اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2018/11/30 العمل الإسلامي ومنطق الإسلام - 12 - مكانة السياسة من الدين لا شك أن معنى السياسة يختلف لدينا عنه في السياق الغربي (الأوروبي)؛ ولا شك أنه يختلف بمعناه الشرعي والذي كان معروفا في القرن الأول من تاريخ أمتنا، عما هو عليه اليوم تحت النظام الوطني القطري؛ من حيث المبادئ المؤسسة، ومن حيث التطبيقات ووسائلها. ونتيجة لكل ذلك، ومع الانحرافات المتنوعة التي أصابت هذا المجال، فلا بد من ظهور آثار الاختلافات في التصور وفي العمل، بين مختلف المراحل الزمنية التي عرفتها الدولة الإسلامية بصورها كلها. وإن الناظر إلى ما طبع العمل الإسلامي في القرن الأخير، لا بد من أن يلاحظ خلطا في المفاهيم والتصورات، أدى إلى تباين في العمل ذاته، والذي جعل عوام الأمة في حيرة من أمرهم تجاه تعدد المواقف "الدينية" التي يزعم كلٌّ أنه على الحق دون سواه فيها. فلو قارنّا بين رأي جماعة الإخوان بكل تنويعاتها ورأي جماعة التبليغ ورأي المتسلفين بجميع فروعهم، ورأي المتصوفة بعد ذلك، لتعجبنا من المسافة بين الآراء المختلفة مع زعم أصحاب كل رأي أنهم على الحق إما بالكلية وإما بالتغليب. نعني من هذا إما أنهم يرون أنفسهم على الحق وغيرهم على الباطل (تطرف)، وإما يرون أنهم أقرب إلى الحق من غيرهم (نسبية). ولا بد للفرد الذي لا ينتسب إلى جماعة من الجماعات، أن تنال منه الحيرة، بسبب تعدد ما لا يقبل التعدد في نظره. ولسنا هنا ندعو إلى شمولية في التصور للعمل الإسلامي([1])، والإسلام واسع يظلل كل من لا يخالف أصلا ثابتا من أصوله؛ وإنما نبغي الرأفة بالعامة من المسلمين، الذين لا يعثرون في أحيان كثيرة على مشتركات معتبرة بين مختلف التيارات، تجعلهم يردون المتعدد إلى واحد يطمئنون إليه، ردا حقيقيا لا ادعاء. إن إغفال العاملين للإسلام لما ذكرنا، جعلهم يخسرون الأغلبية من المسلمين، الذين يبقون على الحياد في جل المعارك الفكرية والسياسية في العقود الأخيرة... وقبل أن نمضي في الكلام، لا بد أن نؤكد على ما ذكرناه في الفصل السابق، من بطلان قول من يقول بعدم اعتناء الدين بالمجال السياسي، أو يقول بإمكان تمام التدين من غير فقه في السياسة، بالمعنى الشرعي لا بالمعنى العرفي الذي صار خليطا من التصورات المتباينة كما أسلفنا. وعلى هذا، فإن من يقول من الصوفية بإهمال هذا الشأن إهمالا تاما في عصرنا، فإننا لا نوافقه إلا فيما يتعلق بالسالكين من المريدين، وهم قلة؛ لأن هؤلاء لا بد لهم من الدخول في تفاصيل المقامات والأحوال بكليتهم؛ ونظرهم في ذلك يكاد يكون نظرا خالصا إلى باطنهم. وكل التفات منهم إلى ما هو خارجي، فإنه يُنقص من إتقانهم لما ذكرنا، وبالتالي يعود عليهم إما بالبطء في سيرهم، وإما بالانقطاع الذي يستعيذون منه استعاذة المؤمنين من النار. لكن السالكين عددهم قليل، بسبب ضعف الاستعدادات لدى المتأخرين، بالمقارنة إلى من مضوا... وهذا يعني فيما يتعلق بالطرائق ذات الأعداد الكبيرة من المنتسبين، أن التوجيه السياسي الشرعي إن غاب فيها، فإن غيابه يكون نقصا في التدين العام للطريقة. ذلك لأن الغافلين من المنتسبين سيكونون فريسة للسياسة المهيمنة، سواء أكانت علمانية أم غيرها من السياسات التي تنهجها الدول الوطنية. وهذا يكون من "أهل التربية" خيانة لأمانة الحفاظ على تديّن أتباعهم سليما وغير موظَّف من قِبل أصحاب الأهواء. وما ذكرناه عن أهل التصوف، ينطبق على من يعتمد المقولة ذاتها من الجماعات الأخرى، على اختلاف مذاهبها وتوجهاتها. هذا، لأن الاستغفال السياسي الذي صار سمة لعصرنا، بقدر لم تعرفه العصور السابقة ولا قاربته، لا بد أن ينعكس على الجماعات والأفراد، إن هم لم يتحصنوا إزاءه بالشرع. وإن الانفعال لهذا الاستغفال، لا بد أن يعود على التدين