اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2018/12/28 العمل الإسلامي ومنطق الإسلام - 16 - الحاكم ونظام الحكم إن نحن حكمنا على الحكام، من غير نظر إلى أنظمة الحكم في بلدانهم، فإننا سنكون جاهلين وظالمين من غير شك. وإن الصورة التي يُعطاها الحاكم في أجهزة الإعلام في عصرنا، لا تعكس الواقع كما هو دائما؛ وإن كانت ترضي غرور الحكام أنفسهم عندما تضخم مكانتهم وفاعليتهم، في مجتمعاتهم وفي العالم. نقول هذا، لأن الحاكم في بلده مقيّد بنظام الحكم وبتقاليده، تقييدا يجعله هو أيضا محكوما من بعض الوجوه. وإن نحن أردنا أن نبدأ من البداية، فلا بد من أن نقسم الحكم بحسب السبق في الزمان، إلى خلافة وملك لا غير. فالخلافة تكون عندما يتولى الحكم نبي من الأنبياء عليهم السلام، كما هي الحال مع بعض الأمم السابقة؛ أو عندما يتولاه وارث للنبوة، كما هو الشأن في بعض أزمنة أمتنا بعد انقضاء مدة النبوة؛ وكل ما عدا هذين الصنفين من الخلافة فهو مُلك، قديما وحديثا. لكن الملك بالمعنى القديم، يكاد يكون قسما واحدا بسبب عدم تقيّد المـَلِك في حكمه بشيء[1])؛ خصوصا إن كانت شخصيته قوية وكان جيشه كذلك. ولا يخفى ما كان لمزاج المـَلك من دخل في الحكم، ولمزاج من له تأثير عليه، مِن زوج أو صديق أو قريب أو حكيم أو غيرهم... وأما المـُلك في الأزمنة المتأخرة، فأصبح متنوعا، بحيث نجد منه ما هو معالم باهتة لمـُلك قديم، بعد أن رفضت الشعوب كثيرا من خصائصه القديمة، وأبقت على ما يذكّرها بالأمجاد الماضية منه فحسب (وتدخل ضمن هذا الصنف كل الملكيات الأوروبية اليوم[2])؛ ونجد أيضا، الحكم الرئاسي الذي ظهر بعد القضاء على الأنظمة الملكية في بعض البلدان عند انقلابها إلى جمهوريات. وهذا الصنف وإن كان مُـلكا بالمعنى الشرعي، إلا أن الناس -ومن بينهم علماء الدين- يجهلونه، ويظنون أنه صنف مستقل مستحدث. وهذا الخلط في التوصيف، سينتج عنه اضطراب في الحكم على هذا النظام، وفي معاملته من غير شك. وسنجد آثار ذلك بادية في مختلف التنظيرات الإسلامية المعاصرة، وفي فتاوى بعض الفقهاء على السواء. وقد بدأ هذا الصنف في البلدان غير العربية، ثم انتقل إلى هذه الأخيرة، بفعل الأثر الاستعماري على الثقافة المحلية. ولم تسلم الملكيات العربية هي الأخرى من أثر للمستعمر -وإن كان هو قد لفظها في صورتها الأصلية- في البلدان التي بقيت فيها على أصلها، عندما نجده يعيد صياغتها على الهيئة التي كان يعلم هو من ملكياته الأولى. ومن المؤكد أن نيته لم تكن مطابِقة لما نراه نحن، لكون ملكيّتنا شرعيةً، تأتي في المرتبة الثانية من الخلافة؛ وهو لا صلة له بالدين كما نراه... ولعل ما دعاه إلى العمل على إبقائها لدينا أمران: الأول، تشبث أهل البلد بها رغم كل شيء، كما حدث في المغرب الأقصى أثناء المفاوضة على الاستقلال؛ والثاني، توهمه أنه بالإبقاء عليها في صورة ظن أنها شبيهة لما كانت عليه في بلدانهم قبل الثورة، سيضمن تخلفنا عنه بمرحلة زمنية غير يسيرة، لنبقى دائما تابعين له، ويبقى هو دائما متبوعا؛ قياسا على سبق العهد الملكي للعهد الجمهوري تاريخيا. غير أن ظنه -إن صح منه- لم يكن صوابا، وكان عبثا ذلك منه؛ بسبب اختلاف السياق العربي الإسلامي عن نظيره الأوروبي حضاريا. وإن نحن محصنا الأمر، فإننا سنجد أثر الملكية البريطانية باديا على الملكيات العربية التي كانت تحت هيمنة الإنجليز، ونجد أثر الملكية الفرنسية جليا على تلك التي كانت تحت حكم فرنسا. وأما الشعوب العربية بعد الاستقلال الصوري، ومع بُعدها عن الدين الذي كاد (البعد) أن يمسخها مسخا؛ فقد جهلت حقيقة أنظمة حكمها وتقبلتها على أنها قدر محتوم (سواء