اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2018/11/05 العمل الإسلامي ومنطق الإسلام - 8 - الانفصال عن الإمامة إن الإمامة في الدين، هي للأمة بمنزلة الرأس من الجسد. وكما أن الصلاة تنزل في الدرجة إن هي تحولت من صلاة جماعة إلى صلاة أفذاذ، فكذلك تدين الأمة بما هي أمة، ينزل مما كانت عليه زمن الخلافة إلى ما هي عليه اليوم، بما لا يخفى عن نظر([1]). وهذا كله، لأن الأمة بمجموعها لها عبادة غير ما هي العبادات الفردية أو عبادات الجماعات الصغيرة الفرعية. وعلى هذه الشخصية الاعتبارية يتوجه الخطاب الشرعي الخاص، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقوله أيضا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. ومن هذه الحيثية تُبعث الأمم يوم القيامة ليظهر فضل بعضها على بعض، في مظهر مخصوص من مظاهر العرض. فالأمة من غير إمام رباني ظاهر، تنزل عن تمام هذه الصفات، إلى الحد الأدنى منها. وتبعا لذلك، تختفي من الناس زمان النزول صفات كانت شائعة فيهم قبل ذلك. وقد جاءت الأخبار بأن الأمة ستتغير أحوالها، كما في الحديث النبوي الشريف: «كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ، (أَوْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ) يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً. تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا. وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. فَقَالُوا: وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ؛ وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ.»[2]. ولا يُرجع من أمر العموم إلى أمر الخصوص، إلا عند فقد الناظم الذي هو الإمام (الخليفة على الخصوص). وهذا التبدل في الحال لدى الأمة، هو من القضاء الذي لا تغيير فيه. وكل الأسباب المؤدية إلى ما ذكرنا، على ما هي عليه من أحكام في نفسها عند النظر فيها بالتفصيل، لا تعدو أن تكون أسبابا إن نحن اعتبرنا وحدة الأمة؛ ومن ذلك غياب الخلافة في جل الأزمنة، وظهور الظالمين في أعلى الهرم والمفسدين، ومتابعة الأمم الأخرى في بعض الأحوال، إلى غير ذلك مما تزخر به السُّنة على التخصيص... نقول هذا، حتى نتجاوز الأحكام الفقهية بالنظر، من أجل الظفر بصورة وجودية قدرية تُساعد على فهم بعض ما نحن فيه في زماننا، فهما يخرج عن النمطية التي تطبع مختلف التصورات. وما نعنيه بتجاوز الأحكام الفقهية هنا، ليس إهمالها وعدم إعمالها في الأنفس -عياذا بالله!- وإنما هو عدم التقيد بها عند إرادة التعرف على أسرار الوجود في زمن ما؛ لأنها تحجب عنها وتحول دون إدراكها. ومن هنا كان الفقهاء يُحجبون عن المعارف، عند قَصْر نظرهم على الأحكام بسبب العادة. ومَن عَلم أن الشريعة (بما هي أحكام) هي ميزان فحسب، فإنه لا شك سيفرق بين الميزان والموزون عندئذ. والموزون هو ما عنينا بالصورة القدرية، وبأسرار الوجود ... وإن الأمة الإسلامية، بمخالفتها للتوجيه النبوي الدال على اتباع الربانيين من أهل البيت ومن غيرهم، الذين هم ورثة النبوة فيها على التحقيق، قد انقطعت عن الإمامة بعد انقطاعها عن الخلافة، حيث كان يمكن أن تحفظ عليها تلك الإمامة بعض مقوماتها ولو جزئيا؛ وأصبحت بهذا، كالقطار الذي انفصل عن قاطرته في عمومه. نعني أن التوفيق قد جانبها في شؤونها العامة منذئذ، ولم يبق لها من صنوف الترقي والكمالات إلا ما يتعلق بالتزكية الفردية أو