اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2018/11/24 العمل الإسلامي ومنطق الإسلام - 11 - دخول الظلمة على الجماعات كان ينبغي على الإسلاميين، قبل أن ينخرطوا في أي عمل، أن يعلموا الفرق بين ما هو من الدين، وما هو من الفكر الإنساني العام، الذي يشترك فيه المؤمن مع الكافر. ورغم أننا نعلم أن الطريقة التي تلقّى بها الإسلاميون (كغيرهم من الناس) تعليمهم الديني، لا تختلف عن طريقة تلقيهم للعلوم البشرية المختلفة، فإننا لا نجد مناصا من التنبيه إلى الفرق بين ما هو رباني، وما هو بشري من هذا الوجه، لا من كل الوجوه؛ لأن كل شيء هو رباني من وجه ما، من حيث النسبة العامة إلى الحق. لكن ما نتكلم عنه هنا، يتعلق بالربانية العلمية قبل غيرها، والتي هي المميزة للدين عموما، وللشريعة خصوصا. إن الوحي عندما نزل من عند الله، لم ينزل إلا لفتح باب كان سيبقى مغلقا من دونه أمام الناس؛ وليس إلا باب الطريق إلى الله، الذي ينبغي أن يسلكه كل من يريد أن يعرف حقيقة نفسه وحقيقة العالم من حوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. وإن التكاليف التي ألزم الله بها عباده، ليست كما يعتقد العوام (والإسلاميون من جملتهم) لتحصيل الأجر وحده، ودخول الجنة بعد ذلك في الآخرة، وإن كان هذا صحيحا... (أو لنقل إن هذا يُقبل -إن شاء الله- ممن هم من أهل مرتبة الإسلام، التي يبقى أصحابها على أدنى درجة من التدين) وإنما كانت التكاليف منوّرة لقلوب من يرغب في التقرب إلى الله، ووسيلة لتحصيل علم ما لم يكن يُعلم لهم. ذلك لأن السير في طريق الدين، وقياسا على الطريق الحسي، لا بد له من نور يُسار به، وتُتجنب آفات الطريق ومهلكاته. لا شك أن النور الذي نعنيه هنا، هو ذلك الضروري لإبصار البصيرة، والذي هو روح البصر من العين، وباطنه. وهو المتعلق بباطن الإنسان الذي هو قلبه، لا بعينه الترابية. يقول الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. ومن كان قلبه لا يبصر، فكيف يزعم أنه يبصّر غيره بعدُ!... والأعمال المشروعة كلها، إن كانت على السنة في الصغيرة والكبيرة، لا بد أن تثمر للعبد نورا أوليا، به يرتقي من مرتبة الإسلام، إلى المرتبة الموالية، والتي هي مرتبة الإيمان. ومرتبة الإيمان، تفتح للعبد مجال الأعمال القلبية التي لم يكن يعلمها من قبل. وبأعمال القلب، تتسع دائرة العمل الشرعي لدى العبد، وتتسع مداركه؛ لأنه سيدرك بقلبه، ما هو وراء حواسه، التي كان يظن أنها وحدها وسيلة الإدراك. فإذا أتقن العبد أعمال مرتبة الإيمان، وتحقق بأحوالها ومقاماتها، ونال علومها وأذواقها؛ فإنه يصير على نور أكبر من نور المسلم. وبهذا النور الزائد، يصح للمؤمن أن يكون معلِّما للمسلم وموجها. فكان ينبغي بهذا على الإسلاميين، تحصيل مرتبة الإيمان -على الأقل- لتُقبل إمامتهم لعموم الناس؛ وإن كنا نعلم أن المؤمن لا يأتي ذلك إلا مضطرا، بسبب علمه بنقصه، بالمقارنة إلى من هو فوقه كالمحسن. والمحسن أيضا يصعب عليه الدخول في العمل الإسلامي على ما هو معلوم عند أهله، بسبب شغله بربه المستغرق لكل وقته. فهو بهذا، غير مؤهل على التمام لإمامة الناس فيما هو من قبيل الشؤون العامة؛ إلا مضطرا، وحيث يتخلف العمل الفقهي المعهود. فنخلص إلى أن الإمامة في الأمة، لا تكون في الحقيقة إلا لمن فرغ من نفسه، وصار وارثا للنبوة في دعوة غيره؛ وهؤلاء ليسوا إلا أهل التحقق من كبار أولياء هذه الأمة، الذين هم أهل النور الكامل. فهم من يُنسبون إلى الكمال وحدهم، بخلاف ما يَظن المتساهلون في الإطلاقات من الدارسين الذين يخرجون بها عن معناها، والذين لا يزيدون الناس إلا رهقا. فليُعتبر هذا، فإنه نافع جدا!... يتبين من هذا، أن الإسلاميين عند عملهم على غير السنة في بعض الأركان، أو عند عملهم بالمخالفات مع الإتيان بالأركان، تدخل عليهم الظلمة، وقد تغلب نور عبادتهم كله. وبذلك فإنهم يبقون غير مبصرين، أو قد تسوء الحال منهم حتى تبلغ بهم قسوةَ القلب المورثة للمقت الإلهي. ولا عبرة هنا بالقوة الفكرية التي قد تكون لبعضهم، ويظنونها هي النور المقصود؛ لأن مثل ذلك أو أكثر منه، يتوافر للكافرين أنفسهم، ومع ذلك لا ينفعهم إلا قليلا؛ وفي الدنيا وحدها، دون الآخرة. وإن أعظم الظلمة التي تدخل على الإسلاميين -إن اجتنبوا المعاصي الظاهرة- هي من تخطي الرقاب، الذي هو من جهة المعنى، التقدم على من هو أفضل منهم. وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن تخطي الرقاب في المسجد، بقوله لفاعل ذلك: «اِجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ!»