اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2021/11/20 الطريقة الإسلامية للاحتماء من الأوبئة لقد أثار انتباهنا، ومنذ ظهور الوباء، مشابهة خطاب المسلمين لخطاب الكافرين؛ وكأن قومنا لا أثر لهم من علم في مثل هذه النوازل. ولقد كنا نتعجب إبان رئاسة الإسلاميين في المغرب للحكومة، من تكرار مقولات جاهلة منهم، من مثل: لقد انتصرنا على الفيروس!... محاربتنا للفيروس أعطت ثمارها!... سنعود بعد أيام إلى الحياة الطبيعية!... ولم نكن نسمع منهم ذكرا لله في كلامهم، وكأنهم ليسوا على الإسلام!... فكنا نعجب، ونتساءل: لمَ صار المسلمون متبعين للكافرين في كل شيء؟ وأين مظاهر الإيمان عند المؤمنين؟... وإذا كان رئيس الحكومة الإسلامي هذا حاله، فما حال عوام المسلمين؟!... وما يكون حال الحكومات العلمانية الصرف؟... أسباب ظهور البلاء وظروفه 1. يقول الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]. وهذا يعني أن العذاب الذي يجده الناس في دنياهم، قد يكون من الأسباب المفضية إلى الإيمان؛ وهذا بعد أن يكونوا كافرين، أو يكونوا قد فسقوا عن الصراط، كما هو حال جل المسلمين اليوم. والبلاء بهذا المعنى بلاء حسن، بما أن نتيجته توبة وصلاح. يقول الله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17]. والمؤمنون هنا هم من هم على حال الإيمان، ومن سيكونون مؤمنين؛ وهذا توسُّع في فهم الآية. 2. يقول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 8]. والعذاب المؤخَّر هنا، عذاب الدنيا. وحال الغافلين مع تأخير العذاب، هو أن يروه في حكم العدم؛ حتى إنهم يتساءلون بالحال أو بالمقال: {مَا يَحْبِسُهُ؟}، وهو تحدٍّ منهم لربهم!... فإن أراد الله بهذا الصنف من الناس خيرا، أرسل عليهم العذاب ليعودوا عن غيهم؛ وإن أراد لهم غير ذلك جعله لهم يوم القيامة، وأدامه عليهم، جزاء استهزائهم بفعل الله وإرادته حال حياتهم الدنيا... وعلى هذا، فإن من عاد من المسلمين إلى ربه اليوم، فإنه يكون من أفضل الفريقيْن؛ ومن زاده الوباء ركونا إلى الأسباب، وزاده تقليدا للكافرين في الصغيرة والكبيرة، فإنه يكون ممن ينتظره العذاب الخالص في الآخرة... 3. {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ . وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 44، 45]. رغم أن العذاب المذكور هنا، هو عذاب الآخرة، بعد أن ييأس الناس من تصحيح معاملاتهم لربهم؛ إلا أنه ينطبق على كثير من الناس في الدنيا، عندما ينجلي عن بصائرهم وَهْم طول الأمد، وعندما لا يعتبرون بمن مر قبلهم من الأمم على الأرض، ممن نالهم العذاب قبلهم في الدنيا. وقد ضرب الله في القرآن أمثلة عديدة على هذا الصنف، لعل السامعين من كل زمان يعتبرون، ويكونون من العقلاء!... ونحن عندما نجد اليوم المسلمين القارئين للقرآن، لا يعتبرون، ويتصرفون في شؤونهم وكأنه لا آخرة تنتظرهم، وإنما هي دنيا لا نهاية لها؛ فما الذي يُنتظر لهم مع حالهم هذا، إلا البلاء الشديد!... على غرار من مرّ قبلهم من الضالّين!... ولقد ضل كثير من الناس بخصوص الأمم السابقة، فظنوا أن المطلوب هو العثور على آثارهم الأركيولوجية، وإفناء الأعمار في تتبع الأخبار من دون انعكاس لذلك على حيواتهم. والحقيقة هي أن إخبار الله عن الأمم السابقة في القرآن، يكفي لبلوغ الاعتبار، ولتجنُّب أسباب الهلاك. ونحن كنا دائما ننبه الناس إلى حجاب المرحلة الزمانية التي يعيشون، لأن أهل كل حقبة لا يتمكنون من إدراك الحقب الأخرى في العادة، وكأن الدنيا بدأت معهم وستنتهي معهم. وهذا الحجاب لا يخرج عن حكمه إلا من تنور قلبه، وتجاوز بإدراكه الحقبة التي تحيط به، إلى إدراك التاريخ البشري من وراء تجربته الشخصية. وهذه المسألة تدخل في كون النفس الواحدة من البشر، تختزن فيها تاريخ البشرية كله؛ ولكن قليلا من الناس من يتمكن من بلوغ ذاكرته الجمعية من نفسه. وإلى هذا المعنى يُشير قول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. ولقد فتحنا هنا بابا من العلم، لا نظن أحدا قد فتحه قبلنا، بهذه الطريقة!... ومن ورائه أبواب أخرى تفصيلية تتعلق بجميع المخلوقات، وهي الحقيقة الكامنة خلف نظرية التطور، والتي لم يتمكن لا داروين ولا غيره من بلوغها... 