اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2023/11/27 القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (8) الفصل السابع: فلسطين ليست صنما يُعبد إن الأمم إذا فقدت دينها، وخرجت إلى تديُّن وضعي بعد انفصالها عن النور النبوي، فإنها تتخذ أصناما من الأثاث الديني الذي كان فرعيّا، لا لتجعله في مواجهة التديّن، فتكون مخلّة بالترتيب؛ ولكن لتصير عابدة له من دون الله؛ لتوهم نفسها بأنها على الدين باقية. وهذا الفعل معلوم من إبليس، إذا أراد أن يُضل قوما بعد هُداهم. وإن ما يبلغ به اللعين غايته من الأمة الواحدة، إدخالها في الجدل، الذي عرفنا جوانبه الكبرى في الفصل السابق، حتى تقع المخاصمة، ويحدث التدابر، لتتعبّد الطريق أمام الاقتتال الداخلي الذي يصير متوّجا لكل الموبقات السابقة له. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ؛ ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ.}»[1]. ولقد اتخذ بعض المسلمين عند طروء الغفلة عليهم القضيةَ الفلسطينية محورا تدور عليه بعض العقائد التفصيلية، ليُقنعوا أنفسهم بأنهم على الأصل عاملون، وليسهل عليهم استتباع العامة الذين لا يُجارونهم في العقائد المعقّدة، أو في التنظيرات المتطلّبة لدرجة عقلية ما، في حدّها الأدنى. ولنلاحظ الآن ما يلي: وكل هؤلاء الذين يقعون فيما ذكرنا، يكونون قد اتخذوا دينا وضعيا، صاغوه بأنفسهم، بديلا عن الدين الربّاني الذي جعله الله لعباده. وقد سبق أن قلنا إن الأمم عندما تفقد الدين الأصلي، تخرج إلى عبادة ما سوى الله، بزعم التديُّن ذاته. ومن هذا الباب، عُبد العجل([2]) عند بني إسرائيل الأوّلين؛ وتطور العجل مع اليهودية إلى عجول؛ وعُبد عيسى بن مريم من دون الله عند النصارى، عندما فقدوا الصلة بربهم. وأما المسلمون، فمنهم من يعبد "السلف"، ومنهم من يعبد كذَبة الشيوخ من المتصوّفة، أو القيادات كما هو حال الإسلاميين من المتأدلجة. وهكذا، فإن فلسطين (وسواها من شعائر الدين)، لدى أصناف المنحرفين، ليست إلا بضاعة سياسية رائجة، لا يمكن ألا يستثمروها، من أجل بلوغ الغايات الفاسدة؛ مع أنها كانت عند المسلمين قبلهم، أرضا مقدّسة يتعبدون الله بالعناية بها وحفظها عن تلاعب أيدي الغادرين... ولقد سبق لنا القول في فصل سابق، بأن بيت المقدس هو قلب العالم، والقلب ينبغي أن يُحافَظ على نقائه وطهارته، حتى يصلح مسكنا للرب؛ لا أن يصير هو ربّا يُعامل معاملته، في تغييب لمعاملة الرب التي هي الدين حقّا... وبيت المقدس يأتي في مقابل القلب من الإنسان أيضا؛ وكما أن بيت المقدس ينبغي أن يُطهّر من الأصنام التي كانت عبادتها منتشرة في الشام كبعل، الذي اشتُقّ من اسمه اسم مدينة "بعلبك"، فإن قلب الإنسان أيضا ينبغي أن يُطهّر من الأصنام المعنوية. فإذا جُعل بيت المقدس في الزعم صنما في القلب، صار التناقض صارخا، وظهر مدى تلاعب الشيطان بالعباد. وذلك لأن اللعين عندما يمعن في الاستهزاء ببني آدم، فإنه يستخرج لهم من مفردات الدين ما يَصنع منه لهم أصناما يُضاهي بها عجل بني إسرائيل؛ حتى إذا عبدوها ضحك منهم وسخر... ولقد تداول الصوفية حديثا نبويّا، لم يثبت عند أهل الحديث؛ ولسنا ندري هل ردّوه من جهة السند أم من جهة المتن. فإن كان الرد من جهة المتن، قياسا على ما ردّه ضعفاء العقول وضعفاء الإيمان من متونٍ غيره، فإن ذلك الردّ لا يُعتبر؛ وإن كان الرد لعلة في السند، فإنه يُنظر فيه؛ لأن كثيرا من الأحاديث تصح من جهة المعنى، ولا تصح عند أهل الحديث، كهذا الحديث القدسي الذي جاء فيه: «ما وَسِعَنِي سَمائِي وَلا أَرْضِي، وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ.»