اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/10/09 الحوار الغائب (ج3) -9- ترتيب الأمة الأمة هي ما اجتمع على إمام واحد، وهذه الصفة حاصلة لجميع بني آدم في اجتماعهم على "الإنسان"، الذي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والاجتماع الذي نقصده هنا، هو الاجتماع من جهة الحقيقة والغيب؛ وهو ما لا يظهر في عالم الشهادة إلا شطره المتعلّق بأهل الموافقة من أمته. والأمة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تكون بمعنييْن: - الأمة العامة: وهي التي يمتد زمنها من آدم عليه السلام، إلى البعثة الشريفة؛ ونعني بها الأنبياء السابقين وأقوامهم. والفرق بين الأمتين، هو أن العامة تكون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بواسطة نوابه من الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ والخاصة تكون معه مباشرة وبواسطة الورثة. وقد جعل الله لهاتيْن الأمتيْن، من جهة الولاية، ختميْن: أحدهما عام، وهو عيسى عليه السلام؛ والثاني خاص، وهو الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي عليه السلام. وأول ما يُميَّز من الأمتيْن، الفريقان: وهما أهل الموافقة وأهل المخالفة. فأهل الموافقة، هم من اتبعوا الرسل عليهم السلام فيما يتعلق بالأمة العامة؛ وأهل المخالفة منها، هم من كفروا بهم. وأهل الموافقة من الأمة الخاصة، هم المؤمنون المتّبعون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأهل المخالفة هم من عاندوه ورفضوا النور الذي جاء به. ولقد جعل الله عدد الكافرين، أكثر بكثير من عدد المؤمنين من الأمتيْن؛ حكمة إلهية. يقول الله تعالى على لسان إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17]. وبما أننا قد عرّفنا الصراط المستقيم سابقا، بأنه الطريق الموصل إلى الله؛ فإننا سنعرف الغاية التي يعمل من أجلها إبليس، عند قعوده للناس على هذا الصراط، والتي هي القطع عن الله. وأما إتيانه لهم من الجهات الأربع، فلأن العلو والسفل، محفوظان عن تسلُّطه. يقول الله تعالى عن العلو: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، ويقول سبحانه عن الجهتيْن: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]. وهذا، لأن جهة العلو للربوبية، وهي محيطة؛ وجهة السفل للعبودية المركوزة في النفوس، وهي عامة. لذلك مهما غوى إبليس العباد، وأضلهم عن السبيل، فإنه لا يتمكن من قطعهم عن الربوبية التي فوقهم، ولا عن عبودية أنفسهم. وقد يغفل الكافر مدة عن هاتيْن الجهتيْن، حتى لكأنهما غير موجودتيْن، لكن لا بد له من العودة إليهما ولو في وقت مخصوص. وإبليس وإن كان ظاهر أمره، صرف الناس عن الصراط المستقيم، فإنه في الحقيقة حارس له، يذب عنه من ليس من أهله؛ فلا يستجيب لدعوة إبليس إلا من لا حظ له في النور. وهكذا، فإن إبليس -من دون قصد منه- عامل على تمحيص العباد، لكيلا يبقى على الصراط المستقيم إلا أهله. وهذا التمحيص، متعلّق بحظ العباد من قابلية النور المركوزة في استعداداتهم. ولقد شاء الله أن يجعل الموفقين قلة قليلة، بالمقارنة إلى المخذولين، بسبب العزة التي يتصف بها. فهو سبحانه، من عزته، لا يقبل إلا العباد الخالصين. جاء في الحديث القدسي: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ!»[1]. ولما كان التجلي، من جهة الحقائق مستندا في شطره إلى الشرك، فإنه أعطى في العباد ما يُناسب ذلك، فكانوا غير مؤهلين للوصول إلى الله والدخول عليه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤولُونَ! قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ! فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ! قَالَ: فَذَاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ.»[2]. وبما أن الفاتحة قد أتت على ذكر صنوف الناس، فجعلتهم بين مـُنعم عليهم، ومغضوب عليهم وضالين؛ وبما أن حكم الفاتحة عام، يشمل الأمتيْن العامة والخاصة؛ وبما أن عدد أصحاب الصراط المستقيم قلة، فإن العدد الأكبر من الأمتيْن، سيكون لأهل الكفر والعصيان والضلال، كما أسلفنا. ولسنا نعني بأمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أي نبي من الأنبياء، أتباعه وحدهم، كما جرت بذلك العادة؛ وإنما الأمة كل من تعمهم دعوته، ثم ينقسمون بعد ذلك إلى مصدق به وإلى كافر. وهكذا فإن كل أمة، يكون عدد الكافرين منها أكثر من عدد المؤمنين؛ لكن هذا أيضا متفاوت بين الأمم. فنحن إن نظرنا إلى أمة نوح عليه