4. يقول الله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26]. المكر هنا، هو الأسباب التي يلجأ إليها الغافلون، ظنا منهم أنها تدفع عنهم البلاء وما يخالف أغراضهم. وإن الله يُذكِّر بمكر السابقين، ليُخبر عن النتيجة التي انتهوا إليها مع مكرهم، وهي إتيان العذاب إليهم من حيث لا يشعرون؛ أي من حيث لم يكونوا يتوقعون. ويدخل في معنى {مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}، الأسباب التي كانوا يتوقعون منها النجاة، قبل أسباب العذاب المجهولة لديهم، والتي قد يقعون فيها بقصد أو بغيره. وهذا، ليُعْلِمهم الله أن الأمور بيده سبحانه، وأن نتائجها أيضا بيده: فهو يُنجي بأسباب النجاة وأسباب الهلاك، كما يُهلك بأسباب النجاة وأسباب الهلاك؛ لأنه المنجي والمهلك، لا إله غيره! والأسباب تبقى أسبابا في جميع الأحوال!... ومن هذا الباب قول الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]؛ أي، هو وحده سبحانه من يعلم أسباب هلاككم وأسباب نجاتكم. وهذا العلم مما تحيله العقول القاصرة التي تكون لها بعض خبرة بالمنطق؛ وأغلب من يظنون أنفسهم علماء، يكونون جاهلين بهذا العلم!... 5. {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ . أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [النحل: 45، 46]، وهذا يعني أن من يأمن الهلاك في دنياه، فذاك يكون بسبب غفلته فحسب، ومن عدم إدراكه للواقع كما هو؛ لأن المرء لو تنبه إلى ما يحيط به من جميع صنوف الهلاك، لما نفعه إلا اللجوء إلى ربه، متضرعا إليه في دفع السوء عنه. أما المطمئن في دنياه، فإنه يكون على غفلة شديدة، هي ما سماه الشرع عمى: كما في قوله سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104]. وإن مكر السيئات، أي فعل السيئات عند ظن النأْي بالنفس عما يضرها، هو مما يزيد الناس غفلة على غفلة؛ وذلك لأن طريق النجاة لا تُعلم من النفس، بل بإعلام من الله ورسوله. وهو ما سنذكره في أسباب دفع البلاء فيما بعد... 6. يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 113]؛ ونحن نشهد أن جل المسلمين اليوم مكذبون لرسول الله، مع زعمهم غير ذلك. وقد وقع منهم هذا، عندما اعتمدوا على عقولهم في تدبر الوحي، وصار الدين عندهم بذلك أيديولوجيا كسائر الأيديولوجيات. وهؤلاء يسلط الله عليهم العذاب الدنيوي، ليعود منهم إلى الجادة من يعود، وليحق عذاب الآخرة على من يحق منهم. ومِن أشد ما أصاب متأخري المسلمين: عدم شعورهم بابتلائهم في رسولهم صلى الله عليه وآله وسلم، ظنا منهم أن هذا الصنف من الابتلاء قد انتهى مع وفاته عليه السلام. وما علموا أنهم مبتلوْن فيه من وجهيْن: - من وجه ما أخبر به، عليه السلام؛ ليأخذوه بالتصديق التام والتسليم الكامل، لا بالقياس العقلي. وقد أدى انفصال المسلمين عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، إلى انحجابهم عنه، ببعض أئمتهم وعلمائهم الماضين. فصاروا مسلمين بإسلام منفصل، غير متصل بمن ينبغي أن يتصلوا به ليصح لهم الإيمان ويتقوى. يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، فلم يدل سبحانه على أسوة غيره عليه السلام، فدل هذا على وجوب الاتصال به. وكل عالم بالدين لا يدل على معنى الاتصال الأصيل في الدين، فإنه يكون ممن يصدون عن السبيل، لا ممن يبينون معالمها. يقول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]؛ والإتيان إلى الرسول مطالَب به العبد من البعثة وحتى قيام الساعة، على خلاف ما يتوهم المحجوبون. والمعنى في الآية حقيقي لا مجاز فيه، حتى يقول الجاهلون على عادتهم: إنما المقصود الإتيان إلى السنة!... وقد انحرف المسلمون عن هذا الطريق منذ القرون الأولى، على أيدي أئمة الضلال من أمثال ابن تيمية!... 