اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2023/12/01 القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (9) الفصل الثامن: محل العداوة من الدين قبل أن نمر إلى الجهاد، وإلى أحكامه في الشريعة الإسلامية، ينبغي لنا تناول مسألة العداوة والكراهية، من عدة مستويات، لتبيّن أحكامها كما هي. ولا شك أن المتلاعبين بعقول الناس من السياسيين وغيرهم، عندما يتكلمون يرفضون مبدأ كراهية الناس بعضهم لبعض، من باب إنامة سامعيهم، وإبقاءً عليهم في عالم افتراضي يعمه السلام وتسوده المحبة؛ بينما الواقع المعيش في العالم كلّه، يجعل الناس يبدو شطر منهم وحوشا مفترسة؛ الأشد افتراسا منهم، يأكل الأقل والأضعف. وأول سؤال نسأله هنا، هو: لِمَ طغت هذه الازدواجية في الخطاب؟ ولم لا يُصارح الناس أنفسهم بحقيقة ما هم عليه؟... والجواب، هو لأن الخطاب السائد في زماننا، هو الخطاب الشيطاني؛ والشيطان مـُضلِّل، لا يصْدُق إلا في النادر من الأحيان، وعندما يكون في مواجهة رباني. ولنتجاوز الكذب السافر الذي يستغفل به ذئاب البشرية خرافهم، لأنه جليّ ولا خفاء به؛ ولننزل إلى عمق المسألة لنسأل: لماذا كان الشر موجودا؟... وقد سأل الفلاسفة واللاهوتيون من النصارى، هذا السؤال منذ قرون، ولم يبلغوا فيه الصواب الذي سندل عليه نحن -إن شاء الله- بأيسر العبارات، ولنفكّك المسألة شيئا فشيئا: 1. ما هو الشر؟: وهذا الذي مرّ، يدل على أن الشر لا وجود له، وإنما هو اعتبار لظهورات مختلفة في مراتب مختلفة، تقابل ظهورات الخير كلها. وهذه برهنة عقلية يحتاجها الفلاسفة والمفكرون في زماننا كثيرا، حتى يعودوا بالأمور إلى أصولها؛ إن هم عقلوها. والنسبية التي تجعل -كما أسلفنا- الناس يختلفون أحيانا في تصنيف الخير والشر، هي تعود إلى المبادئ المـُنطلَق منها؛ ولا أدل في الحس عليها من تصبّر المريض على الآلام التي يُحدثها العلاج الطبيّ له، عند علمه بأن النتيجة المقصودة، هي التخلّص من المرض وإن اعترضها الألم. والمسألة هنا عقلية وحسية؛ كلما قوي العقل فيها، تُجووِز الألم الحسي، وكلما غلب الحس تجووِز العقل. وأما إن تناولناها من كونها عقلية حُكْميّة، فإن الاعتبار الغالب، هو ما يُرجّح كونها خيرا أم شرّا. وقد دل على هذا الأصل في الاعتبار المتعلق بالحس وبالعقل، قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٌ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـًٔا وَهُوَ خَیۡرٌ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تُحِبُّوا۟ شَیۡـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 216]. ومعنى: {كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ}: أوجَبَتْه عليكم الشريعة، وهو بشروط كما سنعلم فيما بعد. وقد بيّنت الآية بأن القتال مكروه للنفوس، من كونه يكون سببا في هلاكها، وهي إن لم تكن على علم بحقيقة الأمر (وهذا نادر في الناس)، فإنها ستراه إعداما؛ أي عودة إلى العدم، الذي هو عندها الشر المحض إن كان الأمر قتلا؛ وأما إن كان الشر إصابة بجرح، أو فقدا لأحد الأعضاء، فإنه عندئذ سيكون في نظرها جزئيا. وهذا الحكم العام من النفوس، لا يكون صحيحا، لأن الله من جوده، قد حرّم على النفوس العودة إلى العدم. فما بقي لها بعد هذا، إلا أن تفوز في الآخرة، فتنال الخير الأكبر بالشهادة أو تفوز بالإصابة في سبيل الله التي تؤجر عليها، أو تنتصر فتنال أقرب الحُسنييْن، أو أن تكون من الخاسرين كليّا أو جزئيا، فيكون مآلها إلى العذاب الذي هو الشر المناسب لها هنا وهناك، ومن دون عودةٍ إلى العدم. ونعني من هذا، أن العذاب المتنوع على أهل النار في الآخرة، هو غياب التنعيم الملذوذ المناسب لكل أعضاء جسم الإنسان، وحلول الضدّ منه ليذوق المـُعذَّب الآلام. ومن فهم عنا ما نقوله عن العذاب، فإنه سيُدرك ما يتعلق بالتنعيم في الجنة، من باب: "بأضدادها تُعرف الأشياء". ولن نتوسع في معاني الآية التي تُغرينا بها الآن، فربما سنعود إليها عن قريب من وجه مناسب آخر، ولنعد إلى مسألة الكراهية. 