السلام، ورأينا قول الله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: 15]؛ فإننا سنعلم أنهم قلة من أمة الدعوة. ويقول الله عن إبراهيم بعد دعوته لقومه: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ . فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 25، 26]؛ قيل: ما آمن مع إبراهيم إلا زوجته وابن أخيه (لوط). وهكذا، فإن الاستجابة للأنبياء في الأمم السابقة كانت قليلة جدا، كما أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ؛ وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي، فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ؛ ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، فَقِيلَ لِي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ؛ فَقِيلَ هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.»، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ.»[3]. وهذا المشهد، متعلِّق بحسب الظاهر، بأمة الإجابة؛ لأنه لو كان متعلِّقا بأمة الدعوة، ما كان يأتي النبي من الأنبياء وحده!... وتظهر فضيلة أمة موسى عليه السلام في الأمم السابقة، بكثرة أعدادها في الآخرة؛ لكن كثرة الأمة المحمدية أكثر بكثير، لسببيْن: - الأول: لأنها أمة النبي الذي له النبوة بالأصالة، صلى الله عليه وآله وسلم. فنبوته من هذا الوجه، غير كل النبوات. ولنعد إلى الفرق الثلاث من كل أمة: 1. أصحاب الصراط المستقيم: وهم المجيبون لدعوة نبيهم، والمتبعون له في شريعته. وتتفاوت الأمم فيما بينها، في مقدار كل فرقة من هذه الفرق؛ فمن الأمم، من يكثر فيها أصحاب الصراط المستقيم، كالأمة المحمدية؛ ومنها ما تغلب فيها فرقة الغضب، وهي أمم كثيرة؛ ومنها ما يغلب عليها الضلال، كالأمة العيسوية. ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ: الْيَهُودُ، وَالضَّالُّونَ: النَّصَارَى.»[5]. ولقد غفل الناس عن معنى الغضب والضلال، لحصرهما في اليهود والنصارى وحدهم. وإن نحن عدنا إلى المطابقة التي بين الأمة العامة والأمة الخاصة، فإننا سنعلم أن من هذه الأمة من هم على شاكلة اليهود، ومنها من هم على شاكلة النصارى؛ بالإضافة إلى أهل الهداية منها. وهذا يعني، أن المشترك، ليس اليهودية أو النصرانية؛ بل هي صفات اليهود والنصارى. وسنتبيّن ذلك بإذن الله في حينه... يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله عزَّ وَجَلَّ: «يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ! قَالَ: يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ! قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ! فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا، وَمِنْكُمْ رَجُلٌ؛ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ قَالَ: فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ! إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَمِ، كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ؛ أَوِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ!»[6]. وهذا الحديث يُبرز مكانة الأمة المحمدية، عند الله تعالى؛ لا لأنها على خصيصة في نفسها، ولكن لأنها أمة حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم. روى عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، فقال: "إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} الآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ، أُمَّتِي، أُمَّتِي، وَبَكَى. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوؤُكَ."[7]. ومعنى الحديث الذي قبل هذا، في مجمله، هو أن أهل النار يفوقون أهل الجنة بمقدار نسبة الواحد إلى الألف؛ وأن المؤمنين الذين يدخلون الجنة هم من الأمم السابقة (الأمة المحمدية العامة)، ومن هذه الأمة المحمدية (الأمة الخاصة). وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم نسبة مؤمني الأمة الخاصة، إلى مؤمني الأمة العامة الذين هم بقية أهل الجنة؛ فطمع أن يكون الثلث؛ ثم كأنه تقالَّ عدد أمته الخاصة، فطمع أن يكون شطر أهل الجنة (النصف). وهذا، هو ما يناسب مكانة الأمة الخاصة، بسبب مقابلتها بمكوِّناتها، كل ما تفرق في الأمم السابقة؛ كما ذكرنا آنفا. ويبقى عدد أهل النار مساويا لمجمل عدد أهل الجنة مضروبا في 999. ولنُجب الآن على إشكال يعرض للمفكرين من الإسلاميين في زماننا؛ وهو لماذا يكون عدد أهل النار أضعاف أهل الجنة؟ مع أن الداريْن، توهمان عند اقتسامهما أفراد الجن والإنس بينهما، بأن ذلك الاقتسام يقوم على التساوي؟ ثم: إن كان الله سبحانه قد أخبر بسبق (غلبة) رحمته لغضبه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: "غَلَبَتْ (أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ) رَحْمَتِي غَضَبِي!". فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ.»[8]؛ فلم يكون المعذبون أكثر عددا من المنعّمين؟... وهل يتفق ذلك مع مبدأ العدل الإلهي من جهة، ومع غلبة الرحمة الغضب من جهة أخرى؟ فنقول بإذن الله: 1. إن الله سبحانه يخلق من الخلق ما يشاء، وبالقدر الذي يشاء. وهو في هذا المستوى، لا يُسأل عما يفعل؛ وإلا لم يخالف العباد في قهرهم اللازم لهم؛ وهذا محال عليه سبحانه. 2. شاء الله أن يجعل أهل الجنة، جزءا ضئيلا من أهل النار؛ ليُظهر سبحانه، فضل المؤمنين على المجرمين. يقول الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36] ولو تساوى العددان، لتوهم المتوهمون أن المعصية أصل في العباد كالطاعة؛ بينما المعصية عارضة عليهم، ومخالفة لأصل فطرتهم. وموافقة الأصول، هو ما تقتضيه الحكمة، لئلا تضيع زبدة العلم بالنظر إلى الأشياء عند عدم ترتيبها. ومراعاة الفطرة، تقضي أن تُعتبر في حال بقائها على أصالتها؛ لا على مخالطتها لما ليس منها. ونقاء الفطرة، هو ما يكون عليه أهل الجنة، لا أهل النار. فظهر أن اقتسام الداريْن، ليس بالعدد، وإنما بالصفة. 3. وأما الرحمة، فمنها عام، ومنها خاص. وهذا يعني أن المعذبين في النار مرحومون بالرحمة العامة التي هي رحمة الرحمن، التي يقول الله فيها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]؛ بخلاف أهل الجنة الذين هم مرحومون برحمة الرحيم، التي يقول الله فيها: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 156 - 158]. فظهر من تمام الآية، أن رحمة أهل الجنة رحمة استحقاق، لذلك أخبر عنها سبحانه بقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا}. وهذا الاستحقاق، لا يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ!»، فَقِيلَ: "وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟"، قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي رَبِّي بِرَحْمَةٍ ...»[9]. والمعنى، هو أن العباد يدخلون الجنة بالرحمة، وأنهم يقتسمونها بالاستحقاق؛ لذلك فلا تعارض. وكما كان أن أهل الجنة قِسمة من أهل النار في الأصل العام، فكذلك الرحيم، هو تابع للرحمن وفرع عنه. وإعطاء كل اسم حظه من الخلق، بالقدر المناسب لمرتبته، هو الأنسب لمبدأ العدل الإلهي، لا ما تعطيه النسبية العامة التي تعمل عليها العقول. ونعني من هذا، أن التسوية في العدد، لا تكون دائما عدلا، بالنظر إلى المقسوم عليهم. وهذا معروف في "علم التناسب" (proportions) في الرياضيات. 4. إن عدد أهل النار غالب على عدد أهل الجنة في الأصل، لأن أهل النار ناشئون عن صفات الجلال، التي لها السبق في الاعتبار في الحقائق، لكونها ذاتية صرف؛ بخلاف صفات الجمال التي هي معتبِرة للخلق من جهة توجُّهها. كل هذا في حضرة الحق، التي هي حضرة الواحدية، والتي هي محل محاضرة الأسماء، التي يتكلم عنها أهل الله كثيرا؛ وهذا كله، قبل خلق الخلق. وهنا حكمة لا بد من ذكرها، تحكم بها حقيقة الذات على الصفات؛ وهي انقلاب الجلال عند اشتداده جمالا، وانقلاب الجمال عند اشتداده جلالا. ونعني من هذا أن أهل النار عند مجاوزة العذاب حده فيهم، فإنه ينقلب عليهم نعيما؛ وهذا هو ما أشار إليه الشيخ الأكبر في فصوصه (الفص الإسماعيلي)، عندما قال عليه السلام: [الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد؛ والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات، فيثني عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز. {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47]؛ لم يقل ووعيده؛ بل قال {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16]؛ مع أنه توعد على ذلك. فأثنى على إِسماعيل بأنه كان صادق الوعد. وقد زال الإمكان في حق الحق، لما فيه من طلب المرجح. فلم يبق إِلا صادق الوعد وحـــده وما لوعيد الحق عين تُعَايَــــــــــــــــــــن وإِن دخلــــــوا دار الشقاء فإِنهم على لذة فيها نعيم مـــــــــــــــــــــــــبايِن نعيمَ جنان الخــــلد فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تبــــــــــــــــــــــــايُن