7. يقول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف: 55]؛ والكلام هنا، مع من أدركه الإسلام من المتقدمين ومن المتأخرين. والمعنى هو أن من بلغته دعوة الإسلام، ولم يؤمن ويستغفر، فإنه يحق عليه من العذاب ما حق على الأمم الأولى عند إدبارها، أو يأتيه من العذاب صنوف قد يكون منها المعروف في السابقين، وقد يكون منها الجديد المخصوص به. وهذا مِن حمْل "قُبُلاً" على جمع قبيل، كما قال بذلك بعض المفسرين. وهكذا تكون الأمراض والأوبئة الجديدة، داخلة في معنى الآية، كما هو ظاهر... 8. {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]، والقرى هي البلدان. وقد جعل الله لهلاكها موعدا ووقتا معلوما، بسبب ظلمها. وأشد الظلم الكفر، والغفلة المطبقة التي عليها المسلمون اليوم. يقول الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. ولقد حرف الإسلاميون معنى الظلم عن أصله، خدمة لأغراضهم؛ فجعلوه منوطا بالحكام وحدهم، والحقيقة غير ذلك؛ لأن الشرك الذي يكون عليه العوام، هو أساس كل ظلم يلحقهم من حكامهم، أو من غيرهم. والظلم في الحكم الشرعي، عدل في الفعل الإلهي؛ فلينظر المعذبون في الأرض، من أين استحقوا العذاب عند الله، لا من أين كان الظالمون لهم ظالمين!... 9. يقول الله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 42]. وهذا متعلق بالمشركين الثابتين على شركهم، والذين يظنون أن اتِّباع الرسول عليه الصلاة والسلام، يكون ارتدادا عن الحق الذي هم عليه. فيحيلهم الله تعالى على علمهم الذي سيكتسبونه بعد نزول العذاب عليهم؛ لأنهم سيعلمون حتما وقتئذ أنهم كانوا على ضلال مبين. وهذا المعنى، يتنزل على كل الكافرين من أهل الأرض وعلى الغافلين، الذين أصابهم الوباء في زماننا، والذين قد مات منهم الكثيرون... 10. يقول الله تعالى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ . وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ . فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ . فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 155 - 158]. وإن كان الله قد عذب قوم ثمود بسبب الناقة، فما الظن بمن يؤذي أولياء الله من هذه الأمة المشرفة، في هذه الأزمنة!... ولقد سمعنا في زمان سلوكنا، عن الشيخ سيدي العباس رضي الله عنه (والد شيخنا وشيخه)، أنه كان يوصي المريدين بسيدي ابن الطاهر، ويقول لهم: إنه كناقة صالح، من استطاع أن يُحسن إليه فليفعل، ومن لم يستطع فليجتنب إيذاءه!... وسمعت من سيدي ابن الطاهر نفسه: كل من يؤذيني يُعاقب، إما في نفسه وإما في ذريته!... ولقد رأينا من السفهاء من كان يؤذيه، رأي العين!... وسمعنا عن أناس عرفناهم، أنهم خسروا دنياهم وآخرتهم بسببه!... 11. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [النمل: 4، 5]. الذين لا يؤمنون بالآخرة، هم الذين لا يعملون لها؛ وبدل ذلك يعملون للدنيا ليلهم ونهارهم. وكثير ممن هذه حالهم يعدون أنفسهم مسلمين، لا لشيء إلا لأنهم على ثقافة إسلامية. وهي لا تنفعهم شيئا، إذا حاق بهم العذاب في الدنيا أو في الآخرة. 