[3]. ونحن نؤكد على صحة معنى الحديث، من جهة الذوق. والربّاني عندنا، لا يكون ربانيا حتى يسع قلبه الربّ، وإلا فإن ربانيته تكون من قبيل ربانية التوجه لا من قبيل ربانية المواجهة. ولنذكّر بدليل الربّانية بصنفيها، من القرآن الكريم؛ ولنبدأ بربانية التوجه التي يقول الله فيها: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن یُؤۡتِیَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ یَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا۟ عِبَادًا لِّی مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُوا۟ رَبَّـٰنِیِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} [آل عمران: 79]، وأما دليل ربانية المواجهة، فهو قوله تعالى: {لَوۡلَا یَنۡهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِیُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ عَن قَوۡلِهِمُ ٱلۡإِثۡمَ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُوا۟ یَصۡنَعُونَ} [المائدة: 63]، وكذلك كل دليل على النبوة هو دليل عليها؛ لأن النبوة هي أعلى مراتب ربانية المواجهة، ولأن الوراثة تندرج فيها كما يندرج كل فرع حكما في أصله. ونعني من كل هذا، أن المسلمين إما أن يكونوا من أهل المواجهة، وهي مرتبة الإمامة في الدين؛ وإما أن يكونوا من أهل التوجّه، وهو ما يُفترض أن يكون عليه المأمومون والأتباع. وأما من ليس لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، كحال جُلّهم في زماننا، فإنه يكون من الفئة الهالكة ولو بالمعنى الجزئي. ولقد حضرت مع شيخنا سيدي حمزة أبي دشيش رضي الله عنه مجلسا ليلةً، طلب من أحد الحاضرين أن يدعو في ختامه؛ ولكن الرجل بعد بضع دعوات، عاد إلى الشيخ يسأله أن يدعو بتحرير القدس، فرد عليه الشيخ فورا (وهذا ما يكون عليه الربانيّون)، وهو يشير إلى صدره الشريف: "إذا تحررت هذه القدس، فستتحرّر تلك.". وكان هذا الجواب جامعا لعلوم كثيرة، منها ما كنا نحن بصدده؛ ومنها ما فيه إشارة جلية إلى تقابل قلب العالم وقلب الإنسان، الذي نقرره في هذه الصفحات. وتحرير قلوب المسلمين، الذي هو إيذان بتحرير بيت المقدس، يكون بالعودة إلى الدين في صورته الأصلية، بعيدا عن جهل الفقهاء وجهالاتهم، وبعيدا عن المـغرضين من الإسلاميّين؛ ولا يكون ذلك إلا بتطهير القلب من الأدناس التي لا تزيلها إلا التزكية الشرعية على يد إمام وارث. فإذا عاد المسلمون إلى حال السواء القلبي، فإن الله يأذن بتطهير بيت المقدس من جميع المشركين، الذين هم بالنظر إليه أدناس غير لائقة به. يقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا یَقۡرَبُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَـٰذَاۚ} [التوبة: 28]، وليس المقصود بالمسجد بيت الله الحرام وحده الذي خصّته الآية، ولكن كل المساجد التي يُعبد فيه الله تعالى، وعلى الرأس منها: المسجد النبوي والمسجد الأقصى. واليهود والنصارى مشركون، وشطر من المسلمين اليوم مشركون بالمعنى الذي لا يُخرِج عن الملّة؛ فلا يغتر أحد بشهادته لنفسه، أو