[1]، فإنما ليدل على الأذى الحاصل من التقدم على من هو خير في المرتبة بالأولوية. وإن كان الأذى الأول محصورا وقليلا، فإن الأذى الثاني أبلغ في الأثر وأعم؛ لأنه لا يصيب أشخاصا معدودين، وإنما يصيب الأمة كلها بالخلل. وإن كان الأذى الحسيّ محرما على قلّته، فما القول في هذا الأذى الأكبر!... ولا يكون هذا التقدم على الأفضل، إلا بتأوّل لبعض القرآن أو بعض الحديث، يكون مبنيا على جهل بالمعنى الصحيح وبالمتعَلَّقات (المناطات). وهذا هو ما سماه الله "جدالا بغير علم" أو "جدالا بغير سلطان"، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 35]. والسلطان في عمومه هو الإذن، وهو هنا العلم؛ لأن العالم مأذون في تبيين معاني الوحي، بعكس غير العالم. والمسلم بتخطيه للرقاب معنويا، يكون من هؤلاء المجادلين غير المأذونين. فانظر ما أحكم كلام الله!... من هنا كنا نقول بدخول ظلمة كبيرة على من يتلبس بما ذكرنا... وأما الاستهانة بهذه العظائم، التي يكاد الناس كلهم يشتركون فيها، فلعدم تمييز المعاني، الذي يدل هو أيضا على أن المرء من أصحاب الإسلام لا الإيمان؛ كما أبان الله تعالى في قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. أي إن تمييز المراتب لا بد أن ينجر عنه تمييز في علم العلماء وفي عمل العاملين؛ وهذه كلها معالم يتعرف بها المرء مكانته، وما يليق به من أمور. فليحتط العبد لنفسه، ولا يدخل فيما هو فوق طوره، إن كان يريد السلامة. والمخالفات إن تعددت، كمن يضيف إلى ما تقدم، ما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه في قوله: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَاهُنَا! (وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ! كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ!»[2]، فإن ذلك سيجعل ظلماته مركّبة، بعضها فوق بعض. كل مخالفة مذكورة في هذا الحديث وفي غيره، تقابلها ظلمة؛ إن لم يتب العبد منها علقت بالقلب فآذته. وتأمل إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قلبه الشريف، عند كلامه عن التقوى التي هي نتيجة النور، لتعلم أن الأمر يدور على القلب، لا على صورة الأبدان ولقلقة اللسان. وانظر إلى ما ختم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به الحديث، عندما ذكر المصيبة العظمى، والتي هي احتقار المسلم. ولْيُجبنا مجيب الآن: كم من الإسلاميين، يتحفظ من هذه الآفة؟... خصوصا إن كان إخوانهم ينتسبون إلى جماعة غير جماعتهم التي يرون لها العصمة (هذه هي الأدلجة)، وإن كانوا لا يُعلنون ذلك صراحة. أما إن كان المخالفون ينتمون إلى طائفة أخرى، فإن تكفيرهم لا يعدّونه حتى من صغائر الذنوب؛ بسبب طغيان العقيدة المذهبية، على التوجيه النبوي العام؛ وهو من أكبر أسباب الظلمة. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا، في هذا المعنى: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ؛ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ؛ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ؛ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]»[3]. وهذا الران هو المانع عن الإبصار المذكور آنفا، والذي لا يُستغنى عنه في السير. فهل يعتني الإسلاميون بما ذكرنا؟... وحتى لا نطيل في هذه التفاصيل الفقهية السلوكية، والكتاب ليس مخصصا لها، فإننا سنتجاوز إلى الكلام عن بعض الجماعات المعروفة بنشاطها الدعوي داخل الأمة، لنبيّن خصوصيتها وحدود ما يتعلق به عملها، إن كانت تبغي تحصيل الأجر، عند تعذر النور؛ ولنبيّنَ من أين تدخل عليها الظلمة، إن هي خالفت ما هو من طورها، أو دخلت فيما ليس من طورها. ولنقسم هذه الجماعات إلى ثلاثة أصناف، كما اعتاد الدارسون فعل ذلك؛ وهي جماعات العمل غير السياسي، وجماعات العمل المسيّس، وجماعات العمل العنفي. 1. الجماعات غير السياسية: وعلى رأسها الطرائق الصوفية، وجماعة التبليغ والدعوة. ا- الطرائق الصوفية: هي في الأصل مدارس للتربية القلبية، تعمل على ترقية العباد في مراتب الدين كلها، بحسب مرتبة شيوخها. وهذا يعني أن من الشيوخ من يكون داعيا إلى الإيمان، ومنهم من يكون داعيا إلى الإحسان، ومنهم من يكون جامعا بين كل ذلك ويزيد، إن كان كاملا؛ هذا هو الأصل في التصوف. أما الطرائق التي تخلو مما ذكرنا، فهي إن تجاوزت في عملها ودعوتها ما يكون عليه عوام المسلمين (التبرك)، فإنها تكون دعيّة؛ وبذلك تدخل الظلمة على أصحابها بحسب مخالفاتهم. فمن ادعى (شيخا كان أو مريدا) مقامات الإيمان، أو تكلم فيها؛ أو ادعى مراتب الإحسان وتكلم فيها؛ أو ادعى الولاية الخاصة من غير أن يكون متحققا بها، فإنه يكون من إخوان الشياطين، لا من المؤمنين. ولا ينفع في هذا، تصديق العامة له؛ أو إعانة السلطان (الحاكم) له، المتمثلة في اعتراف الوزارة الدينية في بلده به؛ لأن الأمور تأخذ أحكامها من الشرع، لا من العرف ولا من السياسة هنا. وعلى هذا، فإن جل الطرائق الصوفية في زماننا على انحراف، يعمل بعكس ما ينبغي في الأمة؛ إذ هو يضعف الإيمان فيها، ويُكثر من عدد حمقاها، ويعضد حكم ظالميها، ويخدم أغراض أعدائها بأكثر مما تفعل الجيوش ويفعل أهل السياسة. ذلك لأن عدد العوام الذين ينخرطون في هذه الطرائق، قد يكون أحيانا بالملايين؛ لو أنهم أُخذ بهم على النهج الصحيح، لكانوا القاعدة الصلبة للأمة!... ولا