اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2018/11/08 العمل الإسلامي ومنطق الإسلام - 9 - المسلمون والإسلاميون حتى نمضي في كلامنا، لا بد من ضبط معاني بعض المصطلحات، والتي منها "الإسلامي". فنحن نرى، أن الله الذي أنطق به الإعلاميين والدارسين في زماننا (كما أنطق كل شيء)، لم يفعل سبحانه ذلك عبثا؛ وإنما ليدل على خصيصة لم تظهر في الأزمنة الماضية، كما هي ظاهرة في زماننا هذا. وليست إلا انقلاب الدين من أصله الرباني إلى الأيديولوجيا الدينية، من دون أن يعي أصحابه ما وقع لهم، بسبب جهلهم بصورة الدين الأولى، التي لم يبلغهم عنها إلا ما هو مسطور في كتب التراث. ولا شك أن المسطور لا يبلغ في التمام المعيشَ، الذي كان عليه الأولون (الصحابة) في تدينهم؛ خصوصا فيما يعود إلى الباطن. وهذا أمر يغفله الناس كثيرا، وبالأخص من يزعمون أنهم على نهج السلف يسيرون. فنحن إن سلمنا لهم بمطابقة الظاهر للظاهر (وهو أمر فيه نظر)، فكيف تكون مطابقة باطنهم لباطن الأولين، مع كونه لم يخرج إلى الظاهر؟... وهو إن خرج، فإنه لا يعدو الإشارات التي قد تُفهم على غير حقيقتها، إن اعتُمدت اللغة وحدها في ذلك!... أو قد تُهمل لخروجها عن الإدراك العام المشترك... فإن قيل: وكيف سيُعلم هذا الباطن إذاً، مع كل هذا الانغلاق؟... نجيب: يُكتشف بالسير على الطريق ذاته الذي سار عليه الأولون!... وهذا يفضي إلى كلام آخر، لسنا بمعرضه هنا. وقد استفحل الأمر لدى الدارسين الأكاديميين، الذين يستنطقون النصوص بالطرائق الفكرية الغربية (هرمنوطيقا، فيلولوجيا...)، والذين لم يخطر ببالهم لحظة أن الدين بـ "ماهيته" مخالف لما يدرسون، مخالفة الرباني للبشري... وقد زاد من ترسيخ هذا الوهم، وقوع الكتابيين الذين سبقونا في هذه الآفة، بما يجعل الناظر التاريخي، يتوهم اشتراك الأديان جميعها في هذه الصفة. والحقيقة هي أن النص المحفوظ لدينا (القرآن)، لا تمكن مقارنته بالنص المترجم (الإنجيل)، أو المستعاد بعد حقبة من الزمان (التوراة)، لدى الكتابيين... وهذا الخلط، هو ما يجعل المفكرين الأكاديميين من المسلمين في عصرنا، أبعد الناس عن حقيقة الدين، من دون أن يشعروا؛ أبعد حتى من الجاهلين من أبناء الأمة. أما الأميون السالكون لطريق الدين، على الكيفية المشروعة، والذين يستهين بهم المتعلمون المفكرون، فهم أقرب الناس في كل زمان من حقيقة الدين، لكونهم يتلقون التعليم عن الله مباشرة، إلهاما وإلقاء؛ حيث إن هذا التعليم لم ينقطع قط. ولو انقطع هذا التعليم، فإن الدين سيفقد تلقائيا سند ربانيته، التي شطرها متعلق بالمصدر وشطرها الآخر منوط بالمدد، الذي منه التعليم الذي ذكرنا. وقد قال الله عن هذا التعليم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]؛ خلافا لما يعتقده الإسلاميون اليوم من كون التعليم الديني يُتلقّى في المعاهد حصرا. وهذا أمر غاب عن علماء الدين منذ القرون الأولى، كما يغيب عن هؤلاء المتأخرين، الذين يطمعون في الخروج مما نحن فيه من انحطاط -لا يليق بديننا ولا بتاريخنا- بما يتوهمون... لهذا وجب علينا التفريق بين معنى "المسلم" [1] والذي يدل على الإنسان الذي ينطق صادقا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعبد الله بما شرع؛ وبين "الإسلامي" الذي -وإن كان مسلما- لا تكاد تكون صلته بالإسلام إلا فكرية وتاريخية. وهذه الآفة لا يكاد يسلم منها كل متعلم من أبناء المسلمين في زماننا، حتى أولئك المتخصصون في العلوم