العام إما بالضعف، وإما بالانحراف. ولو أن مقولات الجماعات المنكرة للفقه السياسي كانت مؤسسة على علم صحيح، لما وقعت الشعوب الإسلامية في هذا التخبط المديد، الذي يكاد يكون معضلة الدهر والزمان، مع عملها هي بما تزعم أنه كمال في التدين لديها. ووقوع ما ذكرنا من الانحرافات المتعددة، لا يعني في مجمله، إلا أن الأمة قد انحرفت عن الصراط المستقيم جزئيا أو بصفة شبه كلية. ونحن هنا، لسنا بمعرض التفصيل في مدى تأثر الأفراد -خصوصا- بهذا الانحراف الناتج عن غياب الفقه السياسي ضمن الفقه العام، لأن هذا يتطلب النظر في حال كل فرد على حدة؛ وإنما نريد تبيين الانحراف المشترك بين مجموعة من الأفراد، يزعمون أنهم في غنى عن التوجيه السياسي. هذا إن سلّمنا بصدق أصحاب المقولات في مقولاتهم، وهو ما لا نراه دائما. وأما الحقيقة فهي أنهم على سياسة انمحاء وانهزام وذلة في غير محلها. وقد ذكرنا في فصول سابقة أن عدم التسيّس مطلقا، لا يصح. وكما بيّنا الخلل لدى من يقول بعدم التسيّس، فلا بد أن نعري انحراف من يجعل الدين دائرا على السياسة وحدها، من الجماعات الحركية التي عرفها القرن الأخير. ذلك لأن الدين غايته الله واليوم الآخر، والسياسة دنيوية وإن كانت إسلامية؛ إلا ما كان من السياسة الشرعية التي تسخر فيها الدنيا من أجل الآخرة. ولعل قائلا يقول: إن الجماعات الحركية إنما تريد السياسة من أجل الآخرة!... فنقول: هيهات!... لو كان الأمر كذلك، لما وقع لها ما وقع؛ ولما أصاب الأمة منها ما أصاب!... إن الإسلاميين يُقدمون "مشروعهم" كما لو أنه يبتغي الدار الآخرة، لكن الحقيقة هي أنهم يوظفون رغبة الناس في التدين من أجل الدنيا. والدليل على ما نقول، هو إصرارهم على مواصلة استغفال الناس واستتباعهم، وإن بدا لهم أنهم على خطأ. ولو كانوا حقيقة يريدون الآخرة، لما تأخروا لحظة عن تصحيح مسارهم، وهم لا يدرون متى يباغتهم الموت!... وعلى كل حال فلن نطيل في هذا، فهو عندنا جليّ لا خفاء فيه... ولنعد الآن إلى الاختلافات العائدة إلى الخصوصية الزمانية، لنتبيّن منشأ التعدد في التصورات. ولا بد هنا أن نشير إلى أن الدولة الإسلامية في بدايتها، ورغم تغطية التشريع لكل جوانب الحياة الاجتماعية منذ البداية، لم تكن تهيمن بصفة مباشرة إلا على المجالين العسكري والمالي حصرا (الزكاة والخراج...). وأما القضاء فكان تابعا لعلماء الشريعة، قبل أن يصير تابعا للفكر القانوني الكفري عند المتأخرين. وهو وإن كان يخضع لتوجيهات السلطان السياسية، إلا أنه كان -على الأقل من حيث المبدأ- مستقلا، يخضع لتوجيه الفقهاء على وجه التخصيص فيما يتعلق بشؤون الناس. وأما معاش الناس وأعمالهم الخاصة من تجارة وفلاحة وحرف، فكانت تابعة للفقه العام أيضا، وكان الناس فيها على استقلال شبه تام. وعلى هذا، فإن الفرد المسلم والجماعة، كانا على استقلالية كبيرة في جل شؤونهما؛ وكانت القبيلة وعاء حاميا لكليهما عند إبداء الرأي، الذي قد يكون مخالفا لرأي السلطان أحيانا؛ ما لم يعد السلطان في ذلك إلى الاستبداد الجاهلي الذي أفسد كثيرا من عصور أمتنا. والقبيلة في حقيقتها كيان وسيط بين الفرد والدولة، كان حاميا للفرد وللمجتمع معا، من كل ما يضر بالدنيا أو بالآخرة. ولقد كان معنى السياسة الذي نفهمه اليوم، غائبا على التمام مع الدولة في صورتها الأولى، ما دامت الشريعة هي الحاكمة على الرأي، وما دام الناس يستنكرون الكذب والخداع وغيرهما من الصفات التي صارت لصيقة بالسياسة عند المتأخرين. ولم يكن الاختلاف في هذه المرحلة، يتعدى الاختلاف في فهم الحكم الشرعي، بحسب مقدرة الفرد والجماعة معا، على إدراك معنى النص الشرعي في المرتبة الأولى، أو إدراك روح التشريع بعد ذلك، لمن أراد أن يكون من المجتهدين. لهذا، لم يكن أحد في القرون الثلاثة الأولى، يتجاوز