بد هنا أن نذكر أن المتصوفة يؤكدون دائما على أنهم لا يشتغلون بالسياسة، يريدون من ذلك التعريض بالإسلاميين؛ وهذا غير صحيح في زماننا!... إلا إن كانوا يعنون أنهم لا يعملون بسياسة ما، دون غيرها. لذلك فإن تسيّس المتصوفة لا خفاء به، سواء أقرّوا به أم لا. فهو في أغلبه يصب في خدمة حكام بلدانهم، وإعلان موالاتهم، بمناسبة أو بغير مناسبة؛ إن لم يتعدّهم إلى خدمة المشروع الدجالي العالمي، الذي نرى أن كثيرا ممن يُشار إليهم بالتصوف في زماننا قد انخرطوا فيه. وهذا عمل سياسي رسمي، لا يقل سوءا عن عمل الإسلاميين، إن لم يفُقه في السوء. والصوفية الأحقاء في الأزمنة الماضية، كانوا يفرون من الحكام والسلاطين، لعلمهم بمخالفاتهم وبإصرارهم عليها؛ ولعلمهم بأنهم لا يقبلون في العادة مجالسة أحد، حتى يبيعهم آخرته. هذا حالهم مع المسلمين، فكيف مع الكافرين!... ومرضاة الله عند الصوفية أولى، وإن قُطّعوا إربا إربا!... فلا يغتر أحد بهؤلاء المتلاعبين بالدين، والذين لا يثبتون أمام ترغيب ولا أمام ترهيب!... ب- جماعة التبليغ والدعوة: هذه الجماعة نشأت في الهند، حيث المسلمون أقلية. وقد وضع لها مؤسسها محمد إلياس الكاندهلوي منهاجا يناسب بلاده. فهو يدعو في البداية الكافرين إلى الإسلام، ويدعو الغافلين من المسلمين إلى الالتزام بأعمال مرتبة الإسلام. ويحث على أن يتحلى الداعية والمبلّغ بالأخلاق الضرورية لذلك، من صبر على الأذى، وعدم مقابلة السيئة بسيئة مثلها. وهذا عمل في أصله محمود، لولا ما يخالط أصحابه من ظلمة، يكون من أسبابها تجاوُز طورهم العام، إلى ما يكون أعلى منه. نعني أن نمط العمل الذي يكون عليه أهل التبليغ، لا يُعطي الترقي المطلوب في الدين، كما قد يوهمون بذلك من لا علم له. هذا إن سَلم لهم الأصل في نورهم!... وأما تخطي الرقاب الذي حذرنا منه آنفا، فإنه لم يسقط فيه على الخصوص، إلا متأخروهم من أهل البلاد البعيدة (كما شاهدنا من مغربنا)، والذين دخلت عليهم العقيدة التيمية، فجعلتهم يتكلمون في التوحيد بحسبها، ويُنكرون على من هم أعلى مرتبة، وكأنهم قد بلغوا الغاية من الدين!... بل إن الواجب في هذه الحال، كان هو إعلام المدعوّين بمحدودية الخطاب التبليغي إبراء للذمة، وإبقاء على الطريق الديني مفتوحا في وجه الطالبين. ومن أسباب الظلمة أيضا، التي وقعت فيها هذه الجماعة، ما يكون عند دخولها إلى البلاد الإسلامية المختلفة؛ مما يجعلها أحيانا تروم دعوة المسلم إلى الإسلام وهو عليه. فكأنها بهذا إما تناصر مذهبا على مذهب أو رأيا على رأي، أو هي تريد جمع الناس فحسب؛ فيكون هذا منها عملا في غير معمل، وإهدارا للجهد، وعبثا مخالفا لأصل التشريع. ولا ينفع أن يُحتج لهذا، بالاجتماع على العبادة والأعمال الصالحة؛ لأن هذا ينبغي أن يكون شائعا بين المسلمين كافة، لا أن يُحصر في جماعة بعينها أو تنظيم. فنتج عن هذا الصنف من الدعوة، شق جماعة المسلمين الكبرى، وهي الأوْلى بالمراعاة وبالخدمة، لو كانوا صادقين. ولو أن جماعة التبليغ اكتفت بالاجتماع على العبادات المشروعة، كما كان يفعل بعض السلف (وليتها فعلت)، لعددناها من طائفة العُبّاد؛ الذين كانوا على نور في عبادتهم، وإن لم يكونوا على ترقّ؛ ولكنها أدخلت على العبادة ما ليس منها، على غير نور. فهذا هو ما نأخذه عليها وحده؛ وهو باب الظلمة وسببها لديها. وأما "الخروج في سبيل الله" الذي تشتهر به هذه الجماعة، فهو بدعة؛ لعلها كانت تناسب الهند في البداية؛ لكن تعميمه على كل بلد تتواجد به هذه الجماعة، يجعله فاقدا للمعنى. ثم إن الخروج الذي هو مظهر للهجرة، ينبغي أن يكون في طوره الأول خروجا عن المنهيات، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.»[4]. ومن المنهيات، الابتداع في العمل للإسلام... وحتى ربط الخروج بمعنى السياحة لا يستقيم؛ لأن السياحة ينبغي أن تكون على توكل، لا على تخطيط وابتعاث. والتوكل من مقامات المرتبة الثانية من الدين، لا من الأولى. وأما الخروج في طوره الثاني، فهو الخروج عن النفس، الذي يصير به العبد ربانيا. وهذا لا بد فيه من الترقي في مراتب الدين كلها، تحت إشراف إمام حق. وهكذا، فإن الخروج من البلد، ليس له أصل في الدين، من هذا الوجه الذي يعتمده أهل التبليغ، ويكادون يجعلونه ركنا ركينا منه، عليه يدور جل تديّنهم. وتدخل الظلمة على جماعة التبليغ أيضا، عندما يعتقدون أن ما هم عليه، هو ما كان كبار الصحابة عليه رضي الله عنهم؛ لأنهم بهذا، يدّعون ما ليس لهم، ويحجبون غيرهم عما هو خارج إدراكهم، مما لا يعلمون، من صحيح الدين. ثم عندما يكون نظرهم إلى المؤيِّدات بحسبهم (الاستدراج الذي ظاهره كرامة)، والتي يتوهمون منها أنهم أقرب الناس إلى الله، وأنهم على قدم الأنبياء عليهم السلام، فإنهم ينحرفون عن الصراط المستقيم عينه، عندما يفقدون المعايير الشرعية النورية فيه. وهذا كله، من تلبيس إبليس، ومن أمارات الكبر والعجب (الربوبية)، المستترين في النفوس العليلة. وأما ما يبقى بعد