أكان النظام ملكيا أم جمهوريا)، من غير أن تعلم مدى مطابقتها للأصل الإسلامي الذي ينبغي أن تكون عليه. ولقد تسبب في هذا الوضع ضعف الفقه الذي انقطع به الناس عن مواكبة الواقع منذ القرون الأولى، واضطروا إلى تقليد الأمم الأخرى على قدر المستطاع من أجل سد ثغراته؛ أو هكذا أُريدَ أو زُعم... ولم يعد للفقهاء من وظيفة مع هذا الوضع، إلا تسويغ السياسات القائمة، وإيجاد الأدلة الشرعية لها عند الطلب؛ مع ما يتطلبه ذلك من تكلف ومن تلفيق. وهذا ما زاد من شك الناس في دينهم فيما بعد، وفي قدرته على التصدي للمستجدات بما ينفع حقيقة. أما إن نظرنا إلى الأنظمة الجمهورية وحدها، فإننا سنجد الحكم فيها على غير النمط الرئاسي الغربي، الذي يعتمد الديمقراطية من حيث المبادئ، بل اختار أصحابها أن يتقمصوا في غالبيتهم النظام الاشتراكي في البداية على الأقل، والذي يستند في الغالب إلى نموذج الحزب الأوحد؛ لكون المساواة التي تقوم عليها الديمقراطية ولو صوريا، غريبة عن ثقافة المجتمعات العربية التي شبت وشابت على الاستبداد. نعني أن الحاكم العربي لا يمكن أن يرى نفسه مساويا لغيره من الناس أبدا، ولا العامي يمكن أن يصدّق حقيقةً، أن الدولة تعتبره مساويا في الحقوق للرئيس؛ وإن قيل في هذا ما قيل... وهذا هو ما أدى إلى عدم استغناء الحاكم لدينا، عن بعض أحكام الدين المتعلقة بالحكم، والتي يجدها بحسب إدراكه تؤكد استبداده. والدين لا يُعطي هذا في الحقيقة، إلا إن أُخذ مجتزأ؛ لأن هذه الأحكام التي تُعجب الحكام، لها ما يقابلها مما يحد من تجاوزاتهم بما لا يستطيع إنكاره أحد. فالأحكام في مجملها كالأدوية المختلفة، التي تتركب منها العلاجات المناسبة لكل حاكم، على هيئة لا تطابق حال غيره دائما وعلى التمام. فكان من بين هذه الأنظمة الرئاسية (الملكية في نظر الشرع) ما هو اشتراكي قاصر، كما كان نظام مصر في عهد جمال عبد الناصر، والذي لم يُفلح في شيء كما أفلح في محو آثار الملكية السابقة وحدها؛ وكان منها ما هو بعثي يعتمد الاشتراكية القومية، كحال العراق (قبل الغزو الأمريكي)، والنظام السوري بجواره؛ مع منافرة البعث العراقي لنظيره السوري، إلى حد بلوغ العداوة في النهاية؛ مما يؤكد أن الشعارات الاشتراكية والقومية في البلاد العربية، كانت للتعمية فحسب، ومن أجل أن تُخفي وراءها الاستبداد العربي القديم والمستمر، في صور متجددة لا تختلف فيما بينها إلا ظاهرا. وهذا لم يكن مستغربا، بسبب ضعف التنظير من جهة، ولكون التنظير الماركسي غريبا عن الثقافة العربية الإسلامية من جهة أخرى؛ وإن بولغ في العناية باستنباته بالقوة من قِبل من حكموا تباعا، اقتداء بالحكام السوفييت والشيوعيين عموما. ولقد انتهت الأنظمة الزاعمة للاشتراكية إلى الإخفاق الذريع، وإن كان المتأدلجون الاشتراكيون ما زالوا يكابرون في ذلك إلى الآن. أما النظام الليبي في عهد القذافي، فقد كان مُلكا على الطراز القديم، مقنّعا بتنظير ملفق لا يثبت لأقل نقد. ولولا النفط، لكان حال ليبيا كحال غيرها من البلدان الهامشية الضعيفة، التي لا تكاد تُذكر. والمشترك الوحيد بين هذه الأنظمة العربية كلها، على اختلاف مشاربها، كان القمع للشعوب؛ في صور من العنف قل نظيرها في العالم، على تفاوت فيما بينها؛ إلى أن صرنا مضرب الأمثال في ذلك... غير أنه لا بد من التفريق بين الحكام في الأنظمة المختلفة والمتشابهة، لأن كل حاكم قد مارس حكمه في ظروف خاصة به، لا يمكن أن نعممها على سواه، من دون فحص للتفاصيل والمتغيرات. فنحن إن استثنينا القذافي الذي كان يفعل ما بدا له، بسبب غياب الرأي الآخر في بلده، فإننا سنجد شطرا من الرؤساء العرب إما عسكريين، وإما