شبه الجماعية (الجماعات الصغيرة). وهذا هو شأنها منذ القرن الأول عند تنكرها للإمام عليّ([3]) عليه السلام ولابنيه الحسن والحسين عليهما السلام مِن بعده. ولن ندخل في تفاصيل تبيين ذلك التنكر هنا، لأنه سيخرج بنا عن غرض الكتاب؛ ونترك ذلك لمن أراد أن يتتبعه في مظانه. لكن لا بأس من الإشارة إلى ما كان سببا في انقسام الأمة إلى فسطاطين، لم يسلما كلاهما من دخول الباطل عليهما بأقدار متفاوتة بالنظر إلى جوانب بعينها؛ ولسنا نقصد إلا الشيعة وأهل السنة. ونعني من هذا التنبيه، أن الأمة لو أبقت في عمومها على موالاة أهل البيت عليهم السلام، الذين جعل الله مودتهم من قبيل شكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة جمعاء في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]؛ لما استطاعت الشيعة أن يمتازوا بما هم عليه (أو بما يزعمه بعضهم) من هذه الموالاة. ولو أن أهل السنة علموا أن السنة لا تنفصل عن أهل بيت النبوة علما وعملا وحالا، لما صرفوا النظر عنهم عند طلبها؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَمَّا بَعْدُ؛ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ، أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ؛ (فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ): وَأَهْلُ بَيْتِي؛ أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي!»»[4]؛ فجعلهم في مقابل القرآن في القيمة([5]) والتلازم؛ من حيث تجسيدهم عليهم السلام للسنة بشمولها. وهذه المنقبة ليست لغيرهم، إلا إن نحن وسعنا مفهوم أهل البيت، ليشمل أهل بيت النسب الباطني أيضا؛ نسب التقوى، الذي كان به سلمان الفارسي رضي الله عنه أيضا، من أهل البيت. فقد قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ»[6]. وهو الحق الذي ينبغي أن نعتمده، إن كنا نريد العمل بالتوجيه النبوي على الكمال. وهذا التلازم بين الكتاب وأهل البيت (السنة حقيقة)، هو ما جعل الشيعة يقولون بعصمة الأئمة عليهم السلام؛ لأنها في مقابل عصمة الكتاب وبه، وإن لم يُدرَك معنى هذه العصمة إلا قليلا، مِن قِبلهم ومن قبل خصومهم. ولعل التحسس الذي لأهل السنة من لفظ "العصمة"، هو من توابع هذا الانقسام المعرفي الوجداني، مع ما يصاحبه من جهل... وأما إطلاق وصف "أهل السنة والجماعة"، فلم يظهر إلا في أواخر القرن الثاني الهجري، وبعد ظهور التشيع الأول وحدوث الشرخ الأكبر، بعد موقعة صفين. وكأن أصحاب القول بالتسنن الصوري، أرادوا أن يلتزموا الصلة الخبرية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي ستفشو مع الزمان في الأمة، في مقابل الصلة المددية التي يكون فيها الناس مع الإمام الرباني على مثل ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. نعني من هذا أن أهل السنة، بعد جهلهم لمرتبة عليّ عليه السلام، برهنوا على جهلهم بمرتبة الخلفاء الذين مِن قبله: أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، لكون الخلافة لا تتعدد حقيقتها. وما سميناه الصلة المددية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو المشار إليه عند تعريف النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفرقة الناجية بقوله: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»[7]؛ أي: جماعة مع إمام (صورة الصلاة). وهذا يدل على أن الأمة عند اكتفائها بمرتبة الأعراب (مرتبة