطني من أجل إسرائيل"، و"ائتلاف الوحدة من أجل إسرائيل"، و"السفارة المسيحية العالمية في أورشليم" وغيرها... وهنا يظهر مدى الارتباط الديني بين إسرائيل والولايات المتحدة، المنعكس على السياسة الخارجية لهذه الأخيرة؛ حتى صار بعض المتابعين لا يجد منطقا مقبولا لها. ولو أن الناظر يعلم أثر العقائد الدينية على الناس، لعلم أن ذلك يتجاوز المنطق العقلي، ويدخل في مجال الخرافات من غير أدنى شك. وحتى نفهم حقيقة ما يجري بين دولتيْن، علينا أن نُسقط صفاتهما على شخصيْن، ثم نتأمل. فإذا وجدنا أحد الشخصيْن مسيْطرا على الآخر بسبب من الأسباب كالشعوذة، ووجدنا الشخص الثاني منقادا له، يعطيه ماله ويُلبّي كل طلباته؛ فهل سنحكم على العلاقة التي تربط بين الشخصيْن بأنها سوية؟ أو بأنها تنفعهما معا؟... أم نحكم بالعكس؟... فإن عرفنا الحكم الصحيح على الشخصين، فلنعد به على الولايات المتحدة وإسرائيل، لنقول: إن الأولى قد هيمنت على مصير الثانية، وصارت تسخّرها لخرافات لا يتمكن أحد من الجزم بصحة جزء منها؛ وإن الثانية قد أصبحت رهينة في يد الأولى، من دون أن تضمن سلامتها في النهاية. فكيف بعد هذا، لا يقوم العقلاء من الولايات المتحدة، والعقلاء من إسرائيل، ليجعلوا دولتيهما تفكّان هذا الارتباط الذي ستكون عواقبه وخيمة جدا عليهما معا؟!... ولا يقتصر دعم الصهاينة النصارى لإسرائيل وللقضية اليهودية على الناحية السياسية فقط، فهم يقدمون لها العون بكل الأشكال المتاحة لهم، خصوصاً المال الذي هو عصب كل السياسات. فقد قدم هؤلاء تبرعات كبيرة في سبيل المساهمة بنقل يهود دول الاتحاد السوفياتي السابق وإثيوبيا إلى إسرائيل؛ على سبيل المثال، تمكن "جون هاجي" من جمع أكثر من 4.7 مليون دولار، لصالح اتحاد الجماعات اليهودية؛ وقامت شبكة "بات روبيرتسون" للبث الإذاعي النصراني بتقديم منح بمئات الآلاف من الدولارات لمساعدة اليهود الفقراء حول العالم للانتقال والعيش في إسرائيل. وبين عامي2000 و2003م، ضعفت السياحة في إسرائيل بسبب الانتفاضة الفلسطينية الثانية وإعلان "جورج بوش" ما سمي بـ "الحرب على الإرهاب"، وتسبب ذلك بخسائر مهمة للاقتصاد الإسرائيلي، إلا أن الصهاينة النصارى استمروا بتنظيم رحلات السياحة الدينية إلى الأراضي المقدسة بأعداد فاقت أحياناً أعداد السياح اليهود الأصليّين. وقام مبشرو التلفزيون أمثال "بات روبيرتسون" و"بيني هين" بزيارة إسرائيل خلال تلك الفترة، وأعلنوا من خلال شبكاتهم التلفزيونية لمتابعيهم من ملايين الإنجيليين حول العالم، أن زيارة إسرائيل آمنة. كما ساهم الصهاينة النصارى بدعم قطاع السياحة الإسرائيلي من الولايات المتحدة بالمشاركة بأيام ""Shop Israel، حيث كان يحضر تجار إسرائيليون إلى أمريكا لترويج وبيع منتجاتهم. وهم كذلك ينظرون إلى إصابة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون سنة 2006م بجلطة سببها نزيف دماغي حاد، تسبب له في فقدانه لوعيه ودخوله فيما يعرف طبيا بـ "الحالة الخضرية الدائمة"، التي انتهت بوفاته بعد ثماني سنوات (2014م) على أنها "انتقام رباني"، وعقاب على تفريطه في أراضي هي من حق إسرائيل؛ وعلى قيامه صيف 2005م بإخلاء المستوطنات الإسرائيلية، ومعسكرات الجيش الإسرائيلي، من قطاع غزة وأربع مستوطنات أخرى في شمال الضفة الغربية. ولا يخفى ما في هذه التفسيرات من تهافت أيضا، يدخل به صاحبه في الخرافية من أوسع الأبواب. ولو تيسّر لنا الأمر، لكنا