عسكريين انقلبوا للضرورة مدنيين؛ وهؤلاء يكونون نوابا عن الجيش في الحكم ولا بد. نعني أن هذا الصنف من الرؤساء لا يكون له تأثير شخصي يُذكر، في سياسات البلاد الخارجية والداخلية؛ ولا يُعطيه منصبه إلا بعض حرية التصرف في أموال الدولة ومناصبها، ويبقى الجيش صاحب السلطة الحقيقية -من خلف الرئيس- بحسب خصوصية كل بلد. وأما الرؤساء الذين تكون لهم خلفية سياسية، خصوصا إن كان الحكم في بلادهم للحزب الأوحد، فإنهم يكونون أسراء سياسات الحزب؛ ولا يعدو الرئيس في النهاية أن يكون ناطقا رسميا للحزب فحسب. فالحزب هو الذي يُحركه كما يشاء، ويتحكم في خصوصياته نفسه كما يشاء، بحسب مبادئه وغاياته. ومنظومة الحزب الأوحد في هذا النظام، هي الماسكة لكل أجهزة الدولة ومرافقها؛ بحيث يكون العمود الفقري للنظام في هذه الحالة جهازي الأمن والمخابرات. ومن الأنظمة ما هو مختلط جمع بين النوعين، بحيث يكون الرئيس عسكريا في أصله، ويصبح ممثلا للحزب الحاكم فيما بعد؛ في توافق لدى النخبة الحاكمة بين شطرها العسكري (الجيش) وشطرها المدني (الحزب). وهذا الصنف المختلط من الحكم، كان يُمكن أن ينهض بالبلاد اقتصاديا وصناعيا وعسكريا، على غرار نظرائه في العالم، لو أنه كان يعمل وفق استراتيجيا معلومة، تبني أرضية النهضة وتقوي وعي الشعب بالمرحلة التاريخية، وبمكانته الإقليمية والعالمية؛ لكن شيئا من هذا لم يحدث. بل لقد عادت النخبة الحاكمة معه في هذه البلدان، والتي كانت في أصلها اشتراكية، طبقة بورجوازية تفوق ما يكون في الملكيات؛ وعاد الرئيس ملِكا فعليا، لا ينقصه من المـُلك إلا اللقب والتاج. والدليل على ما نقول، طمع كثير من الرؤساء في توريث أبنائهم الحكم من بعدهم، من دون أن يجدوا في ذلك غضاضة. وهذا يدل في الحقيقة، على أن معنى "المـُلك" الشرعي، لم يغب عن أذهان شعوبنا ووعيها، رغم اختلاق التسميات الموهمة والألقاب الصارفة. لهذا كان الرئيس يعامل معاملة الملك فعليا في الأنظمة الجمهورية، وإن امتاز عن غيره من الملوك ببعض الألقاب التي لا حقيقة لها. فمناداة الليبيين للقذافي في زمانه بـ "الأخ القائد" لم يكن لها من معنى كما نعلم كلنا. ثم إن لجوء كل نظام جمهوري إلى تضخيم صورة الرئيس في التصور الشعبي، لم يكن دائما مطابقا للواقع؛ وإنما ليكون الرئيس حجابا للنخبة الحاكمة عن الأنظار، حتى تنصرف هي إلى السلب والنهب وهي مطمئنة. وهذا يعني أن الرئيس كما قلنا متحكَّم فيه، وإن بدا أنه حاكم مستبد. ولو تناول الدارسون هذه الظواهر بما تستحق من عناية، لتوصلوا إلى ما قد ينفع، في تبيّن مكامن الانحراف التي وقع فيها حكامنا المتأخرون؛ والتي تشير بطريق عكسية إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحكم في الإسلام لزوما. وأما الملكيات العربية والإمارات المختلفة، فالحكم فيها للأسر كما هو معلوم؛ حيث لا يكون المـَلك أو الأمير إلا راعيا لمصالح الأسرة الحاكمة فحسب. وهذا الصنف من الحكم هو أقدم الأصناف لدينا، لكونه بدأ مع معاوية فورا، بعد انقضاء المدة الأولى للخلافة الراشدة؛ وإن اختلفت مظاهره من بلد إلى بلد، أو من حقبة إلى حقبة؛ أو تلون بلون شخصية المـَلك قليلا في كل حقبة. وهو من أضعف أصناف الأنظمة في مواجهة القوى الخارجية، لكون الأسر في الغالب، لا تستغني عن رعاية دولة أجنبية، في مواجهة شعبها أولا، وقبل أي مواجهة أخرى. ولقد ظهر هذا جليا لعموم الناس مع الرئيس الأمريكي ترامب، الذي أضحى يَعير بعض الأسر على الملأ بكونهم لا يستغنون عن حماية دولته لهم؛ وصار يطلب على ذلك مقابلا من المال. وفي الحقيقة هذا حال كل الملكيات العربية مع دولها الراعية (المهدِّدة والمبتزة