الرأي الفقهي في المجال السياسي، على ما اعترى ذلك الرأي من قصور بسبب إهمال الفقهاء الأُول لمجال الحكم، خوفا من بطش الحكام على ما يبدو. وعندما نقول إن الشريعة كانت حاكمة على الرأي، فإن هذا لا يعني أن الناس كانوا مُكرهين على شيء، أو أن حريتهم كانت منقوصة، كما قد يفهم المتسرعون؛ بل يعني أن الناس كانوا على علم بأن الله قد أغناهم عن النظر لأنفسهم في الأصول. وعلى هذه الحال، ينبغي أن يكون المؤمنون حقيقة، لا على ما نراه اليوم من إرادة للبدء بالرأي من الصفر، وكأن أهل الأرض ما نزل عليهم من السماء شيء من الوحي التشريعي. إن ما ينشده بعض مفكرينا، ممن غلبت على عقولهم الفلسفات المختلفة، مِن إعادة بناء المجالات المعرفية بناء جديدا، هو وهم كبير ينخدعون به، ويخدعون غيرهم: أولا، لأنهم لن يبلغوا كمال التشريع الإلهي مهما اجتهدوا؛ وثانيا، لأنهم لن يُنتجوا إلا تصورات شوهاء، تعكس جهلهم أكثر مما تُنبئ عن علم ما. ولو تتبعنا مآلات مختلف التنظيرات البشرية التي مرت عبر العصور، لوجدناها كلها تنتهي إلى كوارث، لا يُقَرّ ببطلانها ويقع التخلي عنها، إلا بعد حقب مديدة، تكون المجتمعات قد أدت فيها أثمانا باهظة... وكمثال على ما نقول، نخص بالذكر النظرية الشيوعية التي طبل لها أصحابها لعقود، في عدة بلدان؛ ولكن أهل تلك البلاد اليوم ينظرون إليها كما يُنظر إلى البلاء العظيم بعد زواله. وقد بلغ ببعضهم الأمر أن يقتلعوا من مدنهم كل ما يُذكّرهم بماضيهم، وإن كان صورة أو تمثالا أو غير ذلك من الرموز... ولقد استمر الوضع في الأمة الإسلامية ما يقارب العشرة قرون على المنوال نفسه، مع فوارق تفصيلية تتعلق بالمذهب الفقهي والعقدي لكل دولة، وبمدى اتساعها واحتكاكها بحضارات مجاورة، أثرت في بعض المظاهر العسكرية أو الإدارية؛ لما للجوانب العسكرية والمالية والقضائية من أهمية، بوصفها العمود الفقري للدولة في تلك الأزمنة كما أسلفنا. ولم يتغير مفهوم الدولة تغيرا نوعيا، إلا مع التأثير الاستعماري، الذي أدخل المفهوم المعروف في السياق الغربي، إلى البلدان الإسلامية قسرا. ولقد ساعده في ذلك، الجانبُ الصناعي والتقاني الذي بدا وكأنه الشاهد على صحة توجهه الفكري الفلسفي السياسي. وقد أدى هذا التأثر بالمستعمر إلى نشوء تصور الدولة الوطنية، خصوصا بعد سقوط الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين الميلادي. وبما أن الاستعمار الغربي كان يتوخى بدايةً القضاء على وحدة الدولة الإسلامية، التي يرى أنه لا قِبل له بها، وهو الذي بدأ يتطلع إلى الاستيلاء على خيرات مختلف البلدان الإسلامية الكثيرة والمتنوعة، فإنه سيعمل على تمزيق بلاد الإسلام إلى دول وطنية، تضمن قوته بضمان ضعفها. ونعني على الخصوص ما ينضوي من هذه الدول تحت اسم "الجامعة العربية" التي تمنع -بحسب وظيفتها- قيام الخلافة الإسلامية منعا تاما، للتنافي الحاصل بين التصورين. وبما أن عملية الاستعمار لا تخلو من عنف مادي أثناء احتلال الأراضي، فإن إنشاء هيكل الدولة الوطنية لم يخل من عنف في التنظير وفي التنزيل أيضا، لم يمهل الشعوب المستضعفة أن تميّز الخبيث من الطيب، بحسب ما يوافق دينها (حضارتها) وتاريخها وخصوصيتها الاجتماعية المحلية. فكاد القرن الذي يلي مرحلة الاستعمار أن يمر في محاولات للجمع بين المتناقضات، ولترقيع الإخفاقات، وإعادة التجارب الكرات تلو الكرات... وما زالت دولنا الوطنية إلى الآن، تعيش كالمواليد الخدج، على التكميلات الاصطناعية لوظائفها الحيوية، التي تجعلها رهينة للبنك الدولي، الذي يعمل على إبقائها مستعمرة اقتصاديا، وإن سمح لها بعيش استقلال صوري يكبح دائما كل تطلع منها إلى عودتها إلى ثوابتها. إن أهم ما يميز "الدولة الحديثة"، هو هيمنتها على حياة الفرد والمجتمع من كل جانب. وإن كانت الشعوب