هذا، من دعوة الملحدين إلى الدين (على نور)، ومن دعوة الفاسقين إلى الطاعة، فهو محمود دائما، ولا ينكره إلا جاحد. وأهل التبليغ كالمتصوفة، يبرأون جميعا من العمل السياسي بحسب الزعم، إلا أنه في زماننا، لا نقطع بذلك لهم ولا لغيرهم، لشيوع التسيّس في الناس عموما. وإن أكثر ما يجعل مَن ذكرنا ينخرط في السياسة نوع انخراط، ما يكون منهم من موافقة لأنظمة الحكم في البلدان المختلفة التي يزورونها أو يقيمون بها، مع تحقق كونها على بعض المخالفات الشرعية المجاهَر بها، والتي قد تَعظُم فلا يجوز السكوت عليها. وحتى عند زعم هذه الجماعات أنها تعتني بالتربية الفردية بعيدا عن التسيّس، فإننا لا نقبل منها ذلك مطلقا، لكونها أولا، جماعات لا أفرادا مستقلين؛ مع كون التربية الفردية لا تتأتى إلا تحت نظر الربانيين دون غيرهم؛ لأنهم وحدهم من في مقدورهم دلالة الأفراد على ما ينفعهم بحسب خصوصية كلّ منهم. وأما هذا التوجيه العام النمطي، الذي نجده من جماعات بعينها، فإنه من الآفات التي أصابت الأمة، وتعاظمت في آخر الزمان. وثانيا، لأن الفرد في زماننا لا يستغني عن توجيه سياسي، فيما هو مؤثر على تدينه خاصة؛ مما قد يجلب عليه الظلمة عند عدم تبصرته به، من حيث لا يدري. نعني من هذا، أن بعض التوجيه السياسي، قد يكون سادّا لباب من أبواب الظلمة فحسب؛ عند التحذير منه، وبيان وجه مخالفته للتشريع. ونخص هنا أمرين هما العقيدة، إن دخل عليها في هذه المرتبة ما يخالف الحق؛ والعمل، إن دخل فيه ما هو من قبيل الذلة على غير المؤمنين، أو موالاة الكافرين؛ إلى غير ذلك من المعاصي المناسبة لهذا الطور ولهذا الصنف. 2. الجماعات السياسية: وعلى رأسها جماعة "الإخوان المسلمون" وحزب التحرير والسرورية. ا- جماعة "الإخوان المسلمون" وتنويعاتها: عندما أُسست جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا -رحمه الله- في سنة 1928م، كان قد وضع لها إطارا إصلاحيا شاملا، لا يمكن أن يعترض عليه معترض إلا فيما هو متعلق بالسيف. يقول حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس: [إن الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف.]، ويقول أيضا: [إن فكرة الإخوان المسلمين نتيجة الفهم العام الشامل للإسلام، قد شملت كل نواحي الإصلاح في الأمة؛ فهي دعوة سلفية، وطريقة سُنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.]. وقد تحفظنا نحن على "السيف" لكون الجهاد الشرعي ذا شروط معلومة للفقهاء، أبقتها الجماعة مبهمة؛ بل هي في نظرنا -بالتأكيد- كانت تجهل تفاصيلها، عند جهلها بالخلافة كما هي في نفسها. وإنّ إنشاء التنظيم السري المسلح لدى الجماعة، مع اتهامه ببعض الاغتيالات في مصر سابقا، قد أبقى مشروع الجماعة كله مشكوكا فيه لدى المراقبين. وإن الإطار العام الفضفاض للجماعة، ورغم موافقتنا عليه من حيث العموم، لم يتمكن من ضبط منطلقات الجماعة ولا من ضبط عملها. فهي لم تتمكن حتى في زمن البنا، من تمثلٍ لما جاء في مبادئها على الوجه الشرعي. وزيادة على ما ذكرنا عن "مبدأ السيف"، الذي سيجعل الجماعة -ولو في شطرها- ميليشيا غير شرعية، يمكنها أن تقوم بأعمال غير شرعية، ترهب المجتمع؛ فإن إعلان "الفكرة الإخوانية" دعوة سلفية، سيدخلها في جدل علمي مع مدعي السلفية بكل أصنافهم؛ وإن كنا لم نر للإخوان إسهاما علميا يُذكر في هذا المجال، بسبب حرصهم على تكثير الأتباع، لا على تمحيص العلم. وإن إعلان كون الجماعة "حقيقة صوفية" أيضا، سيجعلها مطالبة بما يُطالب به الصوفية داخل منهاجهم؛ ونخص بالذكر هنا، الاجتماع على الإمامة الربانية، لا على القيادة السياسية. وهذا الوجه قد بقي هو الآخر، مبهما لدى الجماعة؛ يكاد أفرادها لا يميّزون منه ما يشهد لدعواهم، ولو بقدر يسير من الصدق. وأما كون الجماعة "هيئة سياسية"، فسيجعلها في منافسة مع الأحزاب القائمة ومع نظام الحكم في البلد، من غير دليل شرعي معتبر، ولا تنظير سياسي فكري يُذكر؛ إلا ما كان من إرادة للدنيا، ومن منافسة أهلها عليها؛ مما يدخل في التكتيكات والمداورات. وهذا من الأمور المذمومة شرعا، والتي تنقلب معها حقيقة الدين إلى عكسها. وكل هذه الأبعاد وغيرها، كانت تتطلب جهدا تنظيريا يخرج عن المعهود، يجعل الإخواني يسير على هدى ونور؛ ويجعل الناظر إلى الجماعة من خارج، متبيّنا لما يقول. وهذا الإهمال الذي قد يكون عن قصور، إنما يدل على أن البنا لم يكن يعلم من الوجوه المذكورة في تعريفه، إلا عموميات يجمع الناس عليها؛ وكأن الاجتماع كان أولى بالاعتبار من الأمر الجامع ذاته. والحقيقة هي أن الدين، لا يعتبر الاجتماع، إلا بعد اعتبار ما هو سبب له وداع إليه؛ وإلا لم يكن ليصح قول ابن مسعود رضي الله عنه، عند تعريفه للجماعة بمعناها الشرعي: "الجماعة ما وافق الحق، ولو كنت وحدك"[5]. وهذا القصور في التنظير، قد بقي ساريا إلى أيامنا هذه، وبقي سببا أساسا من أسباب المخالفات الشرعية التي نتجت عن عمل الجماعات الإسلامية ذات التوجه