دائما)، والتي هي في الغالب دول الاستعمار الذي كان بالأمس. وهذا هو ما يؤكد استمرار الاستعمار لدينا في حلة جديدة، عُمِّيت بطلاءات من المخادعات السياسية الظاهرية، التي لا ينخدع بها الخبير. ومن أشد ما يقع من هذه المخادعات، اعتبار الرئيس منا نظيرا لرئيس الدولة الراعية، في المعاملات البروتوكولية الدبلوماسية. ومتى كان هذا نظيرا لذاك!... لكن للاعتياد فعل السحر في نفوس العوام الذين لا يرون دائما، إلا ما يُراد لهم أن يَرَوْا... ولما تعددت أنظمة الحكم في البلدان العربية، أعطت الانطباع بأنه لا نظام لدينا أصيلا نعود إليه أو نستلهمه في زمننا المعاصر. ولقد صرح بهذا كثير من أهل الرأي من المفكرين ومن علماء الدين على السواء. وهذا أمر خطير، قطع الناسَ عن التدين الصحيح من جهة، وجعلهم يقيمون أنظمة جاهلية ولو جزئيا، لا بد لها أن تعاكس التشريع الإسلامي بقدر ما، من جهة أخرى. نقول هذا عند اعتبار الشعوب العربية مسلمة في معظمها، ورغم ما يزعمه خدم القوى الدجالية من قوميين ومن متغربين علمانيين أو غيرهم، ممن يخالف غالبية الشعب في المرجعية. ولا ينبغي أن ننسى هنا، أنّ المستعمِريْن الفرنسي والبريطاني، عند تقسيمهما للبلاد العربية إلى رقع متمايزة، قد أرادا بتنصيب الأنظمة المحلية حينئذ ضمان عدم قيام خلافة إسلامية، لم يكادا يصدّقان أنهما (والغرب كله من بعدهم) تخلصا منها عند سقوطها في صورتها التركية العثمانية. وقد انضافت إلى هذا الصف اليوم كل القوى العالمية الأخرى بدرجات متفاوتة، لعلمها أن الوحدة الإسلامية في العالم، لا نظير لها في قوتها المعنوية والمادية معا. لكن المسلمين (نخص الشعوب)، عليهم أن يعلموا أن عوامل الانحطاط الآن موجودة لديهم، بأكثر مما هي مِن صنع الخارج. ومن جملة أسباب الانحطاط، التنافر الموجود بين مختلف الأنظمة العربية، وبين مختلف الدول. والأمثلة على ما نقول كثيرة ومتجددة، لا يكاد يسلم منها إقليم عربي واحد. وهذا لا يعمل إلا على تمديد فترة الاستعمار لدينا، في صورته الجديدة المتجددة، والتي هي أقل جلاء وأدخل في الغموض من سابقتها من غير شك؛ وبالتالي فإن التصدي للاستعمار في الصورة الجديدة يكون أكثر صعوبة من المواجهة المسلحة التي عرفها آباؤنا وأجدادنا بأضعاف. ثم إن من أبرز وظائف الدول العربية القطرية، تلقائيا ومن دون قصد منها، حماية ما يسمى "إسرائيل"؛ خُفية في البداية، وبطريقة شبه علنية الآن؛ طمعا في أن يصل الأمر إلى الانخراط الرسمي منا في المشروع الصهيوني، والذي يُرجى أن تتقبله الشعوب عندما تكون قد فُصلت عن دينها وتاريخها فصلا تاما، بعد عملية المسخ الطويلة التي مورست عليها لأكثر من القرن من الزمان. ولن ندخل في تفاصيل دعم "إسرائيل" من قِبل الأنظمة العربية عند نشأتها، ولا في المعاملات السرية التي جمعت بينها وبين كل نظام على حدة؛ لأننا نريد أن نترك ذلك للقارئ من نفسه، إن كان متابعا للأحداث في العقود الأخيرة. بل إن نحن حققنا النظر، فإننا لن نجد قيام الأنظمة العربية القطرية في النصف الأول من القرن العشرين([3])، إلا مقدمة لقيام "إسرائيل" نفسها. فالأمر ليس اعتباطا، ولا هو من الفلتات، كما كان يُراد له دائما أن يبدو. لا شك أن نظام المـُلك في التاريخ القديم كان قبليا، بما أن الشعوب لم تكن قد بلغ تعدادها ما يبلغه الآن. ومن هذا الصنف ما عرفته بنو إسرائيل على طول تاريخهم، والذي ما زال ينصبغ به دينهم ذاته. ثم جاءت الإمبراطوريات المتوسعة، كفارس والروم، اللتيْن سيطرتا على الممالك الصغيرة التي كانت في مرميَيْهما في حقبة ما. والآن يَعرِف العالم الدول الوطنية التي هي أقرب إلى الممالك الاصطناعية، من