2. هل الكراهية من الدين؟: وإذا كان حكم الكراهية ما عرفنا، فهل بقي لها معنى بعدُ، وبم يتعلّق؟ ولنجب: إن الكراهية الباقية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون، هي الكراهية الشرعية، والتي يتصف بها العبد متابعة منه للشريعة. وهي من الله عدم محبة؛ أي انتفاء صفة ظرفيا، ليصدر فعل الكراهَة عنه سبحانه. فإذا علم العبد عدم محبة الله لشيء، وجب عليه أن يكرهه. والفرق بين عدم المحبة والكراهية، هو أن عدم المحبة من كونه نفي النقيض، فهو فعل حيادي، وأما الكراهية فهي فعل ثبوتي؛ وهذا من مرتبتيْن مختلفتيْن، فلا ينبغي أن يُغفل هذا. وهذا الترتيب، يُظهر مرة أخرى أن الكراهية عارضة وليس أصلية، كما أسلفا؛ وفي هذا المعنى بشارة يعلمها أهلها من كلامنا، أما غيرهم فيعسُر عليهم ما نشير إليه. وعلى هذا، ينبغي فهم الأحاديث التي وردت فيها الألفاظ التي كان عليها مدار الكلام: فيقول -مثلا- النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ: أنْ تَعْبُدُوهُ، ولا تُشْرِكُوا به شيئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا؛ ويَكْرَهُ لَكُمْ: قيلَ وقالَ، وكَثْرَةَ السُّؤالِ، وإِضَاعَةَ المالِ.»[6]. وجاء هنا بفعل يرضى بدل أحب الذي هو أقوى منه؛ ليكون الفعلان أكثر مناسبة عند التقابل؛ نعني الرضى والكراهة. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضا: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْمُتَفَحِّشَ.»[7]، ولقد جاء الإبغاض من الله هنا، في مقابِل مرتبتيْن للعبد، وهما: الصفة، والفعل. وذلك لأن الفاحش، صفة؛ والمتفحش فعل. فقابلهما الله بفعل البغض الذي هو أقوى من فعل الكراهية. وهكذا... والبغض فعل إلهي، يكاد يبلغ الصفة. وهو أيضا إن قوبل بالمحبة، ظهرت عرضيته. وهذا كله يجعل الحكم في نهاية التجلّي، للأقوى وللأصل، لا للأضعف والعارض... ولنعد الآن إلى العبد المؤمن الذي عليه أن يكره ويبغض بحكم الشريعة، لا بهواه؛ فكيف يكون منه ذلك؟... ولا شك أن القارئ يذكر أننا قد ميّزنا من كل عبد مراتب ثلاثا، على صورة المراتب الإلهية الأصلية، والتي هي: الذات، والصفة، والفعل. وإذا اعتبرنا هذه المراتب لدى العباد، فبمَ يتعلّق فعل الكراهية الشرعية؟ فنجيب: ففيما يتعلّق بعامة المؤمنين: يتعلق بصفة المكروه وبفعله، دون ذاته. فالكافر -مثلا- لا ينبغي للمؤمن أن يكره ذاته، بل له أن يكره صفته التي هي الكفر، ويكره كفره أو معصيته بما هما فعل. وأما الخواص، فإنهم يُعاملون الكافر بما يدل عليه الحكم الشرعي، من دون أن يكرهوا منه لا ذاتا، ولا صفة، ولا فعلا؛ وهذا لأن الكافر (كسائر المخلوقات) هو فعل لله، وفعل الله لا يُكره؛ بل يُقبل. ونعني أن يُقبل هو، لا أن تُقبل نتائجه في الأحكام الشرعية، التي نهى الله عن قبولها والرضى بها، وأحيانا ينهى حتى عن معاملتها (الإعراض عنها). وهكذا يكون الولي جامعا بين الحسنييْن: قبول فعل الله، والعمل وفق الشريعة. ولما كان هؤلاء الذين هم مع الله في أحكام أفعاله بما هي أفعاله، وبما هي أفعال العباد منوطة بها، أخبر الله عنهم في قتالهم، وهو الذي لا يكون في العادة إلا عمن قامت به الكراهية والبغض طاعة لله، فقال عنهم: {فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ} [الأنفال: 17]، ليتحمّل عنهم فعل القتل، جزاء لهم على اعتبارهم لحُرمة أفعاله (خلقه). وهذا