الإسلام)، ستكون خارج الضمان النبوي بالنجاة، بحسب ذلك. ولعل إصرار أهل السنة على إغفال حديث الثقلين السابق، والتركيز على الروايات الأخرى التي وردت بلفظ "السنة" بدل أهل البيت، والتي لا تبلغ في الصحة الرواية الأولى -وإن كنا لا نرد المعنى الثاني بل نؤكده كما أسلفنا- من الأسباب المباشرة التي أدت إلى الانقسام في التسمية بين "الشيعة" و"أهل السنة"، بعد أن كانت الأمة واحدة تجمعها نسبة الإسلام العامة. فكأن الشيعة اعتمدوا الروايات الواردة بلفظ "أهل البيت"، وأهل السنة اعتمدوا الروايات الواردة بلفظ "السنة"، علما وعملا، مع نية التمايز المعضد بالمواقف السياسية وردود الأفعال. ومن الأدلة على إخطاء طريق السنة من قِبل شطر كبير من أهل السنة، إهمال التزكية الفردية التي هي فرض عين منذ القرون الأولى، مع كونها من السنة العملية التي كان عليها الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإن إهمال التزكية نتج عنه إهمال فقه القلوب، الذي هو شطرُ الفقهِ الأكبرُ، بالمقارنة إلى الفقه المعلوم، والذي يكاد يكون ظاهريا على التمام. وإن أضفنا هذا، إلى ما سبق من جهلٍ بالخلافة وبالإمامة، سبق أن نتج عنه انفصال رأس الأمة عن جسدها؛ فإننا سنتبيّن أسباب الانحراف بسهولة، عند انحصار الإدراك لما ذكرنا في الصور الظاهرة من السلطان في مقابل الخلافة، ومن الفقهاء بدل أئمة الدين الجامعين بين علمي الظاهر والباطن. من هنا انحرف التديّن، وصار في جزء كبير منه دنيويا لمناسبة الدنيا للظاهر وشمولها له. بل إن الآخرة والباطن، ما سُميا كذلك إلا باعتبار الدنيا والظاهر، مع مجاوزتهما. وعند اقتصار النظر على البعض دون البعض الآخر، فإن الدين عندئذ ينقص بمقدار النصف في القيمة، على أقل تقدير. ونحن إن عدنا إلى طرائق ترجيح الروايات الواردة بلفظ السنة في لفظ الحديث السابق، من قِبل علماء الحديث، فإننا سنجد بعضها متساهلا إن لم نقل متهافتا. ولا شك أن للسياسة أثرها في رواية الحديث في ذلك الزمان، زمن التأسيس للـمُلك العاض، المقتضي لطمس معنى الخلافة من جهة العلم؛ حتى لا يبقى من يتطلع إليها من العموم. وهذا باب من أبواب تمحيص الحديث، ما زال يحتاج إلى من يسد مسده. فكم من رواية أُسقطت لمجرد شبهة تشيُّع لدى صاحبها عند أهل السنة. وكم من رواية أُهملت لدى الشيعة لشبهة النصب كما هو معلوم. ولقد كان تيار النصب في أهل السنة وتيار الرفض في الشيعة، تطرفا من الجانبين، سيجعل العداء بين الطائفتين أبلغ، ويجعل التلاقي بينهما أبعد. وما لم تعمل الفرقتان على التخلص من هذين التيارين الهدامين الجاهليين، فإن الفتنة الكبرى ستبقى عاملة في الأمة إلى ما شاء الله، وكأنها بنت اليوم. ولو محصنا النظر إلى النصب والرفض، لوجدناهما قد خرجا بالمسلمين من دائرة الدين إلى دائرة الأيديولوجيا منذ ظهورهما (الأمر نسبي دائما)، بالمعنى السياسي الأول ثم بالمعنى الفكري، الذي سيعمل على التنظير للمذهب بحسب المستطاع. ويكفي أن تُتابع مظاهر التنظير الفكري المؤسس للعقيدة لدى الجانبين معا، لكي يُعلم ما ننبه إليه هنا من اعتماد سبل الإضلال والتعمية، بعيدا عما يحض عليه الدين في أصله من إنصاف وصدق. ولا بد الآن من الإشادة بالصوفية (لا المتصوفة) الذين كانوا وحدهم من أهل السنة ومن الشيعة، من جمعوا بين الاقتداء بالأئمة من أهل البيت والتسنن بالمعنى اللغوي؛ فكانوا بذلك الفرقة التي جُمعت السنة فيها حقيقة. يشهد لها