كونها غير خالصة لشعب ولا لأيديولوجيا ولا لدين؛ وإنما هي قطع من الأرض لها وحدة سياسية، قد تكون مذيبة في صورتها لقوميات مختلفة ذات لغات متعددة وأديان متباينة. وهذا يعني أن هذه الدول، على غير القوة التي كانت عليها الممالك القديمة. ومساحات الأوطان في الغالب اليوم، تبلغ ما بلغته القوة العسكرية لها من جهتَي الدفع والتمدد في حقبة تاريخية ما؛ لكنها قابلة للتغيير في كل حين، للأسباب التي ذكرنا. وأما التجمعات السياسية والاقتصادية التي تضم عددا من الدول الوطنية في هذا الزمان، كالاتحاد الأوروبي أو ما يشابهه في شرق آسيا، فقد أصبحت تشبه الإمبراطوريات القديمة من بعض الوجوه، خصوصا من الوجه الاقتصادي. وغير خفي ما كان للدين من مكانة في صياغة الملكيات القديمة، وما له الآن من أثر في قيام التكتلات الكبرى كالاتحاد الأوروبي المعروف مثلا. فلولا أثر الدين الذي ما زال حاضرا في أوروبا، ما كان طلب تركيا للانضمام إلى الاتحاد يُرفض المرة بعد الأخرى. هذا رغم اندثار النصرانية اندثارا شبه تام في أوروبا، بسبب بُعد العقيدة المعتمدة لدى النصارى، عن إدراك العقل المجرد الذي ساد ما بعد عصر النهضة. ورغم الواقع المعيش لدى الأوروبيين، والذي لا يتجاوز الدين رغم ضعفه، فإن الدول الغربية عموما والأوروبية خصوصا، ما زالت تسعى إلى محو أثر الدين لدينا بما تستطيع؛ لكن ليس لكونه سبب تخلّفنا كما تزعم، وإنما لكونه سبب قوتنا التي تخشاها. هذا لأن الدين عندنا مخالف لما هو عندهم بما لا يُقارن: فشريعتنا حية متجددة، من كونها خاتمة الشرائع؛ وأحكام ديننا تغطي جميع تفاصيل شؤون حياتنا، في صورة متطورة ليست لغيرنا؛ بدءا من العبادات وانتهاء بنظام الحكم، الذي -واحسرة!- أصبح يجهله أبناؤنا بعد تجاهل الفقه الرسمي له عبر القرون. ولقد استمعت إلى بعض القساوسة في مناظرته لأحد المسلمين، فهالني مقدار التعصب والكراهية الذي لديه، مع كونه لم يكن يُدرك ما يتكلمون فيه، من جهة عقائدهم ذاتها. وتعجبت كيف أننا نحن من يُتهم في العالم بالتعصب والكراهية!... نعم، إن لفقهائنا نصيب من وزر ما يصيبنا، لكن هذا لا يبلغ أن يغيّر من واقع الأمر شيئا؛ فالحق حق وإن ضعف أهله، والباطل باطل وإن عززته الصواريخ والدبابات!... وفي الوقت الذي نعيش آخر مراحل زمن الدول الوطنية الآن، أصبحت دولنا كلها متشابهة من حيث الضعف، على تفاوت فيما بينها؛ ومن حيث قابلية المحو في أقل مدة إن هي أُريد التخلص منها من قِبل تحالفات الأعداء، أو من قِبل النظام العالمي المطل برأسه عبر الهيئات العالمية المختلفة. إن النظام العالمي معاكس لمفهوم الدولة الوطنية على التمام، لذلك هو يعمل على القضاء على جميع الكيانات الوطنية بجميع الوسائل، والتي منها الاستعمار الاقتصادي على الخصوص، في انتظار إعلان قيام الدولة العالمية التي ستقهر الشعوب بالقوة على ما تريد كما يبدو. والحاكم العربي، الذي يراه شعبه -إن نحن تجاوزنا البروباغاندا الإعلامية المحلية- عاملا لغير صالحه فيما هو من الأمور الظاهرة سهلة الإدراك، خصوصا فيما يتعلق بسياسة الإفقار الممنهج والتجهيل المقصود، فإنه يكاد يكون في صف الأعداء بالنظر إلى حرصه على خدمة أغراضهم. وعدم التماسك الوطني هذا، الذي ينتصب حاجزا بين الشعوب ونمائها، لا بد أن يظهر أثره على الأمة كلها. فهو -على الأقل- يجعل الكلام عن الوحدة الإسلامية السياسية مؤجلا إلى حين، رغم الحكم بضرورتها عقلا وشرعا. لا شك أن الحاكم من كونه وكيلا في الحكم عن الجيش أو عن الحزب أو عن الأسرة، لا يمكن أن يكون عاملا لعموم الشعب على الدرجة نفسها من الوفاء؛ وإن كان الخطاب الرسمي واحدا لدى الجميع، يؤكد