الدينية المسماة عندهم شرعية([2])؛ لقياسهم الدين على ما تعلموه من علوم في معاهدهم العصرية، والتي لا تعتمد من أساليب التعليم إلا ما كان فكريا خالصا أو ما كان عن فكر جزئيا. وعلى هذا، فإن صلة الإسلامي بالإسلام تكون خارجية، لا تتعلق إلا بصورة له في الذهن، تكون عن تصور مفارق؛ كما هي صلة أهل العقائد الأيديولوجية بعقائدهم التي لا مصداق لها في الخارج. نقول هذا، حتى تظهر فداحة ما هو عليه الإسلامي، مع كون الإسلام له مصداق (مسمى) حق في الخارج -ينبغي أن يطابق ما في النفس- يشترك معه فيه كل العالم من جهة إجماله، كما من جهة تفصيله. وهذا هو ما يشير إليه قول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. أما المسلم فصلته -بحسب ما شرعه الله- بالدين تكون صلة امتزاج وتفاعل مستمر؛ تفاعل قلبي يظهر أثره وتصديقه على البدن، الذي لا يُطيق القيام ببعض العبادات (كقتال من يجب قتالهم) إلا بذلك. فالمسلم بهذا الوصف، يكون الإسلام في دمه ولحمه وعظمه، لا في خياله وفكره وحدهما. ومن كان هكذا، فإن أفعاله لا تكون عن حسابات فكرية مصلحية ونفعية (براغماتية)، كما هو حال جل المسلمين اليوم؛ وإنما تكون صادرة عن منطق إيماني، يراه العقلاء من غير أهل الدين أحيانا ضربا من الجنون. وهذا هو ما كان يدفع الكافرين على مر الزمان، إلى رمي حزب الله من أنبياء وأتباع، بالجنون عند عدم تعرّف طريقهم العلمية (البرهان) بالمنطق الفكري العام. ولهذا السبب كنا نقول نحن دائما، إن منطق الإيمان أوسع من المنطق العام؛ لئلا يقع المسلمون في حصر الواسع وتضييقه. وهذا أصل نفيس ينبغي أن يُحفظ ويُعتبر... نعم، إن ما ندل عليه من تمازج بالدين لا يكون على درجة واحدة لدى المسلمين؛ لأن المسلم من مرتبة الإسلام (أولى مراتب الدين) لا يكاد يختلف عن الإسلامي المفكر؛ بل إن الإسلامي بسبب الانصباغ بالأيديولوجيا، قد يبدو أقوى إيمانا من المسلم هنا، في نظر من لا يعلم إلا المظاهر. وهذا من الأسباب التي جعلت الناس ينساقون وراء الإسلاميين، عند ظنهم بهم أنهم أعلى في مراتب الدين وأتقى، عندما غابت المعايير الشرعية الأصلية لدى الناظرين. وهذا كله غلط محض، ظهرت نتائجه فيما بعد للناس عموما، بعد الإخفاقات المتتالية للإسلاميين، وإن كانوا (الناس) يزدادون حيرة معها، بسبب جهلهم لما نفصله هنا. وسنعود بقليل من التفصيل إن شاء الله، لما يُعين القارئ على الخروج من هذه الحيرة. وأما المسلم في مرتبة الإيمان (المؤمن) فهو يعلم من نفسه، أنه على طريق مواز لطريق الإسلاميين؛ لعلمه يقينا، بأن الترقي في الإيمان منوط بسلوك طريقه على أيدي الخبراء، وبالعمل وفق العلم الصحيح؛ لا بكثرة التنظير وتنميق الكلام (التلفيق). وأما المسلم من مرتبة الإحسان (المحسن) فهو قد تجاوز الفريقين معا، حتى أصبح مشرفا على الجميع؛ يعلم حال المتدين الحق (السالك)، ويعلم حال الإسلامي المتأدلج. وهو بهذا، يكون قد جاوز العقبة دون من سواه؛ وإن كان يبقى عليه بعد ذلك مجاوزة عقبة نفسه. ذلك لأن معرفة الحق في النفس -بعد معرفته في الآفاق- لا تكون إلا لأهل التحقق من كبار أولياء هذه الأمة وحدهم. وهذه هي طبقة الوارثين للنبوة، الذين هم مؤهلون للإمامة الدينية الكبرى. والإسلاميون الذين نعنيهم بهذا الكتاب، والذين هم أصحاب العلاقة الخارجية بالإسلام (من دون أن نكفرهم أو أن نطعن في نياتهم)، لم يُجاوزوا مرتبة الإسلام كحال الأعراب الذين قال الله فيهم: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. وقد