بلوغ أصحابها من العلم بالله ما لم يبلغه غيرهم ولا حام حوله!... نقول هذا، من أجل تتبع معاني الحديث في الأمة، لنعرف بها الفَرق بين مختلف الفِرق فحسب. وأما لفظ "الجماعة"، الذي يتسمى به أهل السنة مضموما إلى السنة، فإنه لا معنى له في الحقيقة إلا إقصاء شطر من الأمة عن الانتساب إليها، من دون حجة ولا دليل؛ لأن المقصود من "الجماعة" معنيان: المعنى الأول: عموم المسلمين؛ وهو مرجوح، لكون بعض الفرق تخرج عن وصف الجماعة بالمعنى الشرعي جزئيا، بما يداخلها من الباطل؛ فتكون بهذا، أحيانا من الجماعة وأحيانا أخرى لا تكون؛ وتكون أيضا جميع الفرق بمعنى ما، من جماعة المسلمين الكبرى، إذ لا يمكن تكفير أيٍّ منها على التمام. والمعنى الثاني: الفرقة التي على الحق، وهذه قد لا تكون فرقة قائمة بذاتها، بقدر ما هي صفة لكل من كان على الحق من أفراد الأمة، وإن تفرقوا في مختلف الفرق. وهذا المعنى الثاني، لا يُقطع بكونه مرادفا للمعنى المقصود لأهل السنة؛ إلا إن جعلنا العصبية من الأدلة الشرعية؛ وهذا لا يقول به أحد، وإن لم يسلم منه إلا القليل من أهل الفرق كلها. ومع الإقصاء من الجانبين، والمغالاة التي ذكرنا، فلن يكتفي تيارا الهدم في الأمة بالمخالفة وحدها، بل سيصلان إلى تكفير الخصم، تكفيرا يكون أحيانا أشد من تكفير الكافرين الذين ورد بكفرهم الوحي الصريح. وهذا لا يدل إلا على فساد المنهج المتبع فحسب!.. يتبين من هذا كله، أن على الأمة أن تعمل اليوم على إعادة تصحيح مفاهيمها، وترتيب معلوماتها، بعيدا عن الاستقطاب المذهبي المقيت، لكي تبلغ معنى الجماعة الذي يكون مطابقا لمعنى الأمة لديها. وهذا هو ما ستكون عليه الأمة -إن شاء الله- زمن الخلافة الخاتمة، التي نحرص في كتاباتنا على تبيين بعض أحكامها، والدلالة على بعض معالمها. ولما نظّر حسن البنا -ومن تبعه رحمه الله- للعمل الإسلامي المعاصر، فإنه قد أغفل الأصول التي ذكرناها في الفصول السابقة وفيما تقدم من هذا الفصل، وإن كان على بعض علم بها، يدل عليه ميله ظاهرا إلى منهج الأئمة في التزكية (التبرك). ولعل من ذلك أيضا إرادته جمع شتات الأمة على ما يُمكن الاتفاق عليه، والتي زادت من تساهله حيال ذلك ووسعت من دائرة أصحاب الصِّفة الإسلامية لديه. وعلى كل حال، فإن من جاء بعده من المنظرين، كان ينبغي له تكميل نقائصه، بدل النكوص والإيغال في الفكر المجرد الذي ازدادت به الجماعات الحركية بعدا عن الجادة، وازدادت ادعاء لكونها وحدها على الحق من دون المسلمين... عندما نَنظر إلى المنظرين للعمل الإسلامي والذين جاءوا بعد البنا، فإننا لن نجدهم (وهو معهم) من الربانيين؛ بل نجدهم من المفكرين؛ إما من داخل الفقه (العلوم الدينية) كما هو حال محمد الغزالي رحمه الله، وإما من خارجه وفيما يشبه حال العقل المجرد، كما هو شأن سيد قطب رحمه الله؛ رغم انطلاقه في تنظيره من نصوص الوحي. وفي الحقيقة إن تنظير سيد قطب ومن شابهه، يُشبه تنظير المتكلمين؛ على ما بين مجالي السياسة والكلام من اختلاف. نعني من هذا أن الفكر الإسلامي الذي امتاز في القرون الأولى بتناوله للمعرفة بحسبه، قد تحوّل في القرن الأخير بالخصوص، إلى تناول الشؤون السياسية. وفي الحالين، فقد ضل أصحاب الفكر الطريق عندما توهموا أنهم به سيتبيّنون الحق. ولسنا نقصر تسمية "أصحاب الفكر" هنا على منتجيه ممن ذكرنا ومِن سواهم؛ وإنما نتعدى بها إلى المتلقين، الذين لم يكن لهم إلا الفكر سندا، عند