على مكانة الشعب، وعلى جعل خدمته الغاية من كل السياسات. وهذه الفجوة التي بين الخطاب الرسمي والواقع، هي -لا شك- موجودة لدى كل بلدان العالم عربا وغيرهم، بسبب انفصال النخب الحاكمة عن الشعوب دائما؛ لكنها عندنا قد اتسعت إلى الحد الذي صار معه الجمع بين الطبقة الحاكمة والشعب ضمن جامع واحد يُعتبر ضربا من المحال. وهذا أمر يُنذر بشر كبير، نعمل نحن على التقليل منه، بمثل هذه الكتابات بإذن الله. ولوم الحاكم وحده على هذه الحال ليس من العدل، ونحن نعلم أن الأنظمة الحاكمة قد قامت من البداية، على ما لا يُمكن أن يُنتج غير ما نحن عليه. فالحاكم العربي محكوم مرتين، بالنظر إلى سواه من حكام العالم: فهو تحت قهر النظام المحلي، وتحت قهر النظام العالمي؛ والنظامان معا، ليس لهما من خصم أو عدو إلا الشعب. وهو بهذا الاعتبار الفتيل (fuse) القابل للاحتراق وحده، في كل مرة تشتد فيها الأزمات وتقوى الصراعات. وبما أن الدين الحق محرر للشعوب وللحكام جميعا، من الاستعباديْن المحلي والعالمي، فإنه قد صار هو العدو الأكبر الذي لا راحة للظالمين والمتكبرين إلا بزواله. تلك أمانيُّهم!... من أراد الكلام عن تحرير شعوبنا أو عن إصلاح شؤونها المادية والمعنوية، فليكلمنا عن تحرير الحاكم العربي أولا. ولا كلام عن تحرير الحاكم، من دون تغيير للأنظمة الفاسدة، التي تعوق كل تنمية مادية ومعنوية لشعوبها. ولسنا نعني بالنظام هنا ما يسمى لدى الغربيين ريجيم (regime) في المرتبة الأولى، ولكن نقصد سيستم (system) الذي هو منظومة الحكم الخاصة بكل بلد. فهذه المنظومات رغم اختلاف أنظمة بلدانها، قد صارت واحدة، تتمثل في طبقة متنفعة لها أذرع في كل أجهزة الدولة، وتعمل عمل العصابات الخارجة عن القانون. وكل ما يقال عن القانون في العالم العربي، إنما يُقصد منه ما يحمي النظام السياسي لا الشعب ومصالحه (النظام العام). فلا ينتظر أحد في دولنا أن يكون الناس سواسية أمام القضاء -مثلا- وإن قيل ما قيل!... يزيد من هذا الاختلال، إصرار النظام العالمي الذي ما زال في طور الهيئات والمنظمات الدولية على بقاء شعوبنا على كل هذه التناقضات، خوفا من قِبله أن تعود الوحدة الحتمية بأسرع مما يُتوقع؛ وإن قيل من قِبل الناطقين باسمه -أيضا- ما قيل!... إن الفساد الشامل الناتج عن منظومات الحكم في بلداننا، قد وصل إلى حد غير قابل للاستمرار؛ فإما اندثار حقيقي لكل الشعوب، وهو ما لا يوافق المبشرات من الوحي، وما يصعب تحقيقه بالأسباب المعهودة؛ وإما تصحيح للأوضاع، بما يغير معالم عيشنا بالكلية؛ مع ما يتبع ذلك من استعداء للنظام العالمي ولأذنابه من بيننا، وهو ما زالت الشعوب غير مدركة لشروطه ومراحل إنجازه. أما الحرص على التفريق بين أنظمتنا من كون هذا ملكيا والآخر جمهوريا فحسب، كما كان ذلك في العقود السابقة، فما عاد ينطلي إلا على من كان أعمى البصر قبل البصيرة. ولو عدنا إلى خيرات بلداننا من بترول ومعادن وثروات برية وبحرية وجوية، فإننا سنجدها بأيدي القوى العالمية، التي تستغل ضعف أنظمتنا وحكامنا، لتضمن خدمتنا لها بأقل تكلفة. وإنّ تكفُّل الدول الاستعمارية إلى الآن بحماية أنظمتنا مقابل نهب أوطاننا، ما عاد يخفى عن الشعوب اليوم، خصوصا بعد انكشاف تبعية بعض الأنظمة للقوى الدجالية انكشافا لا يقبل الشك. وفي النهاية فإننا لو أمعنا النظر، لوجدنا دولنا كلها تحت كفالة دولة ما من دول الاستعمار العالمي، التي لا تخرج هي نفسها عن تحكم النظام العالمي، بما يجعل أبناء شعوبها أنفسهم، يشرعون في المطالبة باستقلالها هي الأخرى. نرى هذا جليا من بعض الدول الأوروبية الكبرى!... وهكذا أصبح المشهد السياسي العالمي أكثر