مقام عظيم، قد دللنا على مبدئه، وأما في نهايته فإنه يُعطي العصمة، وكفى بها مكانة!... وقد يختلط هذا المقام، على بعض السالكين، فيضلّون عندما يقبلون بعض أفعال الله التي لم يأذن سبحانه لعباده بقبولها. ويدل على هذا المعنى، لمن عقل ماسبق عنّا، قول الله تعالى: {وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَزَیَّنَهُۥ فِی قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡیَانَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلرَّ ٰشِدُونَ} [الحجرات: 7]. فهذا تحبيب لفعله بفعله، وتكريه لفعله بفعله؛ ثم جعل نسبة الفضل منّة منه سبحانه وفضلا للمحلّ. فما أعجب أفعال الله في أفعاله!... وأما قولنا آنفا بتحمّل الله لفعل القتل عمن يقاتل عن أمره سبحانه، فهو بسبب عِظم القتل عند الله. ولهذه العلة جاء قول الله تعالى: {مِنۡ أَجۡلِ ذَ ٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٍ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِیعًا وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعًاۚ} [المائدة: 32]. وهذا التشبيه من الحق بين قتل النفس الواحدة عن غير إذن إلهي، وقتل كل النفوس، ليس مجازيا، كما يظن من يعتمد اللغة وحدها في فهم معاني القرآن؛ وإنما هو حقيقة تؤكد قيمة كل نفس فردية. وأما إن سأل سائل: فالكافرون يُبغضوننا، ويعملون على أذيّتنا؛ ألا نقابلهم بالمثل؟ قلنا، لا!... وذلك لأن الكافرين يكونون على جهل، ويكون خواص المؤمنين على علم، والله أخبر عن الفريقيْن بقوله تعالى: {قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]، وقال سبحانه: {قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلَّذِینَ یَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ} [الزمر: 9]. وهو يعني أنه لا يجوز للعالم أن يتخلّق بأخلاق الجاهل، ولا المؤمن بأخلاق الكافر؛ وهذا علم مجهول للفقهاء. وأما المؤمن العامي، فعليه أن يتبع إماما يُعرّفه أحكام الشريعة على وجهها، أو أن يتبعه تقليدا، لا أن يتبع فقهاء هم أيضا عمي البصائر ولا يعلمون. وإنّ ردّ المؤمن على أفعال الكافر بما هو من جنسها، ومن مرتبتها، يكون منه مخالفة للشريعة؛ يحكم به على نفسه بأنه على فسوق ومعصية. وإن نحن نزّلنا هذه الأحكام على الإسرائيليّين الذين يرتكبون من كل صنف من الجرائم أعتاها، وعلى المسلمين من الفلسطينيّين، فإنه ينبغي للمسلمين ألا يُساووا اليهود في سوئهم، بله أن يزيدوا عليهم، كما صرنا نرى؛ لأن المسلمين لا ينتصرون لأنفسهم، ويحرصون على إرضاء الله عنهم باتباع أحكامه، رغم المشقّات القلبية والماديّة؛ فإذا رضي عنهم بسبب ذلك، نصرهم من عنده سبحانه. يقول تعالى: {وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ} [آل عمران: 126]، أي إنما النصر الذي ترجونه، لا يأتيكم إلا من عند الله، العزيز، الحكيم؛ وهنا يظهر أن اسم الله "النصير" يكون من أتباع الاسم "العزيز"، وهما معا تحت الاسم "الله" بصفة غير مباشرة. وأما الاسم "الحكيم"، فهو لترتيب الأحكام، وهي هنا: إما النصر، وإما الخذلان. والله أعلم وأحكم، بما يصلح من ذلك لعباده، وبما يُناسب حالهم. وليس الأمر مطلقا، كما يظنه جلّ الفقهاء، والسواد الأعظم من الإسلاميّين. ونعني هنا أن الله قد ينصر الكافرين ويخذل المؤمنين، مع أنه القائل سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرُ المـُؤمِنِينَ} [الروم: 47]. وربما قد يرتدّ الجاهل، عندما ينهزم حزبه (الذي يتوهّم أنه على الهدى) أو جماعته، أمام الكفر أو الفسوق، كما فعل عدد كبير من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بعد أن أُطيح بحكمهم؛ وكما