نظرهم في مختلف الأطروحات. وأما الشيعة من جانبهم، فإنهم قد أسسوا لفقه سياسي بديل منذ القديم، بسبب عدم اعتبارهم للإمامة الدينية الفعلية بعد الغيبة. لهذا جعلوا إمامة الحكم في الفقيه المجتهد، التي تجلت في زماننا في حكم الخميني لإيران بعد الثورة الإسلامية. وهذا العمل من الشيعة، لا يُمكن أن يُعد تأسيسا للدولة الإسلامية، بقدر ما هو تأسيس للدولة الشيعية (بالتنزيل الحديث لولاية الفقيه)؛ في مقابل أهل السنة الذين بقوا على وفاء للمستعمر عندما قسّم بلدانهم إلى مِزق قطرية، لا يمكن أن ينشأ عنها حتى ما يقابل الدولة الشيعية من صورة، يُمكن أن نسميها دولة "أهل السنة". لذلك، كان العمل الإسلامي من أهل السنة -كما هو عند الإخوان- غير معتبِر للحدود ولا لأنظمة الحكم الوطنية، من الجهة التنظيرية المستندة إلى العلم، لا من الجهة العملية في البداية. وهذا كان جيدا منهم، لو وازنوا بينه وبين فقه الواقع دائما.. وعندما ننظر إلى ما يميز عصرنا عن غيره، فإننا سنجده التنظير السياسي القاصر، والذي صار عقيدة يُوالى عليها ويُعادى، كما كان يوالى ويعادى في الماضي على العقائد الكلامية البدعية. لكن العجيب في الأمر، هو أنه لا أحد يتفطن إلى هذا الانحراف الذي يكاد يكون عاما، والذي قد أدى لدى بعض المغالين إلى مقاتلة المسلمين الذين لا يوافقونهم على ما هم عليه؛ كما حدث مع جماعة شكري مصطفى ومثيلاتها، ومع الجماعة الإسلامية ونظيراتها؛ إذ لا يكاد يخلو قطر من الأقطار الإسلامية من مثيلات ونظيرات، بلغت في التطور ما سمي القاعدة أو داعش، أو ما سيأتي بعدهما... إذا نظرنا إلى تاريخ الأمة الإسلامية، فإننا سنجد الانحراف قد بلغ أشده عند إسلام سيدنا الحسين عليه السلام([8])، والرضى بقِتلته، والسكوت عليها بعد ذلك؛ لأنه كان ينبغي للأمة كلها أن تقوم يومئذ لذلك المصاب الجلل... هناك تبرأت الأمة في عمومها من الحق وأهله. وبدل أن يكون العمل الإسلامي رائبا لصدع الأمة، بالعودة عن الانحرافات السابقة والتأسيس للوحدة الإسلامية الشاملة، التي لا تتحقق إلا بالاعتذار إلى الله ورسوله مما قد وقع، وبالرجوع إلى المنهاج الحسيني في النهضة بالدين؛ فإننا سنجده مُحدثا لصنف جديد من الصدع، يقوم على الرأي السياسي الذي يلتقي مع الفكر السياسي العالمي على معاني العدل، والعدالة الاجتماعية، ومشروعية السلطة، من دون أن يبحث في أصولها الشرعية ويحصرها فيها. فكان هذا الانقسام كالأول أو قريبا منه. وقد أدى هو بدوره إلى اقتتال داخلي مازال ساريا إلى الآن، كما نرى. لا شك أن للإسلاميين مسوغاتهم في إتيان ما أتوا، مع ما يجدون من الحكام المتسلطين بغير الحق، ومع ما يصاحب ذلك من إطاعة جل الناس لهم في ذلك، والتي هي معصية عامة كما بيّنّا سابقا؛ لكن عدم وجدان النصير المعين، وإن كان المرء على الحق جزئيا، لا يكون مسوغا أبدا للتمادي في الباطل؛ وإلا كنا أمة هدم لا أمة بناء. نعم، كان يجدر بالحكام الدخول مع الإسلاميين في محاورة علمية يعتضدون فيها بمن يوافقهم من علماء الدين؛ حتى يكون الاحتكام إلى العلم طريقا إلى بلوغ الغاية المزعومة للجميع، والتي هي إصابة الحق؛ بدل هذا الصراع الخفي والعلني الذي ما زاد الأمة إلا تمزقا وضعفا. ولكن الفريقين معا، لم يبرهنا حتى الآن، عن تحرّ حقيقي للحق، وعن إنصاف، يجعلان المخالف منهما يطمئن إلى صاحبه؛ خصوصا وأن من الحكام من لا يحرص على التلاقي على الدين، لضعف عقل أو لضعف