12. يقول الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53]. والاستعجال المذكور في الآية، لا يكون مما يُخاطب به الرسول مشافهة في زمانه وحده؛ وإنما يكون ممن يصدر عنه ذلك في كل زمان تشريعه. ونعني أن ممن يتحدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستعجال العذاب، كثير من أهل زماننا، وهم يظنون أنهم يخرجون عن هذا المعنى جهلا وتحكُّما. وجواب كل هؤلاء المستعجلين، هو أن الله يأتي بالعذاب في آجاله، بحسب مقتضى حكمته، لا بحسب توقعهم. وهكذا، فإنه عندما ينزل العذاب على أولئك المتحَدّين، فإنه يكون دائما في حقهم بغتة؛ لأنهم لا يخطر في بالهم حساب وقت العذاب، بما يعطيه جهلهم، في مقابل علم الله المحيط. ومعنى لا يشعرون في الآية، هو أن العذاب يأتيهم من حيث لا يتوقعونه زمانا وأسبابا... 13. يقول الله تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 55، 56]. المقصود بالعذاب الذي من فوق، هو العذاب الخارج عن إدراك المدركين، أسبابا ونتائج؛ والذي من تحت، هو الذي يأتي بالأسباب المعهودة، والتي يتوهم الناس أنهم متحكمون فيها وفي غاياتها. وأما أمر الله لعباده المؤمنين بالخروج من أرض البلاء، فلكيلا يشملهم العذاب مع المعذَّبين؛ لأن البلاء إذا نزل عمّ. هكذا هو شأنه في الحياة الدنيا، بخلاف الآخرة التي يختلف فيها حال الرجليْن بين النعيم والعذاب، مع وقوف أحدهما بجانب الآخر. وهذا، لأن القدرة تامة الظهور في الآخرة، بينما شطرها يكون باطنا في الدنيا. 14. يقول الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 21، 22]. العذاب الأدنى، هو عذاب الدنيا؛ والعذاب الأكبر هو عذاب الآخرة. وإن الله قد يسلط من عذاب الدنيا على من يشاء من عباده، ليجعله لهم تذكرة؛ فإذا تذكروا واعتبروا، عادوا إلى سواء السبيل واتقوا بذلك عذاب الآخرة. وهنا لا بد من القول بأن عذاب الدنيا، هو أصل عذاب الآخرة؛ كما أن نعيم الدنيا هو أصل نعيم الآخرة؛ وإن لم يستويا في القوة. وهذا لأن الإنسان لو لم يكن قد ذاق من عذاب الدنيا (آلامها) ومن نعيمها (لذاتها)، فإنه لن يتمكن من التنعم في الآخرة إن كان من أهل الجنة، ولا من التعذُّب إن كان من أهل النار. والسبب هو أن الإنسان يحمل ذاكرته الدنيوية معه في الآخرة، وهي التي تكون سببا في ذوقه للعذاب أو للنعيم، مع مصاحبة الشق المقابل لما هو فيه من ذاكرته الدنيوية، ليزداد به عذابا في جهنم، ويزداد به نعيما في الجنة. فإن المعذب إذا ذكر أوقات راحته في دنياه، فإنه لا شك سيزداد عذابا إلى عذابه الحسي؛ والعكس بالعكس. وهذا العلم من علم الآخرة، الذي لا يُعلم ذوقا إلا فيها. وما أتاحه الله لنا، إلا لأن قيام الساعة غير بعيد منا؛ فهو كالإشارات التي تلتقطها الأجهزة عند اقترابها من مصدرها... 15. يقول الله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ . أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 8، 9]. يذكر الله هنا أن من لا يؤمن بالآخرة، يكون في العذاب وقت كفره بكفره وحده؛ وهذا هو الهم والغم النازل عليه، والذي يكون سببا في قتل كثير من الكافرين لأنفسهم (الانتحار). وأما توعد الله للكافرين بما يحيط بهم من صنوف المخلوقات، التي تسأل الله أن تنقض عليهم، لولا أن الله لا يأذن دائما، فهو من باب الإعلام بما هو الواقع عليه. وعلى هذا فالسماء تريد أن تنقض على الكافر، والأرض تريد أن تبتلعه، والبحر أن يطويه، والوحوش أن تختطفه، والرياح أن تمزقه، والنار أن تحرقه، إلى غير ذلك مما يُحدق بالإنسان من كل جوانبه... وإن المخلوقات تريد أن تفعل ذلك بالكافر، غيرة منها على الله الذي تسجد له وتعبده عن علم مخصوص بكل صنف منها؛ وإن كان الناس عن ذلك غافلين. 