يُسمّى عذابا من عـــذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صـــــــــــــــايِن] (انتهى). لكن كلامنا هذا، يقتضي في الظاهر، أن أهل الجنة، عند اشتداد الجمال عليهم، ينقلبون إلى العذاب المؤلم، الذي يكون عليه أهل النار في الأصل؛ وهذا ما يُعطيه القياس، لولا أن هذا القياس فاسد. وفساده، لأن اشتداد الجمال، أقصى ما يُعطيه: الفناء عن الحس؛ فيغيب المشاهدون للجمال عن أنفسهم في مشهودهم، وبالتالي فلا يجدون عذابا ولا عذوبة؛ وهذا من أحوال المتحققين بالحق، من كبار العلماء بالله، في الدنيا قبل الآخرة. وبهذا الحال، يكون الورثة من هذه الأمة، مباينين لأهل الجنة من العوام. ونعني أن هذا الوجد، لا يكون لعوام أهل الجنة من أهل الرَّبَض وأهل الوسط، وإلا انتفى اسم الجنة عن الجنة (لأن الجنة من الحجْب)؛ ولكن هو خاص بأهل الفردوس الأعلى، المجالسين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما العامة فحظهم من التجلي، يكون بخروجهم إلى الكثيب (وفيه معنى الخروج عن جَنّ الجنة)، ورؤية الحق هناك. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "عُرِضَتِ الْجُمُعَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَاءَ جِبْرِيلُ فِي كَفِّهِ كَالْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِي وَسَطِهَا كَالنُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟» قَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ يَعْرِضُهَا عَلَيْكَ رَبُّكَ لِتَكُونَ لَكَ عِيدًا وَلِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ؛ وَلَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ. تَكُونُ أَنْتَ الأَوَّلُ، وَيَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِكَ؛ وَفِيهَا سَاعَةٌ لا يَدْعُو أَحَدٌ رَبَّهُ بِخَيْرٍ هُوَ لَهُ قَسْمٌ إِلا أُعْطَاهُ، أَوْ يَتَعَوَّذُ مِنْ شَرٍّ إِلا دُفِعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ؛ وَنَحْنُ نَدْعُوهُ فِي الآخِرَةِ: يَوْمَ الْمَزِيدِ: وَذَلِكَ أَنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ، مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ نَزَلَ مِنْ عِلِّيِّينَ فَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَحَفَّ الْكُرْسِيَّ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْجَوْهَرِ، وَجَاءَ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ فَجَلَسُوا عَلَيْهَا، وَجَاءَ أَهْلُ الْغُرَفِ مِنْ غُرَفِهِمْ حَتَّى يَجْلِسُونَ عَلَى الْكَثِيبِ، وَهُوَ كَثِيبٌ أَبْيَضُ، مِنْ مِسْكٍ أَذْفَرَ، ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ، فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي فَسَلُونِي. فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا، فَيَقُولُ: رِضَائِي أَحَلَّكُمْ دَارِي، وَأَنَا لَكُمْ كَرَامَتِي فَسَلُونِي؛ فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا فَيُشْهِدُهُمُ الرِّضَا، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُمْ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ إِلَى مِقْدَارِ مُنْصَرَفِهِمْ مِنَ الْجُمُعَةِ. وَهِيَ زَبَرْجَدَةٌ خَضْرَاءُ، أَوْ يَاقُوتَهٌ حَمْرَاءُ، مُطَّرِدَةٌ فِيهَا أَنْهَارُهَا، مُتَذَلِّلَةٌ فِيهَا ثِمَارُهَا، فِيهَا أَزْوَاجُهَا وَخَدَمُهَا، فَلَيْسَ هُمْ فِي الْجَنَّةِ بِأَشْوَقَ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ؛ لِيَزْدَادُوا نَظَرًا إِلَى رَبِّهِمْ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَرَامَتِهِ؛ لِذَلِكَ دُعِيَ: يَوْمُ الْمَزِيدِ."[10] وكل هذا الذي ورد تفصيله، هو من العدل الإلهي من الاسم الباطن، والذي لا يُناقض العدل المدلول عليه بظاهر الشرع. وأما من يقصر من أهل الشريعة، عن إدراك ما نقول، فليعلم أنه غير مؤهل للخوض في هذه العلوم، ولينصرف عنها، من دون أن يُنكر علينا أقوالنا؛ لأنه إن أنكر فإنه سيُنكر الحق. ومن يرى منهم -مثلا- أننا بذكرنا لرحمة أهل النار، أو باستعذابهم العذاب في وقت ما، نُسوّي بين أهل العذاب وأهل النعيم، فليعلم أنه ما أدرك قصدنا؛ ولا يجوز لنا التسوية بين من فرَّق الله بينهم؛ ولكنها مقتضيات التجلّي الذاتي، كما أخبر شيخنا الأكبر عليه السلام. ولو أن أهل الظاهر كانوا على