يعترض علينا معترض بأن هؤلاء متعلمون، أو منهم علماء للدين!... فكيف نسويهم بالأعراب؟!.. فنقول: الكلام هنا بالمعايير الشرعية، لا بالوضعية. فكون المرء متعلما لا يرفعه في مقامات الإيمان، ولا يُخرجه بالضرورة عن صنف الجاهلين؛ كما أن أمية المؤمنين لا تحول بينهم والترقي في الدين، ولا تمنع أن يكونوا عالمين!... وإلا فكيف كان حال جل كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين!... ولو حققنا النظر، لوجدنا علم الإسلاميين ينقسم إلى قسمين: علم صحيح: وهو حجة عليهم فحسب، لا يكاد يعمل به منهم إلا القليل؛ بسبب طغيان الأيديولوجيا على الدين. وعلم سقيم: إما هو مخلوط وإما هو دخيل، بسبب التأثر بالفكر الفلسفي العام. وحتى ما يعُده بعضهم صحيحا، مما هو شبيه بما يأخذونه عن ابن تيمية في العقائد أو في استقراء التاريخ، فإنه لا يخرج عن القسمين المذكورين إلا نادرا. والظن من الإسلاميين خصوصا، ومن الناس عموما، بأن العالـِم كلما كان أبعد عنا في الزمان ماضيا، كان أقرب إلى الحق، هو وهم يستأنسون به فحسب... ونعود لنقول: إن جل الإسلاميين هم من مرتبة الإسلام، التي لا تعطيهم حق التقدم على غيرهم، ولا حق التنظير لعمل المسلمين؛ وهم لم يخبروا طريق الدين، ولا اغبرّت أقدامهم من مقاماته. والعلاقة التي جعلناها لهم خارجية بالدين، تستند على ما حصلوه من معلومات، أو ما استنتجوه بعقولهم، لا على علم ديني رباني. نستثني من ذلك، ما يكون استنباطا فقهيا لدى المتخصصين منهم وحدهم، إن وُجدوا. وأما ما يشابه تنظير سيد قطب -مثلا- فلا يعتبر في ميزان العلم الديني علما، ولا يعدو أن يكون كلاما إنشائيا، يروم صاحبه استكناه مكنونات الدين بعقله. لا يُغيّر من هذا الحكم شيئا، أن يكون صاحبه صادقا في إعرابه عما يشعر أو يظن؛ لأن هذا لا يبلغ أن يُعَدّ به صاحبه من العلماء الذين يجب عليهم تبيين أحكام الدين. ولقد قال الله تعالى في مثل هذا: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. ورغم أن مجاوزة الحد في استعمال الفكر لدى علماء الدين، قد بدأت مع متقدمي العلماء في القرون الأولى، إلا أن المتأخرين قد بلغوا في ذلك ما لم يقاربه الأولون، بسبب غياب التربية على الدين غيابا شبه تام؛ وبسبب غياب الأئمة في الدين، أو عدم ظهورهم لمانع من الموانع. فصار الدين بهذا، لدى كثير من المتأخرين، موضوعا كغيره من المواضيع، أو مجالا كغيره من المجالات، علما عقليا كسائر العلوم العقلية؛ رغم وجود الفارق الذي هو الربانية، التي ليست لغيره من المذاهب الفكرية الفلسفية، ولا الأديان الوضعية... عندما نعلم هذا، سنعلم لم حل بالأمة ما حل على أيدي الإسلاميين؛ وسنجد النتائج على مرارتها حتمية ومنتظرة. كيف لا وقد تُوُسّل إليها بمخالفاتٍ بعضُها فوق بعض. هذا من جهة ما يتصل بالدين وحده؛ أما إن نحن عدنا إلى دخول الفكر الكفري على الإسلاميين من غير أن يتبصروا، فإنا سنجد نتيجة ذلك خليطا غير متجانس من التنظيرات المبنية على المعلومات المبتسرة والمجتزأة، لا يكاد يُبقي على عقل ولا على دين في النهاية. بل إن معظم الفكر التفجيري، الذي زخرت به أيامنا، ليس إلا مظهرا للآفة التي نحن بصددها، وتنزيلا لما سميناه خليطا... مع كل ما ذكرنا، لم يتفطن الإسلاميون إلى ما هم عليه من سوء الحال؛ ولا هم سعوا إلى تحصيل العلم بحالهم لدى الفقهاء الجامعين بين شقي الظاهر والباطن؛ لعلهم يتداركون بعض ما يُمكن أن يكسبوه