16. يقول الله تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ . فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 25، 26]، وهذا يعني كما سبق في آية أخرى، أن عذاب الدنيا قد يكون مقدمة لعذاب الآخرة؛ فلا يغتر أحد بظنه أن عذاب الدنيا يكون دائما كفارة لصاحبه. فإن الكفارة لا تكون كفارة، إلا مع الإيمان؛ وأما مع الكفر فلا كفارة. 17. يقول الله تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ . بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 58، 59]. والكلام عن النفس التي حل بها العذاب في الدنيا والآخرة. وقد ذكر الله لنا صفة هذه النفس، وأنها كانت مستكبرة وكافرة، وأن جزاءها من جنس فعلها. فهي عندما جاءتها الآيات كذبت وكفرت؛ وعندما نزل بها العذاب وسألت أن تعود إلى سابق الحال من السلامة أو إلى سابق عهد الدنيا، مـُنعت. والمنع مع تبيُّن ضرورة العودة من أجل الإصلاح، إمعان في العذاب من غير شك. ونعني من هذا، لو أن الكافر، بقي على جهله عند حلول العذاب به، لكان العذاب أخف في حقه، مما لو كُشف له علم ما كان يجهله!... ومن هذا الباب كان لا بد للكافر من أن يعلم العلم الضروري لعذابه، وأما العلم الذي يكون شرفا للعالم به، فإنه لا يناله لا في الدنيا ولا في الآخرة. 18. يقول الله تعالى عن مؤمن آل فرعون: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45]، وهذا لأن الإيمان يقي صاحبه عذاب الدنيا الذي قد يأتي في صورة مكر الأعداء، ولأن الكفر جالب للعذاب على أهله ولو بعد حين. 19. ويقول الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]، ولقد كنا نذكر هذا المعنى، عندما كانت تتناقص أعداد المصابين بالوباء، وكنا ننظر إلى قومنا: هل يشكرون الله على كشف العذاب قليلا، أم سيعودون إلى ما كانوا عليه من الغفلة؛ فكنا نراهم يعودون، وكأنهم لا يعقلون ما يحدث لهم!... 20. وأخرج ابن حجر في المطالب العالية، عن بريدة عامر بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَلا مَنَعَ قَوْمٌ قَطُّ الزَّكَاةَ إِلا حَبَسَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمُ الْمَطَرَ!». وهذا من البلاء الخاص، المنوط بفعل مخصوص، وهو عدم إخراج الزكاة. وهو يدلنا على أن لكل معصية بلاء مخصوصا بها، إما أن يعفو الله عن مرتكبها، وإما أن يعاقبه. وهنا لا بد من أن نعرض لشبهة تلوكها ألسنة كثيرة، وهي: لماذا تعيش بلدان كافرة في رخاء جليّ، وتُربط عندنا البلاءات بالمعاصي التي هي أقل من الكفر على كل حال؟... وهذا السؤال لا يصدر إلا عن ضعيف الإيمان!... لأن الله لا يعامل الكافرين والمؤمنين معاملة واحدة: فهو قد يمد في الرزق للكافرين، حتى يوفيهم أجورهم في الدنيا، ثم ينقلبون إلى عذاب لا راحة فيه؛ وقد يضيِّق على المؤمنين، ليعودوا بالبلاء إلى سواء السبيل، فيكون ما أصابهم في دنياهم من الشظف كفارة لهم، وينقلبون إلى نعيم لا تنغيص فيه!... يقول الله تعالى عن معاملته للكافرين: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]؛ ولو فعل الله ذلك بالكافرين، ما كان ليرفع قدرهم شيئا! ولكنه سبحانه رحم ضعفاء الإيمان، الذين لو رأوا ذلك، لظنوا أن أصحابه على خير ولاتبعوهم في أحوالهم!... 21. وأخرج أحمد في مسنده عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ». والرزق صنوف متعددة، يُحرَمها العبد كلها أو بعضها، إن هو اقترف الذنوب. ومن الرزق: العلم والصحة والإيمان والأمان والطاعة والقناعة وغير ذلك كثير... خطورة المجاهرة بالمعصية أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ! وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ.». وهذا من المجاهرة، كما يدل الحديث، وليس هو كلها. وأما المجاهرة الكبرى، فهي أن يتواطأ الناس على المعاصي، من دون أن ينهى بعضهم بعضا. وقد ذكر الله أن من أسباب لعن بني إسرائيل، أنهم كانوا يُجاهرون، وهو قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ .كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79]. ومعنى يعتدون: كانوا يعتدون في المعصية بإخراجها من السر إلى العلانية. ولا يخفى ما في فعل المجاهرة من مبارزة لله، لذلك لم يكن الله ليترك العقوبة عليها، وهو الملك الحق، الغيور على محارمه. وقد جاء في الحديث المتفق عليه المروي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: «... أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ!...». ومن المجاهرة التي تشيع في زماننا، انتشار اللبس غير المشروع بين الرجال والنساء، وشيوع الهيئات الشيطانية، وتواطؤ الناس على الكذب والمخادعة كما يفعل السياسيون، وحضور الحفلات الخليعة بالأعداد الكثيرة وفي الفضاءات المفتوحة، إلى غير ذلك مما هو داخل في هذا المعنى... وإن أغلب البلاء النازل على المسلمين اليوم، هو نتيجة مجاهرتهم بالمعاصي؛ وإلا فإن الله يعامل هذه الأمة معاملة خاصة، إكراما لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لو أنهم لم يكشفوا ستر الله عنهم!... أسباب رفع البلاء 1. التوبة: يقول الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا . وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17، 18]. وهذا يعني أن التوبة المقبولة عند الله، هي ما كان بعد جهل بأحكام الدين، لا بعد إصرار وتحدّ، وما كان على الفور بعد المعصية؛ لأن المسارعة إلى التوبة تدل على توقير العبد لمقام ربه؛ يقول الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. وكما أن التواطؤ على المعاصي يكون من الكبائر، فكذلك التوبة الجماعية تكون أقرب إلى الإجابة؛ لأن الله يحب من عباده أن يتعاونوا على الخير وأن يتناهوا عن الشر؛ يقول سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]. وعلى هذا، فلا أفضل للناس، من أن يجتمعوا على عبادة الله، وعلى الإحسان العام. ولقد أدركنا المغاربة، عندما كان يتأخر عنهم المطر، يهرعون إلى ذبح الذبائح عند أضرحة الأولياء تبركا واستشفاعا، وإطعامها للفقراء والمساكين، وختم القرآن مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فكانت الكربة تنجلي في أقرب الآجال. وقد حدثني رجل كنت أعمل معه، وكان من إحدى القبائل المجاورة لقبيلتنا في شرق المغرب، أنهم كانوا إذا منع عنهم المطر وخافوا على أنفسهم وعلى ماشيتهم، صعدوا إلى جيل آبائنا من أصحاب النسب الشريف، الذين كانوا من أفقر الناس من جهة الدنيا؛ فكانوا يذبحون الذبيحة أمام بيت من يُحسنون به الظن، ومن كان يُعرف بالصلاح، فيُخرجون الرجل من بيته ويطوفون به البلد مرغمين إياه على الضراعة إلى الله من أجل رفع البلاء؛ فكان الرجل ينخرط في الدعاء والبكاء، فلا ينزل أهل القبيلة المستغيثة بعد ذلك إلا في الأوحال، من شدة الأمطار... 2. يقول الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54]، أي بادروا إلى التوبة من ذنوبكم، وإلى إصلاح أعمالكم، قبل أن يأتيكم العذاب الدنيوي الذي يكون عن غضب؛ ثم لا تنصرون: أي لا يُتاب عليكم من بعده لتتوبوا. وهذا كله في الدنيا، وقبل الآخرة. والمعنى يصدق أيضا في الآخرة، على من مات على الكفر، ومن غير توبة. 3. يقول الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 55، 56]. والتفريط في جنب الله، والذي يكون بترك ما يليق به سبحانه من طاعة، حاصل لكل الناس، على تفاوت فيما بينهم؛ لذلك كان الاعتذار إلى الله مطلوبا من الجميع، وكان سؤال المغفرة متأكدا على الجميع. وقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاء التوبة والاستغفار؛ فقد أخرج البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه قال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.». وهذا يعني أن هذه الصيغة النبوية من الاستغفار مجابة، لا تتخلف. وعلى المسلمين أن لا يحرموا أنفسهم هذا الفضل العظيم، الذي جاءهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام!... 4. يقول الله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12]. وهذا يعني أن المؤمنين إذا لم يضرعوا إلى الله في كشف البلاء، فإنه لا يُكشف؛ بل قد يزيد. وهذا، لأن الضراعة إلى الله، من إظهار الفقر إليه؛ وهو الغني سبحانه عن عباده. فإذا رأى منهم الضراعة، أجابهم وهو لا يبالي. يقول الله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]. ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43]. وهذا يعني أن البلاء يُقصد منه رجوع العباد إلى ربهم بالتوبة والضراعة. وقد أخبر الله عن حال الأمم السابقة، ليحذرنا عاقبتهم، عندما كانوا إذا جاءهم البلاء لا يتضرعون، فكان هذا يُغضب الله منهم. ويقول الله بعد ذلك: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، وهذا من المكر الإلهي بالأشرار. وهو أن يوسع الله في الرزق للمـُعرض العنيد، ويكشف عنه الشدة الأولى؛ حتى يظن أن الأمر يسير وفق هواه. فإذا اطمأن إلى دنياه، جاءه العذاب الماحق الذي لا يُفلته. وهذا دليل مقت الله له، جزاء على عناده وعدم معرفة حق ربه عليه. 5. الالتجاء إلى الربانيين: وحتى لا يُحجب الجاهلون من المسلمين عن المعنى، فإننا نقول إن اللجوء إلى الرباني هو لجوء إلى الله، لا إلى سواه؛ وهذا لأن نفس الرباني قد فنيت، وكان الله سمعه وبصره ويده ورجله، كما جاء في الحديث القدسي. فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الله يقول: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ! وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا؛ وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ؛ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ.». ومعنى «وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، يصدق على الولي في خصوصية نفسه، ويصدق عليه فيما يتعلق بقومه، إن هم جاءوا إليه مستشفعين به؛ وهو يدل على أن دعاء الولي مجاب. وعلى ضعفاء الإيمان أن يسألوا أنفسهم: من كان الله سمعه وبصره ويده ورجله، فماذا بقي فيه من نفسه؟!... ولقد كان أسلافنا يفزعون إلى أوليائهم، عندما يخافون على أنفسهم البلاء، فكان الله يكشفه على الفور، إكراما لعباده. ولقد علمت أن بعض الناس من أهل زماننا، لجأوا إلى أحد العباد، عندما أصابتهم الأمراض التي لا علاج لها من الطب، فرفعها الله عنهم وأعاد إليهم صحتهم، وكأنهم لم يصبهم شيء قط. ولولا هذا، ما كان المؤمنون يعرفون أنهم على الحق في دينهم، إن هم استووا في الحال مع الكافرين، واضطروا إلى الأسباب المعتادة كما يُضطر الكافرون!... تنزيلات في زمن الوباء 1. ما كان ينبغي للبلدان الإسلامية، أن تعالج موضوع الوباء، كما تعالجه البلدان الكافرة؛ لأن المؤمنين يختلفون عن الكافرين في النظر إلى الأمور، وفي طريقة معاملتها. يقول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]؛ ودين الإسلام يشمل المعاملات زيادة على العبادات، وليس محصورا فيما يعلمه الناس من شعائر. وأما إن أصر المسلمون على الاقتداء بالكافرين، فإننا نخبرهم بأنهم سيكونون فاسقين عندئذ. والمسألة وإن كانت في ظاهرها طبيّة، فإنها ذات خلفية أخرى إيمانية دينية هي أسبق في الاعتبار. يقول الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 86 - 91]. 