خير، لفرحوا بسعة رحمة الله، بدل أن يحسدوا إخوانهم في البشرية من المـُعذَّبين. وللمسألة ذيول أخرى، يؤيّد بعضها بعضا، نرى أن الكتاب يضيق عنها. ولقد صدق شيخنا الأكبر عليه السلام، عندما أخبر عن نفسه أن أعمارنا لا تتسع لقول كل ما نعلم. وإن الصعوبة لدينا في تناول المسائل -بحمد الله- هي اختيار الوجوه التي نرى أنها أنفع في التناول، والإمساك عن سواها من الوجوه؛ مع كون المـُمسك عنه في كثير من الأحيان أعلى في المراتب العلمية. فإن كنا نحن نجد هذا، ونحن من أتباع الأتباع، فكيف يكون حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في علمه الخاص به!... ولا يتوهّمنّ أحد أننا نقول بفناء النار، كما قال بذلك بعض القاصرين؛ لأن النار باقية بإبقاء الله، كالجنة؛ سواء بسواء. فليُعتبر هذا، فإنه عاصم من الضلال بإذن الله. وإن كنا قد تكلمنا سابقا، عن المطابقة بين أحوال الأمم السابقة، وأحوال هذه الأمة؛ وبين المراتب الدينية، لدى هذه وتلك؛ فإنه ينبغي علينا التفصيل في ذلك الآن؛ حتى يظهر ذلك للقارئ بإذن الله. وأول ما ينبغي تمييزه من الأمم، المغضوبُ عليهم؛ فنقول: 1. إن أهل الغضب، ينقسمون إلى قسميْن: ا. أهل الجاهلية: الذين لا يكونون على شرع، ولا حتى على شرع منسوخ؛ وهؤلاء هم أهل الكفر المحض. ويُستثنى من هذا الصنف، أهل الفترات، الذين يبقون على الفطرة. فهؤلاء يلحقون بالمـُنعم عليهم، بعد أن يُكلّفهم الله في الآخرة، ليلحقوا بأهل الشرائع. ولهذا الصنف خصيصة ليست لغيرهم من المؤمنين، وهي أنهم يأخذون التكليف من الله بغير واسطة رسول. فيبقون من أتباع الشريعة الإلهية، بمعناها الأصلي من جهة الظاهر. وحصرُنا للأمر في الظاهر، لأن هذا التكليف، لا يخرج عن الحقيقة المحمدية من جهة الباطن. فما أعجب أمر هؤلاء!... ب. أهل الكتاب: وهؤلاء هم من يكونون مخاطَبين بشريعة رسولية، فيكفرون بها؛ إما بعدم قبولها ابتداءً، وإما بالخروج عنها عنادا للرسول المتبوع. وهؤلاء ينقسمون إلى قسميْن: - القسم الأول: هم اليهود، والنصارى المدركون للزمن التشريعي المحمدي؛ لأن النصارى هنا، يخرجون عن حكم الضلال الأصلي الذي كان لهم، إلى حكم المغضوب عليهم، عند مساواتهم لليهود في الحال. يقول الله تعالى عن غضبه على اليهود: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى . كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 80، 81]؛ ويقول سبحانه عن غضبه على اليهود، عندما أصبحوا من أمة دعوة عيسى عليه السلام: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]؛ ويقول سبحانه عن اليهود والنصارى جميعا، عندما أصبحوا من أمة الدعوة المحمدية: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ . قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ . وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة: 59 - 61]. ومعنى قوله تعالى:{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ}، هو ما يزعمه اليهود والنصارى لأنفسهم من إيمان عند مخاطبتهم للمسلمين؛ فأخبر الله عنهم بأنهم دخلوا في قولهم ذاك، أو دخلوا على المسلمين في مجالسهم، بالكفر، وخرجوا به؛ حتى ترتفع كل شبهة في إيمانهم. ولقد رأينا في زماننا، من علماء المسلمين قبل غيرهم، من انطلى عليه الخطاب الدجالي السائد، وحكموا بإيمان اليهود والنصارى اليوم. وما علموا أن من يحكم بذلك، فإنه يكفر بالقرآن، فيلحق هو بالكافرين بدل أن يلحقوا هم به!... فليحذر المسلمون على أنفسهم من هذا الضلال!... - القسم الثاني: وهم الكفار من جميع الملل التي لها شبهة كتاب، والذين لم يقبلوا الهداية المحمدية، في الزمن التشريعي المحمدي. وهؤلاء مغضوب عليهم، أكثر من أهل الغضب الأصليين. وفي هذا المعنى، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي جهل: «فِرْعَوْنِي أَشَدُّ مِنْ فِرْعَوْنِ مُوسَى: فَإِنَّهُ قَالَ {ءَامَنْتُ} وَهُوَ قَدْ زَادَ عُتُوّاً!»؛ وذلك عندما بلغه قول أبي جهل وقت مصرعه، لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "بلِّغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إليّ منه في حياتي، ولا أبغض إليّ منه في حال مماتي!"