لصالحهم، بدل المضي على الطريق ذاته كما تمضي الأنعام. ولعلهم قد استأنسوا ببعض المظاهر التعبدية التي يمتازون بها عن عوام المسلمين الغافلين، من قيام لليل أو من صيام للنهار؛ وكأن ذلك منتهى الغايات من العبادة!... ولم يعلم المساكين أن تلك الأعمال -إن تقبلها الله العليم الخبير- ستزيد من أجورهم عنده سبحانه فحسب؛ ويبقى عليهم تحصيل النور الذي لم يُكلّفوا أنفسهم عناء السؤال عنه، ولا عن كيفية تحصيله!... نقول لهم هذا لأنهم تصدوا لشأن الأمة العام، الذي من شروطه أن يكون المتصدي ذا نور في علمه، لا ذا عبادة وحدها. ألم يقل الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]؟!... فإن قيل: إنما أُنزلت هذه الآية في الكافرين، والدليل ما ختمها الله به: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، قلنا: الكفر كفران: كفر أكبر وهو المعلوم؛ وكفر أصغر وهو ما نتكلم عنه هنا، والذي ما زال أصحاب مرتبة الإسلام تحت حكمه؛ وهو المسمى عند أصحاب الطريق "الحجاب". ثم ألا ترى إلى الله في قوله {يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} كيف يشير إلى ما هو ضروري من العلم، لدى من يتكلم في شؤون الناس، قلوا أم كثروا!... أيتكلم في الشأن العام، من لا علم له باختلاف أحوال الناس، ولا باختلاف مراتبهم؟!... أيكون العمل للإسلام وحده، من بين جميع صنوف العمل، قابلا للبناء على جهل؟!... أنى هذا؟!... ثم ألم يبيّن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفرق بين العابد والعالم، في حديث قاتل المائة السائل عن التوبة، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا؛ فَقَتَلَهُ؛ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ! وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ! انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ؛ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ؛ وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ.»[3]. فمثل هذا، هو من العلم الذي يُعوز الإسلاميين؛ وإلا كيف يُقدمون على معاداة (أو تعنيف) بعض من لا يبلغ حاله حال قاتل المائة من الناس!... والأهم من هذا، هو من منهم يعين العاصين على التوبة حقا؟!... فإن قيل: فإذا كان الإسلامي على خطر، فالمسلم (البسيط) الذي لا علم له بشيء، هو أسوأ حالا منه!... فكيف يمكن السكوت على ما يُضر العدد العديد من المسلمين، بدعوى انتظار تحصيل الشروط التي تكاد تكون تعجيزية؟... فنقول: إن المسلم من غير الإسلاميين، هو أحسن حالا من الإسلامي، إذا بقي على صدقه في حاله، واشتغل بما يخصه في نفسه ومَن تحت رعايته؛ من دون أن يدخل فيما لا يعنيه من أمور سياسية أو عقدية، كما يفعل ذلك كثير من الجهلة في زماننا. فإن فعل، فإنه يكون أسوأ من الإسلامي، نعم!.. الأمور لا تؤخذ جملة، ولا تُترك جملة؛ وإنما يُنظر فيها بميزان. فمن حاز الميزان فلينظر، وليتكلم بعد ذلك إن شاء؛ ومن لم يحز فاشتغاله بشؤونه الخاصة أولى. لهذا، كنا نحن ندعو العامة من المسلمين، ومن يعتبرون أنفسهم خاصة من الإسلاميين إلى السكوت، وإلى البحث عن الربانيين ليعلموا منهم ما ينفعهم في الحال وفي المآل، إن كانوا صادقين. الأمر ليس مسابقة في الكلام، كصياح الحمقى الذين تطالعنا بهم الفضائيات، ويتكلم أهله في كل شيء من دون أن يعلموا شيئا؛ وليس لهم من خصيصة إلا عدم الحياء وعدم الشعور... وإن كان أعداؤنا يضربوننا بأيدي سفهائنا، فلا