بشهادة مـُمالئيه له، المشاركين له في العقيدة البدعية التي هو عليها، أو في التوجه السياسي الذي يميل إليه؛ فإن أقل من ذلك، أو مثله، هو ما أهلك اليهود والنصارى من قبل. ثم إن اعتبار المشركين نجاسة، هو حكم معنوي شرعي؛ وليس عنصريّة تحاكي عنصرية الصهاينة. فعلى من يبلغه كلام الله، أن يحتاط من الفهم الخاطئ، الذي قد يأخذه عن مجتمعه، أو عن الفكر البشري السائد في زماننا؛ أو الذي قد تُروّج له عمدا الشياطين... ولا بد الآن من الكلام عن الإمامة([4]) في الدين، والتي عُمل على طمس معالمها منذ القرن الأول عند خروج معاوية على عليّ عليه السلام. ومنذئذ، والأمة من جهة عمومها، في تقهقر ستبلغ به مرتبة الكتابيّة، وتدخل جحر الضب الذي يُشار به إلى الفسوق عن الدين الرباني، كما دخلته اليهود والنصارى قبلها. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ! قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، آليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟!»[5]. ودخول اليهود والنصارى جحر الضب، إنما قد وقع لأنهم فقدوا الصلة بالله عن طريق فقد الصلة بالنبوة في زمانها التشريعي المناسب؛ وهذا مفهوم، ولا يخفى عن أقل فقهاء المسلمين علما؛ ولكن: كيف يدخل المسلمون جحر الضبّ وهم داخل الزمن التشريعي المحمدي، مع إيمانهم المجمل بالرسالة المحمدية والانتساب الظاهري إليها؟... وحتى نجيب عن هذا السؤال الذي لولا شهادة الحديث السابق له، لاتّهَمَنا علماء الدين في ديننا؛ ينبغي أن نجد نقاط الالتقاء بين عموم الأمة اليوم، والكتابيّين، ولنلاحظ: قبل أن نتفحص بعض الأحاديث النبوية الواردة في الإمامة، علينا أن نفرّق أولا في الاصطلاح بين الإمامة والخلافة؛ مع أنهما من جهة اللغة خلافتان وإمامتان؛ أي مشتركتان. فالإمام في الدين، خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الهداية؛ والخليفة على الأمة من جهة السلطان، إمام بمعنى رئاسة الدولة اليوم. وقد اختلطت هذه المفاهيم، وبُنيت عليها عند اختلاطها عقائد لا يزال أصحابها يتخاصمون إلى اليوم، وإلى ما شاء الله. بينما الأمر عند من يفرق في المعنى بين الاصطلاحيْن سهل وهيّن. ونحن بما أننا نتكلم في هذا الفصل عن إمامة الهداية، فإننا سنقصر النظر في الأحاديث الدالة عليها؛ وأولها كما لا يخفى: حديث الغدير. والآن لننظر في بعض مظاهر القصور الذي حجب الناس عن إمام زمانهم، إلا من رحم الله، فنقول: لقد ذهبت عقول العامة إلى اعتقاد الإمامة الدينية الكبرى، في فقهاء، قد لا يتحقق لهم السبق حتى في الفقه ذاته أحيانا؛ وهو ما وقع للرافضة مع الخميني الذي يلقبونه "روح الله"، وهو فقيه من عامة فقهائهم. وأما في جانب العقائد، فهو ضال من جملة الضّلّال. كذلك انحجب أهل السنة بالأئمة الأربعة، واعتبروهم أئمة في الدين، بينما هم أئمة في الفقه فحسب. وأما في الجانب المعرفي، فقد اشتغل الشيعة وأهل السنة جميعا، بما لم يُكلّفوا من كلام فيما يتجاوز أطوارهم، فبقوا على ضلال متجدّد، بدل أن يعيشوا تجدّد الدين!... وعندما اعتقد المسلمون الإمامة في الفقهاء الذين هم أدنى مرتبة من الإمام، انحجبوا بذلك عن الإمام، ولم يعرفوه؛ مع أنه موجود في زمانهم من غير شك، وربما قد يكون في محيطهم القريب. وقد استمر التقليد في هذه الآفة، واستمر الحجاب؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وليتحقّق