الغربية لا تشعر بذلك كثيرا بسبب عدم وجود ما يُقاس عليه لديها -سوى ما يجود به بعض الفكر الفلسفي من حين لآخر، والذي لا يخالفها كثيرا في أصولها وغاياتها، بسبب فقدانها لبوصلة الوحي- فإن الشعوب المسلمة تعيش بسببه تمزقا لا يُطاق. وأقصى ما يشعر به الفرد الغربي، ما يحد من حريته الفردية الحيوانية، وتلك المتعلقة بالرأي وما يتبعه من اجتماع وإرادة إنفاذ على الخصوص. لهذا كانت الديمقراطية أسمى ما يرغب به الغربيون، من كونها حاكمة بين مختلف مكونات المجتمع، بما يرضي الجميع، عند النظر إلى عموم الدولة. وأما الشعوب الإسلامية (العربية على الخصوص)، فإن مفهوم الدولة الحديثة يُصادم عندها جل ما كانت عليه. ومن أهم مواضع المصادمة ما يلي: 1. خروج الحكم عن أصله: إن الحكم لدى المسلمين لله لا لسواه، من جهة الظاهر ومن جهة الباطن. وهذا المبدأ (مبدأ الحاكمية)، ليس مستحدثا في الإسلام، ولا هو بدعة؛ كما يبغي بعضهم أن يُشيع. وحتى الخوارج عندما رفعوا شعار {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، فإنهم لم يكونوا مخطئين في ذلك من حيث المبدأ، وإنما أخطأوا لأنهم واجهوا به الخليفة عن الله (عليّ عليه السلام)؛ وهذا أمر يناقض مسعاهم ويكذّب دعواهم. نعني أن الخليفة أحرص من غيره على تحكيم أمر الله، لو كانوا يعقلون؛ ومن لا يميّز هذا، فسكوته أفضل من كلامه. وعلى هذا فإن الحاكم في الدولة الإسلامية، ينبغي أن يعمل على إنفاذ أوامر الله، بحسب متطلبات العصر والمصر فحسب. وليس له (لا هو ولا الشعب) أن يسعى إلى إصابة هوى أو غرض، يجعل الغاية من إقامة الدولة دنيوية. ذلك لأن العمل للآخرة، هو المميّز للإنسان المسلم (وبالتالي للدولة المسلمة) عن غيره من الناس. وإذا استوى أهل الضلالة بأهل الهدى في المنطلقات، فلا شك سيكون الخلل قد وصل إلى ما لا يمكن السكوت عليه. ولا شك أن النتائج ستكون كارثية على المسلمين وقتها، كما هو الشأن في زماننا... ومن أهم ما تنبغي الإشارة إليه هنا، مخالفة الديمقراطية التي صارت غاية السياسيين فينا بجميع طوائفهم، للأصل الذي يكون فيه الحكم لله بالمعنى الشرعي المذكور آنفا. وعلى الأقل، كان على الإسلاميين أن لا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم، ليدلوا على التزامهم بأصول الدين كما هي. أما والحال غير تلك، فإن المرء يتساءل: عن أي إسلام يتكلم الإسلاميون؟ وهم يدعون إلى ما يدعو إليه مخالفوهم من العلمانيين والحداثيين ذاته؟!... 2. تغيُّر نمط المجتمع: إن المجتمعات العربية في أصلها مجتمعات قبلية. والقبيلة كيان وسيط، يحمي الفرد من هيمنة الدولة بعد قيامها، كما ذكرنا. ورغم كل الانحرافات الواقعة ماضيا في مجتمعاتنا، فإن الفرد -أحيانا- كان يجد في قبيلته ملاذا يلبي حاجاته الاجتماعية والاقتصادية في حدها الأدنى على الأقل. أما الدولة الحديثة، بقضائها على مؤسسة القبيلة، فإنها قد جردت الفرد من الوسيط الذي قد يقف في وجهها عند الضرورة، من أجل الحد من غلوائها. والفرد -رغم إبداله بالقبيلة قبائل اصطناعية، هي ما صار يُعرف بجمعيات المجتمع المدني- فإنه قد صار مكشوفا ومجردا من كل وسائل الحماية في مواجهة الدولة، التي لم تترك له شيئا من حقوقه إلا وداسته. ولقد زادت على ذلك بأن نهبته وأخضعته للتسليع الذي خرج به عن آدميته؛ إلى أن صار عاجزا تمام العجز، ينظر إليها نظرة عبودية، وإن كان ذلك كرها لا طواعية. وإن نحن أردنا تلخيص ما تكون عليه الشعوب مع الدول الحديثة، فلن نتردد في القول بأن المراد هو الاستعباد التام، الذي تضيع معه الدنيا والآخرة كلتاهما. وأما الدين فيُسكت عليه مرحليا من قبل السياسيين، إلى حين بلوغ سياسة المسخ غرضها ومنعه منعا تاما. والبدايات -لا شك- هي تدل على النهايات!... وعندما بدأت الآفات الناتجة عن الانحراف