أقل من أن نعمل على أن لا نكون منهم، لئلا نعينهم على ذلك!... وأسوأ ما وقع فيه متأخرو الإسلاميين في عصرنا، هو جمعهم بين الأدلجة السياسية والأدلجة العقدية الكلامية. ولم يتحقق ذلك لأحد كما تحقق للسروريين، الذين يعلمون ذلك من أنفسهم، والذين لا يعلمون. نقول هذا، لأن كثيرا من الناس سروريو المذهب ولا علم لهم. ومن يتتبع المسار الفكري للأمة في جانبيه: العقدي والسياسي، عبر تاريخها كله، فإنه لن يجد المذهب السروري إلا ملتقى المسارين، باعتماد الوسيلة ذاتها. نعني أنه لما استغنى قوم من جهة الاعتقاد عن التزكّي المستثقَل لدى النفوس الغافلة والراغبة في الدنيا، بترف التفكر في آيات وأحاديث الصفات؛ وكأن الله سبحانه مستباح حماه لكل من هب ودب؛ ولما استغنى قوم آخرون عن الشريعة -التي لم يعودوا يعلمون منها إلا بعض العموميات- في معاملة الحكام وفي تصور الحكم عند المسلمين، بما هو من سنة الكافرين؛ فإن الفريقين ما لبثا أن التقيا في المذهب السروري الجامع بين التنظير الإخواني وعقيدة ابن عبد الوهاب البدعية، في أجلى صورة للضلال المبين. فنتج عن هذا الاجتماع المشؤوم إسلاميون لم يبق لهم من الإسلام إلا النسبة التاريخية والثقافية، مع حد أدنى من التدين، وإن كثر العمل. ولسنا نعني هنا بالتدين القيام بالشعائر الجوفاء التي قد يكون بعضهم متجاوِزا في عددها للمفروض وحدّه؛ أو تحصيل العلوم الدينية التقليدية كما نبّهنا؛ وإنما نعني عبادة الله القلبية التي ينبغي أن تكون روحا لتلك الصورة، من كل الأعمال. إن السروريين الآن هم من أبعد الناس عن الصراط القويم، وهم في الآن ذاته أكثر الجماعات توسعا وانتشارا، وأكثرها تنظيما في الأمة. وهذا يعني أنهم إن لم يعودوا عن غيهم، الذي يتصورون فيه أنهم صفوة المسلمين بجميع المقاييس، أو لم يُردعوا، فإننا سنكون مُقبلين على حقبة من تاريخ الأمة شديدة الحُلكة، لما سيصيب المسلمين فيها من فعل هؤلاء؛ داخليا فيما بين المسلمين؛ وخارجيا، فيما بين المسلمين وسائر شعوب الأرض. ولن نستغرب من السروريين دخولهم في تحالفات مشبوهة بعد ذلك، على حساب أمتهم، بسبب تزيين بعضهم الأمور لبعض. ويكفي لإدراك هذا، أن ننظر إلى من يتخذونهم من الفقهاء أئمة في الدنيا والدين، كالقرضاوي ومن حوله ممن لا نور لهم في علمهم؛ بل ممن لا علم لهم في الحقيقة، وإن كانوا للعلم حاملين. فقد قال الله تعالى في أشباههم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]. وجاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ كَلامِي، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ؛ فَرُبَّ حَامِلِ عِلْمٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ.» [4]. وحتى نتبيّن الفرق بين المسلم والإسلامي بأكثر مما قدّمنا، فإننا سنورد مقارنات لبعض جوانب العمل لدى كليهما؛ ومن ذلك: 1. يعتمد الإسلامي في خطابه الديماغوجيا، التي لا تخلو من كذب؛ أقله ما يكون من تعظيم الصغير أو تصغير العظيم، من أجل استمالة أكبر عدد من الناس وخدمة الأغراض. بينما خطاب المسلم في الأصل هو عرض الحق المعلوم لديه بحسب مرتبته كما هو، من غير إرادة تأثير على المتلقي؛ لأن المسلم يعلم أنه يُحاسب على عمله، لا على نتائج العمل التي هي من قدر الله ومشيئته سبحانه. 