دين أو لهما معا. وهكذا بقي الصراع بين الإسلاميين والحكام مستمرا، لتَغذِّيه على سوء الظن المتبادل وعلى الاتهام المتحامل. وكان لا بد في هذه الظروف، أن يتصدى فريق من أهل الحياد العلمي، للتقريب بين الإسلاميين والحكام، على قدر المستطاع، بما يكون بداية لجمع الأمة على بعض الحق، إن لم يكن على كله. ولكن ضعف الإيمان الذي صار سمة عامة للأمة، وقلة المحتسبين فيها، جعلا من لم يكن من الفريقين بالأصالة، يميل إلى أحدهما بالوجدان بحسب ما يترجح لديه مما هو عن علم أو عن هوى. وهكذا أصبحت الأمة في عمومها تشبه، ما تكون عليه الفرق الرياضية مع جماهيرها، دوائر متجاورة غير متداخلة. مع ما يتبع ذلك، من تعصب للفرقة، ومن معاداة للفرقة الأخرى، قد يتجاوزان الحد المقبول في أحيان كثيرة. وهذه الحال، لا تكون إلا مظهرا لما هو إرهاص لـ "التدمير الذاتي" للأمة، الذي ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا.»[9]. وهو، وإن لم يكن فيه قضاء على الأمة -بحمد الله- إلا أنه إضعاف للأمة، وإقعاد لها عن أداء وظائفها الحضارية التي كان ينبغي أن تنافس بها سائر الأمم الأخرى، ضمن التنافس الحضاري غير المتوقف طول الزمان الدنيوي. ولا شك أن أعداء الأمة من المعلومين ومن المجهولين، سيعملون على إطالة عمر هذه الوضعية الاستثنائية من أمتنا، بالإبقاء على جذوة الخلافات مشتعلة، وبإمدادها بما يقويها، وإن دعت الضرورة إلى إمداد الفريقين (أو الأفرقاء) بما يحتاجانه من أسلحة ومن دعم سياسي قانوني تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المتفرعة. لا أحد في العالم اليوم يجهل أن الأمة الإسلامية تُرهِب الأمم الأخرى، بسبب ما يرونه لديها من مقومات القوة التي لا تتوافر لغيرها، وإن كان جل أفرادها لا يشعرون بذلك، أو يُلهَون عنه إلهاء، بما يتيسر من وسائل الإلهاء التي تشتت انتباههم باستمرار. وإن ما يُراد إلصاقه بالأمة من إرهاب عنفي، والذي قد كثُر الحديث عنه بما يزيد عن الحد، ليس في الحقيقة إلا وسيلة للتغطية على الإرهاب المعنوي الحق، الذي يعمل في نفوس الأعداء من دون قصد منا. هذا، لأنه لا يمكن أن تكون أمة الحق -على ضعفها- كالأمم التي على الباطل، وإن فاقتها هذه الأخيرة في العدد والعدة. يقول الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151]. فالرعب الذي تعاني منه الأمم الكافرة، لن يرتفع عنهم بما يلجأ إليه حكام الزمان من طمأنة، ومن تبرؤ من العنف المشروع (الجهاد)، ومن إسلام قياد لهم عسكريا واقتصاديا؛ لأنه من إلقاء الله، لا من إرهاب البشر. وهذا المعنى، على الأمة أن تعيه قبل الأمم الأخرى؛ حتى لا تهدر طاقتها فيما لا فائدة منه، من تودد للكافرين عقيم. نحن بكلامنا هذا، لا ندعو إلى مقاتلة الكافرين لسبب كفرهم، ولا نوجِد سندا شرعيا لمن يلجأون إلى العنف الأعمى من الإسلاميين؛ ولكن نريد أن يتبيّن المسلمون أمورهم، ليسهل عليهم العمل بعد ذلك بما يرضي الله عنهم بأقل جهد. كما نريد أن تيأس الأمة من حيازة رضى الأمم الأخرى، والذي صار المنقطعون عن الوحي يدعون إلى أسبابه بحسب ما يبدو لهم. فإن هذا لن يزيد الأمة إلا ضعفا، من دون بلوغ غاية تُذكر. وقد قال الله تعالى في هذا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. وبعد هذا البيان، يسأل المسلمون أنفسهم: من أين جاءتنا الهزيمة؟!... على المسلمين جميعا أن يعلموا أن أمورهم لا تنصلح إلا بعودتهم إلى