تظهر في مجتمعاتنا، بدأ الفكر السياسي الإسلامي يظهر؛ يبغي العودة بالأمة إلى المسار الأول على قدر ما يستطيع. ولكن الأمر كان قد تشعب، وخرج عن التصور البسيط الذي كانت عليه الدولة الأولى في زمانها. وبعد أن صارت الدولة الحديثة متحملة لتعليم أفراد الشعب، بحسب توجهها السياسي، تعليما يصوغ الذهنيات ويؤطر الرؤى، من دون مراعاة لشرع، صار الإسلاميون يرون أن الحل يبدأ من هدم الدولة ثم ينتهي بإعادة بنائها على ما يوافق الأصول. ولكنهم نسوا أنهم في أثناء ذلك، قد تعرضوا -هم أنفسهم- للتربية المنحرفة التي لا بد أن تكون قد أثرت فيهم، وإن لم يشعروا بذلك مع غياب التزكية. فصار جلهم يعارضون الحكم في بلدانهم، من دون أن يتخلصوا من شوائب التربية الدنيوية، والتي جعلتهم يركزون في عملية "إصلاحهم" على الحكم وحده (السلطة). وهكذا صار الإسلاميون يسعون إلى الحكم، من دون أن يتبيّنوا أن طلب الحكم مناف للدين من الأصل. ولم يعلموا أن ما وقعوا فيه، سيكون مانعا لكل إصلاح، مهما توهموا خلافه. لهذا كنا نقول: إن الإسلاميين لا يختلفون عن الحكام في الذهنية، وإنما يختلفون في الموضع، بسبب التقابل الحاصل بينهما فحسب. والأصل في الإصلاح، هو المخالفة في الذهنية للفاسد والمفسد؛ وإلا فسيُعاد إنتاج الفساد في صورة جديدة دائما. وهذه الآفة -رغم وضوحها- لم يتمكن الإسلاميون إلى الآن من تبيُّنها... 3. احتواء الدولة للدين: إن الأصل في الإسلام، هو أن تخضع الدولة له، لا أن يخضع هو لها؛ من كون شريعته قانونا إلهيا لا يُدانيه أي قانون بشري، مهما بلغ أصحابه من التحضر؛ ومن كون الأكبر يسع الأصغر ولا عكس. لكن الانحراف الذي يصيب الدين -مع كل الأمم- والذي يجعله في النهاية خادما للأهواء، قد أصاب أمتنا، عندما سخر فقهاء الدنيا "فقههم" لخدمة السلاطين؛ مع الإبقاء على الحكم الأصلي لعلوية الأحكام الشرعية مغلِّفا لكل هذا التزوير. وهذا، قد عمل على توحش السلطة في المسلمين عبر الأعصر، إلى حد يكاد يكون مساويا لما كانت عليه الأمم الهمجية التي لم تعرف دينا ولا حضارة في ماضيها. وما زال تسخير الدين للسلطة ساريا إلى زمننا هذا، حيث حُبس تحت هيمنة وزارات الشؤون الإسلامية حبسا، يجعله قليل الأثر على حياة الناس الاجتماعية والسياسية. وحتى المساجد التي كان ينبغي أن يُبقى فيها على بعض النقاء، ما عادت إلا مقرات للتوجيه الديماغوجي، الذي يصب في مصلحة الدولة ونظام حكمها. وكأن السماء قد صارت أسفل من الأرض، أو أن المشي قد صار على الرؤوس بدل الأقدام!... كل هذا، والعامة لا يعلمون من أمر هذا الانقلاب شيئا، وإن كانوا يجدون أثره متزايدا على شؤونهم كلها مع مرور الأيام؛ حتى بلغ الأمر بجهلتهم إلى أن ينسلخوا من الدين انسلاخا تاما، تغطيه مظاهر ثقافية خفيفة، تدل على أن دين الناس هو الإسلام (أو كان)!... 4. وقوع الدولة تحت هيمنة النظام العالمي: إن الدول الوطنية كلها اليوم، لا تصرف لها في نفسها إلا داخليا وجزئيا؛ بما لا يعارض النظام العالمي ذا التوجه الدجالي الخالص. وهذا لا بد أن يحد من العمل ببعض أحكام الدين المتبقية، إما فيما يتعلق بالدولة نفسها، وإما فيما يعود إلى الفرد. ولهذا فإننا نجد التدخل من الدجاليين يشمل السياسات الاقتصادية والعسكرية والتعليمية لدولنا، بما يصل بنا في النهاية إلى أن نكون مواطنين دجاليين، لا انتماء لنا ولا غاية. وإن هذه السياسة الدجالية تعمل فينا علانية بما هو من أفعال الهيئات العالمية والمنظمات الدولية المختلفة؛ وتعمل خفية، بما هو من جنس الثقافة والإعلام والفن والرياضة وحقوق الإنسان وغير ذلك... إن هذا الوضع الذي صار جليا، لا يترك للشعوب من خيار في عيش خصوصياتها، فضلا عن أن يترك لها حرية التدين بحسب دينها. وما التهم التي تُلصق بالمسلمين -لكونهم مسلمين- من إرهاب، ومن إهدار لحقوق الإنسان، ومن معاكسة للتحضر، بجميع الوسائل، وفي مختلف المناسبات، إلا دليلا على محاصرة هذه الأمة حصارا شاملا، يرمي إلى منعها من الحياة. والشعوب بإزاء سياسة عالمية هذا حالها، لا يمكن أن تعيش عيشة سليمة، تمكنها من إدراك يومها والإعداد لغدها؛ بل هي في دوامة مستمرة لا تكاد تميّز معها شيئا من أمورها... والإسلاميون عندما قاموا يبغون التصدي لبعض مظاهر الانحراف عند الأمة، لم يكلفوا أنفسهم جهد تبيّن ما يتعلق بها من جهة التأصيل ومن جهة التفريع؛ ولم يميّزوا ما يتطلب إصلاحا، مما يتطلب حذفا ومقاطعة. ذلك لأن الكلام في شؤون الحكم، يستلزم كلاما في كل شؤون الأمة، بسبب إشرافه عليها كلها؛ وإلا فسيكون الكلام في السياسة جزئيا، كما هي الحال عليه الآن. وهذا سيجعل الإسلاميين، لا يختلفون عمن يتولون الحكم في البلدان الإسلامية الآن؛ وسيجعل استبدال الإسلاميين بالحكام عملا مزاجيا يشبه الانقلابات المعروفة عالميا، والتي يأتي فيها حاكم مكان حاكم آخر، لاعتبارات جزئية لا يختلف فيها الاثنان اختلافا كبيرا فيما بينهما. وهذا الذي نذكره، يعني أن التنظير لدى الإسلاميين، ما زال قاصرا ومختلا، وإن ظن أصحابه أنه قد يُجزئ لكثرة ما كتب فيه، ولاختلاف التجارب بين البلدان التي عرفت حكما إسلاميا كاملا (زعما) أو جزئيا. وأول ما كان ينبغي على الإسلاميين الحسم فيه، هو اختلاف الحكم في الدولة الإسلامية عن مثيله لدى دول العالم في الحكمة منه. ولا نعني هنا إلا فرقا أساسا يميّز الصنفين في الأصل، وهو كون الحكم في الدولة الإسلامية غايته الحفاظ على الدين، ورعاية شؤون المسلمين بما يسهل عليهم طاعة الله، وبما يحول دونهم والمعصية؛ وكون الحكم في الدول الأخرى من العالم، هو لرعاية مصالح الشعوب الدنيوية وحدها (الجانب الحيواني للناس). لهذا، فإن هذا الصنف من الحكم لا تكون غايته إلا اقتصادية في البداية، وتكون الغايات المنوطة بالمجالات الأخرى إجرائية وخادمة للغاية الأولى: كأن يُقال بوجوب تحقيق القوة العسكرية، إما للدفاع عن البلاد وخيراتها، وإما لقهر بلاد أخرى وأخذ خيراتها (كما هو حال المستعمر)؛ وكأن يُقال بتحقيق التقدم الصناعي والعلمي أيضا، من أجل خدمة المجال الاقتصادي وتحسين ظروف العيش المادية وحدها. وأما الدين (النصراني أو اليهودي)، فهو في الخلفية لدى الأوليغارشيا، من دون الشعوب التي تُشغل بأقل قدر منه لأغراض سياسية في المرتبة الأولى. نقصد من هذا أن الأمة الإسلامية -بخلاف ما هي عليه الآن عند اتباعها لسواها- ينبغي أن تكون الآخرة أكبر غاياتها. وأما الدول الكافرة -وإن كانت على بقية دين- فهي لا تعتبر إلا الدنيا في المرتبة الأولى. وهذا الفرق جوهري بين الدين الحق والأديان الباطلة الكتابية والوضعية على السواء. ولقد كان يجدر بالإسلاميين عند محاولتهم التنظير للعمل السياسي الإسلامي، أن لا يتسرب إليهم الخطاب الجاهلي الاشتراكي أو الرأسمالي الليبرالي، الذي يعتني بدخل الفرد، وبالتوزيع العادل للثروات، وغير ذلك مما لا اعتبار له في التدين العام أو في التدين الفردي. وهذا لا يعني أن الإسلام يُهمل ما ذكرنا، أو يترك البلاد نُهبة لمجرميها؛ كلا!... وإنما يعني أن الأفراد والجماعات لا ينبغي أن يكون توجههم القلبي إلى الدنيا؛ فإن هي أتت إليهم بحسب أحكام الشرع، فإنها تكون خادمة -بالقطع- لا مخدومة. وهذا فرق أساس في التصور والعمل، أهمله الإسلاميون، فانقلب خطابهم دنيويا، وإن تكلفوا أن يكون الوحي أصلا له. وهو من أشد ما أضعف خطابهم وتدينهم من بعده. وما زالوا إلى الآن لم يشعروا بمكمن الداء لديهم، ولا بعظم آثاره على من يتبعهم أو يثق في طروحاتهم. وما نحسب هذا حدث، إلا بسبب توجه القياديين من الإسلاميين أنفسهم إلى الدنيا وإيثارهم لها على الآخرة، بصورة خفية وغير