تعقيدا وأكثر تركيبا مما كان عليه في القرن الماضي. وإن الإسلاميين عندما قاموا في بلداننا يسعون إلى إصلاح شأن الحكم فيها، لم يعتبروا ما ذكرنا من تفاصيل. فهم قد أعلنوا العداء إما للأنظمة -كحال من راموا إقامة الخلافة، مع كونهم جاهلين بمواصفاتها وبشروطها الشرعية- وإما للحكام عند تحميلهم كل أوزار السياسة في بلداننا. ولم يخطر في بال الإسلاميين أن الأمر فساد متسلسل، يبدأ من الشعب والحاكم ثم يمر عبر نظام الحكم إلى الدول "الراعية"، إلى أن يصب في النهاية في مصب النظام العالمي المرحلي. نصفه بالمرحلي هنا، لأنه ما زال في مرحلة ما قبل إعلان الاكتمال، حيث ستُلغى جميع الكيانات السياسية الوطنية، وتحل محلها المؤسسات العالمية تحت حكم حكومة عالمية واحدة. لقد اعتاد الإسلاميون في مواجهاتهم القاصرة، أن يصوبوا سهامهم إلى دولة إسرائيل أو إلى الصهيونية العالمية نصرانية ويهودية، أو إلى الإمبريالية العالمية والرأسمالية المتوحشة، في حين أن العدو هو النظام الدجالي الذي لا يقبل الأديان إلا مرحليا، ويسعى في النهاية إلى إعلان عبادة الشيطان صراحة. وإن كان الإسلاميون لم يتمكنوا حتى من الوقوف للعدو المعلوم لديهم وبحسبهم، فكيف بهم أمام هذا العدو الأكبر!... ثم إنهم بعدم تمييزهم بين الكتابيين والدجاليين في المعاملة، قد خسروا انضمام جل شعوب العالم إلى صفهم في معركة استنقاذ العالم، ويالها من خسارة!... وعندما ننظر بدقة إلى مختلف التنظيمات الإسلامية المحلية، نجدها قد عجزت عن مواجهة النظام المحلي الذي يفعل ما بدا له من دون حسيب ولا رقيب من العباد. وهذا أيضا يجعلها أعجز عن مواجهة النظام العالمي، الذي يفوق الأنظمة المحلية دهاء وعُدة وعددا... وإن المعرفة الدينية التي لدى الإسلاميين، من كونها قاصرة ومدخولة، لم تتمكن حتى من نُصرة الدين في بلدانها حيث لا يجرؤ الحاكم ولا نظام الحكم عن إعلان مخالفته جهرة؛ فكيف بها وهي على تلك الحال مع إبليس وأعوانه من كبار الدجاليين!... إن ميزان القوى يميل قطعا لصالح الأعداء، قبل أن نتمادى في ذكر مزيد من التفاصيل!... بل إن الأدهى والأمر، هو وقوع كثير من الإسلاميين تحت تحكم الدجاليين من دون أن يعلموا (على الأقل في البداية). والسبب هو أنهم عندما جعلوا الحاكم وحده عدوا لهم، وأرادوا الاستعانة عليه بالقوى الخارجية، التي تدّعي دعمها لكل الحركات التحررية الديمقراطية بحسب الزعم، فإنهم قد وقعوا في أيدي الدجاليين الذين يديرون الصراع من وراء الواجهات السياسية العالمية كلها. وعندما صار توجه بعض الإسلاميين دجاليا، كما هو حال جماعة الإخوان في مصر بعد الإطاحة بمرسي، لم يبق لأمثالنا إلا أن ندعم الحاكم الوطني، لعله يفيء إلى الحق الذي يجمعه على شعبه، فينحاز إلى نفسه بانحيازه إلى شعبه، وعند عمله بما تمليه خصوصية بلده وهويته. هذا، إن كان به بقية رمق وطني وديني!... وهو ما نشك فيه. إن على الحاكم نفسه أن يعمل على التخلص -ولو مرحليا وجزئيا- من منطق نظام حكمه المحلي، الذي لم يعد له مسوّغ ضمن السياسات العالمية المختلفة المصطرعة. إن وعي الحاكم بالواقع قد انتقل معياره منذ مدة، من مدى تحقيق نماء الوطن واستقراره بحسب الزعم، إلى مدى اقترابه من نظام عربي موحد، ينبني على الثوابت الإسلامية التي لا فلاح من دونها. فإن لم يبلغ إدراك الحكام ما نقول، فليعلموا أنهم محكوم عليهم بالزوال حتما، بسبب معاكستهم للتوجه القدري المعلوم. إن على الحاكم -إن كان يبغي خلاصه وخلاص قومه معه- أن يسعى منذ الآن إلى تحقيق تقارب بين مختلف الدول العربية، يكون مقدمة إلى الوحدة المنشودة والحتمية؛ لئلا يُداس تحت أقدام الجماهير عندما