لعموم الأمة دخول جحر الضبّ، كما أسلفنا. وهذا لأنه باتباع الإمام، ما كان للأمة أن تدخله!... فليُعتبر هذا!... ولا شك أنه سيتضح -الآن أو فيما بعد- أن الإمام موجود في كل زمان، ولكن الشيطان قد جنّد فقهاء السوء، ليصرفوا عنه الناس؛ فكانوا كسائر الكافرين الذين قال الله فيهم: {إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَصَدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ قَدۡ ضَلُّوا۟ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدًا} [النساء: 167]. وإن نحن عدنا إلى معنى الكفر في اللغة الذي هو الستر والحجب، فإننا سنجد المـنكِر لإمام زمانه، كالمنكر للقرآن، لا فرق؛ وإلا فلا معنى للمضاهاة بين القرآن والإمام التي دل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وحاشاه)!... وليحذر الذين يقرأون لنا، أن ينصرف ذهنهم إلى المعنى الذي تفهمه الرافضة، لأن أولئك مخطئون في صفة إمام الزمان؛ وقد انحجبوا عنها بإمامة المهديّ عليه السلام الذي هو إمام آخر الزمان. فهم بجهلهم يعتبرون إمامة المهديّ القادمة (وهو أمر جيّد)، ويُنكرون إمامة غيره والزمان غير زمانه. لكنّهم بخلطهم، جعلوا كل هذه الأزمنة منذ غيبته زمانه؛ ولو كان الأمر كذلك، ما تولّى الخلافة الغيبية (القطبية الغوثية) منذئذ أحد؛ والحاصل أنه قد تولاها عدد كثير، منهم من نعرف ومنهم من لا نعرف. هذا مع أن هذه الإمامة القطبية تقابل في الدلالة خلافة المهدي من جهة غيبه، لا إمامته؛ ونحن هنا نبرهن على تعدد الإمامة قبل إمامة المهدي، بتعدد الخلافة قبل خلافته، عليه السلام. فليعتبر القارئ، وليسأل الله التوفيق، فإن الروافض قد ضلوا بمعنى صحيح عن معنى صحيح آخر!... وأما الآن، فلنعد إلى مسألة فلسطين وبيت المقدس، لنعلم كيف هو عمل الأمة من أجل إبعاد المشركين والكافرين([15]) الذين سينجسونه بعد تحقّق قداسته، كما تنجست قلوب شطر من المسلمين بالبعد ودخول الشرك عليهم من أبواب كثيرة، ربما عرضنا لأكثرها في مجمل ما كتبنا. وهذا المعنى الذي نذكره، قد كان يعلمه المسيحيّون -وأخذه عنهم النصارى فيما بعد- الذين حكموا بأنه لا يجوز لليهود أن يعمروا القدس بعد أن قدّسها المسيح عليه السلام؛ وهذا إبّان المسيحيّة الحقّ، لا في زمن النصرانية المحرّفة، كما لا يخفى. وينبغي لهؤلاء الذين فهموا هذا وحكموا به، أن يسألوا أنفسهم: فلِمَ غاب عنهم هذا المعنى بعد تقديس محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقدس؟... وهو من أمّ سائر الأنبياء عليهم السلام فيها ليلة إسرائه؟ يقول الله تعالى([16]): {سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلًا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ} [الإسراء: 1]. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي في الحِجْرِ، وقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عن مَسْرايَ؛ فَسَأَلَتْنِي عن أشْياءَ مِن بَيْتِ الْمـَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْها، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً ما كُرِبْتُ مِثْلَها قَطُّ. قالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لي أنْظُرُ إلَيْهِ، ما يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ. وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَماعَةٍ مِنَ الْأَنْبِياءِ، فَإِذا مُوسَى قائِمٌ يُصَلِّي؛ فَإِذا رَجُلٌ ضَرْبٌ (وسط)، جَعْدٌ (أجعد الشعر)، كَأنَّهُ مِن رِجالِ شَنُوءَةَ (قبيلة معروفة)؛ وَإِذا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قائِمٌ يُصَلِّي؛ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ؛ وَإِذا إِبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ قائِمٌ يُصَلِّي؛ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ. فَحانَتِ الصَّلاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قالَ قائِلٌ: يا مُحَمَّدُ، هذا مالِكٌ صاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فالْتَفَتُّ إلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلامِ.»[17]. ولنتوقّف عند بعض معاني هذا الحديث فإنها من مقام القلب حقيقة: وعند انتشار الدعوات الشيطانية في الأمة الإسلامية، سينتهج أصحابها نهج التلبيس والتدليس بلا شك، حتى يتمكنوا من استتباع السفهاء؛ فهم كما أسلفنا سيدّعون الانطلاق من أسس شرعية غير ممحصة في مخالفة الحكّام، وسيدْعون إلى خلافة لن تكون إذا كانت إلا شيطانية، وسيزعمون مواجهة إسرائيل والعمل على استعادة عِزة الأمة بما لا يصح. وفي هذه البيئة الفاسدة من جهة العقيدة ومن جهة العمل معا، سيجعل هؤلاء الدعاة إلى جهنم فلسطين صنما معبودا من دون الله. وصار الإسلام عند هؤلاء الضالين من أئمة ومأمومين هو: معاداة اليهود بحق وبباطل، وكراهيتهم باعتماد الجهل وحده المرتكز على العنصرية المقيتة. فعلى الشعوب الإسلامية، التي لا تقطن الشام، أن تتوقف الآن عن كل أشكال مناصرة فلسطين؛ لأنها لن تكون إلا سببا في مزيد من الفتن. ونحن نخص بالكلام الشعوب لا الأنظمة، لأن الأنظمة لها شأنها ضمن المجموعة الدولية، والذي هو مختلف. وعليها (أي الشعوب) إن كانت تريد ذلك حقيقة، أن تعمل على تصحيح تديُنها الفردي والجماعي في بلادها؛ فإن ذلك سيكون -لا شك- ترميما للأمة كلها، ولو بعد حين. ولن يتأتى لها ما ندلها عليه من خير، في مقابل الشر الماثل أمامها، والذي تعيش فصولا متنوعة منه في كل حقبة من تاريخها، إلا بعد أن تعرف مكانة الإمامة في دينها، وأن تعمل على اتباع إمام ترى عليه علامات الربّانيّة من بلادها أو من غيرها من بلاد الإسلام، اتباعا دينيا لا سياسيا؛ يجمع ولا يفرّق؛ يُصلح ولا يُفسد؛ يؤلّف فيما بين المسلمين من دون أن يجمعهم على عداوة أحد من العالَمين. وسيأتي الكلام عن الموالاة والمعاداة بمعناهما الشرعي إن شاء الله في الفصل الموالي، عند كلامنا عن الجهاد. وفي ختام هذا الفصل نقول بوضوح وبصراحة: إن الله هو المعبود، والدين هو وسيلة للعبادة مشروعة فقط؛ وإن الدين إذا انقطع معه العبد، سيُصبح معبودا من دون الله، لا وسيلة؛ وقد وقع في هذه الآفة كثير من الناس، على مر القرون. والعناية ببيت المقدس، هي واجب ديني؛ فإن غطى بيت المقدس على نهج الشريعة، إلى الحد الذي تختلّ معه الأحكام، فإنه يصير هو أيضا معبودا من دون الله. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ حُنَفَاۤءَ وَیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَ ٰلِكَ دِینُ ٱلۡقَیِّمَةِ} [البينة: 5]... [1] . أخرجه الترمذي، وابن ماجة، وأحمد، عن أبي أمامة الباهليّ. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.