أبرزنا الآفات العقلية التي يقع فيها هؤلاء الذين يحسبون أنفسهم على عقل، بينما هم في الحقيقة من جملة الحمقى... فصهاينة النصارى يرفضون كل القرارات والسياسات التي تصب في اتجاه التخلي عن جزء ولو بسيط مما يسمونه "أرض الله الموعودة للشعب اليهودي"، ويعتبرونها "عرقلة" و"نسفا" لمخطط عودة المسيح (!). ولهذا هم يدفعون بحكوماتهم، إلى عرقلة جميع محاولات التوفيق في المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والوقوف حائلا أمام وساطة كل من الأوروبيين أو الدول العربية المعتدلة، وإجهاض كل مجهوداتهم لإحلال السلم بالمنطقة (!). ناهيك عن تحريك قادتهم لتفعيل حقهم في الفيتو، وإقبار كل قرار أممي يقضي بمعاقبة إجرام إسرائيل ضد الإنسانية وسياساتها الاستعمارية (!). وهذا يستدعي -كما نرى- قياما للولايات المتحدة، بقصد تعريفها بالقصور العقلي الذي يتصف به مسؤولوها؛ كما يستدعي قيامَ دول العالم من أجل إصلاح هيئة الأمم المتحدة، إن كانت قابلة للإصلاح، وإلا فإن الأمر يقتضي الانسحاب الجماعي منها، وتأسيس هيئة أممية جديدة. وهذا، لأن ترك مصير البشرية بأيدي مجموعة من الحمقى المتأدلجين، لا يليق بالعقلاء من العالم الكبير. ومن كانت له عقيدة يُرجّحها، فمن حقه العمل بها في نفسه، لا أن يُلزم بها الآخرين! ويُخضع لها القارّات السبع. وعلى المسلمين أن يعلموا أن عدوّهم الأول، ليس إسرائيل؛ وإنما هي الولايات المتحدة الأمريكية. وعليهم أن ينظروا فيما يصلح لرفع الالتباس ويقرب وجهات النظر، مع عقلاء يلتزمون بما يتوصّل له الطرفان من اتفاقات. وهذا ربما سينقذ الولايات المتحدة من سقطة مدويّة، تهتز لها الأرض جمعاء!... وأما على المستوى الوطني هناك، فينبغي أن يقوم للصهاينة النصارى العقلاءُ، من أجل قطع الطريق على كل مرشح أمريكي معروف بخدمة السياسات الإسرائيلية، ويرغب في ترأس الولايات المتحدة؛ حتى تحافظ الدولة على استقلالها، وإلا فأين الاستقلال الذي يحتفلون به كل عام!... وإن تزايد أعداد المتصهينين من النصارى بالولايات المتحدة، وتملُّكهم لأقوى شركاتها، ووسائل إعلامها، يجعل منهم "مجموعة الضغط" الأكثر تأثيرا على سياسات البيت الأبيض. وأصواتهم تؤثر بشكل كبير على نتائج المعارك الانتخابية، ثم بعد ذلك على مواقف وأداء المرشح المنتخب. فحتى لو استغنى المرشحون للانتخابات الأمريكية عن أصواتهم، فلا يمكنهم الاستغناء عن دعمهم المالي، والإعلامي، لتمويل وإنجاح حملاتهم الدعائية. وهذا الدعم، هم لا يقدمونه مجانا؛ بل في مقابل دعمهم، ينبغي على المرشح أن يلتزم بالدفاع عن مصالحهم وسياساتهم، بما فيها حماية ودعم إسرائيل من داخل سلطات الجمهورية. وحتى لو فرضنا أن رئيسا أمريكيا أفلت من قبضتهم الحديدية، فسيجد نفسه محاصرا من طرف عملائهم القابعين بالكونغرس الأمريكي. فمن بين المائة عضو بمجلس الشيوخ، 70 على الأقل، يكونون على الدوام خاضعين بشكل أو بآخر للوبي الصهيونية النصرانية الأمريكية. كل هؤلاء مجندون للدفاع عن الدولة اليهودية، ويصوتون بشكل أوتوماتيكي ضد كل قرار للبيت الأبيض، أو اقتراح، يتعارض مع المصالح العليا لإسرائيل. فعلى سبيل المثال، كان الرئيس الأمريكي "جيرالد فورد" يستعد في عام 1976م لدعوة إسرائيل بشكل علني إلى احترام المواثيق الدولية، والامتثال لحدود عام 1967م. فجاءته رسالة من أعضاء مجلس الشيوخ، جعلته يتراجع عن قراره هذا، ويُلغي الخطاب الرسمي الذي كان يعتزم إلقاءه، بصفة