2. إن الدين الحق فيه من الحلول للأزمات، ما لا يبلغه أهل التخصصات المادية؛ وإلا فكيف كان سيدنا عيسى عليه السلام يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص!... يقول الله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]. وأما من يقول إن ذلك مخصوص بعيسى دون غيره من الناس، فنجيبه بأن ذلك شائع في الأمة المحمدية بإذن الله، بين ورثتها على الخصوص. فلا يبقى إلا أن تستفيق هذه الأمة، لتعرف ما تحظى به من امتيازات إلهية... 3. إن البلاء لا يخرج عن هيمنة أهل التصرف من الأولياء لدينا، وبالتالي فهم من يتصرفون به، وهم من يتصرفون فيه؛ وإن هم أرادوا أن يوقفوه أوقفوه. وقد قيل: إن لله عبادا إذا أرادوا أراد سبحانه، وإن زمان ظهور حكمهم في عالم الظاهر قد أزف؛ أحب من أحب وكره من كره. 4. إن غلبة المادية على المسلمين في تديُّنهم، هي دلالة على انحراف ذلك التدين منذ قرون؛ وعليهم إزاء ذلك أن يعيدوا النظر في منطلقاتهم وفي معتقداتهم قبل أعمالهم؛ لأنهم إن استمروا على تقليد من سبقوهم من دون نور وبيّنة، فإنهم لن يخرجوا مما هم فيه؛ بل سيزيدون إيغالا في الفتنة. 5. إن كورونا مسلط من قِبل الله على الناس، والمقصودون الأولون بتسليطه هم المسلمون؛ فإن لم يتنبه المسلمون إلى ما هم عليه من انحراف، فإن الأمر سيستمر وسيستفحل. ونحن نقول بأن المسلمين هم المقصودون، لأن الكافرين ينتظرهم العذاب الخالص في الآخرة؛ وبالتالي فعذابهم في الدنيا لا غرض منه إلا ما يكون من قبيل الاستثناء. وأما المسلمون فعذابهم الدنيوي، يُرجى لهم منه العودة إلى الجادة وترك الطرق المنحرفة؛ هذا بالإضافة إلى تكفير ذنوبهم به. 6. إن على الحكومات الإسلامية، وبالخصوص وزارات الشؤون الدينية، أن تدل الناس على وسائل دفع البلاء المشروعة؛ لا أن تأتمر بأوامر النظام العالمي الدجاليّ، وتحصر خطابها في أسباب منع العدوى!... يقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]... 7. وأما علماء الدين عند المسلمين، فقد أبانوا عن تنكبهم للطريق بسكوتهم عند النوازل منذ أمد بعيد. وما تسليط البلاء العام على الأمة، إلا من وراء أعمالهم ودلالتهم. وعليهم أن يكونوا أول التائبين، إن هم أرادوا إنقاذ أنفسهم وإنقاذ المسلمين عموما. يقول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. 8. إن العباد إذا ابتُلوا ولم يرجعوا إلى ربهم، فإن البلاء يزيد عليهم؛ لأنهم يكونون في وضعية من يتحدى ربه ويبارزه. ولقد عجبنا كثيرا من حال المسلمين وهم ينتظرون العلاجات التجريبية المختلفة، ممن لا يرجون لقاء ربهم من عُمي البصائر!... ومتى كان أمر العباد إلى العباد!... {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]... 9. إن عودة الناس إلى الصراط المستقيم، لا تكون إلا بتقديم الربانيّين، الذين لا ينافسون الناس على دنياهم؛ وعلى خلاف ما درجت عليه الأمة في أزمنة الظلمة والانحطاط. وهذا يقتضي التبرؤ من المتسلفة الضالين، ومن الإسلاميّين المـُغرضين. ومن لم يُعجبه كلامنا، فليستعد لمزيد من البلاء، إلى أن يستسلم لقهر الله، ويخضع لمراده!... 10. إن التعلق بالأسباب تعلقا تاما (أدوية وغيرها)، لا يكون إلا عن شرك؛ فليتنبه المسلمون لذلك. وإنما الفعل كله لله، بأسباب وبغيرها. يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، والمشيئة مطلقة، ولها الحكم قبل تعيُّن الأسباب في العلم الإلهي. 11. من أسباب الشفاء المشروعة عندنا: الصدقة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَحَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلاءِ الدُّعَاءَ!»، وقد أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، عن ابن مسعود رضي الله عنه. فليكثر المسلمون من التصدق في زمن البلاء، عسى أن يرفعه الله عنهم!... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.