2. لا يتقبل الإسلامي رفْض خطابه، وإن تظاهر بخلاف ذلك؛ لأن نظره يكون في عمله (كلامه) إلى الناس لا إلى الله. وأما المسلم فلا ينبغي أن يتغيّر حاله بين الرفض والقبول؛ وإلا اتهم نفسه بالرياء وحب المحمدة. بل إن بعض أهل التدين الصحيح، قد يفرح عند رفض خطابه، إن كان ممن لا يزال في طور مجاهدة نفسه؛ لأنه يراه معينا له على مخالفة حظوظ النفس وهواها. 3. يرى الإسلامي فيمن يرفض كلامه، أنه من أعداء الدين؛ خصوصا إن عمل على نقد عمل الإسلاميين جهرة. ذلك لأن الإسلامي يتماهى مع الدين، إلى الحد الذي قد يُكفّر معه مخالفه من دون أدنى ورع؛ وهذا من أثر الأيديولوجيا. وأما المسلم، فإنه قد يرى أن مخالفه أفضل منه عند الله، من وجه يعلمه، أو من وجه لا يعلمه. فهو يرى العباد تحت تصرف الله وتحت حكمه؛ والله لم يطلعه لا على حكمه في نفسه التي صار يزكيها، ولا على حكمه في مخالفه، إن كان من المسلمين أو من غيرهم. وهذا يعني أن المسلم يراعي الأدب مع الله في عمله، بينما الإسلامي يكون غافلا عن هذا الأدب؛ مع كون الأدب في العمل، أولى من العمل نفسه. نعني من هذا، أن العمل هو محل للأدب لدى العبد فحسب. 4. إن الإسلامي يُعجب بنفسه في عمله "الدعوي"، إن بدا له أنه قد أفلح؛ ولا يتمكن من التواضع للمدعو إلا ظاهرا، وبحسب الطريقة الحزبية الديماغوجية المصطنعة. وأما المسلم، فإنه يخاف أن يكون عند دعوته غيره إلى البر، ممن قال الله فيهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]؛ أو قال فيهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]؛ أو ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» [5] ؛ وغير ذلك مما هو يصب في هذا المعنى... 5. يعمل الإسلامي بتوجيه قيادته، إن كان منتسبا إلى أحد التنظيمات الإسلامية، ويكتفي برضاها وشهادتها له، من دون أن يشعر. وهذا عمل بمبدأ العصمة، من غير قول بها؛ قد تجد أصحابه من أشد المنكرين على الشيعة في هذا الجانب. ولقد رأينا هذا عيانا من بعضهم، عند مخالفة أحد أئمتهم فيما يقول. هذا، مع كوننا لا نخالف أحدا إلا بدليل معتبر في العلم الصحيح قدر المستطاع. وأما المسلم -مقارنة بالإسلامي- فإنه يعمل بأمر ربه، ويرجو رضاه وحده سبحانه؛ وإن كان له مرشد من الناس، أو أخ ناصح يظنه أقرب منه إلى الله. فهو يميّز بين القدوة والرب المعمول له سبحانه. 6. يُرهِب الإسلاميون بعضهم بعضا (نفسيا أو ربما بدنيا)، من أجل منع إبداء الرأي المخالف الذي يرونه من أسباب هدّ التنظيم، بشتى الوسائل والتي منها: الإعراض عن أخيهم، أو التحريض عليه، أو إشعاره بالدونية؛ بل إن الأمر قد يبلغ مع خبثاء الباطن درجة إسلامه إلى الخصوم والأعداء. وأما المسلمون، فيُفترض فيهم ترك الحرية لإخوانهم فيما يريدون أن يأتوا أو أن يذروا؛ ولا يتكلفون الدخول في النوايا والأحوال القلبية، إلا إن كان الداخل شيخا ربانيا أو أخا سابقا في السلوك يبغي الأخذ بيد أخيه؛ على علم صحيح غير مظنون. وإن المحافظة على التنظيمات، ليست من الواجبات الشرعية، كما يوهم الإسلاميون بذلك أتباعهم؛ بل إن حلها في أحيان كثيرة، يكون أفضل عند الله من الإبقاء عليها؛ خصوصا في المرحلة الزمانية التي نحن فيها الآن، والتي عادت فيها التنظيمات الإسلامية، حائلا دون بلوغ وحدة الأمة، التي هي من أوجب الواجبات الشرعية. 