الإخواني، من الجانبين الفردي والجماعي؛ بالإضافة إلى ما كان دخيلا، لا أصل له من الدين، وإنما هو من الفكر السياسي العالمي، كالديمقراطية وما يجري مجراها. وأما بعد استشهاد البنا رحمه الله، فإن الجماعة قد أصبحت أكثر خضوعا للفكر، على الخصوص مع تنظيرات سيد قطب رحمه الله، الذي أطلق العنان لفكره المجرد، بقدر أشد ضررا من تنظير البنا، الذي كان موفقا في كثير منه، ولم تكن تنقصه فيه إلا الأهلية الربانية. وبهذا أصبحت جماعة "الإخوان المسلمون" في مصر، وفي البلدان التي دخلتها فيما بعد، جماعة سياسية لها خلفية من الأيديولوجيا الدينية، التي ستصبح مع الأيام عائقا للفرد المنظَّم فيها عن إدراك الإسلام الأصلي نفسه. بل إن تأثيرها سيتعدى إلى شطر كبير من غير المنظَّمين، الذين أصبحوا لا يعرفون الإسلام إلا من خلال كتابات الإخوان وآرائهم؛ وبالأخص عند بروز فقهاء من الإخوان، يقدمون الدين كله من منظورهم الخاص كمحمد الغزالي (قبل وبعد مغادرته للجماعة) ويوسف القرضاوي، وإن لم يقر باستمرار انتسابه إلى الجماعة؛ بالإضافة إلى جيل آخر من المتأثرين بالأجيال الأولى من الكتّاب والدارسين، في مصر وفي جميع البلدان العربية والإسلامية. ورغم تنكّر الجماعات الإخوانية المختلفة (التنويعات) للعنف، إلا أنها بقيت قابلة للدخول فيه في أي وقت، بسبب الثغرات التنظيرية التي أشرنا إليها والتي بقيت على حالها؛ وبسبب أمراض القلوب العامة، التي يشتركون فيها مع كل بني جنسهم. هذا، إن لم تُسدّ الثغرات المذكورة، بعنف مؤسَّس صار شرطا لا بد منه، لدى جماعات انفصلت عن الجماعة الأم، كما هو شأن جماعة شكري مصطفى والجماعة الإسلامية من مصر، ومثيلاتهما من الدول الأخرى؛ عندما واجهتها أنظمة الحكم بالعنف. وكأن الأمر صار منافسة على العنف من قِبل طرفَي الصراع، من دون اعتبارٍ لحكم الشرع الملزم للجميع. وهذا لا يُعفي أنظمة الحكم أيضا، من نتائج هذا العنف المتشارَك الذي أضر بالأمة أيما إضرار. وإن غياب الربانية منذ التأسيس وإلى الآن عن هذه التنظيمات، قد جعل الأيديولوجيا تغلب على الدين، لتصبح هذه الجماعات محلا للعمل المزاجي الشخصي وشبه الشخصي. كل هذا، سيجعل المنتمين إلى الجماعات الإخوانية في النهاية، لُمَعا داخل المجتمعات (كيانات معزولة)؛ تقسمها وقد تقسم الأسر من بعدها، كما هو الشأن اليوم في مصر على الخصوص. وهذا أمر -وإن كان أصحاب الجماعة يرونه قوة- يُضعف المجتمعات، ويجعلها قابلة للاختراق من قِبل الأعداء؛ ويجعل الجماعة أيضا به، قابلة للتوظيف الخارجي ضد مجتمعها وبلدها؛ خصوصا إن استند هذا التوظيف إلى تقديم النسبة الإسلامية بحسب الزعم، على النسبة الوطنية، والذي لا يكون في الحقيقة إلا تقديما لنسبة الجماعة على النسبة الدينية والنسبة الوطنية معا. وهذا، من التلبيسات التي يُتقِن العمل عليها الإسلاميون المتأدلجون، ويرونها أحكاما دينية ينبغي لأتباعهم الانصياع لها من غير تردد. والظلمة التي تدخل على الجماعات الإخوانية، تكون من الالتزام بما لم يشرع الله، كما هو شأن ما نبهنا إليه في الفقرات السابقة، مما هو من وضع المرشد أو من الاجتهادات الفكرية لمجالسها العليا. ورغم ما يُؤسَّس له في التنظيرات، بالاستناد إلى الوحي أو إلى قول مأثور، فإن التنزيل العملي يبقى فيه نظر، بسبب حال المنظِّر في نفسه؛ من جهة تديّنه، ومن جهة سلامة قلبه. ذلك لأن صاحب الظلمة لا تصدر عنه إلا ظلمة، وإن غُلفت بنقيضها؛ وصاحب النور لا يصدر عنه إلا النور، وإن بدا أنه يعاكسه. وبما أن جل المنتمين إلى الجماعات الإخوانية لا يتجاوزون مرتبة الإسلام، وإن كانوا علماء ومفكرين، فإن جل التنظير الذي لهم بسبب ذلك، يكون ظلمة تزيد من ظلمة مخالفات أصحابها الأصلية. وهذا هو سبب الظلمة البادية على وجوه جل الإخوانيين، والتي لا يراها إلا أهل الفراسة من المؤمنين. ولهذه العلة، لم تُنتج لنا هذه الجماعات علما دينيا بالمعنى الحق؛ وإنما أخرجت دهاة في السياسة، يُحسنون ملاعبة أنظمة الحكم والهيمنة على عقول السذج والغافلين؛ إن لم يكونوا شياطين. يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]. وإن هذه العداوة للأنبياء المذكورة في الآية الكريمة، ليست محصورة في أمم سابقة وأقوام كافرين، كما يُظن؛ بل هي ممتدة في أمتنا بعداوة بعض العاملين للإسلام لنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، التي ليست كفرا بواحا، ولا إنكارا للحق الذي جاء به؛ وإنما هي عداوة جزئية صغرى، تقوم على مخالفة نهجه صلى الله عليه وآله وسلم ومزاحمته في التشريع، عند التغطية على أحكام الشرع الدقيقة، بما هو من الفكر الشخصي أو الجماعي. وهذا الصنف من العداوة لا تكاد تخلو منه جماعة من الجماعات الإسلامية، على تفاوت في ذلك بينها. ولا يخفى ما يدخل على القلوب من ظلمة، مع ما ذكرنا. وهو يزيد العاملين من هؤلاء الإسلاميين ظلمة على ظلمة. لهذا السبب، وبعد أن ساهمت هذه الجماعات فيما يسمى "الصحوة" الدينية