[11]. وكون أهل الغضب من الأمة المحمدية، أعتى من أهل الغضب من الأمم الأخرى، راجع إلى مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن كماله يقتضي أن مخالِفه، يكون أسوأ حالا من مـُخالِف غيره من الرسل السابقين. وقد ذكرنا العلة في ذلك مرارا، فلا داعي إلى تكرارها هنا. وأما الغضب العارض، الذي ينال فرقا من المسلمين، فهو مخصوص بمن سيدخل النار منهم، ثم يخرج منها بعد أن تأخذ النار منهم حظها، ويذهب الغضب عنهم. ومن هؤلاء جلُّ المتكلمين من الفرق المعروفة بالكلام فيما لم يأذن الله بالكلام فيه، ومن تكلم بالرد عليهم من غير أن يكون له علم فيما يخوض فيه كابن تيمية ومن نهج نهجه؛ إلا أن يعفو الله!... ويدخل فيهم من أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ؛ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ؛ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ؛ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ.»[12]. وواضح من السياق، أن هذه الأصناف الثلاثة هم من المسلمين؛ لذلك فلن يخلدوا في النار. ويُقاس عليهم، كل صاحب معصية، لم يشأ الله أن يغفرها لصاحبها؛ وإن كانت مما قد يُستهان به في النظر العقليّ. وهذا الباب من العلم، يجلب الخوف الذي لا يفارق صاحبه، إلا ببشارة الأمان؛ وهو علم غريب، لا يُشاع في الناس. ويلحق بأهل الغضب، بمقتضى ما سبق، الجماعات الحركيّة، التي تعمل للإسلام بغير ما أذن به الله؛ وتخالف بذلك السنة النبوية صراحة. بل ما يلبث أصحاب هذا الطريق، أن يستسهلوا تقليد الكفار في أقوالهم وفي أفعالهم. ويكفي أن نذكر هنا أن كبار فقهائهم -بحسب الزعم- يُعلنون أنهم يأخذون بالمذاهب الكفرية العملية، كالديمقراطية بالنظر إلى ما يتعلق بأحكام الحكم. ونحن نجزم أن الديمقراطية، مخالفة للشرع مخالفة أصلية، وإن اكتُفي منها بما هو إجرائي وعملي؛ ولولا أننا سمعنا اعتمادها من قِبل الفقهاء المذكورين سماعا مباشرا عبر التلفاز، ما كنا نصدّق أن من المسلمين مَن يقع في ذلك. ولقد تفرعت عن فسوقهم هذا، طوام أخرى، ليس هذا أوان تناولها. وأما الضالون من هذه الأمة خاصة، فهم كالضالين من السابقين: قصدوا الحق، وأخطأوا طريقه. ونعني أصحاب العقائد على الخصوص، لا المخطئين من أهل الاجتهاد في الفقه؛ لأن هؤلاء قد تجاوز الشارع عن خطئهم، رحمة بالعقول القاصرة، وضعيفة النور. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ؛ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ!»[13]. ورغم أن الحديث قد ورد في القضاة، لكونهم يحكمون بظاهر الأدلة والقرائن؛ وهو ما يجعلهم أحيانا يُخطئون؛ فإنه يشمل أهل الاجتهاد أيضا، المستفرغين للوُسع، كما ذكرنا. ومن صنف أهل الضلال، من هذه الأمة، كل المتصوفة الذين شموا رائحةً من علوم الحقائق، أو سمعوا بها، أو طالعوها في كتب أصحابها؛ فتوهموا الأمر على غير ما هو عليه، عندما سمحوا لعقولهم بتناول ذلك بغير إذن. ونعني بالمتصوفة الشيوخ منهم، قبل المريدين؛ وقد رأينا منهم أفرادا وجماعات. ومنهم أيضا الغلاة من الشيعة، لأنهم تجاوزوا الحد في عليّ عليه السلام، وقالوا فيه بغير علم. وقد روي عن عليّ عليه السلام أنه قال: "دَعانِي رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، إِنَّ فِيكَ مِنْ عِيسَى مَثَلاً: أَبْغَضَتْهُ الْيَهُودُ، حَتَّى اتَّهَمُوا أُمَّهُ؛ وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى، حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي لَيْسَ بِهِ.». ورغم أن اللفظ غير ثابت لدى أهل السنة، الذين قد أثر تيّار النصب في تصنيف بعضهم للأحاديث الواردة عن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام؛ إلا أن المعنى من أصح ما ينبغي علمه. ولقد سبقت لنا الإشارة -نحن- في غير هذا الموضع، إلى الشبه بين عيسى وعليّ عليهما السلام، من جهة صنف التجلي الحاكم عليهما؛ وذكرنا أنهما معا من أهل التجلّي الشمسي، الذي ينشأ عنه ضلال الناظرين. ومن ينظر إلى غلاة الشيعة، فإنه سيجدهم كالنصارى، ضلوا بالحق عن الحق. وذلك لأن ما ينطلق منه الفريقان، هو الحق الذي لا مرية فيه، والذي يغيب عن عوام الأمة؛ لكنهم لم يقفوا عند حدّه، ودخل عليهم الإضلال الشيطاني، بالمدد الفكري الظلماني، فانتهوا إلى غير ما انطلقوا منه. وهذا هو الضلال في أصل تعريفه. وأما المفكرون من المسلمين، في الأزمنة المتأخرة الذين غلبت عليهم التنظيرات الأيديولوجية، فهم جامعون بين الفسوق عن السّنّة، والضلال بعقولهم؛ وهؤلاء مستوجبون للنار من جهة الغضب ومن جهة الضلال؛ إلا أن يغفر الله. وأغلب هذا الصنف، هم من أهل التنظير للجماعات الحركية السياسية، التي غفلت عن الوجهة، وأصبحت مـُدبرة، تتخذ من معاداة الحكّام دينا. هذا مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حكم في هذه المسألة الحكم المبرم، عندما قال عليه السلام: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ!»