التشريع الإلهي في الصغيرة والكبيرة؛ لأن ما هم فيه من التمادي في الجهالة -وإن أضفى عليها الفقهاء الرسميون صفة الشرعية من لدنهم- يبدو وكأنه منازعة لله ورجاء خلاف ما نص عليه التنزيل؛ وهذا وحده كفيل بأن يجلب على الأمة صنوف البلاء. فمن دل التشريع بالصفة على إمامته فلا بد من تقديمه، إن كنا نريد النجاة؛ ومن دل على اجتنابه والحذر منه، وجبت الحيلولة دونه وما يبغي من تقدم على الناس. فالأمر ليس منوطا بأشخاص بعينهم أو بطائفة دون غيرها؛ وإنما هو عائد على الأمة جمعاء إما بالخير العميم، وإما بغير ذلك. والعاقل لا يسوي أبدا بين ما هو خاص الأثر وما هو عام؛ بل إن كبار العقلاء قد يتحملون الضرر الخاص عن رضى ومن دون تردد، إن قابل النفع العام، لعلمهم بما ذكرنا. وإن هذه الأنانية الفردية التي أصبحت سمة عامة (أو تكاد) في عصرنا للمسلمين، لا أصل لها من الشرع الحكيم لو كنا عنه نصدر؛ وإنما هي دليل على أمراض القلوب التي قد أُغفلت منذ قرون؛ منذ أن صيّر فقهاء الفتنة الفقه متعلقا بأبدان لا قلوب لها، كأولئك الذين وصفهم الله بقوله سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]؛ مع كون الدين يخاطب من الإنسان ظاهره وباطنه معا، إن لم نقل إن الخطاب منوط بالباطن في المرتبة الأولى منه. ولا شك أن القصور الفقهي العام، كان أساسا لما وقع فيه الإسلاميون من مخالفات، عندما ظنوا أنهم باقتصارهم على الوجه السياسي وحده قد يتجاوزونه. ذلك لأن جلهم، لا يرى القصور الفقهي إلا فيما يعود إلى الجانب السياسي وحده؛ وكأن الأمة هي الأخرى أمة مواطنين، لا معاملة لهم لربهم من جوانب أخرى. وكأن الإسلاميين بهذا، قد وسعوا دائرة الفقه السقيم فحسب. وهذا جهل بحقيقة الأمر، كان سببا في تناسل الآفات لدينا، ما نعلم أثره منها وما لا نعلم؛ إلى الحد الذي صرنا نطلب معه العلاج لأدوائنا عند الكافرين، الذين اعتدنا عدَّهم أفضل منا، عندما انحصر إدراكنا في ظاهر الأمور وحده؛ إلى أن كدنا نصل إلى دين مادي، رغم ما في هذه التسمية من تناقض. عندما تنفصل أمة عن قيادتها التي لا بد من وجودها في كل زمن، فإنها تكون قد غامرت بمصيرها بخروجها عن ترتيب الحكمة الإلهية التي لا مجال لتخَلُّفها. نقول هذا ونحن نعلم أن الخطاب الفقهي الغافل الذي لا يُدرك إلا الدنيا وما يتعلق بها، قد قَطع منذ قرون بانقطاع أضراب من يعُدّهم تاريخيا في نظره من السلف "الصالح"؛ وكأن المراتب الدينية قد نقصت منها واحدة أو اثنتان لسبب من الأسباب؛ أو كأن التشريع قد بُدّل، مع الجزم بامتناع ذلك في أمتنا إلى قيام الساعة. يعمل الناس على هذا، من دون أن يتثبتوا من سلامة المنطلق. وفقهاء الدنيا يعلمون أن كثيرا من الناس لن يأخذوا عنهم دينهم، ما لم يُعلنوا هذا الانقطاع؛ لتبقى لهم الإمامة خالصة بالزور. وهم في هذا مفترون على الله مكذبون للوحي الذي دل بالعكس من ذلك، على وجود أهل الحق في أشد أزمنة الفتنة فتنة؛ عندما سيُكذَّبون ويُخوَّنون، وهم أبعد الناس عما يُلصق بهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ؛ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ؛ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ.»