نهائية. كما كانت هناك محاولات رئاسية للتخفيض من قيمة الدعم المالي المقدم لإسرائيل، كلها باءت بالفشل... فمنذ عام 1985م إلى يومنا هذا، تم منح ما لا يقل عن 100 مليار دولار أمريكي من المساعدات العامة من طرف الولايات المتحدة لإسرائيل. وهذه المنح والمساعدات لا تتوقف أبدا، ولا تعرف قيمتها الانخفاض حتى عندما تعرف صناديق وحسابات أمريكا الخسارة، أو يكون اقتصادها في وضعية أزمة أو في حالة عجز خطير. ففي نظر ممثلي لوبيات الصهيونية النصرانية، داخل مجالس الكونغرس الأمريكي، دعم الدولة العبرية والسهر على حمايتها خطان أحمران ومهمتان مقدستان لا ينبغي لأحد المساس بهما مهما كانت الأحوال.([12]). ونحن نقول: هذه أسباب خراب أمريكا إما عاجلا أو آجلا... ولا بأس هنا من التذكير بموقف اليهود من الصهيونية النصرانية: فهم بالرغم من كل الدعم الذي يقدمه الصهاينة النصارى لإسرائيل، ينظرون إليهم بشيء من الارتياب، ويُعزى ذلك لأسباب عدة منها: - تاريخ معاداة اليهود من قبل النصارى، ووجود ما يعرف بلاهوت الاستبدال في اللاهوت النصراني، أي استبدال الكنيسة بشعب إسرائيل، في "مخطط الله الخلاصي"، مع العلم أن الصهاينة النصارى يرفضون هذا المعتقد. كل هذا لم يمنع الكثير من المنظمات اليهودية، من الترحيب بالتحالف فيما بينها وبين الصهاينة النصارى؛ حتى إن "أيباك" أَسست من أجل هذا، مكتباً خاصاً للتواصل والتنسيق مع الحركة الإنجيلية. كما أن شخصيات يهودية أمريكية نافذة أكدت في أكثر من مناسبة على أهمية هذا التحالف لمصلحة إسرائيل، يذكر منها: "ناثان بيرلموتر" وهو رئيس سابق لرابطة مكافحة التشهير، والذي صرح بأنه: "بإمكان اليهود التكيّف تماماً مع أولويات اليمين "المسيحي"، فيما يخص السياسة الداخلية -للولايات المتحدة الأمريكية- على الرغم من تناقض ذلك مع آراء يهود اليسار؛ وذلك لأنه لا يوجد أي قضية من هذه القضايا بمقدار أهمية إسرائيل". وفي ختام هذا الفصل، علينا أن نتبيّن أنه كما جعلت الصهيونية اليهودية من جبل "صهيون" رمزا لها تدور عليه، وعلى القدس، تنظيراتها؛ فإن الصهيونية النصرانية بالمقابل، قد جعلت دولة إسرائيل نفسها رمزا لها، ومحورا تدور عليه تنظيراتها. وهذا، لأن كلتا الصهيونيتيْن لا تعدوان أن تكونا أيديولوجيتيْن، لا بد من صياغتهما بأسلوب فكري، ينطلي على النخب من كل المجتمعات المعنية، ويصلح لأن تعتنقه الجماهير من العامة، عند عيشها الفراغ الديني... وبعد أن عرفنا الأيديولوجيا التي سيلتف حولها المجتمع اليهودي ثم المجتمع النصراني، بعد تحقُّق كفرهما، عند انقضاء زمنيهما التشريعييْن؛ لا بد لنا الآن من الالتفات إلى المجتمع المسلم، لنتعرّف كيف سيقع في آفة التأدلج، على الرغم من استمرار الزمن التشريعي المحمدي إلى قيام الساعة. وهو أمر فارق جدا، حيث كان يُفترض بأهل الدين الحق، أن يكتفوا به عما سواه؛ ولكن رياح الأقدار قد تجري بما لا تشتهيه سفن الأماني؛ وهل يستوي ما هو من عند الله، بما هو من عند البشر؟!... (يُتبع) [1] . نحن نفرق دائما بين الموسويّين واليهود، وبين العيسويّين والنصارى، في أزمنتهم التشريعية؛ وأما الآن فالموسويّون والعيسويّون هم المحمديّون أنفسهم. وإن هذه الحقيقة الدينية، رغم وضوحها، لا تكاد تُميّز لا من المسلمين ولا من غيرهم. وإن عدم تمييزها لا شك ستنجم عنه أضرار بليغة، تصيب الدين في مقتل. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.