لمجتمعاتها، بعدما كان التدين فيها يكاد يندثر -وهو أمر نحمده لها ونسأل الله أن يثيبها عنه- فإننا نرى وجوب حلها لأنفسها، لكيلا يعود وجودها مضرا بالدين، بعكس القصد الأول منها؛ وإلا فإنها ستُحل قهرا في مستقبل أيامها، من كونها أمرا استثنائيا، لا أصالة له في التشريع الإسلامي؛ بما أن الجماعة لدينا وحدها، هي جماعة المسلمين المرادفة في معناها لِلَفظ الأمة عينه. ب- حزب التحرير: هو عندما جاء متأخرا عن جماعة الإخوان في الزمان (1953م)، رام تفادي بعض أخطائها، كاعتماد الديمقراطية في العمل السياسي؛ إلا أنه قد يكون دونها في التصور العام للعمل الإسلامي (الشمولية العملية). وأما من جهة إدراك الخلافة الإسلامية وما يتعلق بها من أحكام، فحزب التحرير لا يختلف عن الإخوان في القصور (رغم ظهوره بمظهر الراديكالي الذي لا يقبل مساومة أنظمة الحكم القطرية)؛ لكون الخلافة تنصيبا إلهيا، قبل أن تكون اختيارا بشريا؛ كما نذكّر دائما. ولعل هذا هو ما كان السبب في عدم انتشاره بالقدر الذي لجماعة الإخوان وما يتفرع عنها تنظيريا من جماعات وطنية؛ كجماعة العدل والإحسان المغربية، والنهضة التونسية، وحركة مجتمع السلم الجزائرية، وجماعة الإخوان الأردنية... ج- السرورية: هي جماعات بدأت مع محمد سرور، الإخواني السوري الذي استوطن الجزيرة العربية في الستينيات، بعد نكبة الإخوان في سوريا. وهذا الرجل قد جمع بحكم منشئه ومُهاجره، بين التنظيم الإخواني والعقيدة التيمية الوهابية؛ فتولد عنه التيار السروري الذي صار يتكاثر يوما بعد يوم؛ إلى الحد الذي كاد يبتلع جماعة الإخوان المسلمين الأصلية نفسها، والجماعات التابعة لها، عند انتشار المذهب الوهابي الضال، في جميع الأقطار العربية والإسلامية؛ إما بالترغيب (المال) وإما بالترهيب (التشكيك في توحيد المخالف). وعلى هذا، فإن جل من يُظن فيهم أنهم إخوان في زماننا، هم من السرورية، لا من الإخوان. وهذه الجماعات السرورية، هي بالزيادة على ما هي عليه الجماعات الإخوانية الأصلية من ظلمة، قد وقعت في الظلمة التي تنتج عن العقيدة التيمية الوهابية البدعية، والتي تعتبر كل المسلمين من غير أصحابها كفارا ومشركين بقدر ما. وهذه ظلمة ما بعدها من الظلمة إلا ظلمة الكفر التام. ومن الجماعات السرورية، جل الجماعات المنشقة عن جماعة الإخوان، كالجماعة الإسلامية في مصر، وحركة التوحيد والإصلاح في المغرب... بل إن منهم شطرا من المتسلفة الذين دخلوا العمل السياسي عن طريق التنظيمات الحزبية، كحزب النور في مصر، وما شابهه... د- السلفية: إن الانتساب إلى السلف لا يصح عندنا، لأنه يزيد من عدد النِّسب التي صارت تقسم الأمة أقساما تغطّي مع العصبيات على الوحدة الأصلية؛ زيادة على ما فيه من دلالة على الانقطاع عن الله ورسوله. إذ لو كانت المتسلفة على صلة بالله ورسوله حقيقة، لأغنتهم نسبة العبودية والإسلام عن كل نسبة سواها. وهذا من أسرار الإطلاقات، التي يغفل عنها أكثر الناس. ولو أنهم اعتبروها، لأفادتهم علما مخصوصا، به يعرفون أحوال الناس في تدينهم. ولكن شاء الله أن لا يكون هذا العلم إلا للربانيين وحدهم، دون غيرهم من الناس. ورغم أن جماعات ما يسمى بالسلفية العلمية (التي نراها نحن متسلفة وغير علمية)، تزعم أنها لا تعمل بالسياسة، إلا أننا نراها من الجماعات السياسية، بسبب طاعتها العمياء للحكام -خصوصا منهم المدخلية- باعتبارهم أولي الأمر وحدهم. وهذا العمل السياسي، هو في مواجهة عمل الإخوان المسلمين وحزب التحرير ومن نهج نهجهما. ولهذا السبب، لا يمكن أن يكون الإخوان الأصلاء سلفية في العقيدة، إلا إن انقلبوا سرورية. وهذا أمر ينبغي أن يُعتبر، حتى لا يُخلط في التصنيف وبالتالي في المعاملة. والمتسلفة تأتيهم ظلمتهم الأصلية، من العقيدة التيمية المنحرفة([6])؛ ثم يزيدون عليها بطاعة الحكام غير المشروطة، وإن احتالوا لها في العبارة. وهذه الجماعات من أشد الجماعات العاملة للإسلام -بحسب الزعم- تخلفا، وأقلها دربة فكرية؛ وبالتالي فهي أقل الفرق أهلية لمجادلة الخصوم. وإن هم دخلوا في العمل السياسي، فإنهم يكونون عاملين على استمرار سياسات التخلف في بلدانهم فحسب. 3. الجماعات الجهادية: وهذه الجماعات، في غالبيتها تيمية العقيدة وهابية الإدراك، تكفر غيرها من المسلمين بسهولة؛ وترى قتال المسلمين طريقا إلى الإصلاح المنشود، مع ورود شدة النهي عن ذلك في القرآن وفي السنة، بما لا يخفى إلا عن مطموس البصيرة. وبهذا تكون موازية لكل الجماعات السياسية التي ذكرنا، وغير السياسية؛ وكأنها ذراع لأعداء الخارج في الأمة من دون أن تشعر. ومن هذه الجماعات: الجماعة الإسلامية المصرية قبل المراجعات، والقاعدة، وداعش... وقد يكون من أتباعها أشخاص منفردون، يعملون على إرهاب شعوبهم والعالم، كلما سنحت لهم الفرصة. وهؤلاء ليسوا في الحقيقة إلا مرضى "نفسيين"، يجدون في عنفهم وسيلة للتنفيس عما بصدورهم من عداء للمجتمع وللإنسانية جمعاء. ولو كانت الرعاية الصحية حقيقية لدى