تثوب إلى رشدها ويكتمل وعيها. وعلى الشعوب أيضا، وفي مقدمها النخب العلمية والثقافية، أن تعمل على تصحيح إدراكها لدينها من أجل تصحيح تدينها على ضوئه؛ وأن تتعلم العمل من أجل الغاية المشتركة، بدل الاعتبارات الأنانية الضيقة بجميع أصنافها؛ لأننا -بالنظر إلى عوامل قوتنا ووحدتنا- وحدنا من دون جميع شعوب العالم، من يعمل ضد مصالح نفسه بالمعنييْن الدنيوي والأخروي. وهذا لا يليق بنا من كل الوجوه!... وعلى الشعوب العربية أن تعطي نفسها فرصة التصحيح السلمي، بأن لا تُسارع إلى معاداة الحاكم مطلقا؛ وأن تطالبه بإعلان انضمامه سياسيا إليها، بدل مطالبته بالتنحي. فإن وجدت سبيلا إلى إرغامه على ذلك، فإنه يكون أفضل. إن على الحاكم العربي اليوم، إن كان واعيا بما ذكرنا كله، إما أن يسبق شعبه على إصلاح جزئي يمكن أن يُبنى عليه، وإما أن يستجيب لشعبه متى دعاه إلى ذلك. غير هذا منه، يكون جرا للبلاد إلى المجهول... نعم، نحن نعلم أن النخبة العلمية والثقافية، لن تعينه فورا على ذلك، بسبب جمود تصوراتها وجهلها بالأصل المرجعي لدينا؛ وبسبب انحصار إدراكها فيما يتعلق بظاهر دنياها دون آخرتها؛ لأنها في النهاية لا تريد الحاكم إلا خادما لأغراضها، وإن كانت في الظاهر تدعي خدمته. لكن، وكما يقول الفقهاء: ما لا يُدرك كله لا يُترك كله (أو جله). وعلى كل حال فإن مسألة الحكم لدى دولنا العربية، هي من التعقيد بحيث لا يظفر بالصورة الإجمالية منها إلا أفراد معدودون، لا يجدون من يصغي إليهم، عند ارتفاع صخب الخطاب المصلحي الطاغي على الجميع. إننا بعرضنا لتفاصيل الصلة بين الأنظمة والحكام من جهة، والشعوب من جهة أخرى في المقابل، لا نبغي إثارة الفتنة أو الدعوة إلى ما يشبه الثورة، بالمعنى السائد الآن؛ وإنما بالعكس من ذلك، نريد أن نقلل من آثار الفتنة ومن نتائج ثورة نراها تطل كل مرة بقرنها، من أحد جوانب جغرافيتنا العربية السقيمة. فنحن في النهاية لسنا مع طرف ضد طرف، وإنما نحن مع خير الجميع، وبأقل التكاليف. نقول هذا كله، ونحن نعلم أنه لا الشعوب لدينا ولا الحكام، مستعدون لإدراك ما نقول الآن، وللعمل به إن هم أدركوه، بسبب التخلف المتنوع والمتراكب، الذي بلغ منا مبلغا تصعب مخالفته. وإن لم تسر بلداننا في الطريق الذي بيّنّاه، فإن الأنظمة كلها مرشحة للانهيار، وإن كان حكامها على بعض خير في أنفسهم (بل نحن نجزم أن بعض حكامنا خير من شطر كبير من شعوبنا). وستعم الفوضى التي نراها قد تمكنت من بعض بلداننا، في انتظار أن تلتهم نارها الجميع؛ إلى الوقت الذي يأذن الله فيه بظهور المهدي الذي سيكون خليفة ربانيا يجمع الأمة بالقوة على الحق... لا زلنا نذكر، أننا إبان ما سُمي حرب الخليج الثانية، عند ضرب العراق بعد استدراجه إلى غزو الكويت، كنا نقول لمن يجالسنا، إن ما يحدث اليوم للعراق سيعم كل الدول العربية الأخرى على مراحل؛ فكنا نرى في أعين المستمعين لنا استغرابا ناتجا عن استبعاد ذلك، بسبب غياب الدلائل من الواقع عليه حينئذ. لم يكن أحد يخطر بباله، ما وقع لليبيا وسوريا واليمن فيما بعد... ولن يتوقف الأمر عند هذا؛ فدولنا كلها مستهدفة. ولا يتوهمن أحد من الحكام أو أحد من الشعوب أنه في مأمن، وإن أُعطي من الضمانات ما أُعطي. الأمر حتمي، فليتهيأ له كل واحد بما يستطيع!... [1] . يسميه غيرنا حكما مطلقا، ونحن لا يصح عندنا هذا؛ لأن الإطلاق حقيقة لا يصح إلا لله. وأما العباد، فلا بد من أن يمتنع منهم ذلك، لمخالفته حقيقة انقهارهم الأصلي. ولولا قصر الناس نظرهم على ما ظهر من الدنيويات لدى الحكام، لرأوا ما نقول بأوضح مما يتصورون. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.