7. الإسلامي يرى في الحاكم نائبا للشيطان، لا تقوم للإسلام قائمة إلا بزواله؛ ويتوهم أن معاداته هذه هي لله، وأنها انتصار لدينه سبحانه. وهو في الحقيقة إنما يعاديه للمنافسة على الدنيا فحسب. نعم، قد يكون الإسلامي لا بصيرة له، فيتوهم في نفسه ما ليس لها، ويظن أنه في ذلك على علم. وهذا حال جل الإسلاميين الذين يحسنون الظن بأنفسهم. وأما المسلم فيرى الحاكم أخا له في الدين، قد يكون غلبه الشيطان أو أضله الهوى وسكرة السلطان؛ لكنه يبقى أخا. وهو بهذا مبتلى، من جملة المبتلَيْن الذين يستحقون أن يُعانوا بالنصيحة والرأي أو بالدعاء كسائر المسلمين. هذا إن كان الحاكم على مخالفة ظاهرة؛ وأما إن كان مستورا، فإنها تحرم إساءة الظن به مطلقا؛ خصوصا في زماننا، الذي نعلم منه وقوع العالم بأسره تحت حكم القوى الدجالية، التي يعمل الانقسام الداخلي في الأمة لصالحها، وإن زعم المتسببون فيه غير ذلك. 8. لا يعتبِر الإسلامي المسلمين الذين قد يسقطون قتلى أو تصيبهم مصيبة في سبيل بلوغ أربه، إلا من قبيل الأضرار الجانبية التي تكون في الحروب والمواجهات؛ وكأن له بذلك من الله بيّنة وبرهانا. وأما المسلم فيرى كل مصيبة دون الإضرار بالمسلمين هينة، إلا إن كان القتال للكافرين تحت راية شرعية، ومن قِبل المؤمنين كافة؛ فعندئذ هو وغيره سواء في احتمال الإصابة بالضرر والأذى، تقربا إلى الله وطلبا لرضاه سبحانه. 9. يرى الإسلامي غلبة الخصم السياسي، أولى من غلبة العدو في الدين؛ لأنه يسعى في طاعة نفسه، أكثر مما يسعى في طاعة ربه، وهو لا يشعر؛ ولأنه يبغي الوصول إلى الحكم، لا إلى رضى الله في الحقيقة. وهذا، هو ما يجعل الإسلاميين يدخلون في تحالفات مع دول كافرة ظالمة أحيانا، إن هي وعدتهم بإعانتهم على حاكم بلدهم في الداخل. والعكس (ما يكون عليه المسلم) هو المطلوب شرعا، من جميع الوجوه. 10. يتكلم الإسلامي عن الآخرة، من أجل حشد الناس لمناصرته في مشروعه الدنيوي، وإن بدا أنه للآخرة يعمل. فكأن الآخرة لديه وسيلة لا غاية. وأما المسلم، فالغاية عنده الله واليوم الآخر؛ وكل ما دون ذلك مما هو من الدنيا فهو هيّن. والدليل على ما نذكر، هو فرار الإسلاميين من طاعة الله الخالصة، التي لا يُطلب منها إلا التقرب إلى الله وحده، دون تحصيل دنيا. بل إنهم يجعلون الجماعات التي تشتغل بالتزكية التي هي أساس التدين كله، مخالِفة للشرع -بحسبهم- لتخلُّفها عن الدخول في الفتن الداخلية التي يسمونها هم زورا "جهادا". ولا شك أن ما يعرّض المؤمن له نفسه من بلاء في سبيل الله، يتطلب توكلا على الله، به يدخل غمار المغامرات. والتوكل مقام من مقامات الإيمان، لا يتمكن أهل مرتبة الإسلام من التلبس به، بسبب غلبة شهود التصرف من العباد على قلوبهم التي لم تتخلص بعد من ظلمتها. وقد يلتبس أمر الإسلاميين على الناس عندما يرونهم مقتحمين للصعاب، فيظنونهم على الله متوكلين؛ خصوصا مع ما يصاحب ذلك من كلام لهم، يوظّفون فيه آيات القرآن المناسبة والأحاديث النبوية، توظيفا ديماغوجيا يظنون أنفسهم به كالأتقياء من هذه الأمة. والحقيقة هي أن جلهم يتوكلون على التنظيم، الذي يعلمون أنه سيتكفل بمصاريف البيت عند دخول أحدهم السجن لأيام أو لسنوات؛ أو يعلمون أنه سيعوضهم عند خروجهم بطريقة ما، لعلها تدفع بهم إلى أعلى التنظيم، حيث شهوة التحكم في الناس وفي مصائرهم، بأكثر مما كانوا عليه. فهم يتوكلون على "تضامن" إخوانهم في أعمالهم، لا على الله!... فإن قيل: فهل تحرم إعانة المسلم للمسلم عند البلاء، وتقدح في توكل المبتلى؟ نقول: الأمر ليس منوطا بالصورة، وإنما بحقيقتها. وإعانة الإخوان لا شك هي من أكبر القربات في الدين؛ لكن لا ينبغي أن تكون مشروطة، ولا معلومة للعامل قبل دخوله في العمل. وهذا من جملة الآفات التي تكثر لدى التنظيمات. نعني أن التنظيمات، بتنظيمها للعمل كله، لا تترك للأفراد الحرية في معاملة الله بحسب مبلغ درجة إيمانهم، بل تعوقهم عنها وتدخل بهم في نمطية مصطنعة. وهذا هو المنافي للتوكل، وللإخلاص قبله!... وكل هذا الذي ذكرنا بعضه، يجعل من الإسلاميين أناسا على علل قلبية تُعتبر عند فقهاء القلوب من كبريات الموبقات، التي ما جاء الدين إلا ليستنقذ العباد منها. فكيف بهم يرتكبونها باسم الدين!... أبَلَغ الجهل بالدين عند أهله، أن يعكسوا أمره إلى هذا الحد!... ولو أخذنا -من جهة التطبيق- مثالا على ما ذكرنا، ما كان عليه الإخوان المسلمون ومناصروهم، في ميدان رابعة في القاهرة من بلاد مصر، قبل أن يبطش بهم الجيش المصري، وقت ما سُمي "الربيع العربي"، فإننا سنجد الخطاب الذي كان معتمدا على المنصة، خطابا ديماغوجيا لا يتورع عن الإضلال العمد للناس. بل إننا سمعنا من ذلك ما يكون كفرا لو اعتقده المرء، ومن ضمنه رؤى حكاها بعض من يزعمون الصلاح من بين القوم -يبغون شحذ الهمم بها- كحال من رأى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُقدّم "مرسي" إماما في الصلاة، مع كونه صلى الله عليه وآله وسلم في الجماعة. فهذه الرؤيا لو كانوا يعلمون، كانت تدل على انعكاس الأمر لديهم في التدين، لا على حسن الحال، أو على صلاح مرسي. ولكنهم مع غلبة الأيديولوجيا، لم يعودوا يميّزون حتى ما هو من قبيل ما يُنكر بداهة، ومما هو معلوم من الدين بالضرورة كما يُقال. قد أعماهم التشنج الذي هم عليه، عن إبصار الأمور على ما هي عليه في الحقيقة... وحتى عندما بدأ الناس يموتون، رأينا كيف كانوا يصعدون بهم إلى المنصة ويصلون عليهم هناك، في دعوة صريحة للناس أجمعين، أن يقدموا أنفسهم طواعية للموت، وكأنهم يبعثون بالموتى إلى الجنة يقينا!... وهذه ديماغوجيا جلية!... كل هذا، من دون أدنى رعاية لحرمة الأنفس من الجانبين: من جانبهم، ومن جانب الجيش والشرطة. كل شيء عندهم يهون في سبيل بلوغ غايتهم، التي صاروا لا يطيقون عنها انفكاكا، حتى عقلا ومن قبيل الفرض والاحتمال أو التوقع؛ كما تتطلب ذلك النباهة والتيقظ. وهذا لا يمكن أن يكون من الدين البتة، ولا من العقل المعتبر لدى أهله؛ بل هو من الأيديولوجيا السياسية الموتورة، ومن الرغبة في استعمال الناس في مآرب حزبية أو جماعية ضيقة، عن طريق التحميس المبالغ فيه، وعن طريق الإضلال. وتقديم الصراع منهم، على أنه بين الإسلام والكفر، كان تزويرا للأمر وكذبا على الناس، من أجل القذف بهم في أتون الفتنة فحسب؛ ما زال عاملا -مع الأسف- إلى اليوم، رغم بُدُوّ عدم صلوحه يقينا!... ما ينبغي أن نقوله في نهاية هذا الفصل، هو أن ما هو من الإسلامي وما هو من المسلم، قد يتداخلان بصورة متفاوتة بحسب كل إسلامي وكل مسلم؛ والتغليب في ذلك عند النظر، إنما يكون بحسب الجزئية المتناولة، وبحسب زاوية النظر معا. لهذا، فلا يجوز التعميم، ولا القطع بأمر ما في حق شخص بعينه، لمجرد اعتبار القرائن؛ لأن المسألة تتطلب علوما متشعبة ودقيقة، لا يُحسنها جل الناس. ولَأَن يُخطئ المرء في حسن الظن بمن لا يستحق، خير من أن يُسيء الظن بمن لا يستحق. وإن إيكال العلم لله في ذلك كله، قبل وبعد النظر، هو أفضل للعبد وأنجى؛ إن كان ممن يهتم لمصيره، ويرجو رحمة ربه. ونحن قد عرفنا من الإسلاميين أفرادا -على قلتهم- نحسبهم من خيرة الناس!... [1] . المسلم هنا بالمعنى العام الذي يشمل المسلم والمؤمن والمحسن. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.