فعل المتسلّفة، عندما أُدخلوا السجون؛ لظنهم أن هذا الدين الذي تكون عاقبته العذاب في الدنيا، لا يكون إلا زورا!... معاذ الله!... وللمسألة وجهان: وينبغي أن نعتبر في معاملته لخواص عباده، ما حكم به على بعض أنبيائه من سجن؛ كما أخبر سبحانه عن يوسف عليه السلام بقوله: {فَأَنسَىٰهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ ذِكۡرَ رَبِّهِۦ فَلَبِثَ فِی ٱلسِّجۡنِ بِضۡعَ سِنِینَ} [يوسف: 42]. ومن تأمّل، فإنه سيعرف السبب الذي زيد به في سجن يوسف؛ ليعلم المعاملة الخاصة التي تكون بين الأنبياء وربّهم. ومع هذا الذي نقول: لا ينبغي أن يقيس المؤمن نسيان يوسف لربه، بنسيان نفسه لربه؛ لأن نسيان يوسف هو بعدم ذكر ربه في كلامه للرجل المفرَج عنه، لا لغفلته ونسيانه بقلبه؛ حاشاه!... وقد حكم الله على بعض أنبيائه بالقتل، كما أخبر سبحانه: {أَفَكُلَّمَا جَاۤءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰۤ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِیقًا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِیقًا تَقۡتُلُونَ} [البقرة: 87]. فعلى أهل الدين أن يفقهوا معاملة الله، وأن لا يروا انهزامهم أو قتلهم دليلا على غضب الله منهم. والخواص منزهون عن الوقوع في هذه الآفة، لأنهم يكونون على ذوق من الجمال في سجنهم وفي قتلهم، لو علمه الناس لتعجبوا أشد العجب؛ لأنه من اجتماع الأضداد في المحل الواحد وفي الوقت الواحد. وأما هؤلاء الذين صاروا يرتدون لأقل بلاء يصيبهم، فإنهم لم يكونوا على دين من الأصل، وإنما كانوا على أيديولوجيا. وهذا، هو ما يجعلنا نحذر الناس كثيرا من الأيديولوجيا الدينية؛ ونعني أن المساكين إذا نزل عليهم البلاء (وهم كانوا يستدعونه بالحال)، لم يجدوا إيمانا في قلوبهم يتحمّله عنهم، فكفروا وسخطوا ربَّهم!... وهذا الذي ذكرناه عن تحمّل الإيمان للبلاء عن صاحبه، حقيقة ثابتة، ولها صور متعدّدة، لا يحتمل هذا الكتاب فيها أكثر من هذه الدلالة... ويُفترض فيما هو عمل بالدين، أن يحب المؤمن بحب الله، وأن يُبغض ببغض الله، ليكون من حزب الله؛ وهذا لأن من أحب بحب نفسه، وأبغض ببغض نفسه، فإنه لا يكون عبدا خالصا لله. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ»[8]. ومن اندرج حبه في حب الله، وبغضه في بغض الله، وانتفت عنه شوائب النفس، فإنه سيصير رحمة لعباد الله، بخلاف ما يظنّ الظّانّون. وهذا، لأن الناس عندما ينظرون إلى التقابل فيما بين الحب والبغض الإلهييْن، ينسون -إن لم يكونوا من الخواص- أن كل ذلك من الله رحمة. وفي نسبة العذاب إلى الله، في مثل قوله تعالى: {قَـٰتِلُوهُمۡ یُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَیۡدِیكُمۡ} [التوبة: 14] رحمة لمن كان يعقل؛ فلا ينبغي أن يُغفل هذا. والكلام يطول في هذه المسألة، فلنُضرب عنه... وحتى يكون جيش المؤمنين على الصفة الموافقة للأحكام الشرعية التي دللنا عليها، فعليهم أن يتخلّصوا من الدخول في الأعمال بنفوسهم؛ وهذا، لن يبلغوه إلا بالتزكّي على يد شخص ينوب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في التزكية (خليفة تزكوي). وهكذا فإنهم إذا عملوا بقول الله: {وَقَـٰتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ} [البقرة: 190]، والذي هو الأصل في كل قتال، فإنهم سيكونون بُرآء من الأذى الذي يلحق أعداءهم؛ وسيكونون مأجورين على كل أذى يلحقهم في أنفسهم وأموالهم. ولكن شرط فوزهم بهذه المكانة، هو أن يكونوا تحت قيادة إمام ربّاني نائب فيهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولنستخلص هنا الآتي: [1] . تك: 1: 27. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.