دولنا، لكان أولئك من نزيلي المستشفيات المتخصصة لا السجون، كما هو معمول به الآن. وبما أن جهاد هذه الجماعات ليس شرعيا، فإنه يُعتبر معصية كبرى؛ سواء قُتل فيه مسلمون أم غيرهم. وعلى هذا تكون هذه الجماعات (أو الأفراد) من أشد المسلمين ظلمة؛ وينبغي -بالتالي- الحد من عنفهم بجميع الوسائل المشروعة، التي في مقدمها، تبصيرهم بخطأ طريقهم. وبما أن النور ضروري لكل فرد ولكل جماعة يرومان العمل للإسلام، فإن العلم بطريقة تحصيله ومظانه، ضروري بالتبع لمن يطمع في مرضاة ربه والفلاح في إنجاح سعي نفسه. ولا طريق إلى النور لدى الحركيين والمنظَّمين، إلا القيادة الربانية، التي تكون من ورثة النبوة علما وعملا وحالا. وهذا أمر ليس ميسورا دائما، بسبب انحجاب عموم المسلمين عن هذه الطبقة، بمقولات الفقهاء القاصرة، التي تجعلهم يبدون في نظر الجاهلين مبتدعة ومنحرفين. ورضي الله عن سيدي عبد الغني النابلسي إذ يقول: [فلو اتفق أن ذلك الإنسان الكامل ظهر -وهو ظاهر بين الخلق([7])ولكن أين من يعرفه؟- لاحتج عليه كل من يراه من هؤلاء الظاهرين بزي العلماء، المغرورين في هذه الدنيا، بأنه مخالف للسنة، نابذ لأحكام الرب عز وجل. ومرادهم بالسنة: ما وجدوا آباءهم عليه من البدع التي اخترعوها على حسب هوى أنفسهم الأمارة بالسوء. ومرادهم بالأحكام ما ألفوا العمل بمقتضاه من الزيادات والنقصان التي ألقتها إليهم شياطينهم؛ فاغتروا به وظنوا أنها هي المقصود. فتراهم اخترعوا وضوءا وغسلا وطهارة غير التي ورد بها الكتاب والسنة، وهذه هي المسماة عندهم بالسنة والأحكام؛ واخترعوا صلاة وصوما، وزكاة وحجا، غير التي ورد بها الشرع من وسوسة في الصلاة، ولغو، وبطالة، وانهماك على لذات وشهوات في الصوم، وحيل ومنّة على الفقراء في الزكاة، ونفقة محظورة، وقصد تجارة، وإجارات للرواحل فاسدة في الحج، ونحو ذلك مما يطول شرحه؛ وكذلك أضعاف ذلك في المعاملات. ولا يعرفون من هذا الدين المحمدي والسنة النبوية غير ما ألفته طباعهم ووجدوا آباءهم عليه. فكيف يظهر الإنسان الكامل بينهم -وهو ظاهر ولكن بزي فساقهم لا فساق الشرع، وبزي جهّالهم لا جهال الشرع، وبزي مبتدعيهم لا مبتدعي الشرع-! وكيف يظهر البدر بثوب الظلام!... وهل يتيسر للأسد أن يلبس جناح الحمام؟!... {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]. ومن طمع في إدراكه في هذا الزمان، فقد طمع في بيض الأنوق، وحدثته نفسه أن يتناول العيوق. ومتى يلقى الإنسان من ليس يعرفه؟ ويجد من ليس عنده مثال له ولا يقدر يصفه؟!...][8]. هذا يدل على أن من الصعب على الإسلاميين (وعلى المسلمين من بعدهم) أن يعرفوا الرجل الكامل، وإن كان يعيش بينهم ولو جالسوه أو عاشروه؛ لأنهم في الأصل يجهلون صفته التي هو بها كامل. نعني من هذا، أن المصداق موجود، لكن الصورة الذهنية هي المفقودة لديهم؛ لذلك لا يكون المصداق مصداقا بالنسبة إليهم كما هو في نفسه. وهذا من أنفس ما قيل في هذا الباب. ولقد جهد سعيد حوى رحمه الله، في التنبيه إلى مكانة الربانية من التربية على الإسلام الأصلي في بعض كتبه، والتي منها على الخصوص: "تربيتنا الروحية"، و"مذكرات في منازل الصديقين والربانيين". ورغم أن سعيد حوى كان من الجيل الثالث من الإخوان بعد البنا، فإنه كان الوحيد -من بين مشاهير الإخوان- الذي حافظ على المبادئ الأولى التي بنى عليها البنا جماعته حقيقة. وما دل على الربانية أحد في زماننا -رغم عدم تحققه بها- كما دل عليها هو. ولكن أثر الأيديولوجيا -في مقابل ذلك- كان قد طغى على جميع التنظيمات الإخوانية، حتى ما عاد يُذكر لسعيد حوى إلا ما كان من عمله على رأس جماعة الإخوان السورية في فترات مختلفة، أبدى فيها عن صفات قل نظيرها في عصرنا. ولم نجد من يكون نظيرا له من أهل هذا الزمان، في عموم العرب والمسلمين، إلا عبد السلام ياسين رحمه الله من مغربنا. ولو أن هذا الأخير كان حائزا للعلم بالخلافة وشروطها، كما هي في نفسها وبتفاصيلها، لكنّا نرجو أن ينتقل بالعمل الإسلامي إلى أفق لم يبلغه إلى الآن. ومع هذا القصور، فإن جماعة العدل والإحسان المغربية -خصوصا بعد رحيل المؤسس- قد بقيت تعيش على ما أنتجه إمامها، إن لم تكن قد تقهقرت عنه قليلا. وهذا أمر لا يصح في العمل الإسلامي، الذي لا بد فيه من قدوة حية تعيش بين الناس؛ وإلا فما الإمامة؟!... لكن هذه المسألة، هي من القصور العلمي الذي لدى أهل السنة أجمعين، الذين لا يرون بأسا من تقليد الميت؛ بخلاف الشيعة الذين لا يرون ذلك. وبالرغم من أن الشيعة هم أيضا الآن لا يعلمون حقيقة ما يقولون، إلا أن الأصل الذي بنوا عليه صحيح؛ وهو أن الإمام الرباني من كونه مظهرا لربوبية الرب تعالى من جهة التربية، فإنه ينبغي أن يكون مواجها للمتلقي ولا بد. وهذا هو معنى "الوجه" بالإطلاق التربوي الشهودي الشرعي، الذي يدل عليه القرآن في مثل قول الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. إن على الإسلاميين جميعا، أن يسعوا إلى ما دللنا عليه من