[14]. فأين الإسلاميون في عصرنا، من هذا التوجيه النبويّ الصريح؟!... أم إنهم لا يثقون بالله ورسوله، حتى يسألوا الله حقهم!... ولعلنا سنعرض للأمور السياسية، بتفصيل أكبر، عندما يجيء أوانها من الكتاب. وهكذا، بعد ذكر أصناف المغضوب عليهم، وأصناف الضالين من هذه الأمة، باقتضاب، فإنه لم يبق لنا إلا ذكر أهل الصراط المستقيم المـُنعم عليهم. وأهل الصراط المستقيم، بخلاف ما قد يتبادر إلى الأذهان، ليسوا طائفة مخصوصة؛ وإنما هم أهل الدين كله، بمراتبه الثلاث؛ لكن ممن بقوا على الحق فيما يعلمون ويعملون. ولهذا، كان الموفَّقون من الفقهاء الأولين، يُعرِّفون أهل الحق من الأمة (الجماعة بالمعنى الشرعي)، بأنهم السواد الأعظم منها!... فالحمد لله، على فضل الله وجوده!... وهكذا سيكون أهل الحق، على مراتب: منهم المسلمون ومنهم المؤمنون ومنهم المحسنون. ومن علامة أهل الحق، من مرتبة أهل الإيمان، أن يكونوا مُؤْتَمّين بالربانيين، من أهل الوصول وأئمة الإحسان؛ كما أن من علامة أهل الحق من أهل مرتبة الإسلام، أن يكونوا خلف أهل مرتبة الإيمان. ولقد رأينا هذا الترتيب يختل في الأمة، منذ القرن الأول، كما سبق أن بيّنّا. وذلك لأن هذه الأمة قد جرى عليها من القدر، ما جعلها تتبع ضلالات الأمم السابقة كلها، وتزيد عليها، بما لها من خصوصية؛ فاقتضى ذلك أن تعمى الأبصار عن شهود الترتيب الأصلي، وأن يدخل "الفقهاء" بعقولهم في كل شيء؛ فتجرأت العامة من أهل العقول المعاشية من كل زمان بعدهم، على الإمامة في الدين، فحدث الموجان والاضطراب. وعلى عكس ما يُظنّ، فإن الدين يسير، يسهل على العبد أن يسير عليه؛ وما يُصعّبه في الأزمنة المتأخرة، هو تعقيده من قبل الفقهاء؛ حتى صار العامي يكاد يجزم أن من شرط الترقي الاشتغال بالعلوم الشرعية كما يدلون على ذلك. والحقيقة هي أن الاشتغال بالعلوم دخلت عليه آفات كثيرة، عبر القرون، جعلت منه مانعا عن الترقي عينه. نقول هذا، لأن الأصل في الأمة أنها أميّة، والترقي الذي لا يكون في متناول الأميين، لا يُعد شرعيا من الأصل. ونعني من هذا، أن المراتب الدينية لها خصوصيات، تخالف ما درج عليه الناس من فهوم. ومرتبة الإسلام العامة، يكفي أن يأتي فيها العبد بالأركان الخمسة، من دون زيادة. ونعني أن العلم في هذه المرتبة، لا يتعلق إلا بإقامة هذه الأركان نفسها؛ لا بشيء آخر. وكل من يدخل بأهل مرتبة الإسلام فيما يظنه "علما للعقائد"، فهو مبتدع في الدين، معسّر له؛ ينبغي الوقوف له. لذلك فإن ما يشترطه الفقهاء من تعلم للعقائد، قبل العبادات والمعاملات، ليصح التديُّن من الناس، فهو محرَّف عن أصله؛ لأن المقصود من العقائد هنا، المـُشترك المعلوم من محكم الوحي بغير تكلُّف، لا المسائل التي ينبني عليها "علم" الكلام. والعقائد المشتركة، هي ما يكون عليه الأطفال من المسلمين، قبل غيرهم. وكل ما يزيد على أصل المرتبة، فهو نقصان فيها. ولقد كنا نقول دائما، إن المشتغلين بالعقائد من مرتبة الإسلام ينزلون بذلك عن إتقان الإسلام نفسه؛ وبالتالي فإنه يمنعهم من الترقي إلى المرتبة الثانية. وأما مرتبة الإيمان، التي يقول المشتغلون بـ "الكلام" إنها مرتبتهم، فنحن نؤكد أنها غير ذلك تماما. وما يعتمده السائرون على طريق المتكلمين، من اشتغال فكري بالعقائد، فإنه على عكس المظنون منه، يخرج بالمرء من طريق الدين -جزئيا- إلى طريق التفلسف. وكل من خرج (فسق) عن الطريق، فإنه يكون محروما من الترقي فيه؛ إلا أن يتوب، ويعود إلى أصل الدين. وذوق مرتبة الإيمان، في أصلها، قلبي؛ يكون عن طريق تحقيق التسنُّن الصحيح، وفي الغالب عن طريق الذكر المأذون في الأزمنة المتأخرة، من كونه جالبا للمدد المـُقوّي على السير. وذلك لأن المتأخرين ضعف إيمانهم، إلى الحد الذي يكادون لا يستطيعون ترقيا إلا عن طريق المدد الخاص. وهذا من فقه الدين، في هذا الزمان. وأما مرتبة الإحسان فتبقى خاصة، وتحتاج أولا تحققا تاما بمقامات الإيمان، التي لا يُكملها إلا القليل من أهل الدين؛ ثم بعد ذلك يحتاج صاحبها إلى أن يكون في الغالب تحت نظر شيخ عارف، يفتيه فيما يعرض له من فهوم ومن واردات؛ لأن الضلال قد يتسرب إلى أصحاب هذه المرتبة بسهولة، إن لم يكونوا لصيقين بالقرآن والسنة، على بيّنة ونور. ولقد فسق ممن يزعم الإحسان لنفسه، من الناس، عدد