معلنة. وهذا لأنهم ظنوا أن الكلام عن الآخرة وحده ينفع، دون توجه القلوب الذي هو الأساس والعمدة. ولقد غلب عليهم هذا الوهم، لكونهم لم يتزكّوا حتى يطهروا من سوء أنفسهم الناشئ عن سوء تربيتهم في بيوتهم وفي معاهدهم. ولم يفطنوا أن الفلاح منوط بالتزكّي، وأن الخيبة ناتجة عن إهماله، تصديقا لقول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]. وكأنهم أرادوا عند اتباعهم هواهم، أن يحصلوا من الدين ثمارا جزئية، كأن يصلوا إلى الحكم، ويتحكموا في خيرات المسلمين ورقابهم، لمجرد ظهورهم ببعض آثار التدين، ورفعهم لشعارات دينية جوفاء. والحقيقة هي أن هذا الخطاب على هذه الصورة، يكون أميل إلى الخطاب النفاقي منه إلى الديني الحق. وهو في النهاية لن يوصل إلا إلى الخيبات، ولن يبوء إلا بأسوأ الخاتمات... عندما انخرط الناس في التنظيمات الإسلامية، من دون عمل على التزكّي بحسب القواعد الشرعية (وهو الأليق بالصادقين)، فإنهم كانوا يبرهنون على إرادتهم للدنيا، من طريق مخالف للمذاهب السياسية الأخرى فحسب. والشعوب أيضا عند مساندتها للخطاب الإسلامي، لم يكن ذلك في الغالب منها، إلا لبلوغ اشتراكية "إسلامية" تجعلهم يحظون ببعض الدنيا، خصوصا عندما فقدوا الثقة بالاشتراكيين، الذين عندما حكموا البلدان الإسلامية، لم يتغير معهم من الواقع شيء؛ هذا إن لم يزدد الحال معهم سوءا. وهذا نوع من الاحتيال على النفوس وعلى الآخرين، لا ينفع أصحابه؛ بل يضرهم. ولو كان هؤلاء جميعا (أتباعا ومتبوعين) يؤمنون حقيقة بأن الأرزاق بيد الله، وبأن قسمتها قد فُرغ منها، وبأن امتلاك شيء من الدنيا لا يكون إلا بإذن من الله مالكها ومالك الناس أجمعين، لما اتبعوا سبل الاحتيال والمخادعة في التدين. وهذا كله يدل على جهل بالدين أولا، ثم على ضعف في الإيمان كبير ثانيا؛ يكاد صاحبه يلامس (بل هو يقع في هذا أحيانا) الكفر من جهة باطنه، عند غفلته ومخالفة مقتضى إيمانه؛ ومن جهة ظاهره، عندما يتبع سبيل الكافرين عمليا. وما أكثر ما يقع هذا، من دون أن يتصدى الإسلاميون له لا علميا ولا عمليا. وما جدوى "تأسلم" (في مقابل إسلام)، يكون فيه دعاته على مثل ما هو المدعُوّ من سوء منذ البداية. وهذا هو ما يجعل كل ما يأتي بعد هذه البداية من تنظير أيديولوجيا، يبغي الإسلاميون سد خللهم بها ظاهريا، لعل الأمر ينتهي إلى ما يتمنون من بلوغ للسلطة وللحكم وحدهما. إن من كبريات المغالطات التي يؤسس الإسلاميون تنظيرهم عليها، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد هاجر إلى المدينة من أجل تأسيس الدولة الإسلامية. وهذا وإن كان يصح من وجه كون الخليفة عن الله، لا بد له من الجمع بين الإمامة في الدين والسلطان، إلا أنهم لا يعلمونه على وجهه؛ بل يقيسونه على ما هي عليه الأمم الأخرى. وهذا يطمس الخصوصية الإسلامية في تنظيرهم، من حيث الأصل الأول المؤسِّس، لا من حيث تفاصيل الأحكام المعمول بها. ثم هم يجعلون من تأسيس الدولة غاية للتدين الجماعي، وكأن الدين ينبغي أن يؤتي ثماره كلها في الدنيا. والحقيقة على غير ذلك، هي منوطة بالآخرة، سواء بلغ المسلمون بتدينهم بعض ما يرجون في الدنيا، كأن تكون لهم دولة، أم لم يبلغوا. ومن أكثر ما يتغاضى الإسلاميون عنه، ويجعلونه في معظمه متعلقا بإقامة الدولة، القيام بالواجبات الشرعية الفردية والجماعية التي لا صلة لها بالحكم مباشرة. ولسنا نعني هنا الشعائر وحدها، كما يريدون؛ وإنما نقصد كل مظاهر التدين التي من بينها الأخلاق في جميع المعاملات؛ بالإضافة إلى التعاون على البر والتقوى العام، والذي يكاد يغيب من بين المسلمين. ولو عمل أهل الإسلام بما هو مختص بهم فرديا وجماعيا، لقامت دولة الإسلام من غير نظر مخصوص إلى الحكم؛ ولاضطر الحكام إلى مجاراة الناس في العودة إلى أحكام الدين في الصغيرة