نور، عند أهله، لا عند مدعيه؛ إن كانوا يبغون حقيقة نفع أنفسهم، ويبغون خدمة الدين بما هو مرضي عند الله، لا بما يتوهمون. فإن وجدوا رفضا من قلوبهم لما نقول، فهي علامة على سوء حالهم، نرجو أن لا يزيدوا من استفحالها بإصرارهم على ما هم عليه. وليكفّوا عن مغالطة أنفسهم بقولهم: إنْ تخلَّفنا نحن، فمن ينصر الدين!... إن هذا الكلام وأمثاله، دليل مرض لا دليل صحة؛ لأن الدين منصور من غير حاجة إلى أحد. وإنما ينال الناس القربة عند الله بخدمتهم له، من كونهم هم من يحتاجون إلى هذه الخدمة لا هو. لكن هذه الخدمة، لا تُجزئ إن لم تكن على نور وبيّنة، يشهد لها شاهدا عدل هما القرآن والسنة. بل إن هذه الخدمة للدين إن تلبست بالظلمة -عياذا بالله- فإنها تكون أدعى إلى أن يُحاسب صاحبها ويعاقب، في الدنيا والآخرة. وعلى المسلمين عموما، أن يتخلصوا من تصور الإسلام محصورا داخل جماعة بعينها أو تنظيم مخصوص؛ لأن هذه صورة مستحدثة للعمل الإسلامي وللتدين عموما، وليست هي الصورة الأصلية. نعم، قد تكون لتلك الجماعات والتنظيمات ضرورة ظرفية دعت إلى وجودها في زمن ماض، لا بد أنها قد نفعت الأمة فيه من وجه ما. هذا لا ننكره، ولا نريد لأحد أن ينكره... وإلا كنا لا نفقه فعل الله في عباده سبحانه. لكن هذا العمل بهذه الصورة، لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وإلا صار الاستثناء قاعدة!... فهو كالدواء الذي يُتخلى عنه بعد حصول الغرض منه، وكالمتاع يُنبذ بعد الفراغ منه. وعلى الأمة الآن، أن تعود إلى الصورة الأصلية، التي تكون فيها الجماعة هي الأمة. نعم، ما زال هذا المعنى من الجهة العملية غريبا على من اعتادوا هذه الصور المستحدثة، واعتادوا الانقسام؛ لكن الاعتياد ليس من الأصول التي تبنى عليها الأحكام الشرعية، وإن كان معتبرا من الجهة التفصيلية في بعض الأحكام. وهذه الموازنات الفقهية، ليست في متناول كل أحد، حتى يزعم زاعم من الناس، أنه ينبغي علينا الاستمرار على ما كنا عليه، ولا بد!... إن الظلمة الداخلة على الجماعات، من خصوصياتها العقدية أو العملية، هي من أول ما ينبغي نبذه إن كنا نريد فلاحا حقيقيا، موافقا لما شرع الله، ومطابقا للسنة من جهة الظاهر ومن جهة الباطن على السواء، إن رمنا استعادة التدين الصحيح والأصيل، الذي بدونه لن نبلغ ما بلغه الأولون. ولو علم الإسلاميون مقدار ما يفوتهم من الحق بإصرارهم على بقاء هذه الأقفاص، حائلة دون انفتاح كل مكونات الأمة بعضها على بعض، لسارعوا إلى ما ندعوهم إليه، اليوم قبل الغد. ولكن الجهل المصاحب لهم، والذي يزداد مع توارد الظلمة على القلوب، يمنع عن إدراك ذلك من أول وهلة. ولقد أُخبرنا بحال أحد "الزعماء" الإسلاميين، بعد أن انتقل إلى البرزخ، فوجدناه يتأذى من جماعته التي أسس في دنياه، ويتمنى أن تُقطع صلته بها؛ لما يراه من دخول الظلمة الآتية منها عليه هناك. ولو علم أصحاب هذا الرجل ما نقول، لما تأخروا في حل الجماعة، من باب شكر من دعاهم إلى الدين، واجتهد في جمع كلمتهم عليه. ولكن أين من يبصر؟... وأين من يصدّق؟... لا شك أن ما نقوله، سيتوقف فيه كثير من الناس، لحكمهم بما سمعوا ممن يثقون به، ولتوهمهم أن العمل الإسلامي خير كله، ما دام هو في مقابل العلمانية أو الكفر الصُّراح؛ والحقيقة هي على غير هذا... لأنه لا حق لأحد في الابتداع في العمل، ما لم يكن ذلك على نور، ولضرورة شرعية، كما يكون عليه الأمر في تجديد الدين. وإن بيان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لحقيقة ما نذكر في قوله: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُها وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِها بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كانَ عَلَيْهِ وِزْرُها وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِها مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزارِهِمْ شَيْءٌ»[9]، يدل على أن السنة الحسنة المعتبرة، هي ما كان له أصل في السنة النبوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ترك شيئا من الخير إلا ودل عليه. فلا يطمعنّ أحد في أن تكون له الأسبقية في عمل ما، دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما ما يكون من الاجتهادات التي تكون مخلوطة بالفكر السياسي الكفري، كما نراه لجماعاتنا الإسلامية، فلا يُعد سنّة حسنة أبدا؛ بل هو سنة سيئة، تبعث على الفرقة، وتؤجج الفتن في الأمة الواحدة. وهذا هو ما ذكرنا أنه يدخل الظلمة على مؤسسي الجماعات بعد موتهم، والذي دلت عليه خاتمة الحديث من احتمال وزر الأتباع مهما تأخروا في الزمان عن موت المؤسس. ونحن بكلامنا، إنما نريد الخير لأفراد الجماعات الأحياء، وللمؤسسين الأموات جميعا. نريد أن تنعدم ظلمتهم، لتصفو أنوارهم وتحسُن أحوالهم ويؤول أمرهم إلى خير وصلاح؛ في الدنيا والآخرة... [1] . أخرجه أبو داود (وغيره)، عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.