كبير. فلا يستخفّنّ أحد بهذه المرتبة، أو يظن أنه قد جاوز بها المخاطر. وأغلب ضلالات المتصوفة، تنشأ مما يظنونه إحسانا، مع أنهم في الغالب لا يكونون ملمين بما هو من شروط الإيمان. وكما انحرف فقهاء الرسوم عن الطريق، فقد انحرف من يظنون أنفسهم من أصحاب القلوب، عما هو من أصل الدين أيضا، من جهتهم. وأما مرتبة الوارثين، فهي أعلى مرتبة بعد النبوة، في الناس؛ لذلك، فإن أئمة الدين ينبغي أن يكونوا من أهلها. ومن أهم ما يُحصّله العباد مع الورثة، سهولة الترقي، مع وضوح السبيل؛ ونيل شفاعة الوارث في الدنيا والآخرة. وهذا الأصل مجهول للفقهاء، ولقد كان ينبغي لهم إدراكه. ذلك لأن الوراثة، فرع عن النبوة؛ وكل ما له أصل في النبوة، له فرع في الوراثة. ومن أهمل الوراثة في زمانها، فكأنه أهمل النبوة في زمانها؛ مع الإبقاء على الفارق. وحتى نزيد هذه المرتبة وضوحا، فإننا نقول: إن الناس مع الوارث، كالناس مع النبي؛ ولا نعني إلا أنهم ينقسمون قسميْن: قسم مسلِّم، وقسم معاند. فالمسلِّمون، يلحقون بالمهاجرين والأنصار في الحال؛ والمعاندون، يلحقون بالكفار، ولو من باب لحوق الكفر الأصغر بالأكبر. وهذا الذي نذكره، هو الدليل على استمرار ابتلاء المسلمين في النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذ كيف يُعقل أن يُمتحن فيه معاصروه عليه السلام، ولا يُمتحن من بعدهم. كل هذا، مع بقاء الإسلام لأهله، في جميع الأحوال، فضلا من الله. ولكن من يسلك الطريق على يد إمام ربانيّ، فإنه سيُدرك ما نرمي إليه، لذوقه ذلك في نفسه، مع إمامه. ويترتب على الوراثة، أن من يوالي أهلها، ينال من الخير، ما لا يعلمه إلا من حصل له ذلك؛ ويكون ذلك بأقل الأسباب. وأما من يؤذيهم، فإنه في الغالب يُسلب منه الإيمان، ليموت على الكفر. كل هذا، لأن الوراثة، من النبوة، لا تنفصل عنها، بحال من الأحوال. نقول هذا، حتى يتجنب المسلمون مواطن الهلاك، التي جرأهم عليها فقهاء السوء، ممن كانوا عُرضة لما ذكرنا. والجهل بهذا الأصل، هو من أكبر التحريف الذي لحق الدين، وإن زعم الناس أنهم يُصلّون ويصومون؛ لأن موالاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه، كما هو شأن الصحابة الكرام، أو في ورثته، كما هو شأن المتأخرين، تسبق في الترتيب أداء الفرائض الدينية. وهذا اللبس في الترتيب، هو ما غطى على بصيرة كثير من الفقهاء؛ حتى عادوا لا يعلمون من الدين إلا طنطنة جوفاء، لا حقيقة لها. ولو أنهم لم يكونوا منقطعين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما تمكن الكفار والفَسَقة من إضلالهم واستعمالهم!... وسنبيّن في الفصول اللاحقة -إن شاء الله- دخول الضلال على الفرق بالترتيب الكرونولوجي، حتى يسهل على القارئ تفكيك التصورات، ومعرفة الأصيل فيها من الدخيل. وكما أن وقوع الأمة في الضلالات كان قدرا، لا مناص منه؛ فكذلك عودتها في آخر أمرها إلى الحق الذي كانت عليه زمن النبوة، قدر محتوم. ونحن بهذه الكتابات، نبغي أن نكون من العاملين على تسهيل تلك العودة، بإعادة الأمر إلى أصله من الناحية العلمية أولا. ولا يستبعدنّ أحد أن تعود الأمة، إلى حال كمالها، بعد كل هذه الفتن التي مرت بها؛ لأن خلافة المهدي عليه السلام، ستكون على النهج النبوي بالموافقة التامة. يقول عليّ عليه السلام: «الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ.»[15]. ومعنى إصلاحه في ليلة، هو إمداده في ليلة خروجه، بكل ما يحتاجه من مدد نبوي، يصير معه الناس كأنهم يعيشون في عصر النبوة، بسبب ظهور الحق المندرس من الدين، وانطماس الباطل الذي كان معدودا منه. فزمن المهدي، مرحلة انصلاح الأمة، وعودتها إلى أصل ما كان عليه سلفها. وسنصل إلى الكلام عن المهدي، عندما نتناول العقائد السنية والشيعية بالتفصيل، إن شاء الله. والعلم بالمهدي هو من علوم الوقت، لأننا لا نبعد عن زمنه إلا قليلا؛ وعلى الناس أن يعلموا عنه قدر مـُستطاعهم، حتى إذا أظهره الله، سارعوا إلى مناصرته على بيّنة. وهذا يعني، وجوب العمل على الخروج بالناس من قِبل العلماء، عن دائرة الإضلال الدجالية التي اتسعت في زماننا، حتى لا يكاد يسلم بيت مسلم من آثارها الهدامة. ومن أجل تبيّن تطور الأمة في الانحراف، منذ القرن الأول؛ وبسبب كون الضلالات يستند بعضها إلى بعض؛ فإنه يجدر بنا البدء من عصر النبوة، لنؤسس كلامنا على ما لا خلاف فيه؛ وحتى نتبيّن أصول الهدي النبوي من منبعه... [1] . أخرجه مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.