والكبيرة، بدل أن يروا لأنفسهم المكانة بحكمهم وحده. إما هذا منهم، وإما الانفصال التلقائي عن جسد الأمة!... نعني من هذا، أن الحكم في الإسلام ليس له هذه الأهمية الكبرى التي يُراد أن يُلبسَها؛ وإنما هو وظيفة تعمل على التنسيق فيما بين مختلف الوظائف الأخرى لدى جماعة المسلمين فحسب. ولو أن الناس عادوا إلى ما تعلَّمه الصحابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما درجوا على معاملته به، وهو الذي تفوق مكانته مكانة الحكام والعظماء كلهم، لعلموا أن للدين منطقا يخصه، وإن كان المسلمون قد غفلوا عنه منذ القرون الأولى. ولقد جاء في صفة الصحابة في معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ.»[2]. وهذا خلاف المنطق الجاهلي، الذي عاد المسلمون إلى العمل به، مع الحكام الدنيويين. وهو يُنبئ ظاهرا عن أن الحاكم لا ينبغي أن يمتاز بشيء من مظاهر الأبهة في الإسلام، لأننا أمة تعبد الله ولا تعبد الحكام من دون الله، كما كانت تفعل الأمم المشركة عبر العصور. لكن هذا أيضا لم يُدرك على حقيقته من قِبل الإسلاميين، ومن قبل المسلمين عموما بعدهم؛ لأنهم توهموا أن الحاكم (الخليفة) لا يختلف عنهم من جهة حقيقته. فكأنهم أرادوا بتضخيم الظاهر، أن يسدوا خلل الباطن؛ وهذا لا يصح!... لأن لكل من الظاهر والباطن أحكامه ومناطاته، فلا سبيل إلى الخلط أو إلى الترقيع. والحقيقة هي أن صرف الشارع للناس عن ظاهر الحاكم بعدم القيام له تعظيما، إنما ليدل على ميزته الباطنة، والتي بها هو خليفة عن الله. خليفة بالأصالة إن كان هو نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم؛ وخليفة بالنيابة إن كان أحد الاثني عشر المنصوص عليهم؛ وخليفة بالنيابة عن الخليفة النائب، إن كان أحد الملوك. ورغم هذا الاختلاف في المرتبة، فإن الحاكم تبقى له الميزة من جهة الباطن، التي لا ينبغي لأحد إغفالها إن كان يريد أن يكون تدينه كاملا. إن إدراك أهل الدين -خواصهم- لحقيقة الحكم من جهة الباطن، هو الذي يجعلهم مفارقين من الناحية السياسية لغيرهم من أهل الفكر السياسي. وهو الذي يعطي لتدين الفرد وتدين الجماعة بعدا لا يبلغه أحد من غيرهم. وإنّ جهل الإسلاميين به، يجعلهم لا يختلفون كثيرا عمن ذكرنا من غيرهم، مسلمين كانوا أم غير ذلك. وهو السبب المباشر في كل الإخفاقات التي لحقتهم لو كانوا يعلمون... ومن غريب الأمر أنهم يعيدون الكرة المرة بعد المرة، ويصير معهم في كل مرة ما صار أولا، ومع ذلك لا يسألون أنفسهم: أين الخلل؟... وكأنهم صبية دون التمييز، لا يتمكنون من ربط النتائج بأسبابها... إن من لا يميّز منطق الإسلام في الأمور، لا ينبغي أن يتصدى للتنظير لها أو لتعليمها الناس؛ لأنه سيخلط بين الطيب والخبيث، ولن يكون دالا على الحق الخالص الذي جاء به الوحي ورسخته السنة النبوية الشريفة. وسيكون ممن قال الله تعالى فيهم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]. والإسلاميون -بالتأكيد- ليسوا إلا من هذا الصنف!... ونحن إذ ندل على منطق الإسلام فيما يتعلق بالسياسة على الخصوص، نسأل الأمة أن تعود إلى من يعلمون هذا الذي نقول، إن كانت تريد أن تقتفي أثر المؤمنين الأولين، الذين جعلهم الله النموذج البشري الذي ينبغي أن يُرجع إليه في الشؤون كلها، ونهى أن يُخالَف عن سبيلهم بقوله سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. [1] . حتى إن قلنا بالشمولية في الإسلام، فإنها ستكون مقبولة بسبب اتساع التشريع الإلهي للخصوصيات الفردية والجماعية؛ بخلاف الشمولية المعروفة لدى الأيديولوجيين، فإنها تصب في مصلحة فئة وتطحن في مقابلها كل الفئات المتبقية من المجتمع. ونحن فررنا من المصطلح لضيق الوقت عن الدخول في التفاصيل فحسب. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.