[10]. إن هذا الانفصال عن الصالحين المصلحين، هو الذي جعل الأمة تفقد البوصلة، وتدخل في متاهات لا مخرج منها إلا بالعودة إلى الأصل. ونحن وإن كنا نعلم من الأخبار أن انصلاح الحال بالمعنى العام، لن يتحقق إلا في زمن المهدي عليه السلام؛ فإننا نقول بجواز وجود صلاح جزئي يصيب أفرادا تمسكوا بالسنة كما هي في نفسها، ويصيب جماعات -قلت أو كثرت- لها أئمة ربانيون يدلونها على الحق بالحق. لهذا نتكلم عن هذا الشأن، ونرجو أن يتكاثر أهله بالاطلاع على كلامنا فيه؛ ممن تتقوى بهم الأمة حيثما كانوا من أرض الله، بغض النظر عن انتمائهم المذهبي والطائفي. وحتى يميّز المسلمون ما نقول، لا بد من أن ينبذوا المنطق الكفري السائد في هذا العصر، والذي لم يعد المصطبغون بثقافته يعرفون غيره. وليس هذا ميسورا لكل من رغب فيه بمجرد العودة إلى بعض المعاني الشرعية المجتزأة، أو بإعمال الفكر؛ بل لا بد فيه من العودة إلى التربية على أيدي الربانيين، التي تجعل من الشريعة نسقا واحدا مترابطا، لا معلومات مفككة كما هي الآن. إن التربية الربانية لا تصوّب المعلومات فحسب، كما قد يتوهم الكثيرون، وإنما هي تقوّم الاستعدادات بفعل المدد النبوي الذي لا ينقطع عن هذه الأمة أبدا؛ والحمد لله... نقول هذا، لا لندل على أمر مظنون، نوافق فيه عقيدة ما؛ ولكننا ندل على شيء جربناه وعرفنا أثره، بما لا يكاد يُصدق في زمان الكذب هذا... وعندما تفقد الأمة إمامة الحق، لا بد أن تظهر فيها إمامة الباطل عندئذ، لامتناع فراغ المحل عن إحداهما. وإمامة الباطل في الأمة، لن تكون إلا في المراتب دون الربانية. لهذا سنجد الانحراف متجليا في صنفين رئيسين هما الحكام والفقهاء دائما، بالإضافة إلى الدعاة الجدد وأهل الفكر المنفلت... فالحكام قد انحرفوا منذ أن رأوا الحكم مغنما لا يُدركون من ورائه إلا الدنيا. فصاروا بهذا، عاملين بعكس منطق الدين الدال على الآخرة، حتى فيما هو من الدنيا. وأما الفقهاء، فإنهم بانطماس بصائرهم، بدل أن يكونوا ناصحين للحكام، صاروا خدما لهم، يعينونهم على باطلهم، ويجدون لهم المسوغات والأعذار. وهؤلاء جميعا قد صاروا وبالا على الشعوب، التي ما عادت تعقل من الدين إلا صورة الشعائر الرسمية، على غرار ما وقعت فيه الأمم السابقة. وبهذا صارت الأمة في شطرها الأكبر دنيوية التوجه، تكاد تنسى الآخرة؛ لولا أن الموت الذي لا يتوقف عن عمله فيها، يذكّرها بالمصير المحتوم باستمرار. وهذا حال لا يبعد كثيرا عن أحوال الكتابيين، الذين كان ينبغي أن نمتاز عليهم بالحق الذي لنا من ديننا. بل إن الأمة، مع التخلف المدني الظاهر، قد عادت حالها في الدنيا أسوأ من حال الكفار. بل إن من الكفار من يستقذر ما يأتيه كثير من المؤمنين، مع عدم تنبه هؤلاء إلى هذه المفارقة. وإن هذا الوضع المختل، قد أثر في كثير من أبناء المسلمين، حتى عادوا يشكّون في دينهم، عندما ينظرون إلى النتائج في مقارناتهم. كل هذا، يجعل الناس يقتربون في النهاية من الفكر الدجالي، الذي يجعل الأنسنة المكذوبة بديلا محتوما عن الربانية، لينغمسوا في البهيمية المطلقة بعدها انغماسا... وإنّ عدم تعرية هذا الواقع الباطني والظاهري من أمتنا، بتناول الكلام فيه، في المنتديات وفي وسائل الإعلام المتاحة، سيزيد من قوة آثار الضرر فيه، والتي ستنزل بالأمة كل يوم درجة من سلم الدين ومن سلم التحضر، إن لم يتداركنا الله برحمة من عنده... [1] . هذا بالنظر إلى العموم، لا الخصوص؛ لأن الخصوص لم يتغير عليهم شيء، بسبب تغيّر المظاهر من النبوة إلى الخلافة، ثم من الخلافة الظاهرة إلى الخلافة الباطنة، كلية كانت أم جزئية. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.